عبد المنعم عجب الفَيا
الحوار المتمدن-العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 08:57
المحور:
الادب والفن
تندرج مساهمات الإيطالي الذائع الصيت أمبرتو إيكو ضمن نظريات جماليات القراءة والتلقي ونظريات استجابة القاريء التي تمنح القاريء حرية أكبر في تفسير وتأويل النصوص الإبداعية. وفي تقديري أن مساهماته النقدية وحدها ليست كافية لتمنحه هذه الشهرة. فأعماله الروائية ودراساته الفلسفية وأسلوبه الساخر وطريقته المباشرة في الكتابة النقدية كلها عوامل ساهمت في جلب هذا الصيت الذي كان يتمتع به حتى وفاته في العام ٢٠١٦
وينحصر مشروع إيكو النقدي بين القول بانفتاح النص وحرية تاويله، وبين ضرورة وضع معايير وضوابط للحد من فوضى التأويل التي ساهمت فيها نظريات تهدر المعنى والقراءة الموضوعية للنصوص مثل التفكيك وبعض نظريات استجابة القاريء على النحو الذي نجده عند الأمريكي ستانلي فيش.
أما المنطلقات النظرية التي يستند إليها إيكو في مؤلفاته النقدية، فتشمل الفلسفة الظاهراتية وبخاصة في كتابه الأول (العمل المفتوح) أما في بقية كتبه فنجده يوظف سيميولوجيا تشارلز ساندرز بيرس والتداولية أو العملانية pragmatics في علم اللغة.
أهم مؤلفات إيكو النقديه هي: (العمل المفتوح)1962 وكتاب (دور القاريء)1984 وكتاب (القاريء في الحكاية)1979 وكتاب (حدود التأويل)1990 وكتاب (التأويل والتأويل المفرط)1992 بالإشتراك. ومن أشهر رواياته (اسم الوردة)1980 ورواية (بندول فوكو)1988
دور القاريء في التأويل:
كانت المناهج النقدية الكلاسيكية لا تلتفت كثيرا إلى دور القاريء في العملية الإبداعية وتنظر إليه بحسبانه أمر بدهي ومسألة طبيعية مفروغ منها لا تحتاج إلى نقاش ولذلك كانت تكتفي بالتركيز على دراسة النص.
بل أن المناهج النقدية الحديثة التي برزت منذ مطالع القرن العشرين وحتى بداية النصف الثاني منه مثل الشكلانية الروسية والنقد الجديد والبنيوية كانت تشدد على ضرورة اقصاء كل العناصر والسياقات الخارجية بما فيها القاريء من حيز المناقشة والتحليل.
وفي وصفه لموقف المنهج البنيوي من هذه المسألة يقول أمبرتو إيكو: "كان المنهج البنيوي ينظر إلى أخذ دور المرسل إليه في الحسبان بمثابة تدخلا مزعجا لأن العقيدة البنوية التي كانت سائدة هي أن بنية النص يجب أن تحلل في ذاتها ولذاتها وذلك في محاولة لعزل البنى الشكلية للنص"(1). عن السياقات الأخرى.
وبرغم ظهور إرهاصات بأهمية دور المتلقي في إنتاج الموضوع الجمالي بتأثير الفلسفة الظاهراتية (الفنومنولوجيا) التي سادت في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، غير أن الإتجاهات النقدية المعنية بدراسة فعل القراءة ودور القاريء في العملية الإبداعية لم تتبلور إلا في سبعينات القرن العشرين. حيث نجد "أن منظري الأدب وكذلك علماء اللغويات والسيمياء قد ركزوا خلال السبعينات على الجانب العملي للقراءة"(2). فظهرت مذاهب نقدية مختلفة مثل"التأويلية وجماليات التلقي ونظريات استجابة القاريء والنظريات السيميائية حول التعاضض التاويلي .. وكلها يجمعها هم مشترك هو استقصاء جذور ظاهرة التاويل النصي"(3).
والفرضية الأساس التي تنطلق منها كل نظرية من هذه النظريات "هي أن وظيفة النص يمكن أن تفسر ليس فقط بالتركيز على عملية إنتاجه بل بالأخذ في الحسبان الدور الذي ينجزه المرسل إليه وكذلك الطريقة التي يحددها النص في توجيه هذا النوع من التعاضد التاويلي"(4).
وبكلمات أخرى "إن النظريات المتوجهة إلى المرسل إليه، تفترض أن معنى أي رسالة يعتمد على الخيارات التاويلية لمتلقيها. وحتى الرسالة التي لا تحتمل أكثر من معنى واحد ويجري التلفظ بها في ظروف عادية جدا فإن معناها يعتمد على استجابة المرسل إليه"(5).
مفهوم العمل المفتوح:
كان أمبرتو إيكو من أوائل النقاد الذين نادوا بضرورة دراسة الدور الذي يقوم به القاريء في فهم وتأويل النص وذلك قبل أن تبرز نظريات جماليات التلقي واستجابة القاريء في أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي. حيث أصدر إيكو كتابه الأول سنة 1962 تحت عنوان (العمل المفتوح- شعرية أعمال جيمس جويس).
ويقصد بالعمل المفتوح open work العمل الفني الذي يترك مساحة للقاريء للمشاركة في إنتاج وإكمال موضوعه الجمالي من خلال التخيل والفهم والتاويل والتذوق. وليس المقصود بالضرورة أن نهاية العمل مفتوحة كما هو الفهم الشائع ولكن المقصود أن تكون هنالك علاقة "جدلية بين الأثر الفني ومفسره"(6). لكي تسمح هذه العلاقة الجدلية بتعدد القراءات وانفتاح آفاق التاويل.
و"كل أثر فني حتى وإن كان مكتملا ومغلقا من خلال اكتمال بنيته المضبوطة بدقة هو أثر مفتوح على الأقل من خلال كونه يؤول بطرق مختلفة دون أن تتاثر خصوصيته التي لا يمكن أن تختزل"(7).
إن العمل الأدبي المفتوح يظل "مفتوحا على سلسلة لا منتهية من القراءات الممكنة وكل قراءة من هذه القراءات تعيد إحياء الأثر وفق منظور أو ذائقة أو تنفيذ شخصي"(8). فكل قاريء أو "مستهلك وهو يتفاعل مع مجموعة المثيرات وهو يحاول أن يفهم علاقاتها، يمارس إحساسا شخصيا وثقافة وأذواقا واتجاهات واحكاما قبلية توجه متعته في إطار منظور خاص به"(9).
ويعد إيكو أعمال الروائي الآيرلندي جميس جويس نموذجا للعمل المفتوح لا سيما روايتي يوليسيس، وفينيجانس ويك.
وفي كتابه (دور القاريء) يميز إيكو بين النص المفتوح والنص المغلق closed text ويصف النصوص المغلقة بأنها هي التي "تهدف بصورة واضحة إلى جر القاريء في طريق مصممة مسبقا حيث تستحضر كل خطوة في القصة فقط التوقعات التي ترسخ مجرى القص المرسوم بدقة إما لإثارة الشفقة أو الرعب في اللحظة المحددة والمكان المحدد"(10). ويمثل إيكو للنصوص المغلقة بالروايات البوليسية مثل كتابات إجاثا كريستي ورايات الرعب.
على أن مفهوم "العمل المفتوح" ليس من اختراع أمبرتو إيكو ولكنه من المقولات الأساسية للفلسفة الظاهراتية (الفينومنولوجيا) التي ارسى قواعدها الفيلسوف الألماني ادموند هوسرل. إذ ترى الفلسفة الظاهراتية أن الذات تمثل مركز العالم في إدراك الوجود. والمعرفة علاقة جدلية بين الذات والموضوع. لكن إدارك الموضوع المعين لا يتم من أول وهلة فمعرفتنا به لا تستنفد ومهما تعرفنا على جوانب من الموضوع تظل جوانبا منه خافية وبذلك يظل الإدراك الكامل للموضوع منفتحا على منظورات الذات.
وفي شرحه للمفهوم العمل المفتوح، يحيل إيكو إحالات مباشرة إلى رموز الفلسفة الظاهراتية مثل هوسرل وسارتر ومرلوبونتي وغيرهم، ويستدل باقوالهم لتقوية طرحه. فهو يورد مثلا حديث هوسرل عن الأفق المفتوح لإدراك الموضوع حيث يقول هوسرل:"كل حالة وعي تملك أفقا يتغير بتغير الإرتباطات التي يقيمها مع الحالات الأخرى ومع مراحل تطورها الخاصة .. هكذا مثلا إن جوانب الموضوع التي يتم التقاطها حقيقة في كل إدراك حسي خارجي تحيل على الجوانب التي لا يتم التقاطها والتي لا يتم توقعها الا بالانتظار بشكل غير حدسي بوصفها مظاهر ستاتي في الإدراك الحسي. إنها قصدية مستمرة تأخذ في كل مرحلة إدراكية جديدة معنى جديدا"(11).
كذلك يستشهد في ذات السياق باقوال الفيلسوف الظاهراتي الإيطالي ميرلوبونتي الذي يرى أنه "لا يمكن لتجربتي في العالم أن تكون مماثلة لتجربة شخص آخر فاعل موجود، لأنه لا يمكن لأي نظرة اتخذها أن تستنفد العالم، فالآفاق دائما مفتوحة..إن الاكتمال يصبح مستحيلا بسبب طبيعة المنظورات نفسها التي ينبغي الربط بينها وذلك لأن كل منظور منها يحيل بآفاقه إلى منظورات أخرى.." (12). ليخلص إلى القول:"إنه من الضروري إذن أن يُقدم الموضوع والعالم مفتوحين .. وأن يعدانا دائما بشيء آخر نراه"(13).
ومن جماع ذلك ينتهي إيكو إلى القول وهكذا "إن الفنومنولوجيا إذ تؤسس وضعيتنا الإنسانية في العالم تقددم ليس للفيلسوف وعالم النفس وحسب بل وللفنان أيضا تأكيدات تثير فاعليته الإبداعية"(14).
وكان الفيلسوف البولندي رومان انجاردن أول من أصدر كتابا عن دور القاريء في إنتاج الموضوع الجمالي للعمل الأدبي من وجهة نظر الفلسفة الظاهراتية وهو كتابه (العمل الأدبي الفني) الذي صدر سنة 1930 حيث يرى أنجاردن أن العمل الأدبي يأتي دائما في شكل "مظاهر خطاطية" عامة وعلى القاريء أن يقوم بإكماله وتجسيده لملء الفراغات بالتخيل من خلال القراءة. وقد انطلقت كل نظريات جماليات التلقي واستجابة القاريء بما في ذلك مساهمات أمبرتو إيكو من نظريات أنجاردن الواردة في هذا الكتاب (انظر: في جماليات القراءة التلقي).
القاريء النموذجي:
من المصطلحات التي أدخلها إيكو، مصطلح القاريء النموذجي model reader الحقيقة هو ليس مصطلحا ذو دلالة محددة ولكنه تعبير عام يقصد به القاريء الذي يفكر فيه الكاتب أثناء إنجاز العمل الأدبي. يقول إيكو: "نحن نفكر في قاريء ما أثناء الكتابة"(15). ويقول: "على المؤلف أن يرتيء مسبقا نموذجا لقاريء محتمل، يسمى فيما بعد القاريء النموذجي، ويفترض في هذا القاريء أن يكون قادرا على أن يتعامل تأويليا مع تعابير المؤلف بذات الطريقة التي يتعامل بها المؤلف مع إنتاج هذه التعابير"(16).
ويقر إيكو أنه ليس أول من اخترع هذا القاريء"(17). إذ أن "مفهوم القاريء النموذجي بات متداولا في تسميات مختلفة ومع بعض التباينات وضمن نظريات نصية عديدة. انظر على سبيل المثال: بارت ولوتمان وريفاتير وفاندايك وهيرش وكورتي وإيرز"(18).
إذن القاريء النموذجي هو تعبير عام يمكن أن يعني القاريء الكفء المناسب والمفترض الذي يتوجه إليه النص للتعامل معه. ويأخذ هذا القاريء، كما أشار إيكو، تسميات مختلفة عند نقاد نظريات التوجه نحو القاريء reader-oriented فهو عند ريفاتير مثلا القاريء الأعلى super reader وعند فيش القاريء المخُبر informed readerوعند وولف القاريء المقصود، وعند إيزر القاريء الضمي implied reader.
لذلك نجد أن إيكو يستعمل كلمات وتعابير مختلفة للدلالة على ما يطلق عليه القاريء النموذجي. فتارة يصفه بالقاريء المثالي: "وجويس نفسه كان يكتب للجمهور وهو الذي يفكر في قاريء مثالي مصاب بأرق مثالي"(19). ويقول: "إذا بدأت قصة بعبارة once upon a time كان يا ما كان فهنالك احتمال كبير أنها حكاية خرافية وأن القاريء المثالي المستدعى والمفترض طفل"(20).
وتارة أخرى يصفه بالقاريء المناسب:"فماذا يعني التفكير في قاريء نموذجي قادر على تجاوز العوائق التي تخلقها المائة صفحة الأولى؟ إنه يعني كتابة مائة صفحة بهدف بناء قاريء مناسب للصفحات التي ستاتي بعد ذلك"(21).
كذلك يصف إيكو المؤلف نفسه، بالمؤلف النموذجي. ويقصد به المؤلف داخل النص أو بوصفه "استراتيجية نصية". أما عندما يتحدث عن المؤلف الحقيقي (خارج النص) فيصفه بالمؤلف التجريبي. كأن يقول مثلا عن نفسه بوصفه روائيا في سياق حديثه عن رواية اسم الوردة: "إنني كمؤلف تجريبي لم أقرأ رواية هنري أو لم أعلم بوجودها"(22). أو يقول: "أحيانا يكون مثيرا أن تسأل المؤلف إلى أي مدى كان هو كشخص تجريبي مدركا للتأويلات المتعددة التي يدعمها نصه"(23).
التمييز بين قصد المؤلف وقصد النص:
يحرص إيكو دائما في كتاباته وأحاديثه حول دور القاريء في تأويل النص، على التمييز بين قصد المؤلف وقصد النص. فهو يرى أن مهمة القاريء هي الكشف عن قصد النص وليس قصد المؤلف. "نحن ملزمون باحترام قصد النص لا المؤلف باعتباره كذا وكذا"(24).
غير أن هذه المسالة قد حسمت في النقد الحديث منذ مطالع القرن العشرين من خلال كتابات آي إيه ريتشاردز وتي اس إليوت التي مهدت لظهور النقد الجديد New Criticism الذي ساد بين ضفتي الأطلنطي في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. حيث يعتقد منظرو النقد الجديد أنه من الخطأ محاولة معرفة ما إذا كان النص قد جاء مطابقا لقصد المؤلف أم لا لأن أي وجهة نظر بخلاف ما يقوله النص لا قيمة لها. واطلقوا على تلك النظرة النقدية الخاطئة التي تحاكم النص بقصد المؤلف، مقولة intentional fallacy أي الوهم أو المغالطة القصدية(25).
والعبارة هي عنوان مقالة نشرها بالإشتراك كل من ويمسات – ومنرو بيردسلي سنة 1946. وهي مقالة ذات قيمة مركزية في تطور النقد الحديث، حيث يذهب المؤلفان إلى أن القصيدة "ليست ملكا للمؤلف فهي تنفصل عنه لحظة ميلادها لتغدو حرة طليقة ملكا للعالم بعيدا عن قصد المؤلف وسيطرته".
لكن هذه المقولة لم تحظي بتاييد كل منظري النقد الجديد فقد عارضها كل من كلينث بروك وجون كراو رانسوم بمقولة "القصد الكلي" للنص(26).
الحقيقة يبدو أن القول بان على القاريء أن يركز على النص الذي أمامه ولا يهتم الإ بما يقوله النص قول قديم قدم الأدب والنقد وظل يمارس عمليا عبر العصور. على الأقل هذا ما فطن إليه ببصيرته النافذة الشاعر العربي المعروف أبو الطيب المتنبي حين قال في وصف قصائده:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ولكن هل يعنى ذلك أنه لا يجوز للمؤلف تفسير وتأويل نصه؟ هنا تتسم إجابات إيكو على هذا السؤال بالتردد واتخاذ "منزلة بين المنزلتين" والمراوحة بين الإباحة والمنع. يقول: "بالتاكيد ليس من حق المؤلف أن يوؤل، ولكن من حقه أن يحكي لماذا كتب، وكيف كتب"(26).
ومن حق المؤلف أيضا من وجهة نظر إيكو أن يعلق على تفسيرات وتأويلات الآخرين لعمله. فهنالك كما يقول إيكو "حالات يكون المؤلف ما يزال حيا وقام النقاد بتقديم تاويلاتهم لنصه، سيكون مثيرا في هذه الحالة أن نسأل المؤلف إلى أي مدى كان هو كشخص تجريبي مدركا للتاويلات المتعددة التي يدعمها نصه"(27). لكن يجب أن نتوقف عند هذه النقطة "ولا ينبغي أن نستخدم إجابة المؤلف لأجل التصديق على صحة التاويلات المتعلقة بنصه وإنما لبيان التعارضات بين قصد المؤلف وقصد النص"(28).
ونحن من جانبنا لا نرى ما يمنع المؤلف من أن يتحدث عن نصه وأن يقدم من التفسيرات ما يراه مناسبا دون قيد أو شرط لكنا نتفق مع إيكو في أنه يجب ألا تتخذ تفسيرات المؤلف حجة على تاويلات الآخرين. النص وحده هو الحجة على الجميع، المؤلف والقاريء والناقد.
وإذا أخذنا بحق المؤلف في التاويل فليس لنا الحق في إلزامه بذلك. وهنا نتفق مع إيكو في أن المؤلف :"ليس ملزما بتقديم تأويلات لعمله وإلا لما كانت هنالك حاجة إلى كتابة رواية فالروايات هي بالأساس آلات مولدة للتأويلات"(29).
ولذلك يميل أغلب الكتاب إلى الإحجام عن مناقشة أعمالهم الإبداعية وهذا بدافع الحكمة وحتى لا يحرموا القاريء من أن يكتشف بنفسه جماليات النص وغاياته، وليس بدافع من منع أو حظر.
ولما كان إيكو مؤلفا روائيا نجده لا يستطيع أن يخفي تعاطفه مع حق المؤلف في الحديث عن تفسير أعماله والكشف عن مقاصده. فبرغم قوله: "ليس من حق المؤلف أن يوؤل". إلا أنه يستدرك في موضع آخر قائلا: "ومع ذلك يبدو أن الأمر فظا إلى حد ما عندما نستبعد المؤلف المسكين كشيء لا علاقة له بالموضوع بالنسبة لقصة التأويل. إذ توجد في عملية الإتصال حالات يكون فيها الإستدلال حول قصد المتحدث ذا أهمية"(30).
ولذلك يخصص إيكو مقالات عدة يتحدث فيها عن تجربته الروائية وعن الدوافع التي قادته إلى كتابة هذه الروايات وعن الرؤى العامة لرسم الشخصيات واختيار اسماء الروايات والحديث عن الإطار التاريخي المرجعى الذي تدور فيه أحداثها. كما تضمنت هذه المقالات ردودا على تاويلات القراء والنقاد. وقد جمع سعيد بن كراد، بعض هذه المقالات ونشرها بالعربية تحت عنوان (آليات الكتابة السردية) (31).
ومن هذا يتضح أن إيكو لا يؤمن بمقولة (موت المؤلف) التي أطلقها رولان بارت. وبالمناسبة هذه المقولة لا تعني أن المؤلف لا يملك الحق في النص بعد كتابته أو الحق في تفسيره، كما فهم النقاد العرب، وإنما المقصود بها نفي الأصالة والذات المبدعة والزعم بأن النص ليس منتوجا ذاتيا من ابداع المؤلف في اعتقاد رولان بارت.
وبالرجوع إلى مناقشة دور القاريء في التأويل، السؤال هو إلى أي مدى يستطيع القاريء أن يكشف عن مقاصد النص؟
يرى إيكو أن كل ما يستطيع القاريء أن ينجزه في هذا الصدد هو تخمينات أو إمكانيات لما يمكن أن يكشف عنه النص. وذلك لأن "قصد النص لا يكشف عنه التمظهر الخطي للنص.. لذا لا يمكن الحديث عن تأويل للنص إلا في شكل تخمين conjecture من طرف القاريء"(32).
والوسيلة الوحيدة للتاكد من صحة هذا التخمين هي "النظر إليه في ضوء التماسك الكلي للنص"(33).
وهذا يفيد أنه لا يوجد معنى موضوعي نهائي يمكن الإتفاق حوله. ولكن عدم وجود معنى نهائي لقصد النص، لا يؤدي من وجهة نظر إيكو إلى القول، أن كل تأويل للنص صحيح. فإذا كنا لا نستطيع أن نقطع بأي التأويلات هي "الأفضل" ، فإننا من خلال إعمال معيار التماسك الداخلي للنص، نستطيع أن نعين أي التأويلات "سيئة"(34).
حدود التأويل:
لقد راهن أمبرتو إيكو منذ صدور كتابه الأول (العمل المفتوح) 1962 على انفتاح حرية التأويل وعلى أن حق القاريء في تأويل النص لا محدود. صحيح أنه ركز في هذا الكتاب والكتب اللاحقة على العلاقة الجدلية بين حق النص وحق القاريء ولم يترك الحبل على الغارب للقاريء ليفسر النص كيفما يشاء.
ولكنه استدرك فيما بعد أن الحرية التي دافع عنها قد أسي استخدامها وتحولت إلى نقمة. يقول: "في كتاب العمل المفتوح كنت أدافع عن دور فاعل للمفسر في قراءة النصوص لكن القراء ركزوا على فكرة الإنفتاح وتجاهلوا حقيقة أن القراءة المفتوحة النهاية التي أدعمها هي نشاط نابع ومدفوع من العمل نفسه.. ولدي انطباع بأن حق المؤول في العقود الأخيرة قد بولغ فيه أكثر من اللازم"(47).
ولذلك عمد إلى وضع المعايير والحدود لحرية القاريء في تفسير وتأويل النصوص فأصدر كتابه (حدود التأويل)1990 لهذه الغاية والذي جاء فيه: "إن فكرة التوليد الدلالي اللامحدود يجب ألا تؤدي إلى النتيجة بانه ليس للتأويل معايير. فالقول مبدئيا أن التأويل لا محدود لا يعني أن التأويل لا موضوع له. والقول مبدئيا أن النص لا نهاية له لا يعني أن كل فعل تأويلي ينتهي نهاية سعيدة"(48).
كذلك خصص كتاب (التأويل والتأويل المفرط) الذي ضم أعمال ندوة "تانر" المنعقدة في 1992 لمناقشة حدود التاويل وحرية القاريء.
ويبدو أن إيكو قد وضع نفسه منذ البداية أمام معادلة صعبة. فكيف له أن يوفق بين مقولة الإنفتاح: انفتاح النص ولا نهايته وانفتاح حرية القاريء وبين القول بضرورة وجود معايير وحدود للتأويل؟ وما هي هذه المعايير التي يمكن تحد من حرية الإنفتاح والتأويل؟
يضع إيكو معيارين لذلك وهما:
الانطلاق من المعنى الحرفي للنص واحترامه.
الإحتكام إلى التماسك الداخلي للنص.
فهو يعتقد أن كل خطاب حول حرية التأويل يجب أن ينطلق من الدفاع عن المعنى الحرفي. مع علمه بأن تحديد المعنى الحرفي ليس مسألة محسومة دائما. فعلي المفسر أو المؤول "أن يأخذ في المقام الأول بالمعنى الحرفي كمسلمة من المسلمات، المعنى الحرفي الذي تخوله اللغة في لحظة تاريخية محددة ولا ينكره أي فرد من المتكلمين بهذه اللغة"(49).
فمن المعلوم "أن لكل جملة معنى حرفي، أعلم أن هذه نقطة قد تكون خلافية ولكن علينا التمسك بالإعتقاد أن هنالك في نظام أي لغة من اللغات معنى حرفي للمفردات المعجمية وهو المعنى الذي تضعه القواميس أولا والذي يفكر فيه كل فرد عندما يسأل عن معنى كلمة من الكلمات"(50).
وكل تفسير أو تأويل مجازي أو رمزي لا بد له من أن يستند إلى المعنى الحرفي. "فحتى لو فسرنا مثلا جملة: جون يأكل تفاحة كل صباح، تفسيريا مجازيا أو رمزيا لتعني: جون يكرر خطيئة آدم كل صباح. فإن هذا التأويل لا يستقيم إلا إذا سلمنا أولا بأن التفاحة فاكهة بعينها وأن آدم هو آدم أبو البشر وأنه وفقا للكتاب المقدس أن آدم كان قد أكل فاكهة محرمة"(51).
أما المعيار الثاني الذي يضعه إيكو لتقييد حرية التأويل فهو الإحتكام إلى مفهوم الكلية، كلية النص أو ما يصفه إيكو بالتماسك الداخلي للنص. وهو مفهوم الوحدة العضوية نفسه الذي كان يعد من أهم مقولات الشكلانيين الروس والنقد الأمريكي الجديد وقد شكل هذا المفهوم كما هو معروف عماد النظرة البنيوية. وهو في الأصل مفهوم نقدي قديم جدا وله جذور في كل التراثيات.
ويقول إيكو إن هذا المعيار قديم يعود إلى القديس أوغسطين في كتابه (العقيدة المسيحية) حيث: "أن تفسير أي جزء من النص، لا يقبل أو يرفض، إلا إذا تم تأكيده أو نقضه بجزء آخر من النص. وبهذه الطريقة يتحكم التماسك الداخلي للنص في نوازع القاريء"(52).
الحقيقة فيما يخص التراث العربي الإسلامي، نجد أن هذه المعايير التي وضعها إيكو للتأويل: الإنطلاق من المعنى الحرفي والإحتكام إلى كلية النص، تشكل الركائز الأساسية التي تقوم عليها فن الشعر وعلوم البلاغة وعلوم القرآن والتفاسير وعلم أصول الفقه.
الهوامش والمراجع:
Umberto Eco, The-limit-s of Interpretation, Indiana University Press,1994,p.44
Ibid.p.44
Ibid.p.44
Ibid.p.55
Ibid.p.45
أمبرتو إيكو، الأثر المفتوح، ترجمة عبد الرحمن بو علي، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، ط2،2001، ص 15
المصدر السابق ص 16
المصدر السابق ص 40
المصدر السابق ص 16
المصدر السابق ص 8
المصدر السابق ص 34
المصدر السابق ص 36
المصدر السابق ص 36
المصدر السابق ص 34
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار سوريا، ط1،2009،ص 50
Umberto Eco, The Role of The Reader, Indiana University Press, 1984, p. 17
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ص 51
أمبرتو إيكو، القاريء في الحكاية، ترجمة انطون أبوزيد، المركز الثقافي العربي،1996،ص 84 الهامش 10
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ص51
أمبرتو إيكو، التاويل والتاويل المفرط، ترجمة ناصر الحلواني، مركز الإنماء الحضاري،ص82
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، 51
أمبرتو إيكو، التاويل والتاويل المفرط، ص 95
المصدر السابق ص 92
المصدر السابق ص 83
Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin,1999,p.421
Ibid.p.422
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ص 25
أمبرتو إيكو، التاويل والتاويل المفرط، ص 92
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ص 20
أمبرتو إيكو، التاويل والتاويل المفرط، ص 84
أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار سوريا، ط1،2009
The-limit-s of Interpretation, p. 58
Ibid. p.148
Ibid.p.60
The-limit-s of Interpretation. p.57
Ibid.p.55,56
Ibid.p.6
Ibid.p.6
Ibid.p.36
Ibid.p.5
Ibid.p.36,37
Ibid.p.59
#عبد_المنعم_عجب_الفَيا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