عبد المنعم عجب الفَيا
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 10:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كتب الطيب صالح*:
"أول مرة زرت فيها نيويورك كانت في عام ١٩٦٠، أرسلني القسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية لوصف وقائع جلسات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في تلك الدورة التاريخية التي حضرها اغلب زعماء العالم.
اذكر وصولي من لندن قبيل الغروب، واذكر احساسي بالغربة وانا انظر إلى لون الشفق، لون بين البنفسجي والارجواني والأحمر، كأنك تنظر إلى رسم سوريالي، كأنه لا يأتي من جهة بعينها، فلم استطع أن أميز أين الشرق واين الغرب، وهل ثمة شروق أم غروب.
**
قاعة الجمعية العمومية في مقر هيئة الأمم المتحدة. حين دخلت وجدت شابا اسيويا، غض الوجه واقفا على المنصة، يخطب باللغة الفرنسية، صوته يرتعش بالغضب والعاطفة. يقول :
"صحيح انا امثل دولة صغيرة لا وزن لها بمقاييس القوة في العالم، لكن ذلك لن يمنعني ان اعبر عن رايي بصراحة..".
ثم مضى الشاب يهاجم بشراسة ما وصفه بالتدخل الاستعماري في شؤون كمبوديا. كان في صوته عمق ورنة تهز مشاعر السامع، مهما كان. الأمير سيهانوك المسكين. تستمع اليه اليوم بعد ثلاثين عاما، فلا تشعر بشىء. هل هو تغير ام انت تغيرت؟ ظل على خشبة المسرح، لا يريد أن يختفي، يقول الكلام نفسه، ويلعب الدور نفسه، والسنوات تمر، وجسمه يشيخ، وشعره يبيض، ووجه يتجعد، ومشاكل كمبوديا لا تحل بل تزداد تعقيدا.
القاعة رحبة مصممة بعناية. دائما يفلحون في بناء القاعات. اجلس في غرفة زجاجية تطل على القاعة، في المكان المخصص للصحافيين والمراسلين، على يمين المنصة. الرئيس وإلى يمينه، داج همرشولد، الأمين العام. سوف اشهد فيما بعد دراما احتمال استقالة همرشولد.
امامي مباشرة لوحة جدارية تجذب انتباهي. وصفتها في أول رسالة اذاعية بعثت بها بأنها تشبه "قلبا ادميا مفتوحا أو دجاجة مذبوحة".
يا له من وصف غريب! لماذا قلت ذلك؟ ولكنني حين افكر الآن، أجد ان الصورة على غرابتها لم تخل من صدق. التناقض العبثي بين احلام الإنسانية المتعلقة بذلك المكان، وواقع ما يحدث فيه بالفعل. الايماءات بالألم والمعاناة في صورة القلب الآدمي الذي شق احد عنه الصدر وأخرجه منه. ثم كأنه شوى القلب وقدمه على طبق لأحد ما ليأكله.
لكن لعلني لم أكن أعي تماما ما أقول. لعلني فقط كنت ثملا براح الشباب، كالدائخ من جدة المكان، مزهوا بما حسبته قدرتي على التعبير، اهذي بكلام لا أفهم معناه.
قلت أيضا في تلك الرسالة، إن صوت الأمير سيهانوك الغاضب هو صوت "العالم الثالث". دول عدم الانحياز.
كان التعبير جديدا تلك الأيام "العالم الثالث". وكان مفهوم "عدم الانحياز" بغيضا إلى الدول الكبرى في الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وقد استمعت إلى جواهر لال نهرو، العظيم، استمعت إليه عدة مرات بعد ذلك، يشرح للامريكان بصوته الهادىء المتحضر، أن "عدم الانحياز" لا يعني الشيوعية، كما يظنون، وانه لا يمثل اي خطر عليهم.
ها هم جميعا في القاعة؟ أبطال حركة عدم الانحياز. نهرو، ونكروما وسكتوري، وسوكارنو وجمال عبد الناصر. كلهم ما عدا تيتو. راحوا عن بكرة أبيهم، بالحق أو بالباطل. يوغوسلافيا التي كونها تيتو بعد جهد جهيد تناثرت اشلاء.
كانت روح "عدم الانحياز" ، هي الروح الطاغية على ذلك الاجتماع. وكنت اعمل في إذاعة دولة من الدول الكبرى التي يهاجمهما هؤلاء الزعماء في خطبهم. وتجدني في التقارير التي ارسلها اتبنى موقف "عدم الانحياز" ، ليس عن وعي أو تدبر، ولكن بعفوية كاملة، كأن ذلك هو الموقف الطبيعي. أليست هيئة الإذاعة البريطانية هيئة "مستقلة" "محايدة"؟.
