عبد المنعم عجب الفَيا
الحوار المتمدن-العدد: 8407 - 2025 / 7 / 18 - 08:35
المحور:
الادب والفن
في سعيه لاتخاذ موقف وسط بين النظريات النقدية المتطرفة التي تهدر المعنى وتجرد النص من اي رسالة تواصلية، وبين النظريات التي تنتهك خصوصية النص الأدبي بقراءته من خارجه، يهدف أمبرتو ايكو الي الاقامة في منطقة وسطى من خلال محاولته التفريق بين تأويل النص وتوظيفه.
فتأويل النص النقدي في نظر إيكو هو "أن تقرأ النص لكي تستكشف شيئا ما عن طبيعة النص"(1). أما استعمال use أو توظيف النص فهو "أن تنطلق من النص لتتحصل على شيء آخر".
وكان دافع إيكو إلى هذا التمييز هو الرد على فيلسوف البرجماتية أو "العملانية" الأمريكي ريتشارد رورتي (أشهر الفلاسفة الأمريكان الأحياء) والذي نشر في سنة 1982 مقالا بعنوان (المثالية والنصانية) وصف فيه التأويل النصي النقدي للأعمال الأدبية، أي كان منطلقه النظري، بأنه في الأخير "استعمال للنص"(2).
فلم يعجب أمبرتو إيكو وصف رورتي تفسير وتأويل النص بأنه "استعمال" للنص. غير أن التمييز الذي وضعه إيكو بين التـاويل والإستعمال تمييز ضبابي وفضفاض، فماذا تعني عبارة أن استعمال النص هو "أن تتحصل على شيء آخر" من النص؟
على أية حال يبدو أن إيكو لم يكن منذ البداية حريصا على هذا التمييز بدليل أنه قد تخلى عنه في ذات الكتاب الذي أثاره فيه وهو كتاب (حدود التـأويل) كما سنرى في نهاية هذه المناقشة.
وكان إيكو قد ضرب مثالا وحيدا على استعمال النص بقراءة نقدية كانت قد انجزتها الناقدة ماريا بونابرت سنة 1952 لثلاث قصص من أعمال القاص الأمريكي الرائد أدجار ألن بو، وهي قصة Morella وقصة Ligeia وقصة Elconora .
يرى إيكو أن بونابرت قدمت في البداية تحليلا رائعا يعد مثالا للتاويل النقدي للنصوص حيث ذهبت إلى أن القصص الثلاث تنبني على ثيمة أو حكاية fabula واحدة وهي أن البطل في القصص الثلاث مسكونا بهاجس حب النساء الهزيلات الشاحبات. وبذلك يرى إيكو أن الناقدة قد استطاعت ببراعة أن تكشف عن قصد النص(3).
غير أنه للأسف، والحديث لإيكو، أن برونابرت قد افسدت ذلك التحليل النصي الجميل باقحامها لمعلومات خارج نصيبة extra-texual من حياة وسيرة ألن بو الشخصية لكي تدعم فرضيتها النقدية، وذلك عندما انتهت إلى القول أن رؤية الطفل "بو" والدته وهي تموت أمامه بداء السل تركت بصماتها على نفسيته إلى درجة أنه وهو في مرحلة البلوغ وفي فترة عمله كان مأخوذا بعشق النساء الهزيلات الشاحبات. وهنا يخلص إيكو إلى أن ماريا بونابرت كانت في هذا الجزء من تحليلها تستعمل النص ولا تأوله(4).
وفي اللقاء الذي جمع إيكو ورورتي وجونثان كولر في ندوة "تانر" بجامعة كامبيردج سنة 1992 والذي جمعت أوراقه ونشرت في كتاب باسم أمبرتو إيكو تحت عنوان (التأويل والتأويل المفروط)، أثار رورتي مسالة تمييز إيكو بين تأويل واستعمال النص وانتهى إلى رفضه قائلا: "هذا النوع من التمييز لا نرغب، بالتاكيد، نحن البرجماتيين، في القيام به. فمن وجهة نظرنا إن أي شخص أيا كان ما يفعله بأي شيء فإنه يستخدمه. تأويل شيء ما، معرفته، النفاذ إلى جوهره وغيرها جميعا مجرد وسائل متنوعة لوصف العمل"(5).
