أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الصباغ - قراءة في كتاب ستانلي ميلغرام. الطاعة للسلطة: وجهة نظر تجريبية















المزيد.....

قراءة في كتاب ستانلي ميلغرام. الطاعة للسلطة: وجهة نظر تجريبية


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 04:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هل نحن أشرار بطبيعتنا؟ أم أن البنية الاجتماعية والسلطة الشرعية قد تحولنا إلى أدوات للشر
كيف يمكن للطاعة أن تتحكم بما من خلال قوتها وشرعيتها في المحافظة النظام، دون أن تؤدي بالمجتمع إلى كوارث ما لم تقيدها الأخلاق والضمير.
مستهل القول أن نبدأ من العنوان؛ لماذا هي "الطاعة للسلطة" وليس "طاعة السلطة"؟
يركز العنوان -كما هو- على العلاقة بين "الفاعل" و "المرجعية" التي يطيعها؛ أي كيف يظهر الفرد سلوك الطاعة باتجاه السلطة، في إبراز واضح للطرف المطاع (وهي هنا السلطة) بصفتها هدفاً أو جهةً تسير إليها -أو تتجه نحوها- الطاعة. وهذا ما يتوافق مع الفكرة المركزية في تجربة مؤلف الكتاب، أي كيف يتفاعل الأفراد مع أوامر تصدر من سلطة يُدركون شرعيّتها. فيتحولون من فاعلين إلى أدوات عند اللحظة التي يتوقفون فيها عن رؤية أنفسهم أصحاب قرار. تلك اللحظة التي ينتقل فيها الفرد من حالة "أنا أفعل" إلى حالة "أنا أنفّذ". في حين أن "طاعة السلطة" تفتقر إلى الوضوح الدلالي الذي يوفره حرف الجر في "الطاعة للسلطة" فالتعبير لا يشير صراحة إلى "من" يطيع، لكنها تحمل احتمالاً دلالياً مبهماً قد يُفهم- خصوصاً- في سياقات معينة- على غير المراد، بسبب طبيعة التركيب النحوي في اللغة العربية. وهذا في الحقيقة عكس المعنى المقصود والمطلوب. كما قد تفهم عبارة "طاعة السلطة" على أنها "الطاعة" التي تمتلكها السلطة أو التي تصدر عنها، وفي هذا المعنى انزياح دلالي غير دقيق عن السياق. (غني عن القول إن حرف الجر "لـ" يفيد الاتجاه أو الغاية. وإذن، سواء من الناحية اللغوية أو الوضوح المفاهيمي -على صعيد الخطاب أو التحليل- يفضل أن يكون العنوان "الطاعة للسلطة" .
ليس المطلوب توصيف «طاعة» مجردة[1]، بل وصف علاقة تُمنح فيها السلطة حقّ أن تكون هدفاً للسلوك. هذا التفريق يفتح الباب أمام الفكرة الأعمق، أي الطاعة ليست صفة نفسية، وإنما علاقة بين الذات الفردية والسلطة وما ينتج عن هذه العلاقة من فعل أو أفعال محددة، وبهذا لا تعتبر الطاعة ضعفاً أخلاقياً، بل نتيجة لآليات اجتماعية ونفسية عميقة يمكن تفعيلها في سياقات معينة، وهو ما يجعل فهمها ضرورياً لبناء مجتمعات أكثر وعياً وأقل استعداداً للامتثال الأعمى.
مبدئياً، يعد الكتاب تلخيصاً وتوسيعاً بآن معاً- لسلسلة التجارب الشهيرة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ستانلي ميلغرام في أوائل الستينيات (1961-1962). مدفوعاً بالتساؤل حول كيفية وقدرة الأفراد العاديين على ارتكاب جرائم فظيعة، لمجرد أنه طلب منهم ذلك.
وبديلاً عن وصف هؤلاء كمرضى نفسياً أو ساديين، طرح ميلغرام فرضية مثيرة عن نزعة الامتثال. فالطاعة للسلطة قد تكون سلوكاً بشرياً عادياً يظهر في سياقات اجتماعية معينة. ففي التجربة الأصلية، طلب ميلغرام وفريقه من المشاركين أن يصدموا شخصاً آخر بصدمات كهربائية متزايدة الشدة، كلما أخطأ في الإجابة عن السؤال.
في الواقع، لم تكن هناك صدمات حقيقية، فهذا الشخص الآخر هو بالأساس أحد أعضاء فريق ميلغرام، لكن المشاركين لا يعلمون ذلك.