لم يعترض رؤسائي الإنجليز في لندن على ما كنت ابعث به إليهم، فكانوا يذيعونه بلا حذف أو تغيير. لم يفرضوا علي رقابة من أي نوع، فقد كانوا يفهمون، أنني تعلمت منهم "الأمانة العلمية". لم أكن ازيف شيئا أو اغير أو ابدل شيئا. كنت انقل بأمانة شيئا أراه يحدث امامي. وكان معظم ما يحدث في ذلك الاجتماع مخالفا لسياسات دولتهم. ومع ذلك تركوا لي الحبل على الغارب، فقد كانوا يقدرون بلا شك أن ذلك لن يضيرهم في نهاية الأمر.
**
بينما كان هارولد ماكميلان، رئيس وزراء بريطانيا، يقف خطيبا على المنصة، بتلك النبرة المتعالية قليلا، والساخرة قليلا، التي يغلب عليها ذلك السأم الاستقراطي، كان ينظر من حين لآخر إلى رجل يجلس في أقصى يسار القاعة، وكأنه يتوجه إليه بحديثه شخصيا.
رجل قصير القامة، ممتليء الجسم، ليس حسن الهندام، هيئته مثل هيئة رئيس عمال بناء، أو عمال شحن في ميناء. ذلك الرجل، الذي يجلس متحفزا مثل ذئب رابض، هو نجم هذا المهرجان دون منازع. نكيتا سيرقفيتش خريتشوف، أمين عام الحزب الشيوعي، وأقوى رجل في الاتحاد السوفيتي.
أراه بوضوح من حيث اجلس في غرفة من الغرف الزجاجية المخصصة للمراسلين، التي تشرف من عل على بئر القاعة. خيل الي أنني رأيت شفتيه تتحركان بعصبية وكانه يهمهم بعبارات بذيئة. فيما بعد قال شيئا بذيئا بالفعل، حين اطنب هارولد ماكميلان في وصف خيرات الاستعمار على نيجريا، وكأن الاستعمار نعمة كبرى من الله بها على تلك البلاد.
كان يصل دائما قبل بدء الجلسة بنحو ربع ساعة، يقود وفده الكثير العدد، تماما كما يأتي رئيس عمال مع عماله لاستقبال سفينة بضائع حلت الميناء. ويجلس متحفزا طوال الجلسة، السماعات على اذنيه، يكتب احيانا، ويرفع رأسه الي المتكلم احيانا، لا يكل ولا يمل، ولا يترك معقده حتى نهاية الجلسة.
مرة لاحظ قلة الحضور في جلسة صباحية، فهب واقفا، وصرخ غاضبا قبل أن يعطيه الرئيس الإذن :
"أين يذهب هؤلاء المندوبون؟ ماذا يفعلون؟ ان دولهم الفقيرة تدفع اموالا طائلة ترسلهم إلى نيويورك، ليس للفسحة والتسكع ولكن للعمل".
لم يلبث المندوبون الذين كانوا بالفعل يستمعون في الردهات، يشربون القهوة في الصالة الفاخرة المخصصة لاعضاء الوفود، أن جاءوا يتسابقون إلى قاعة الجمعية العمومية.
حول خريتشوف جلسات تلك الدورة بمهارة عظيمة الي فصول في مسرحية تراجيكوميدية. البطل الذي يمثل قوى الخير والعدل والحرية، هو الاتحاد السوفيتي. الشرير الذي يمثل قوي الظلام والباطل والقهر هو "الأمريكاني" ومعه حلفاؤه دول الغرب، وما أسماهم بالخدم والاذيال في بقية انحاء العالم.
لم يكن يسمى الدول المتخاصم معها باسمائها، وكأنه لا يعترف بوجودها، فيقول الأمريكاني، والانجليزي، الفرنساوي والطلياني، وهكذا. ولم يكن راضيا تماما عن دول عدم الانحياز، شانه في ذلك شان الأمريكان، فقد كان يريدهم أن يعلنوا صراحة انحيازهم إلى معسكر الاتحاد السوفيتي، لكنه كان يكف عن شتمهم، ويكتفي بالسخرية منهم من وقت لآخر.
ثم اختار عمدا بعض المندوبين ليمثلوا أدوارا كوميدية، ويكونوا هدفا لمزاحه وعبثه وسخريته. فعل ذلك خاصة مع مندوب الفيلبين.
