|
|
كمال الحيدري وخصومه
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8513 - 2025 / 11 / 1 - 08:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نظراً لما طرحه من أفكار نقدية عميقة مست المفاهيم التقليدية في العقيدة والفقه والمنهج، ولامست مناطق حساسة في بنية الفكر الإسلامي الموروث. فقد دخل الحيدري في مواجهة فكرية حادة مع العديد من رموز التيار التقليدي داخل الحوزة العلمية، الذين رأوا في مشروعه الفكري خروجاً على الإجماع وتهديداً للثوابت، في حين رأى أن ما يقوم به هو دفاع عن جوهر الدين وتنقيته من التكلس التاريخي. هذه المواجهة الفكرية بين الحيدري وخصومه لم تكن مجرد خلاف في الآراء، بل كانت انعكاساً لصراع أعمق بين عقلين: عقل نقدي يسعى إلى التجديد والتحليل والتأويل، وعقل تقليدي محافظ يسعى إلى حفظ التراث كما هو دون مساس. لقد انطلق الحيدري من قناعة راسخة بأن الفكر الإسلامي بحاجة إلى مراجعة شاملة، وأن الجمود الذي أصاب المذاهب قد أضعف حضور الدين في الواقع الإنساني. لذلك تبنّى مشروعاً نقدياً يقوم على إعادة قراءة التراث بعين معاصرة تجمع بين الفلسفة والعرفان والعلوم الإنسانية الحديثة. هذا الطرح لم يكن مألوفاً في الأوساط الحوزوية التي اعتادت على دراسة الفقه والأصول بمعزل عن السياقات الفكرية والفلسفية. وعندما بدأ الحيدري يتحدث عن ضرورة نقد البنية المعرفية للمذهب نفسه، وعن التمييز بين الدين الإلهي والمذهب البشري، وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع التيار التقليدي الذي اعتبر تلك الأفكار تجاوزاً للخطوط الحمراء. من هنا بدأت ملامح الصراع الفكري بين الحيدري وخصومه تتضح، إذ اتهمه البعض بالتشكيك في الثوابت العقدية، بينما كان هو يؤكد أنه يدعو إلى الإيمان الواعي لا إلى التسليم الأعمى. وعليه، يرى الحيدري أن خصومه لا يملكون شجاعة المراجعة لأنهم أسرى السلطة الرمزية للموروث. فهم – بحسب تعبيره – يعيشون داخل منظومة مغلقة من المسلمات التي تحولت إلى مقدسات لا يجوز الاقتراب منها. لذلك فإن أي محاولة للتساؤل تُعد خروجاً على الدين نفسه. وهو يرى أن هذا الخلط بين الدين والفهم البشري للدين هو أصل كل الأزمات الفكرية في العالم الإسلامي. فالحيدري يفرق بوضوح بين «قداسة النص الإلهي» و«قداسة الفهم البشري»، ويؤكد أن الثاني نسبي وتاريخي قابل للنقد والتصويب. أما خصومه فيرفضون هذا التفريق، لأنهم يعتبرون أن التراث بما فيه من شروح وتعليقات يمثل الامتداد الطبيعي للدين، ومن ثم فإن نقده يعني – في نظرهم – الطعن في الدين ذاته. هذا التباين في الرؤية جعل الحوار بين الطرفين شبه مستحيل، إذ يتحرك كل منهما في إطار معرفي مختلف تماماً. إنّ الخطاب النقدي الذي تبناه الحيدري لم يقتصر على المسائل النظرية، بل امتد إلى نقد المؤسسة الدينية ذاتها. فقد دعا إلى إصلاح الحوزة العلمية وإعادة النظر في مناهجها وأساليبها التعليمية التي تعتمد الحفظ والتكرار أكثر من التفكير والتحليل. كما انتقد بشدة هيمنة المرجعية التقليدية على العقول، معتبراً أن العلاقة بين العالم والمتعلم يجب أن تقوم على الحوار لا على التبعية المطلقة. هذه الدعوات أثارت حفيظة كثير من العلماء الذين رأوا فيها محاولة لزعزعة الثقة بالمؤسسة الدينية. لكن الحيدري ظل يؤكد أن هدفه