المفاجأة كانت أن نسبة كبيرة من المشاركين (حوالي 65%) استمروا في إعطاء الصدمات حتى أقصى مستوى ممكناً (450 فولط)، رغم صراخ المتلقي لها ورغم احتجاجاته الواضحة، ورغم سماعهم صراخه، وأيضاً رغم أن بعضهم بكى أو تعرّق أو ارتجف من شدة التوتر.
لكن الصدمة الأكبر لفريق ميلغرام كانت اكتشافهم أن سلوك الطاعة هذا لم يكن استثناء، حيث كانت توقعاتهم لا تتجاوز 1% كنسبة امتثال. فالنسبة الكبيرة (65%) إنما تعبر عن استجابة اجتماعية شائعة، تشبه تماماً وضعية أي فرد في سياق سلطة يراها مشروعة. وهذا ما دفع مليغرام لتحليل التجربة عند عدة مستويات، أو عناصر، أسهمت- في اعتقاده- بجعل الأفراد يطيعون أوامر السلطة، حتى عندما تتعارض مع أخلاقياتهم:
-عندما يجري تقديم الشخص كـ"أداة" في يد سلطة مشروعة، يشعر بانعدام مسؤوليته عن عواقب أفعاله التي سوف يسندها إلى السلطة.
-سوف يشعر هؤلاء بالخوف من العقاب أو، يعتقدون أنهم سيظهرون بمظهر المتمرد أو غير التعاون، لعدم تنفيذهم الأوامر، مما يجعلهم في حالة ترقب دائن للعقاب أو الرفض الاجتماعي.
- سيعتاد الفرد على الطاعة كلما مر الوقت وسوف يجد نفسه ينزلق تدريجياً بدءً من تنفيذ أوامر صغيرة وغير مؤذية وصولاً إلى ارتكاب جرائم. هذا التصعيد المتدرج سيجعل منه يعتاد على الطاعة ولا يرى لحظة محددة للتمرد.
-في غياب النموذج "الباراديم المعارض أو أي شخص آخر يعترض على الأوامر، أو أي جملة مقارنة معارضة، سيشعر الفرد بأنه الوحيد "المخطئ" إن لم يطع الأوامر.
-وجود سلطة تعطي الأوامر سيجعلها سلطة شرعية في نظره وتعزز ميله للامتثال[2] (في التجربة مثلن السلطة المختبر الجامعي والشخص الذي يرتدي المعطف الأبيض والمؤسسة مرموقة).
-لا تعتبر الطاعة حالة مطلقة، بل هي بالأحرى مرنة وتتأثر بالعوامل الاجتماعية والبيئية.. فعندما انتقلت التجربة منة مخبر الجامعة إلى مكتب عادي، انخفضت الطاعة إلى 10% وظهر من يتمرد على الأوامر.
تعرضت تجربة ميلغرام إلى عدة انتقادات أخلاقية -وغير أخلاقية[3]- بسبب الضغط النفسي الذي عاناه المشاركون. واعتبرها البعض أنها تبالغ في تعميم النتائج. وإن الخداع هو سبب الصدمة لبعض المشاركين وليس الامتثال للأوامر كما يزعم ميلغرام.
ومع ذلك تبقى مرجع أساسي في علم النفس والسوسيولوجيا والسياسة، ومن أكثر الدراسات المخبرية تأثيراً في فهم السلوك البشري في سياقات السلطة.
تكررت التجربة في عدة بلدان وفي ثقافات وبيئات اجتماعية مختلفة وبتعديلات مختلفة. وأعطت جميعها، أو معظمها، نتائج متشابهة إلى حد كبير. ولا زالت التجربة وكذلك الكتاب الذي يشرحها وثيقة الصلة بالكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة مثل السلوك داخل المؤسسات العسكرية والبيروقراطية، والطاعة العمياء في الأنظمة الاستبدادية، والانصياع للقرارات غير الأخلاقية في أماكن العمل والمجالات الأخرى.
والسؤال الآن، ماذا نفعل لو أن شخص ما طلب منا -من موقعه في السلطة- إيذاء إنسان بريء؟ كيف ستكون ردة فعلنا وبماذا سنجيب؟
لا شك أن معظمنا سيرفض بكل ثقة تنفيذ هذا الطلب. ولكن هذا مجرد استنتاج نظري. فقد أثبت ميلغرام بالتجربة والتحليل أن أغلبية الأشخاص العاديين سيطيعون الأوامر حتى النهاية. بما يكشف كيف يمكن للواجب والسلطة أن يلعبا أدواراً في تغيير قرارتنا الأخلاقية وأن يحولا أشخاصاً عاديين إلى منفذي أوامر مدمرة.
