أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد المنعم عجب الفَيا - الطيب صالح وقصة ذاك الصومالي














المزيد.....

الطيب صالح وقصة ذاك الصومالي


عبد المنعم عجب الفَيا

الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 15:47
المحور: الادب والفن
    


كتب الطيب صالح *:
".. كان الصومال ينهار، يتساقط في الداخل والخارج، و"الثورة" ماضية قدما و"الزعيم القائد" يحتفل احتفالاته البائسة، وانتصاراته المتوهمة عاما بعد عام. أكثر من عشرين عاما..
لو كنت حكيما، لنفصت يدي حينئذ، ورضيت من الغنيمة الإياب، كما فعل أحمد قورو، ولكنني قلت أسافر إلى مقديشو على أي حال. وقد استبد بي ان أعرف أي دولة هي هذه الدولة العجيبة، التي اقحمت نفسي في امورها طواعية واختيارا.
وكان صاحبي "مستر سين" يتابع مصاعب علاقتي بالصومال، لا يكاد يخفي سعادته أنني دخلت في ورطة. سوف يقعد مني فيما بعد، مقعد القاضي من المتهم، انني بددت مال المنظمة على قلته، في السفر والدراسات وارسال الخبراء إلى الصومال، دون أي أثر يذكر.
ولم أكن وحدي في ذلك، لو يعلم، فقد وجدت في مقديشو عشرات أمثالي، من موظفي منظمات الأمم المتحدة وخبرائها، ومنظمات الجامعة العربية وغيرها، يلاحقون سراب الصومال الخادع.
لم أجد أحدا ينتظرني حين وصلت، كنت قد تنقلت من طائرات إلى طائرات، وغفوت وصحوت في مطارات بعد مطارات. حتى مكتب الأمم المتحدة للتنمية لم يحرك ساكنا. وجدت فيما بعد أن مديره الهولندي قد يئس تماما من عمل اي تنمية في الصومال، فاستسلم  إلى تيار الخمول السائد، وانصرف الي لعب الجولف، وصيد السمك وعمل رحلات في البر، والصومال بلاد متنوعة الجمال، مليئة بالمسرات لمن يطلبها.
ولم أجد أحدا من المسؤولين فق وزارة الاعلام والثقافة والسياحة. لا الوزير ولا نائب الوزير ولا وكيل الوزارة ولا مدير عام الوزارة.
وكنت أجد دائما مدير المطبوعات، وهو مسؤول عن شؤون الرقابة. واذ أنني لم اتبين صحفا ولا كتبا، فقد عجبت من أمره.
أصبحت الاحق المسؤولين كمن يطلب دينا. ثم ذات يوم، وبمحض الصدفة،  وجدتهم جميعا مرة واحدة، وقابلتهم جميعا، الواحد تلو الآخر، ببساطة، كأنهم كانوا موجودين دائما ينتظروني، وانني لم أجدهم لأنني أعمى، لا أرى الشىء وهو واضح أمامي.
استقبلوني بحرارة بالغة ولطف عجيب، وذلك في طبع الصوماليين عموما، ثم لأنني سوداني، فبين الصومال والسودان صلات وعلائق من نوع خاص، يرون في السودان القدوة والمثل. مثلهم من (عرب الأطراف) عروبتهم قد يطلب لها البرهان.  وأيام الاستعمار الانجليزي، كانوا يرسلون الصوماليين في بعثات الي مدارس السودان، وإلى كلية غردون، وجامعة الخرطوم.
بعد الاستقلال، اعتنى السودان بالصومال، اعانهم بالأطباء والمدرسين والمهندسين القضاة وخبراء الزراعة وغير ذلك. شعب الصومال الوفي  لم ينس ذلك للسودان. هذا الي جانب وشائج أخرى. فوجوه الصوماليين وسحنهم، لا تكاد تميزها عن السودانيين. وموسيقاهم واغانيهم، يحبون أحمد المصطفى وحسن عطية وأغاني البلابل مثل السودانيين.
**
اعترض طريقي  منذ اول يوم، رجل معتدل القامة، متوسط العمر، دقيق تقاطيع الوجه، كأنه من قبيلة ال(بني عامر)  في شرق السودان، الدم الحامي والسامي فيه بكميات متساوية. ليس به عاهة ولا توجد في عينيه ذلة أو انكسار، تقدم نحوي كأنه كان ينتظرني، ونظر الي نظرة تقرب من الوقاحة:
"يا سوداني هات (...) شلن".
أعطيته ما سأل، عددتها عدا، لا أقل ولا أكثر، كأنني أقضي دينا، كأنني أوفي نذرا، كأنني أكفر عن خطيئة.
صار هذا شاني معه، مدة اقامتي، وحين انتقلت الى هوتيل ال (كروشي دي سود) لحق بي، لم يكن عسيرا عليه أن يعرف أين ذهبت. لم يكن متسولا. كان طالب حق، يدخل يمشي على مهل وقد يحيى أحدا، وقد يجلس في المقهى، وقد يطلب قهوة.
لا يتحدث معي ولا يشكرني. يأخذ (حقه) دون أي احساس بالجميل. لا يعرف اسمي ولا عملي، وانا لم اسأله عن اسمه ولا عمله. كان عاطلا بلا عمل، لا شك.
انا (سوداني) وكفى.. لست انجليزيا ولا فرنسيا ولا إيطاليا.. الناس الذين تسببوا في البداية فيما حدث له..لا، ولست زياد بري، الرجل المسؤول مسؤولية مباشرة انه الآن عاطل عن العمل.
ماذا أعطيته؟ بضعة شلنات. لا أظنه أخذ مني طول مدة إقامتي أكثر مما قيمته عشرة دولارات. يذهب في سبيله واذهب في سبيلي.
أحيانا أراه في المسجد القريب من الهوتيل في صلاة العشاء. كان يحلو لي أن أصلي في ذلك المسجد. صوت الإمام حنون حزين، يرتب القرآن بقراءة ورش. أراه نظيف الثياب، حسن الهندام، موتزرا ازارا يمانيا، وعلى رأسه الطاقية الصومالية المزركشة، يتجاهلني كلية كأنه لا يعرفني. انه هنا شخص آخر..
انه هنا، في هذا المكان، يعلم في حقيقة نفسه ان الأمر بيد الذي لا مانع لما اعطي ولا معطي لما منع. سوداني، أو صومالي، مثله عابر سبيل، ضيف على مائدة الحياة. وكون الحياة اعطتني أكثر مما أعطته، وجعلتني اعيش في باريس، وهو في مقديشو، واعمل في منظمة اليونسكو، وهو عاطل بلا عمل.. اه. تلك ايام يداولها الله بين الناس وهو العليم الخبير".