ثم عمل رورتي جهده لمحو هذا التمييز من خلال تشريح المثال الذي ضربه إيكو للتدليل على التمييز بين تأويل النص واستعماله وهو مثال الناقدة ماريا بونابرت مع نصوص القاص ألن بو، حيث يلخص ذلك بقوله: "يقول إيكو أنه حينما اكتشفت ماريا بونابرت وجود الحكاية الأساسية في القصص (الثلاث) كانت تكشف عن قصد العمل ولكنه لسوء الحظ تشابك التحليل النصي الجميل مع ملاحظات السيرة التي تربط البنية النصية بمظاهر عرفت عبر مصادر خارج نصية من حياة بو الشخصية حيث تستدعي ماري بونابرت من السيرة الذاتية، واقعة أن بو كان مأخوذا، بشكل مرضي، بالنساء ذوات الملامح الكئيبة. فهي إذن تستخدم النصوص ولا تؤولها"(6).
ثم بدأ رورتي نقده إيكو بقوله: "إن الحدود بين نص وآخر ليست بهذا القدر من الوضوح"(7). ولكي يدلل على ذلك، لفت نظر إيكو إلى مسألة في غاية الأهمية لم يتنبه إليها إيكو في نقده لماريا بونابرت وهي أن الناقدة المذكورة كانت قد قرأت القصص الثلاث في ضوء بعضها البعض ولم تحلل كل قصة على حدة بوصفها نصا مستقلا. وبرغم ذلك لم يؤاخذ إيكو بونابرت على فعلتها هذه بل عدها من النماذج الرائعة على التحليل النصي التأويلي.
ويهدف رورتي من ذلك إلى القول لو كان إيكو مؤمنا حقا باستقلالية النص لكان اعترض على قراءة بونابرت النصوص الثلاث في ضوء بعضها البعض. يقول: "يبدو أن إيكو معتقدا أنه أمر صائب أن تقرأ ماريا قصة موريللا على ضوء قصة ليجيا، ولكن لماذا؟ فقط لمجرد أنهما كتبتا بواسطة الرجل نفسه؟ ألا يبدو هذا خيانة لقصة موريلا واستمرارا لخطر يشوش قصد العمل مع قصد المؤلف الذي يستدل عليه من عادة بو في كتابة نوع معين من النصوص؟"(8).
بالطبع أن رورتي هنا ليس لديه مانع أن تقرأ القصص الثلاث على ضوء بعضها البعض وليس لديه مانع أن تُستدعى معلومات من سيرة بو لإضاةء القراءة النقدية للقصص ولكنه يحاجج إيكو بمنطقه. فهو أراد أن يقول له: بما أنك قبلت أن تقرأ بونابرت القصص على ضوء بعضها البعض فيجب عليك أن تقبل دعمها لقراءتها النقدية بمعلومات من حياة بو الشخصية.
ولكن ما لم يذكره رورتي، لتقوية حجته، هو أن إيكو قد تطرق في الندوة ذاتها إلى وقائع في تجربته كمؤلف روائي من شأنها أن تجهض تمييزه بين التاويل النص واستخدامه أو على الأقل أن تجعل من نقده لماريا بونابرت بسبب استدعائها لجانب من حياة بو، بلا معنى.
ففي سياق حديثه عن العلاقة بين قصد النص وقصد المؤلف يسوق إيكو أمثلة من تجربته الذاتية كروائي فتكشف هذه الأمثلة عن المدى البعيد الذي يمكن للعناصر الخارج نصية، ولا سيما عناصر الحياة الشخصية للمؤلف المترسبة في اللاوعي، أن تؤثر بطريقة لا شعورية في بناء العمل الأدبي.
في رواية إيكو (بندول فوكو) يقع كاسوبان الشاب في حب فتاة برازيلية تدعى أمبارو. وبعد عدة شهور من نشر الرواية يسأل صديق ما، إيكو عن اسم أمبارو قائلا: أليس اسما لجبل؟ ثم يقول شارحا: هنالك أغنية "فلاحة جوانتاميرا" يرد فيها ذكر جبل أمبارو.
هنا فقط يتذكر إيكو تجربة شخصية ترسبت في لا وعيه وجعلته يختار لا شعوريا "أمبارو" اسما لتلك الفتاة في الرواية. يقول في رده على ملاحظة ذلك الصديق: "يا إلهي! إنني أعرف هذه الأغنية جيدا، على الرغم من أنني لا أذكر كلمة منها. لقد غُنيت في منتصف الخمسينيات. وغنتها فتاة كنت أحبها. كانت أمريكية لاتينية وباهرة الجمال. ومن الواضح أنني عند رسم شخصية فتاة ساحرة امريكية لاتينية، فكرت بطريقة لاواعية في الصورة الأخرى لشبابي حينما كنت في مثل عمر كاسوبان. فكرت في تلك الأغنية وبطريقة ما ارتحل اسم أمبارو، الذي كنت قد نسيته تماما، من عقلي اللاوعي إلى صفحات الرواية"(9).
