|
|
رؤية الحيدري.. التشيع كاجتهاد مفتوح نحو الحقيقة
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 10:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يرى كمال الحيدري ان التشيع اجتهاد من الاجتهادات في الإسلام وهذا الاجتهاد يؤمن به ويدافع عنه، يقول والآخر اجتهاده، سواء في مدرسة أهل البيت: هذا عارف وهذا متكلم وهذا فيلسوف وهذا اخباري وهذا اصولي، وهكذا، مجموعة اجتهادات نظرية، لأن الحقيقة ليست عند أحد بعينه، فالذي نسعى إليه هو الحقيقة، لعلنا نخطأ ولعلنا نصيب، الله وحده الذي يمتلك الحقيقة. هذه الكلمات تعبّر عن منهج فكري متكامل ينظر إلى المذاهب الإسلامية جميعها بوصفها محاولات بشرية لفهم الدين والوحي والرسالة، لا بوصفها حقائق نهائية مطلقة. وفي هذا الإطار، يقدّم السيد كمال الحيدري رؤية مختلفة عن كثير من المفكرين الدينيين، إذ إنّه يحاول أن يعيد تعريف المذهب الشيعي من زاوية معرفية مفتوحة، لا من زاوية طائفية أو تقليدية. فهو يعتقد أن التشيع، شأنه شأن سائر الاتجاهات الإسلامية، اجتهاد تاريخي وعلمي في فهم الدين انبثق من تفاعل الإنسان مع النص الإلهي ومع سيرة النبي وأهل بيته، وهو اجتهاد قابل للنقد والمراجعة والتطور. ومن هذا المنظور، ينطلق الحيدري من مبدأ أساسي، وهو أنّ الله وحده يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن كل ما ينتجه الإنسان من أفكار وتأويلات وآراء إنما هو مقاربة لتلك الحقيقة وليس امتلاكًا لها. وبناءً على هذا، فإنّ كل المذاهب والمدارس داخل الإسلام، سواء كانت سنية أو شيعية أو عرفانية أو فلسفية، هي محاولات بشرية متعددة لتجسيد الفهم الديني وفقًا للظروف التاريخية والثقافية والفكرية التي نشأت فيها. لا أحد، بحسب رؤيته، يستطيع أن يدّعي أنه يمتلك الحقيقة الكاملة أو أنه الممثل الوحيد للدين الإلهي، لأنّ ذلك سيكون ادعاءً بمعرفة ما لا يمكن للإنسان الإحاطة به. فالحقيقة الإلهية، في نظره، مطلقة وغير محدودة، بينما الإنسان محدود بعقله وتجربته وأفقه الزمني والمعرفي، ولذلك فإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو السعي الصادق نحو الحقيقة. وفي ضوء هذا التصور، يرى الحيدري أن التشيع نفسه ليس كتلة واحدة جامدة، بل هو فضاء معرفي واسع يضم اتجاهات متعددة ومناهج مختلفة. ففي داخل مدرسة أهل البيت نجد العارف والمتكلم والفيلسوف والأخباري والأصولي، ولكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة النص الديني وفهمه. هذه التعددية ليست عيبًا في نظر الحيدري، بل هي علامة على حيوية الفكر الشيعي وثرائه. فالتشيع عنده ليس هوية طائفية مغلقة، بل هو تجربة اجتهادية مفتوحة تتفاعل مع الزمن والعقل والإنسان. بمعنى أوسع، كل تيار داخل هذه المدرسة قدّم رؤيته للحقيقة بحسب معطياته المعرفية وأدواته المنهجية، فالعرفاء سعوا إلى إدراك الحقيقة من خلال الذوق والكشف الروحي، والمتكلمون تناولوا المسائل العقائدية بالعقل الجدلي، والفلاسفة استخدموا المناهج البرهانية والعقلية، والأخباريون اعتمدوا على النصوص والروايات، بينما الأصوليون عملوا على تنظيم عملية الاستنباط ضمن قواعد عقلية ومنهجية دقيقة. هذه الاتجاهات المتنوعة، كما يقول الحيدري، تعبّر عن تعدد الاجتهادات النظرية داخل المذهب