هوامش:
* من كتاب (ذكريات المواسم) كتاب رقم 8 بسلسلة مختارات الطيب صالح، وهذه المختارات تجميع للمقالات التي كان ينشرها بمجلة المجلة اللندنية وغيرها في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بما في ذلك ما ظل ينشره اسبوعيا تحت عنوان (نحو أفق بعيد) بالصفحة الأخيرة من المجلة المذكورة.
* التحق الطيب صالح سنة 1981 مستشارا بمنظمة اليونسكو بباريس، وقد عينته اليونسكو مسؤولا عن شؤون الصومال في اواخر أيام حكم الرئيس الصومالي زياد بري الذي استولى على الحكم بانقلاب عسكري في 1969 واطيح به في 1991 وهو العام الذي دخلت فيه الصومال الحرب الأهلية.



#عبد_المنعم_عجب_الفَيا (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطيب صالح وجواز السفر السوداني
- الطيب صالح و-الخوف- من امريكا
- دارفور في نصوص أحمد الطيب زين العابدين الإبداعية
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (١٠)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٩)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٨)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٧)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٦)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (5)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٤)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٣)
- مراجعات في قاموس اللهجة العامية في السودان (٢)
- مراجعات في قاموس العامية السودانية
- أمبرتو ايكو: التمييز بين التأويل واستعمال النص
- أمبرتو إيكو : آليات القراءة وحدود التاويل
- نظريات القراءه وجماليات التلقي
- معاداة السامية : تعني معاداة العرب وكل شعوب الشرق الأوسط!
- مكانة افلاطون وارسطو في تاريخ الفلسفة
- انجلز والدفاع عن فلسفة هيجل
- ذكريات د. إحسان عباس في السودان (١٩٥١ ...


المزيد.....




- جواد غلوم: حبيبتي والمنفى
- شاعر يتساءل: هل ينتهي الكلام..؟!
- الفنان محمد صبحي يثير جدلا واسعا بعد طرده لسائقه أمام الجمهو ...
- عام من -التكويع-.. قراءة في مواقف الفنانين السوريين بعد سقوط ...
- مهرجان البحر الاحمر يشارك 1000 دار عرض في العالم بعرض فيلم ...
- -البعض لا يتغيرون مهما حاولت-.. تدوينة للفنان محمد صبحي بعد ...
- زينة زجاجية بلغارية من إبداع فنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة ...
- إطلاق مؤشر الإيسيسكو للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي
- مهرجان كرامة السينمائي يعيد قضية الطفلة هند رجب إلى الواجهة ...
- هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد المنعم عجب الفَيا - الطيب صالح وقصة ذاك الصومالي