قال خريتشوف مرة، "إن الفلبيني يتبع الامريكاني كما يتبع الكلب سيده. فإذا.. الامريكاني.. الفلبيني" ، والكلمة
بذيئة ترجمها المترجم الإنجليزي بهدوء ورصانة. هب مندوب الفيلبين واقفا، وقال بغضب، والناس يضحكون:
"إنني احتج يا سيدي الرئيس على اللهجة البذيئة التي يستخدمها رئيس وفد الاتحاد السوفيتي. انه يتهجم على دولة مستقلة ذات سيادة".
فقال خريتشوف :
"الفلبيني يتحدث عن استقلال بلاده، أين هو هذا الاستقلال؟ الإنسان يحتاج إلى منظار مكبر كي يراه"..
في آخر جلسة حضرها قبل سفره اعتذر خريتشوف لكل الذين قد يكون اساء إليهم، وطيب خاطر الفلبينيين بصفة خاصة. قال:
" الفلبيني رجل لطيف في الحقيقة، ارجو الا يكون غاضبا مني، وآسف إذا كنت قد المته أحيانآ ".
ضحك الناس وضحك مندوب الفلبين، الذي لا بد أنه تنفس الصعداء، وحمد الله أن ذلك العبء قد انزاح عن كاهله. إلا أن الصحافيين، وخاصة الأمريكان، احسوا بغير قليل من الحزن لسفر خريتشوف قبل نهاية الدورة، فقد نشأت بينهم وبينه علاقة لا تخلو من ود.
سأل صحافي أمريكي خروتشوف عن تقييمه لما أنجزته تلك الدورة للجمعية العمومية فأجاب ضاحكا:
"كنت في شبابي أعمل حطابا في جورجيا. كنت أعرف آخر اليوم ماذا أنجزت، من كمية الحطب الذي قطعته. أما هنا، فكيف تقيس الإنجاز؟"
**
قبل ذلك، في جلسة المساء، حدثت تلك الحادثة الشهيرة، حين تجرأ خريتشوف جرأة لا مثيل لها في تاريخ التعامل بين الدول، فخلع حذاءه وضرب به المنضدة أمامه، وصرخ بعبارات روسية، كان واضحا أنها شتائم. كان ذلك بسبب شيء قاله رئيس وزراء بريطانيا عن قضية الكونغو. توقف هارولد ماكميلان عن الكلام، ووضع السماعات على اذنيه، وقال ببراءة مصطنعة، وعلى وجهه تلك الابتسامة الغامضة:
"إنني انتظر ترجمة ما تفضل به رئيس وفد الاتحاد السوفيتي".
الذي قال الرفيق نكيتا سيرقيفتش، بلغ حدا من السوقية والبذاءة جعل المترجمين بجميع اللغات يتحرجون عن ترجمته..
كان خريتشوف بالفعل غريبا في ذلك المكان حيث تعود الناس على العبارات المرتبة والشتائم المهذبة. هذا كان شيئا مختلفا، كأنه طاقة فجة من طاقات الطبيعة، لا تدري متى تعصف ومتى تهب.
ربما لأجل ذلك انجذب إليه الصحافيون، خاصة الأمريكان، فكانوا يهرعون إلى القاعة كلما تحدث، ويتبعونه حيثما ذهب.
قال لهم مرة:
"بما اننا نعرف كل شىء عن جواسيسكم وأجهزة مخابراتكم، وانتم تعرفون كذلك كل شيء عن جواسيسنا عندكم، فلماذ لا نوحد الجهود بدلا من تبديد الموارد وإضاعة الجهد؟".
اتضح فيما بعد، أنه كان يعني ما يقول باسلوبه العجيب. وانه لم يكن يمانع في الوصول إلى تفاهم بين القوتين العظميين، يقتسمان بموجبه مناطق النفوذ في العالم، فلا تتعدى اي منهما على نفوذ الأخرى. ولكن الأحداث قد برهنت ان الأمريكان كانوا يطلبون ما هو أعظم، ولعلهم حصلوا عليه، فالعالم يشهد الآن، ولو إلى حين، زمان ال (باكس امريكانا).
هوامش:
* من كتاب (للمدن تفرد وحديث: الغرب) كتاب رقم ٤ بسلسلة مختارات الطيب صالح، وهذه المختارات تجميع للمقالات التي كان ينشرها بمجلة المجلة اللندنية وغيرها في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بما في ذلك ما ظل ينشره اسبوعيا تحت عنوان (نحو أفق بعيد) بالصفحة الأخيرة من المجلة المذكورة.
١٢ ديسمبر ٢٠٢٥
#عبد_المنعم_عجب_الفَيا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