نفسه، مما يعني أن الحقيقة الدينية لا تنحصر في رؤية واحدة أو مدرسة واحدة. فكل تلك الاجتهادات تسعى إلى الله وتطلب مرضاته من زوايا مختلفة، وكل منها يمكن أن يصيب أو يخطئ. من هنا يؤكد الحيدري على أن المطلوب ليس أن نبحث عن من يمتلك الحقيقة، بل أن نواصل السعي إليها جميعًا، في تواضع وإخلاص. فربما نخطئ وربما نصيب، والله وحده هو العالِم بالحقيقة المطلقة. إن هذا الاعتراف بحدود الإنسان المعرفية يجعل الفكر الديني أكثر تواضعًا وأقرب إلى روح القرآن الذي يدعو إلى التدبر والتفكر دون ادعاء العصمة أو الإطلاق. ومن خلال هذا الفهم، يضع الحيدري أسسًا جديدة للتعامل مع التراث الإسلامي والشيعي خاصة. فهو لا ينظر إلى الموروث على أنه مجموعة من المسلمات التي لا يجوز الاقتراب منها، بل يراه حقلًا للاجتهاد والحوار والتجديد. كل نص تراثي عنده قابل للفهم المتعدد، وكل فكرة يمكن أن تخضع للنقد وإعادة القراءة في ضوء المعارف الحديثة والعقل النقدي. لذلك، يرفض الحيدري الانغلاق على قراءة واحدة، سواء كانت فقهية أو فلسفية أو عرفانية، لأنّ كل قراءة جزئية بطبيعتها، ولا يمكن أن تمثل الحقيقة كلها. إنّ المذهب في نظره لا يعيش إلا بالحركة والتفاعل والنقد، أما الجمود فهو إعلان لموته وانفصاله عن الواقع. كما أنّ هذا الموقف من التعدد داخل المذهب ينعكس على رؤيته للعلاقة مع المذاهب الأخرى. فطالما أنّ كل المذاهب الإسلامية هي اجتهادات بشرية في فهم النص الإلهي، فلا مبرر لادعاء التفوق المطلق أو احتكار الحقيقة. فالمسلم السني والشيعي والمعتزلي والصوفي جميعهم أبناء بيئة دينية واحدة، يسعون نحو الله بطرق مختلفة، والاختلاف بينهم اختلاف في الفهم لا في الهدف. هذا الفهم الإنساني الواسع يفتح الباب أمام الحوار والتقارب بدل الصراع والتكفير، لأنّ الاعتراف بتعدد الاجتهادات يعني الاعتراف بشرعية الآخر وحقه في أن يرى الأمور بطريقة مختلفة. ولا يعني هذا الطرح أن الحيدري يذيب الخصوصية الشيعية أو يتنازل عن مبادئها، أبدًا، بل على العكس، هو يؤمن بها ويدافع عنها بوصفها اجتهادًا عظيمًا في فهم الإسلام، لكنه في الوقت نفسه يدرك أنّ هذا الاجتهاد ليس نهاية الطريق. فالمذهب لا يكون قويًا إلا عندما يعترف بأنه مشروع مفتوح قابل للتطور، لا عندما يتجمد في صورة واحدة ويدّعي أنه وصل إلى الحقيقة المطلقة. بهذا المعنى يصبح التشيع في فكر الحيدري حركة فكرية مستمرة، تستمد مشروعيتها من قدرتها على النقد الذاتي والتجديد المعرفي. وفي جوهر هذا المشروع الفكري، نجد دعوة واضحة إلى التواضع المعرفي، أي أن يعترف الإنسان بحدوده وأن لا يحوّل اجتهاده إلى عقيدة مطلقة. فكل معرفة بشرية نسبية، وكل فهم يمكن أن يُخطئ أو يصيب. يقول الحيدري إنّ ما نسعى إليه هو الحقيقة، لكن لا أحد يستطيع أن يدّعي أنه يمتلكها تمامًا. هذا الوعي بحدود الذات هو ما يجعل الفكر الديني أكثر انفتاحًا على التطور والتجربة والحوار. فالإصرار على احتكار الحقيقة يؤدي إلى التعصب والجمود، بينما الاعتراف بتعدد طرق الفهم يفتح المجال للإبداع والنهضة الفكرية. إنّ رؤية كمال الحيدري تمثل تحوّلًا مهمًا في الفكر الديني المعاصر، لأنها تنقل مركز الثقل من العقيدة الجامدة إلى التجربة المعرفية الحية. فالإيمان في هذا الإطار ليس مجرد