|
|
أدباء مرضى نفسيين: ما هو التعالي الفارغ؟
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 09:32
المحور:
الادب والفن
اكتشفت في بعض الأدباء (ولا أقول الكُل) أكرر (البعض) ممن كتبت عنهم مقالات نقدية، وهم بحدود مائة أديب وأديبة، خلال عامين، أنني درست نفسياتهم من خلال نتاجاتهم، ونشرهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فاكتشفت أنهم مصابون بمرض أطلقتُ عليه «مرض التعالي الفارغ»، وهذا المصطلح يُنحت لأول مرة. تعريف المرض مرض "التعالي الفارغ" هو سلوك نفسي يتجلى في إظهار التفوق دون امتلاك مقومات حقيقية تدعمه. إذ يعوض الشخص داخلياً شعوره بالنقص عبر المبالغة في تقدير ذاته، ورفض الانتقاد، والبحث عن الإعجاب. ويؤدي هذا السلوك إلى علاقات متوترة وضعف في الوعي الذاتي، مما يزيد من معاناته النفسية ويقلل قدرته على التطور الشخصي، ليصبح متكبرا من حيث لا يدري. يتمثل هذا المرض في حالة نفسية وفكرية يتقمص فيها الكاتب شعوراً زائفاً بالتفوق، دون امتلاك أسس قوية تبرره. فهو تعالٍ لا يستند إلى عمق معرفي ولا تجربة ناضجة، بل إلى رغبة غير واعية في تغطية هشاشة داخلية. ويبدو ذلك جلياً في النصوص التي تُضخَّم فيها الأنا، أو التي يُستَخدم فيها التعقيد الاصطناعي لإيهام القارئ بالتميّز، أو في حساسية مفرطة تجاه النقد تتخذ شكل الرفض أو التبرير أو التعالي. هذا السلوك لا يضرّ الكاتب فحسب، بل يضعف أيضاً قيمة العمل الأدبي، لأنه يحجب الصدق الفني ويمنع التواضع المعرفي اللازم للنمو. كما يخلق فجوة بين المبدع والقارئ، إذ يتحوّل النص إلى منصة لعرض الأنا بدل أن يكون مساحة للتجربة الجمالية والفكرية. إن «التعالي الفارغ» ليس وصماً، بل محاولة لفهم آلية دفاعية يعاني منها بعض الأدباء، وقد يساعد الوعي بها على تجاوزها، وفتح الطريق لكتابة أكثر صدقاً ونضجاً وإبداعاً. ويمكن أن يُعالج هذا المعرض عن طريقين أثنين، لا ثالث لهما: أولًا: العلاج – نفسيًا(1) يعالج إريك فروم في كتابه «ما وراء الأوهام» - أو كما تُترجم أحياناً «ما وراء قيود الوهم»- وتحديداً في إطار مناقشته لـ «الفرد المريض والمجتمع المريض»، فكرة أن الاضطرابات النفسية ليست مجرد حالات فردية معزولة، بل انعكاس لبُنى اجتماعية واقتصادية تُنتج أنماطاً من الوعي الزائف. وانطلاقاً من هذا التصور، يمكن فهم علاج «مرض التعالي الفارغ» باعتباره جزءاً من مشروع فروم لتحرير الإنسان من أوهامه التي تُنبِّت شعوراً زائفاً بالأهمية والقيمة. يرى فروم أن التعالي الزائف ينشأ حين يفشل الفرد في تطوير ذات منتِجة قادرة على الحب والعطاء والإبداع الحقيقي، فيلجأ إلى أشكال من «الوجود الاستهلاكي» حيث تُقاس القيمة بالمظاهر لا بالجوهر. ولذلك فإن العلاج يبدأ —بحسب فروم— بعملية وعي نقدي يُعرّي الأوهام التي يصنعها المجتمع حول النجاح والتفوق والتميز، ويكشف عن الفراغ الداخلي الذي يغذّي هذا التعالي. ثم يدعو فروم إلى استعادة الأصالة عبر توجيه الطاقة النفسية نحو الإبداع الفعلي، لا نحو صناعة صورة مُلفَّقة عن الذات. فالفرد السويّ، في نظره، هو من يعيش وفق مبدأ «الكينونة» لا «الامتلاك»، أي أن قيمته تُستمد من فعله وقدرته على التواصل والنمو، لا من ارتفاع نبرة الأنا. كما يرى أن العلاج لا يكتمل دون تغير في المحيط الاجتماعي نفسه، لأن الفرد المريض لا يشفى داخل مجتمع يروّج للوهم. لذا يتطلب الأمر بيئة تشجع الحوار، وتحترم الاختلاف، وتقدّر العمل الحقيقي أكثر من الادعاء. وبهذا يصبح علاج «التعالي الفارغ» مشروعاً مزدوجاً: تحرّر داخلي للفرد، وإصلاح خارجي للمجتمع كي يستعيد الأدباء قدرتهم على الإبداع الصادق بعيداً عن الأوهام.