ليس تقويض المرجعية بل تطويرها، لأنها إن لم تتطور ستفقد قدرتها على التواصل مع الأجيال الجديدة. ولأن الحيدري طرح هذه الأفكار من داخل المؤسسة نفسها لا من خارجها، فقد كان أثره أكبر وأعمق، وأدى إلى انقسام واضح بين من يراه مصلحاً شجاعاً ومن يراه مثيراً للفتنة. ومن هنا، تطورت الخلافات مع خصومه حتى وصلت إلى مواجهات علنية في المحاضرات والمناظرات، بل وأحياناً في وسائل الإعلام. فبعض العلماء ردوا على أفكاره بكتب وخطب اتهموه فيها بالانحراف عن مذهب أهل البيت، وبمحاولة إدخال الفكر الفلسفي الغربي إلى العقيدة الإسلامية. بينما رد هو عليهم بأنهم لا يميزون بين النقد العلمي والطعن في الدين، وأنهم يقيسون كل شيء بمعيار التقليد لا بمعيار الحقيقة. وقد اعتمد الحيدري في دفاعه على الاستدلال العقلي والمنهجي، مؤكداً أن كل فكرة لا تصمد أمام النقد ليست من الدين في شيء. وبذلك انتقل الصراع بينه وبين خصومه من كونه خلافاً فقهياً إلى كونه معركة على طبيعة المنهج نفسه: هل العقل شريك في فهم النص أم مجرد تابع له؟ بالنسبة للحيدري، لا معنى للإيمان إن لم يكن عقلانياً، بينما يرى خصومه أن التسليم هو جوهر الإيمان. ومع ذلك، يعتقد الحيدري أن خصومه، وإن كانوا صادقين في نواياهم، فإنهم يدافعون عن بنية فكرية تعود إلى عصور الانغلاق، حيث كانت حماية الهوية المذهبية أهم من البحث عن الحقيقة. لذلك فإن مشروعه الإصلاحي في نظرهم يمثل تهديداً لهذه الهوية. أما هو فيرى أن الهوية المذهبية لا تُحمى بالتقوقع بل بالانفتاح، وأن التشيع الحقيقي هو تشيع العقل والعدل، لا تشيع التعصب والانغلاق. من هنا، فإن الحيدري لا يعتبر خصومه أعداء له بقدر ما يعتبرهم نتاجاً طبيعياً لمرحلة تاريخية من الفكر الإسلامي، مرحلة سيطرت فيها المفاهيم الدفاعية على حساب المفاهيم المعرفية. لذلك نجده في كثير من خطبه ومحاضراته يدعو إلى الحوار والتفاهم بدل القطيعة، لكنه يشدد في الوقت ذاته على أن الحوار يجب أن يكون علمياً قائماً على الدليل، لا على العواطف أو الاتهامات. إن الصراع بين الحيدري وخصومه يمكن النظر إليه بوصفه رمزاً للتحول الذي يشهده الفكر الشيعي من الداخل. فالحوزة لم تعرف منذ قرون جدلاً فكرياً بهذا العمق حول العلاقة بين العقل والنص، وحول حدود الاجتهاد وإمكان تجديد الفقه والعقيدة. هذا الجدل، رغم حدّته، يدل على أن الفكر الشيعي ما زال حياً قادراً على التجدد والمساءلة. فخصوم الحيدري وإن هاجموه بشدة، إلا أنهم اضطروا للعودة إلى مراجعة بعض المفاهيم وتوضيحها، مما يعني أن مشروعه أثار فيهم حراكاً معرفياً حتى من حيث المعارضة. وبذلك يمكن القول إن تأثيره تجاوز المؤيدين والمعارضين، لأنه أجبر الجميع على إعادة التفكير في المسلمات التي كانت تبدو ثابتة لا تقبل النقاش. ومع أن خصوم الحيدري حاولوا أحياناً تشويه صورته وإخراجه من دائرة العلماء، إلا أنه ظل يحظى بتقدير كبير لدى شرائح واسعة من المثقفين والشباب الذين وجدوا في فكره نموذجاً جديداً للعالم الديني: المفكر الحر الذي يجمع بين الإيمان العميق والعقل النقدي. لقد استطاع أن يكسر حاجز الخوف من النقد داخل الفكر الديني، وأن يبرهن أن احترام التراث لا يعني الجمود عليه. أما خصومه، فرغم تمسكهم بالموقف المحافظ، فإن وجود الحيدري أرغمهم على تطوير أساليب خطابهم