المثال الثاني مرتبط برواية إيكو (اسم الوردة) فقد ورد في الرواية مقطعا في وصف لمخطوطة سرية مسمومة تشتمل على الجزء الثاني المفترض من كتاب ارسطو (فن الشعر). بعد صدور الرواية بسنوات يكتشف إيكو أنه توجد بمكتبته الخاصة نسخة قديمة نادرة من كتاب فن الشعر لأرسطو، كان قد اشتراها من مكان ما ونسيها وكان قد سجل وصفا لحالة النسخة في فهرس خاصة يحتفظ به ومما جاء فيه أن الهوامش العليا ممزقة والصفحات مائلة إلى الدكنة ومبقعة بتأثير الرطوبة وفي نهاية الكتاب تلتصق الصفحات بعضها ببعض ويبدو كأنها ملطخة بمادة دهنية مقززة.
فيكتشف إيكو لأول مرة أن هذا الوصف المدون للكتاب، يتطابق تماما مع وصف المخطوطة السرية الوارد بالرواية. فيسقط في يده. يقول: "فكرت في البداية أنها مصادفة غير عادية ثم فتنني الاعتقاد بمعجزة.. لقد اشتريت هذا الكتاب حينما كنت شابا، تصفحته وأدركت أنه كان متسخا بشكل استثنائي ثم وضعته في مكان ما ونسيته. ولكن بنوع من الكاميرا الداخلية كنت قد صورت تلك الصفحات المسمومة في أكثر الأجزاء عمقا في روحي، حتى حانت لحظة بعثها، لا أدري لأي سبب، واعتقدت أنني اخترعتها"(10).
هذان المثالان اللذان ساقهما إيكو من تجربته الشخصية بوصفه مؤلفا روائيا يدللان على أن ماريا بونابرت لم تخطئ عندما استعانت برؤية بو الطفل لأمه وهي مددة ميتة بداء السل لدعم قراءتها النقدية للقصص الثلاث المشار إليها آنفا. إذ أن هذه الناقدة لم تفعل أكثر مما فعله هو عندما استعان دون أن يدري، بتجاربه الشخصية المحفورة في لاوعيه في صياغة عوالمه الروائية على النحو الذي حكاه هو نفسه كناقد أدبي في تلك الندوة.
الحقيقة لم يكن إيكو منذ البداية مبدئيا في موقفه في التمييز بين تاويل النصوص واستخدام النصوص. أو قل إن هذا التمييز لم يكن واضحا في ذهنه بما يكفي. فحتى قبل ندوة "تانر" التي جمعته برورتي سنة 1992 كان إيكو قد أعلن صراحة، في (خاتمة) الفصل الذي تحدث فيه عن التمييز بين تأويل النص واستعماله بكتابه (حدود التأويل) عن عدم تمسكه بهذا التمييز.
يقول: "الدفاع عن حقوق التأويل ضد استعمال النص لا يعني أن النص يجب ألا يستعمل أبدا، فنحن نستعمل النصوص كل يوم بل نحتاج إلى ذلك لأسباب عديدة ومقدرة ولكن علينا فقط أن نميز بين التأويل والإستعمال"(11).
بل يذهب إلى حد القول بالضرورة النقدية لاستخدام النص: "أحيانا يعني استعمال النصوص اطلاق حريتها من تأويلات سابقة وذلك لاكتشاف جوانب جديدة فيها وللوصول إلى المزيد من مقاصد العمل الأدبي".
ثم يختتم الفصل بقوله:" لكن لا بد من الإقرار أنه يصعب دائما التمييز بين الاستعمال والتأويل"(12).
الهوامش والمراجع:
The-limit-s of Interpretation. p.57
Ibid.p.55,56
Ibid.p.57
أمبرتو إيكو، والتأويل والتأويل المفرط، ص118،119
المصدر السابق ص 119،120
المصدر السابق ص 120
المصدر السابق ص 120
المصدر السابق ص 108،109
المصدر السابق ص 111
The-limit-s of Interpretation, p. 62
Ibid.p.62
Ibid.p.6
#عبد_المنعم_عجب_الفَيا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