ثانيًا: العلاج أخلاقيًا(2)
يقدّم إيمانويل كانت في «نقد العقل العملي»، وتحديداً في الفصل الثاني من جدلية العقل العملي المحض، أساساً أخلاقياً يمكن الاستناد إليه لعلاج ما أسميته «مرض التعالي الفارغ». فكانت يرى أن الأخلاق لا تُبنى على المظاهر أو على رغبات الأنا، بل على احترام القانون الأخلاقي الداخلي الذي يوجّه الإرادة نحو الخير بوصفه غاية في ذاته. ومن هذا المنطلق، يصبح التعالي الزائف نوعاً من خرق الواجب الأخلاقي، لأنه يحوّل الإنسان إلى كائن يسعى للتميّز السطحي على حساب الصدق والكرامة والعقلانية. العلاج الأخلاقي لهذا المرض يبدأ، بحسب كانت، بتحرير الإرادة من دافع الغرور ومن سعي الذات لاعتبار نفسها استثناءً فوق الآخرين. فالإنسان الأخلاقي لا يستمد قيمته من التفوق الظاهري، بل من قدرته على إخضاع ميوله لقانون عقلي عام يمكن تعميمه. لذا فإن أول خطوة هي العودة إلى مبدأ الواجب: أن يتصرف الفرد بطريقة يمكن أن تصبح قاعدة عامة للجميع دون تناقض. ثم يأتي مبدأ احترام الإنسان كغاية، وهو حجر الزاوية في الأخلاق الكانتية. فالتعالي الفارغ يعامل الآخرين كوسيلة لتضخيم الذات، بينما يقتضي العلاج أن ينظر الفرد إلى ذاته والآخرين بوصفهم أصحاب كرامة، لا أدوات للمقارنة. وبذلك، يصبح تجاوز التعالي الفارغ ممكناً عبر تربية الإرادة على احترام القانون الأخلاقي، والتحرّر من أوهام الأنا، والالتزام بفضيلة التواضع العقلي التي تُعيد للذات قيمتها الحقيقية.
الهوامش 1. اريك فروم، "ما وراء الأوهام" ص 49 وما بعدها، الطبعة الأولى لسنة 1994، منشورات دار الحوار، ترجمة: صلاح حاتم – سوريا. 2. ايمانويل كانط "نقد العقل العملي" ص 217 وما بعدها، منشورات دار جداول، في سوريا، الطبعة الأولى لسنة 2011، بترجمة وتقديم ناجي العونليّ.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا نعيش إذا كانت الحياة بلا معنى؟
-
فصول الحزن الدفين قراءة في نص(رياح) لـ عبد الإله الفهد
-
تجربتي الأدبية وزيف البشر
-
المتاهة التي نسكنها
-
بلدٌ غنيّ وفنانٌ جائع لماذا انهار رضا الخياط؟
-
من هم أدباء الدمج؟
-
السفر الى الماضي والى الحاضر - كتاب يضلّ الفكر باسم المعرفة
-
فضيحة من العيار الثقيل تهز المشهد الثقافي
-
ما عاد لي وطنٌ
-
صوتي ليس للبيع…لهذا لن أنتخب
-
رؤية الحيدري.. التشيع كاجتهاد مفتوح نحو الحقيقة
-
كمال الحيدري كما أراه
-
الحيدري: هل الله موجود أم وجود؟*
-
كمال الحيدري: آدم أول نبي لا أول مخلوق
-
رؤية كمال الحيدري في شمولية الحقيقة الدينية وتعدد طرق الوصول
...
-
اعترافات المطر الخجول قراءة في نص لرنا جمال
-
وجع مؤجل
-
مفهوم العقل الفقهي عند كمال الحيدري
-
كمال الحيدري وخصومه
-
كمال الحيدري.. الفيلسوف الذي أشعل نار العقل في محراب المقدس(
...
المزيد.....
-
مصر: مبادرة حكومية لعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة
-
غمكين مراد: الرُّوحُ كمزراب
-
مصر: مبادرة حكومية علاج كبار الفنانين على نفقة الدولة
-
رحلة العمر
-
حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
-
مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم هند صبري بالشراكة مع غو
...
-
فيلم -الملحد- يُعرض بدور السينما المصرية في ليلة رأس السنة
-
كابو نيغرو لعبدالله الطايع: فيلم عن الحب والعيش في عالم يضيق
...
-
-طفولتي تلاشت ببساطة-.. عرائس الرياح الموسمية في باكستان
-
مسابقة كتابة النشيد الوطني تثير الجدل في سوريا
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|