تسليم بالنصوص، بل مشاركة واعية في البحث عن المعنى الإلهي. الإنسان عنده ليس تابعًا مقلدًا، بل باحثًا يسعى بعقله وروحه إلى فهم مراد الله. لذلك، فهو يدعو إلى تجاوز التقليد الأعمى، وإلى ممارسة الاجتهاد بوصفه فعلًا إنسانيًا مستمرًا، يشمل كل مجالات الحياة الدينية والفكرية، لا الفقه وحده. ومن خلال هذا المنظور، تصبح العلاقة بين الإنسان والحقيقة علاقة سير وسلوك دائمين. فليس هناك نهاية للمعرفة ولا احتكار للهداية، بل هناك طريق طويل من البحث واليقين والشك والتأمل. وكلما تقدم الإنسان في هذا الطريق، أدرك أنه ما يزال بعيدًا عن الحقيقة المطلقة التي لا يعلمها إلا الله. هذا الإحساس بالافتقار إلى الحقيقة المطلقة هو ما يمنح الفكر الديني عند الحيدري عمقه الإنساني و واقعيته، لأنه يجعل الدين حركة نحو الله لا نظامًا مغلقًا ينتهي عند حدود المذهب. إنّ ما يقدمه كمال الحيدري في رؤيته للتشيع والاجتهاد هو دعوة إلى أنسنة الفكر الديني، وإعادته إلى أفق العقل والبحث والتواضع، بعيدًا عن العصبيات والانغلاقات التي فرّقت المسلمين. فحين نفهم أنّ الحقيقة المطلقة عند الله وحده، وأننا جميعًا نجتهد ونخطئ ونصيب، يصبح الاختلاف بيننا مصدر غنى لا سببًا للانقسام. وهكذا يتحول التشيع، في ضوء هذه الرؤية، من مذهبٍ يزعم امتلاك الحقيقة إلى مشروعٍ إنساني يسعى نحوها مع الآخرين، في رحلةٍ لا تنتهي إلا عند من هو الحقّ المطلق، أي الله سبحانه.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كمال الحيدري كما أراه
-
الحيدري: هل الله موجود أم وجود؟*
-
كمال الحيدري: آدم أول نبي لا أول مخلوق
-
رؤية كمال الحيدري في شمولية الحقيقة الدينية وتعدد طرق الوصول
...
-
اعترافات المطر الخجول قراءة في نص لرنا جمال
-
وجع مؤجل
-
مفهوم العقل الفقهي عند كمال الحيدري
-
كمال الحيدري وخصومه
-
كمال الحيدري.. الفيلسوف الذي أشعل نار العقل في محراب المقدس(
...
-
نهاية الإنسان تبدأ حين ينتمي إلى القطيع
-
تزوير وجهي الرّسمي
-
عبرتُ لأنكِ لم تمسكي بيدي
-
مَن رجل الدين؟
-
المرأة في فلسفة شوبنهاور: نظرة دونية تشاؤمية
-
سقوط النجمة في جيب الزورق
-
خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
-
حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك
...
-
إلى أين يمضي الفساد في العراق
-
ليس دفاعًا عن ترامب
-
احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
المزيد.....
-
مركز فلسطيني: أكثر من 3939 مستوطنًا اقتحموا باحات المسجد الأ
...
-
شبكات -التضليل- الإخوانية.. كيف عمقت معاناة السودانيين؟
-
إيهود باراك: هكذا نوقف تدمير إسرائيل من الداخل
-
قاليباف: مشروع -إبراهام- هدفه تركيع الدول الإسلامية
-
من سجون المغرب إلى مناهضة التطبيع مع إسرائيل.. الناشط اليهود
...
-
رغم تهديدات بن غفير.. مسئول إسرائيلي يؤكد أن حزب عوتسما يهود
...
-
جاكرتا : عاصمة جديدة للأناقة الإسلامية
-
فيديو متداول لـ-حفل تهنئة الجالية اليهودية لزهران ممداني عمد
...
-
الرئيس اللبناني يدعو القضاة لعدم الخضوع للضغوط والابتعاد عن
...
-
قاليباف: على الدول الإسلامية استخدام القوة في مواجهة الكيان
...
المزيد.....
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
المزيد.....
|