أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - داود السلمان - نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع














المزيد.....

نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 21:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أكبر مشكلة يمرّ بها واقعنا المعاش، اليوم، هي وجود القطيع؛ ذاك الكائن الجماعي الذي لا عقل له، لكنه يملك القدرة على تغيير مسار العقول، وتبديل وجهة الخطى، وسحب الجميع إلى حيث لا يريدون. القطيع لا يحتاج إلى من يقوده - وفي العراق ثمّة من يقوده - ، لأنه يسير بقوة الدفع الجماعي، ويغني عن التفكير بالصوت المرتفع، وعن البصيرة بالصورة اللامعة، وعن الحقيقة بالكثرة المبهرة.
اليوم، لم يعد القطيع حكايةً من عالم الحيوان، بل أصبح مشهدًا من حياة البشر. نراه في الوجوه المتشابهة، في الآراء المنسوخة، في المواقف المتكررة، وفي اللهاث الجماعي خلف كل جديد دون وعي. صار الناس يخافون أن يكونوا أنفسهم، وكأن الاختلاف عيب، وكأن التفكير تهمة، وكأن الصمت هو النجاة الوحيدة من نظرات الاستغراب وأصابع الاتهام. أقول هذا واذكر بالخصوص ما يجري في العراق، على فرد عراقي، أرى وأشاهد ما يجري في هذا البلد "العراق" تحكمه حيتان الفساد، وتسانده اسراب القطيع، يؤيدون ويساندون، ويصفقون ويزمرون، وبالمقابل لا صوت للعقل، ولا رأي للمثقف.
وكلنا على دراية وعلم، في إن القطيع لا يفكر، بل يُفكَّر له. لا يختار، بل ينتظر من يختار عنه (لا تقرأ بل أنا أقرأ وأفسر لك ما في الكتب). إنه يقتل أجمل ما في الإنسان: صوته الخاص. فحين تختفي الأصوات المتفرّدة، يغيب المعنى، وتتحول الحياة إلى صدى باهت لأفكارٍ لم نكتبها نحن، وأحلامٍ لم نحلمها أصلًا.
يولد القطيع في لحظة ضعفٍ صغيرة؛ حين يختار الإنسان السلامة على الموقف، والمجاراة على الصدق. يبدأ بالتقليد الصامت، ثم يتحول إلى اتباعٍ أعمى، حتى يُصبح الفرد جزءًا من موجة لا يعرف إلى أين تمضي. وحين يحاول التراجع، يجد نفسه غارقًا في سيلٍ جارفٍ من التكرار، لا نجاة منه إلا بصرخة وعي، قد تُكلّفه العزلة، لكنها تمنحه الحقيقة.
كم من فكرة عظيمة وُئدت لأن القطيع استهجنها، وكم من باطلٍ انتشر لأن القطيع صفق له!، فالجماهير لا تبحث عن الحق، بل عن ما يُرضيها ويُطمئنها. هي تهرب من التفكير كما يهرب الطفل من الظلام، وتلوذ بالصوت الأعلى ظنًا أنه الأصدق، بفضل رجال الكليروس، من الذين محوا نصيرتهم، وحجروا عقولهم، وضخوا في ادمغتهم: الخرافة والجهل.
في هذا الزمن، لم يعد القطيع يركض في المروج، بل يسكن الشاشات، ومواقع التواصل الاجتماعي. يضغط زرّ "إعجاب" بلا وعي ولا دراية، فيسقط آخرون في هاوية التقليد. يُطلق إشاعة، فتتحول إلى حقيقة. يقرر من تحب، ومن تكره، وماذا تلبس، وكيف تتحدث، حتى ما تحلم به. إنها عبودية جديدة، مغطاة ببريق التديّن.
ومع ذلك، ما زال هناك من يقف خارج الصف، يواجه الموج بصلابة، يختار أن يفكر، أن يسأل، أن يشك، أن يصدق نفسه قبل أن يصدق الآخرين. وهؤلاء قلة، لكنهم جوهر الإنسانية الباقي. فالعالم لا يتغير بالجموع، بل بالأفراد الذين امتلكوا شجاعة أن يقولوا: لا، حين قال الجميع: نعم. وهم من نسميهم "المثقفون"، لكنهم شحة في هذا الزمن، جوهر نادر الوجود.
والحق، إن التحرر من القطيع لا يعني التمرد الأجوف، إذا نريد أن نعلن تحررنا، ولا العزلة المتكبرة، بل هو عودة إلى الذات الأولى، تلك التي خُلقت لتفكر وتختار وتُبدع. أن تكون حرًّا يعني أن تحمل وعيك كمنارةٍ في بحرٍ عاصف، وأن تمضي في طريقك ولو وحيدًا، لأنك تعرف وجهتك (لا تستوحش طريق الحق لقلّة سالكيه).
القطيع يمنحك راحةً مؤقتة، لكنه يسلبك نفسك. يمنحك الأمان، لكنه يسجنك في التكرار. أما الوعي، فهو طريقٌ مليءٌ بالعثرات، لكنه الطريق الوحيد الذي يُعيد إليك ملامحك الحقيقية.
وبالتالي، سيبقى القطيع موجودًا، وسيبقى صوته مرتفعًا، لكنه لن يملك يومًا أن يُطفئ صوت من يفكر، ومن يقول: لا. فكل فكرة حرّة، وكل عقلٍ يرفض الانسياق، هو بذرة مقاومة تُنبت وعيًا جديدًا.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تزوير وجهي الرّسمي
- عبرتُ لأنكِ لم تمسكي بيدي
- مَن رجل الدين؟
- المرأة في فلسفة شوبنهاور: نظرة دونية تشاؤمية
- سقوط النجمة في جيب الزورق
- خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
- حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك ...
- إلى أين يمضي الفساد في العراق
- ليس دفاعًا عن ترامب
- احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
- هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
- أياد الطائي… ضحية وطن
- من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
- حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
- نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
- حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
- في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
- (المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
- دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
- دلالة الزمن في السرد


المزيد.....




- تشمل الفنتانيل وتيك توك.. نظرة على مكونات الاتفاق التجاري ال ...
- هآريتس: الجيش الإسرائيلي يرمي نفايات الأنقاض والبناء في قطاع ...
- 3 قتلى بغارات إسرائيلية على لبنان ومبعوثة ترامب تستطلع الحدو ...
- رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري يستقبل وزير خارجية جيبوتي ...
- انتخابات تشريعية بالأرجنتين تحدد مستقبل الرئيس الليبرالي
- محاكم غزة تكتظ بقضايا الوصاية وإثبات الوفاة بعد حرب الإبادة ...
- المباني الآيلة للسقوط تنذر بخطر داهم على الغزيين في غياب الإ ...
- مهمة البحث المستحيلة في ركام غزة
- هل تتحول القوة الدولية في غزة إلى صراع جديد؟
- مصادر إسرائيلية: واشنطن تسعى للانتقال إلى المرحلة الثانية حت ...


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - داود السلمان - نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع