أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد المنعم عجب الفَيا - دارفور في نصوص أحمد الطيب زين العابدين الإبداعية















المزيد.....


دارفور في نصوص أحمد الطيب زين العابدين الإبداعية


عبد المنعم عجب الفَيا

الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 10:47
المحور: الادب والفن
    


عُرف البروفسور الراحل أحمد الطيب زين العابدين (١٩٣٧١٩٩٨)، الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالخرطوم سابقآ، فناناً تشكيلياً وكاتباً في فلسفة الفنون وقضايا الثقافة السودانية ولم يعرف ككاتب قصة إلا قبل رحيله بقليل حيث نشر عدداً من القصص القصيرة بجريدة "السودان الحديث" في زاويته الأسبوعية التي كان يحررها في الفترة بين عامي ١٩٩٤١٩٩٥ تحت عنوان "منظور سودانوي".
وقد جمعت هذه القصص في كتاب باسم (دروب قرماش) صدر قبل وفاته بايام، عن بيت الثقافة بالخرطوم 1997. وتكشف هذه النصوص عن ملكة راسخة في فنون الكتابة السردية وموهبة أدبية كبيرة لا تقل عن موهبة الطيب صالح القصصية.
وقد اتخد أحمد الطيب من منطقة شمال شرق دارفور (ريفي أم كدادة) مرتع صباه مسرحاً لأحداث هذه المجموعة القصصية، حيث تتداخل القبائل وتتفاوت في انتماءاتها العرقية والثقافية، من عربية بادية إلى مستعربة إلى إفريقية، وحيث الطبيعة لا تزال في بكارتها وعنفوانها وحيث البيئة المحلية الاجتماعية غنية بأساطيرها وأحاجيها وأهازيجها.
وقد انعكس ذلك الفضاء الفسيفسائي على العوالم الداخلية للنصوص، فتراوحت لغة الحوار بين العربية البادية والعربية الهجين وتفاوتت تبعاً لذلك أسماء الشخصيات وتنوعت الأهازيج والإيقاعات، الشيء الذي أضفى على قصص المجموعة حرارة وحيوية تفتقدها نصوص السواد الاعظم ممن يكتبون القصة.
والمنظور السودانوي كما يراه أحمد الطيب "واقع وجداني أو شعور فردي بالاختلاف والخصوصية الثقافية لأهل السودان. إحساس بالتفرد بحيث تتعدد الثقافات وتتوحد في شعور جامع. رؤية للخصوصية التي تتجلى في أرقى صورها في الإبداع الأدبي والفني".
في آخر حوار صحفي أجري معه ونشر قبيل رحيله، بجريدة (سنابل) يقول أحمد الطيب: "إن هذه المحلية التي يستنكفها البعض هي العالمية نفسها"، وفي إشارة عميقة إلى ضرورة التمسك بالخصوصية الثقافية وضرورة التعبير عنها دائماً، يقول: "نحن في السودان ينبغي ألا نفتعل المواقف لإرضاء الآخرين.. الحقيقة أن الآخرين إنما ينظرون إلينا باعتبار أننا الآخر الثقافي ويتوقعون منا أن نعطي ما عندنا وليس ما عندهم".
ونحن إذ نهم بتقديم قراءة لهذه المجموعة القصصية ننوه بأننا عمدنا إلى الاقتباسات المطولة من كل نص من النصوص الأربعة المختارة، لنعطي القارئ فكرة كاملة عن المقدرات الفنية والتعبيرية لأحمد الطيب حتى يقف بنفسه على هذه الموهبة القصصية الكبيرة.

الغريب الوافد وإحداث التغيير:

في قصة "دروب قرماش" التي تحمل اسم المجموعة يوظف المؤلف ثيمة "الغريب الوافد" الذي سبق أن استخدمها الطيب صالح في سردياته، حيث يفد ذلك الشخص الغريب من مكان مجهول كعابر سبيل، فتكرم وفادته ويصبح جزءاً من أهل البلد ولكنه ما يلبث أن يربك منظومة العلاقات الاجتماعية ويصيب زمنها بالاختلال فيحدث التغيير في البلد، وقرماش هو نموذج لهؤلاء الغرباء الوافدين الذين يهبطون على قرى غرب السودان.
كان الفكي "بليلة" نموذجاً للشخصية السودانية القانعة الزاهدة التي لا توظف سلطتها المعرفية في إيثار الذات أو في إيذاء الغير، سمي "بليلة" لأن البليلة طعامه المفضل، يأكلها مع تلاميذ خلوته الذين يعلمهم حفظ القرآن ويخدم نفسه بنفسه، وبالمقابل كان قرماش الوافد الغريب القادم من بلاد شنقيط نموذجاً للشخصية الانتهازية التي تعرف من أين تؤكل الكتف، فوظف علمه وجسارته وكل شيء لتحقيق أهدافه وإزاحة الفكي بليلة المسكين من "خلوته" وسلبه مركزه في القرية وإحلال نفسه محله.
هبط (قرماش) ذات عشاء ليلة شتائية، ضيفاً على خلوة الفكي "الفقيه" بينما كان يتحلق هو وتلاميذه حول نار التقابة، صفق الفكي بليلة بيديه فصمت الصغار وقرأ كبير (المهاجرين) - صفة طلبة القرآن في دارفور، وهي من الحض على الهجرة طلباً للعلم – قرأ دعاء محفوظاً ردده التلاميذ ثم تفرقوا في صخب، بعد أن فرقوا بينهم طعاماً كانوا يطهونه طوال الليل على قدر كبير، حملوا منه إلى الشيخ وضيفه على قدح مغطى.
دعا الشيخ ضيفة قائلاً: ما شاء الله اتفضل دي بليلة، عشاي البريده، نضيفة لا توسخ أيديك ولا تغلط عليك.. عشان كدي سموني "بليلة" اتفضل.. اتفضل. فرد الضيف: بارك الله فيك أكلتها كثير بلحيل.. كفاي خلاص صمت عنها وأفطرنا على اللحم، قالها ومن ورائه سحب الجراب الكبير وأخرج منه بسرعة وشده، أرنبين أغبرين ذبيحين قذف بواحد أمام الشيخ الذي اجفل في حركة ظاهرة".
"بدأ في سلخ الأرنب دون سكين بيده المجردة وبدا كمن ينتف ريش دجاجة مذبوحة.. وفي لحظات كانت الأرنب حمراء كوليد جديد ما زال تحت أمه، أخرج من الجراب قضيباً رقيقاً غرسه في مؤخرة الأرنب إلى حلقها وقام إلى نار التقابة.. غرس طرف القضيب على الأرض وأمال الأرنب على الجمر لتستوي على الوهج فهو لا يشويها.. كان منظر الأرنب على وهج الجمر كطفل رضيع يستدفئ".
عندما أحضر قرماش وليمته الساخنة إلى البرش، استأذن "بليلة" ليصلي العشاء عند أهله، سمع الفكي بليلة من ورائه ضحكة غريبة لأول مرة من ضيفه وهو يقول "إن لأهليك عليك حقاً – نساؤكم حرثكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
وكاد الشيخ أن ينفجر بالبكاء، فما عرف عمره مثل هذا العدوان ودخل لزوجته ساهماً .. فلما سألته قال بعد آهة : الله يجيب العواقب سليمة" الدرب عدوك يلمك مع كاتل أبوك"، وكأنه قد تنبأ بالانقلاب الذي سوف سيحدثه هذا الوافد الغريب في حياته.
ومنذ الصباح بدأت تدخلات قرماش التي لا تنتهي – عرض أحد الدارسين الكبار لوحه لشيخه بليلة ولكن قرماش أصلح أخطاءه خمس مرات وبليلة صامت يداعب لحيته، وانتهى ذلك الصباح والتلاميذ يعرضون ألواحهم على قرماش بدلاً عن الشيخ بليلة".
ليس هذا وحسب بل إن (قرماش) فاجأ بليلة بأن يقسموا المسيد (كتاب تحفيظ القرآن)، يأخذ هو الصبيان ويتولى بليلة تعليم الفتيات، أعقدت الدهشة من جسارة قرماش، لسان الفكي بليلة، ولكنه لم يملك أن قال: نعم، دون أن يدري، وأخذ قرماش الصبيان بالشدة حتى صار الناس يسمون المسيد مسيد قرماش وانزوى بليلة مع البنات.
لم تتوقف انتهاكات قرماش عند هذا الحد وكانت الطامة الكبرى حين طلب من الفكي بليلة أن يزوجه ابنته التي كان يريدها لمحمدين ابن أخيه، ففي عصر يوم من الأيام وقد بدأت البنات في الأوبة استعداداً لدرس المساء، كانا يجلسان يشربان الشاي الأخضر عندما جاءت روضة ابنة بليلة إلى الخلوة وهي تميس تكاد ترقص جرت آلاف الثعابين في العيون الزرق، وقال قرماش بصوت هادئ وهو يضع راحته على فخذ بليلة: يا شيخنا نساء دياركم خنشورات إلا هذه الجارية حفظها الله – ابتسم بليلة ابتسامة ساخرة وقال: جارية؟ جارية ماشا وين دي بتي روضة".
فرد قرماش بمكر بأنه يعرف ذلك وانه يطلبها منه على سنة الله ورسوله، انتفض بليلة في غضب وغاب في داره حتى صلاة العشاء وبعد الصلاة التفت إلى قرماش قائلاً: ابن بيتك والساتر الله.. "ولكن بليلة أحس في قرارة نفسه بهزيمة منكرة، فقد كان زواج روضة غصة في حلق بليلة وتكريساً لكل القهر الذي مارسه عليه صهره الجديد.
وبدأت الجفوة بين الرجلين بسبب هذا الزواج، ففي ذات مرة بينما كان الحديث عن الظاهر والباطن، قال الفكي بليلة إن النجاة والوصول لا يكونان إلا في علم الباطن، وعارضه قرماش في أن النجاة تكون في الجمع بين الظاهر والباطن واستشهد على ذلك ببعض النصوص التي تشير إلى استخلاف الإنسان في الأرض وتحض على طلب العلم ولو في الصين، ولما احتد الجدال بين الرجلين دخل قرماش في تحد مع الفكي بليلة وقال له أنت رجل من عامة الناس وليس لك من علم الباطن ما تستطيع أن تحمى به حتى طعامك هذا من الكلب النجس".
"فغلى صدر بليلة بالغضب وقبل التحدي، واتفقا أن يؤتى لكل منهما بقدح طعام من اللحم وأن تترك القداح في قارعة الطريق وتبيت إلى صباح اليوم التالي ليريا على أي القدحين تعتدي كلاب القرية الضالة وفي الليلة الموعودة وضع كل منهما قدحه في قارعة الطريق ولم تنم القرية تلك الليلة توجساً وهلعاً من النتيجة".
"وفي الصباح الباكر وجد قدح الفكي بليلة مأكولاً مقلوباً وقد رتعت حوله كلاب الليل الضالة، أما قدح قرماش فقد بقي على حاله لم يقربه كلب وضجت القرية بالضحك والهمس والتقريع وتوافد الناس إلى دار قرماش للتهنئة، وجاء فيمن جاء بليلة وعيناه مغرورقتان وسأل صهره قرماش:
- ماذا فعلت ؟
- قرأت مثلك حزب السيف والجلجوت
- ثم ماذا ؟
- أضفت ما علمني الله من علوم الدنيا، براز النمر فما تقربه الكلاب. - فصاح بليلة: نجس.
ثم تراجع إلى داره وترك خلوتي تحفيظ القرآن، بنين وبنات لقرماش، ودخل في خلوة طويلة للعبادة.

حُبّ لا يعرف العمى:

أما حكاية (بير جبرين) فهي زغرودة أخرى طويلة للحياة من الذين همشتهم الحياة وسلبتهم بعض النعم ولكنهم عشقوا الحياة بل علموا الآخرين كيف يحيونها. كان جبرين ضريراً ولكنه عشق الحياة وعاشها بأعمق ممن أنعم الله عليهم بنعمة البصر، بل عرف الحب وشقي به إلى درجة أن قدم نفسه قرباناً لهذا الحب يوم زواج الفتاة التي أحبها، ولم يدر المسكين أن الفتاة هي الأخرى قد "فنعت" بأن رفضت زوجها ليلة الدخلة، فصار حالهما يحاكي حال روميو وجوليت.
"لا يعرف كثير من الناس انه أعمى، رغم رأسه التي يرفعها إلى أعلى قليلاً ويميل بها يساراً وكأنه ينصت لشيء.. يجري مع الأطفال كما يجرون لا يتعثر أبداً، قرأ معهم القران، كتب وخطط على الرمل كما يفعلون، نصب للطير شراكه...".
"قالوا إن عرب الريح قد تركوه عند الناظر،.. ناظر الديار ولا أحد يعلم لماذا تلثمت عيناه، لا أحد يعلم من أين أتى، كان كما لو أنه خرج من البئر التي بنى عندها قطية أمامها عريشة جميلة عليها، ومنذ إقامته هنالك تبدل اسم البئر من اسمها القديم بير الناظر وصار اسمها بير جبرين".
كان "يتفجر صوتاً عميقاً رخيماً حزيناً وهو يغني الشاشاي وهو يعمل، وكأنه يرتب مشاعره بالليل شعراً جميلاً ما إن يصبح به حتى تتخاطفه أفواه السقاة الماتحين، تردده الأربعين بئراً تملأ به الحياض لكي تأتي السعية غداً لترتوي ماء زلالاً، فكأنها تشرب الشعر وليس الماء.. صارت بير جبرين مورداً للماء ومنبعاً للشعر، وغدا صباحاً يردد سكان الديم كلمات جبرين وهو يشدو بفتيات الديم الواردات فتتعلق بهن الأحاديث والأفئدة".
وحينما علم أن إحدى الفتيات اللائي يردن البير والتي أحبها، قد خطبت لابن عمها "ضلمة" كان رده: "ضلمه، ضلم عليا حياتي، هي من يومها ضلمه في بصري، قام ضلمها ليا في نص راسي، الله يضلمها عليه، الله يضلمها عليه، وفي مساء ذلك اليوم خرج إلى فوهة البئر، أخذ البكرة التي عليها الرشا، جعل يجذبها نحوه، ويتغنى بصوت عميق:
الليلةَ غِبّ باكر ضماها
ثلاثة يوم ما شمّ نداها
سأل رويحته البت وراها
بنشل ضحى لي عن عشاها
عميان ضرير فاقد ضياها
مسكين وحيد راجي غداها
قالوا الخير راجلها جاها
أزرق تلم راجلاً دلاهه
الليل هجع قام ضلمه جاها
يا ناس حرام دا يكون غطاها
وفي مساء اليوم التالي صاح السقاة يمتحون الماء ويشاشون: "الليلة غب باكر ضماها" وتردد صدى الأغنية الحزينة قيعان هذه الحفرة العميقة- وسكت الديم ينصت مبهوراً لهذا الفن الحزين العظيم وتسامعت المدينة وتهامس الناس وجاءت أمها تجري:
- دي شنو السويتو دي يا وليدي.. البنية ما كان تشيل حسها.
- لا يا والدة البنية، بيني وبينها الله وكتب الكتاب هي لليله ما عروس ويوم الخميس يوم الفقد .. انا امنقع في البير دي.
- يا الرسول .. يا كافي البلا وحايد المحن، فوقك الله والرسول يا وليدي.
- كلام وانا قلتو.
- عيب يا وليدي، البنية .. بنية قبيلة.. وأهلها حضور وشهود مالين علينا البيت، تجي كيف عليها الحنة والضريرة؟

فردوس الطفولة:

أما في قصة (رأس سالم) فيلتقط الكاتب رأسياً لحظة زمنية في حياة طفل لتصوير خواطره حول حادثة بسيطة هي حلاقة شعر رأسه "صلعة" لأول مرة استعداداً لإرساله إلى المدرسة.
هذه الحادثة إذا نظرنا إليها نظرة موضوعية مجردة لا تساوي شيئاً ولكنها تظل محفورة في اللاوعي تتوهج في وجداننا مع الكبر، ترفد ذاكرتنا الجمالية وتغذي إحساسنا المبهم بالحنين إلى العالم الفردوسي - عالم الطفولة في نقائه وبراءته وتوحده بالعالم.
يقول الطيب صالح "هذا الشخص الذي يسمى مبدعاً، يوجد طفل قابع في أعماقه، والأدب برمته بحث عن فردوس ضائع".
في ذلك اليوم جاء سالم يحمل قدح روب إلى حيث يجلس جده وأعمامه تحت ظل السيالة الضخمة "فوضعه على الأرض، وسط حفاوة واهتمام كبير من الجميع.. رأى جده يحمل في يده اليمنى الموس التي يعرفها تماماً فقد ختن بها.. وهي الموس التي من أجلها يأتي الطراق ليلاً لتوليد النساء والتي بها تحلق الرؤوس".
"كانت الموس غبشاء معتمة، نصل قديم مدسوس بين فخذين أسودين لقرن غزال مشقوق.. اخرج جده لفافة قماشية ترابية اللون من جيب قميصه جعل يفتش داخلها زماناً ثم أخرج شيئاً يشبه العظم.. تلك كانت صابونته المعروفة – سنين وهي معه لا تكمل ولا تتآكل ولا تنكسر!
حاول زماناً أن يرغي الصابونة على شعر سالم ولكنه لم يفلح.. أمسك الموس بحزم وقبض على جمجمة سالم، بقوة غرس الموس في منتصف الرأس صرخ سالم صرخة داوية فقد أحس بأن عشر قطط كانت تهرش بأظفارها منتصف رأسه، ولولا أن جده الحاذق قد رفع الموس بسرعة من رأسه لكان قد جرح صفعه جده على خده صفعة قوية...".
عندما فرغ جده، بدا رأس سالم ابيض كفرخة منتوفة الريش، وحين أطلق جده سراحه انطلق يجرى مسرعاً لا يلوي على شيء وهو لا يزال يتنهد حتى وصل الزرع في الخلاء، حيث الصخرة مكانه الأثير للعب بدت الصخرة "بيضاء ملساء كبيضة رخ منسية منتصبة وسط الزرع لا يحط عليها إلا صقر عتيق لا تقربه العصافير، صعد إلى الصخرة وجلس القرفصاء.. انتشرت حوله أغنام القرية التي يعرفها عنزة عنزة جلس اغبر حليق الرأس واضعاً كلتا يديه في حجره فكأنه بوذا صغير أو نبي من أنبياء بني إسرائيل".
"بدا هواء الظهيرة في الهبوب على رأسه الحليقة أحس بالريح وكأنها تمسه بأناملها الرقيقة، تبسم ابتسامة هانئة وجعل يقول لنفسه بصوت مسموع: الهبوب دي.. تلحس ليا عنقرتي وراسي دي بي لسانها الحار اللايوق دي– كيف الكلبة الجحمانة!
"ودون أن يشعر قال بصوت عال: جرت.. جرت اريتك بالسعر الكلبة دي". بدأ يمتلئ بالأخيلة والصور، رأى الكلبة ولسانها الدافئ اللزج ينقط منه اللعاب .. تقزز قليلاً وهو يقول جرت.. جرت.. يا وسخة وهو يضحك".
فكر في حيلة لمعاقبة جده ومن معه "تذكر أن سبب الحلاقة أن خاله منصور سيأتي يوم الخميس القادم ليأخذه إلى المدرسة في المدينة الكبيرة سيأتي بلباسه العسكري وعلى عربته الكومر التي لا تفارقه ولا يفارقها العربة ذات الرائحة العجيبة مثل رائحة العنزة الجرباء- العربة ذات العينين الضخمتين مثل عيون الجرادة في مقدمة رأسها براقتين واسعتين.. قال في نفسه، لابد أنها سحارة وتستطيع أن تسحر الحلة كلها عندما تلتفت حولها، وتسحر جده حتى في خلوته لأنها تستطيع أن تراه وتسحره.. ".

الاتصال الجمالي بعالم الجن:

ومثل غيرها من نصوص أحمد الطيب السردية تمتح قصة (دمـزوقة) من مخزون "الواقعية السحرية" التي يزخر بها التراث العربي والأفريقي وفي مقدمة ذلك" حكايات الف ليلة وليلة" التي الهمت كل ادباء العالم. فالقصة إعادة كتابة وتناصص مع أحاجي وقصص الطفولة عن الجن وعلاقة الجن بالإنس وإنهم يعيشون مثلنا تماماً لهم مجتمعاتهم وقراهم وعاداتهم وتقاليدهم وان بعضهم يخالط البشر ويتزوج بعض حسانهم من بني الإنسان.
كأنما تطمح القصة من خلال التوظيف الجمالي المحض إلى استعادة ذلك العالم الفردوسي الأول وتلك الوحدة الوجودية الانطولوجية حيث الجميع يعيشون في جنة "عدن" لا حواجز تفصل بينهم وذلك قبل الإغواء واللعنة والطرد وسقوط الإنسان في الزمن والجسد بالخطيئة والتجربة.
لم تكن "دمزوقة" من أهل البلد ولكن أتى بها أحد أبناء القرية الذي عُرف بفروسيته ونزقه.. أتى بها من أين لا أحد يعلم وتزوجها بين أهله.. أنجبت له ابناً سمته التوم رغم أن الناس لا يعرفون له توأما.
"كانت أجمل نساء القرية قاطبة ممتلئة في اتساق كما عود العنكوليب، أم، وما تزال ناهداً كعذراوات العشرين، كان سواد بشرتها مشرباً بخضرة عجيبة ووجهها كحبة زيتون سوداء دهينة، كانت عاطلاً عن كل شيء إلا أنوثتها الداوية رغم سكونها وهدوئها العظيم..".
"عاشت بينهم كالغريبة يرهبون جمالها وحسن خلقها، يتعلق بها الصغار والمجنونون والغافلون والمعوقون.. تمشي مرفوعة الرأس في الأسواق وموارد المياه، يتوقف الماشون من الرحالة يتأملونها، وتلوي النساء أعناقهن حتى لا يبصرن بهاءها الآسر للرجال، يغرن منها ولا يمقتنها وتحتها يجري ابنها لا يفارقها أبدا".
"تجرأت إحداهن فسألتها إن كانت من الجن، فضحكت دمزوقة حتى بانت فواطرها اللؤلؤية، وأدارت حدقات عينيها في حركة دائرية كاملة، مما أرعب المرأة وقالت في هدوء: أنا لست جنية.. أنا دمزوقة. ولكن المرأة سعت بين الناس تقول إنها إن لم تكن جنية فهي ساحرة لأن عيونها تتحرك مثل عيون البوم، وإنها عندما تخلو إلى نفسها تشقشق مثل العصافير، قالت جارتها ريحانة إن طائراً يزور بيتها في الظلام الحالك يصيح بصوت يسمعه الجيران.. شرورو.. شرورو.. شرورو وعندما تسمعه تخرج إلى باحة الدار وتتمتم ببعض الكلمات فيختفي".
كان الصغار يتعلقون بدمزوقة تعلقاً عجيباً، كان أطفال الجيران يتسللون عشاء إلى بيتها يتحلقون حولها تحكي لهم الأحاجي وحين يداعبهم النعاس تلعب معهم لعبة (أم تلم) تتنقل بينهم تلامس في حنو ورفق أطراف أصابع أقدامهم وتنتهي الأهزوجة عند ولد أو بنت ويكون السؤال المتوقع ويكون الضحك ثم يبدأ الصغار في التساقط واحداً تلو الآخر وهي تصلح حال النائمين ولكنها لا تلقي بهم في قدرها العظيم كما تفعل الساحرة في القصص التي ترويها لهم، إلى أن تأتي أمهاتهم اللائي يعرفن أين يذهب الصغار ليلاً ليأخذنهم وهم نيام.
أم تيلم .. أم قيلم
عيال أحمد عشره
ماتوا في قعشر شدره
توري .. حلب بقري
دقيته في قرنه
سال الدم
يجري ينجم
لبنات العم
عروسك ياتا؟!
"هكذا تنتهي الأهزوجة دائماً بالسؤال عن العروس، وقد تنتهي عند صبي أو صبية، وكانت الأهزوجة قد انتهت عند ابنها الذي يجلس قريباً منها، طفل في الثالثة عار تماماً استمرت في السؤال بإصرار.. عروسك ياتا؟! أدخل أصابع يده اليمنى كلها في فمه وجعل يردد..عروسي؟! عروسي؟! وأخيراً استقر رأيه فقالها في تشكك: عروسي دم..زوقة! وضج المكان بالضحك، وضحك أبوه وقال له وهو يضحك: لكن دمزوقة ما أمك يا عوير؟! فأجابت أمه بالنيابة عنه قائلة: مسكين فتش ما لقي أسمح من أمه.. عروسك بالجد ياها دمزوقة يا ولدي!!
هذه العبارة الأخيرة "عروسك بالجد ياها دمزوقة يا ولدي" هي مدار أو "عقدة" القصة، إذ ندرك في نهاية القصة أن ابن دمزوقة حينما قال في اللعب إن عروسه دمزوقة لم يخطئ، وعندما أمنت أمه على كلامه قائلة: عروسك بالجد ياها دمزوقة يا ولدي، كانت تعرف ما تقول.
فحينما كبر وبلغ مبلغ الرجال، باحت له أمه ذات يوم بسر حقيقته: "إنك لن تفهم كل ما أقوله لك الآن. ولكنك رجل مشرقي ولست من أهل هذه الديار، سيخبرك بذلك ظلك اليوم فعند منتصف النهار سيبدأ ظلك الغربي في الزوال إلى الأبد، وغداً سيكون لك ظلان في ظل واحد مشرقي لا يطول ولا يقصر.. هو في طولك على الأرض تماماً ولن تمشي عليه أبداً فهو توأمك ولن يتخلف عنك عندما تتجه غرباً فهو سيتبعك يدعوك إلى ديارك واهلك.. وستزورك زوجتك منذ اليوم تلقي التحية وتذهب، لا تقل شيئاً وقم إلى شأنك".
في صبيحة اليوم الموعود وقفت أمه على رأسه أعطته زاده .. احتضنته .. قبلته على رأسه.. وكان وداعاً فاتراً.. قالت: قلبك مقبل هنالك أحسن تشرق، سار باتجاه الشمس هو وظله. نفذ كل ما طلبته منه أمه بحذافيره. سار يتبع ظله ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع وجد نفسه في قرية. سأل رجلاً كهلاً إن كان يعرف منزل شيخ البلد. ضحك الرجل قائلا أنت التوم؟ كيف حال دمزوقة ؟ لقد اعددنا لك الدار اتبعني..".
".. فتح عينيه في الصباح وهي لا تزال نائمة تتوسد يدها بجانبه كان وجهها كما الزينونة الدهينة مشربا بالخضرة.. ولم يكن هنالك قدر ولا أطفال،. طار عقله شعاعاً ولهفة.. فتحت عينيها وأشرق وجهها بابتسامة أحس بأنه يعرفها منذ نعومة أظافره سألها في إشفاق من أنت ؟
قالت في هدوء شديد: دمزوقة. قال: ولكن هذه أمي! قالت: في هدوء أشد : ولكن هذه خالتي .. وتوأم أمي".

حاشية:
* فصل من كتابنا: "في الأدب السوداني الحديث" الذي صدرت طبعته الأولى سنة ٢٠١١ ،وذلك مع التصرف في العنوان وبعض من المتن.



#عبد_المنعم_عجب_الفَيا (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (١٠)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٩)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٨)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٧)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٦)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (5)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٤)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٣)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٢)
- مراجعات في قاموس العامية السودانية
- أمبرتو ايكو: التمييز بين التأويل واستعمال النص
- أمبرتو إيكو : آليات القراءة وحدود التاويل
- نظريات القراءه وجماليات التلقي
- معاداة السامية : تعني معاداة العرب وكل شعوب الشرق الأوسط!
- مكانة افلاطون وارسطو في تاريخ الفلسفة
- انجلز والدفاع عن فلسفة هيجل
- ذكريات د. إحسان عباس في السودان (١٩٥١ ...
- د. يوسف ادريس : حين داهمنا البوليس السياسي في بيت السودان وق ...
- الدور السياسي في نشاة خطاب ما بعد الحداثة
- نظرية -الفوضى- والعلم -ما بعد الحديث-


المزيد.....




- كفيفات يقدّمن عروضًا موسيقية مميزة في مصر وخارجها
- عميل فيدرالي يضرب رجلًا مثبتًا على الأرض زعم أنه قام بفعل مخ ...
- انقطاع الطمث المبكر يزيد خطر الإصابة بمتلازمة التمثيل الغذائ ...
- إشهار كتاب دم على أوراق الذاكرة
- مثنى طليع يستعرض رؤيته الفنية في معرضه الثاني على قاعة أكد ل ...
- المتحف البريطاني والمتحف المصري الكبير: مواجهة ناعمة في سرد ...
- مليشيات الثقافة العربية: عن -الكولونيل بن داود- و-أبو شباب- ...
- مليشيات الثقافة العربية: عن -الكولونيل بن داود- و-أبو شباب- ...
- شيرين أحمد طارق.. فنانون تألقّوا في افتتاح المتحف المصري الك ...
- بين المال والسياسة.. رؤساء أميركيون سابقون -يتذكرون-


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد المنعم عجب الفَيا - دارفور في نصوص أحمد الطيب زين العابدين الإبداعية