وتوسيع أفقهم ولو جزئياً. وهكذا تحولت الخصومة الفكرية إلى حافز للتجديد غير المباشر، وهو ما يعترف به بعض المنصفين داخل الحوزة. إنّ خلاصة العلاقة بين كمال الحيدري وخصومه أنها ليست صراع أشخاص بل صراع رؤى. إنها مواجهة بين من يرى أن الدين رسالة مفتوحة قابلة للتأويل والتجديد، ومن يراه منظومة مغلقة اكتملت ولن تُمس. وبين هذين الموقفين يقف الحيدري ثابتاً على إيمانه بأن الإصلاح لا يمكن أن يتم إلا من الداخل، وأن أعظم خدمة يقدمها العالم لدينه هي أن يجرؤ على قول الحقيقة. لذلك فإن الحيدري، رغم ما واجهه من تضييق وتشويه، يبقى رمزاً لمثقف ديني آمن بالعقل وجعل منه شريكاً للوحي، ودافع عن حرية الفكر داخل المذهب، مؤمناً بأن قوة التشيع لا تكمن في تقليد الأسلاف بل في استمرار البحث عن الحقيقة. وبهذا يكون الصراع بينه وبين خصومه علامة على حيوية الفكر الشيعي، ودليلاً على أن الدين ما زال قادراً على احتضان النقد ما دام القصد منه هو خدمة الإنسان والإيمان معاً. ولهذه المقالات تتمة...إن شاء الله ملاحظة// مصادر هذه المقالات هي العديد من محاضرات الحيدري ودروسه المنشورة على "اليوتيوب" وبعض منصات التواصل الاجتماعي.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كمال الحيدري.. الفيلسوف الذي أشعل نار العقل في محراب المقدس(
...
-
نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع
-
تزوير وجهي الرّسمي
-
عبرتُ لأنكِ لم تمسكي بيدي
-
مَن رجل الدين؟
-
المرأة في فلسفة شوبنهاور: نظرة دونية تشاؤمية
-
سقوط النجمة في جيب الزورق
-
خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
-
حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك
...
-
إلى أين يمضي الفساد في العراق
-
ليس دفاعًا عن ترامب
-
احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
-
هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
-
أياد الطائي… ضحية وطن
-
من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
-
حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
-
نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
-
حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
-
في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
-
(المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
المزيد.....
-
ترامب: -المسيحيون في نيجيريا يواجهون تهديداً وجوديّاً وسننقذ
...
-
ديانة زوجة نائب رئيس أمريكا وعدم اعتناقها المسيحية يشعل ضجة
...
-
ترامب: المسيحيون في نيجيريا يواجهون تهديدا وجوديا
-
ولايتي: ترامب لا يسعى للسلام في غزة بل يطارد أموال الدول الإ
...
-
مصر.. هكذا علق شيخ الأزهر على افتتاح المتحف المصري الكبير
-
شاهد.. والد فتى فلسطيني أمريكي يروي لـCNN تفاصيل معاناة ابنه
...
-
وزير الخارجية البحريني يستقبل رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية
...
-
مسؤول أمني إسرائيلي: مواجهة التطرف اليهودي أو العنف الداخلي
...
-
الآلاف من اليهود الحريديم يحتجون في القدس على التجنيد في الج
...
-
آلاف اليهود المتشددين يتظاهرون في القدس رفضا للتجنيد الإلزام
...
المزيد.....
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
المزيد.....
|