طيب... هل نملك الشجاعة لنقول "لا"!
يكشف ميلغرام أننا نفتقد إلى تلك الجرأة، بل الأنكى أننا سنتجه نحو "الطاعة" لأوامر السلطة حتى لو كان الثمن حياة إنسان آخر. وهذا هو في الحقيقة الجانب المظلم -أو أحد الجوانب المظلمة- في النفس البشرية، حيث يتحول الناس العاديون إلى أدوات في يد السلطة، وهو ما يؤكده ميلغرام من خلال استعداد الأفراد لطاعة الأوامر الصادرة عن السلطة حتى لو كانت تتعارض مع ضمائرهم.
من المفيد هنا ذكر ما شرحته حنّة أرنت عن محاكمة أيخمان (1961) في "تفاهة الشر"، لفهم كيف يمكن لأفراد عاديين ارتكاب أفعال غير أخلاقية تحت ضغط السلطة. فالفرد يرى نفسه وكيلاً ينفذ الأوامر، فيرفع عن عاتقه المسؤولية الأخلاقية لينقلها إلى من يصدر الأمر. وترتبط الحالة من الوكالة أو الفعالية Agentic State التي تؤدي إلى الطاعة، بالتطور الاجتماعي والوضعية الهرمية كآلية للبقاء. لكنها تتحول- في سياقات غير أخلاقية- إلى آلية دمار. أيخمان لم يكن وحشاً، بقدر ما كان موظفاً يتبع التدابير والإجراءات، ودافع عن نفسه بقوله " كنت أنفذ الأوامر فقط".
منح ميلغرام هذا التشخيص منحاً تجريبياً واضحاً. فالناس يطيعون لأن السلطة توفر لهم طريقة للهروب من مسؤولية أفعالهم، ونقلها ببساطة إلى مستويات أعلى سواء كان جهاز بيروقراطي، أم بروتوكول، بذريعة تنفيذ التعليمات[4].
وإذن، ثمة آليات نفسية واجتماعية كامنة وراء هذه الطاعة، يمكن استكشافها وليس قياسها فقط، فالطاعة تمثل قاعدة امتثال اجتماعية يمكن لأشخاص عاديين المشاركة، بموجبها، في سلوكيات مدمرة إذا شعروا أنهم ينفذون أوامر شرعية. وعلى هذا، تكون الطاعة للسلطة ظاهرة اجتماعية مدفوعة بالضغوط الاجتماعية والواجب، تتخطى كونها مجرد خيار شخصي.
عند هذا الحد سوف تستوقفنا أسئلة عديدة وعميقة حول المسؤولية الأخلاقية في سياق التراتبية المجتمعية ضمن أي منظومة إنسانية، مع محاذير واضحة للطاعة العمياء في بعض الحالات الخاصة (الحروب على سبيل المثال، أو وجود أنظمة تسلطية).
وسوف تعمل القراءة المتأنية لتجربة ميلغرام على تحفيز التفكير في مقاومة الضغوط السلطوية. فالطاعة، في نهاية المطاف، لا تعني انعدام الأخلاق، وإنما "انزياح" في الإدراك، فنحن ننفذ الأوامر لأننا نرى أنفسنا "وكلاء" وليس فاعلين أصليين، وهذا ما يعفينا من تبعات أخلاقية. بما يعني تفريغ "فعل الطاعة" من دلالته الأخلاقية ليتحول إلى "واجب" بديلاً عن كونه "جريمة".
تمثل تجرية ميلغرام تحدٍ وجودي. فنحن لسنا بحاجة إلى سؤال أنفسنا: "هل أنا شخص طيب؟"، بل: "هل سأمتلك الشجاعة لأقول لا، حين يطلب مني النظام، ربما بأناقة وبلغة رسمية، أن أؤذي إنساناً بريئاً؟"
الإجابة لا تكمن في النوايا، بل في الاستعداد لتحمل المسؤولية الفردية، حتى حين يسمح السياق الاجتماعي بالهروب منها. لأن موضوع الطاعة -كما توضحه تجربة ميلغرام- ليس مسألة نفسية فحسب، بل سؤال وجودي وسياسي وأخلاقي عن الإنسان حين يوضع على تماس مباشر مع السلطة.
ومع كل ما تمثله التجربة من سوداوية قاتمة تظهر أسوء ما في نزعتنا للطاعة، إلا أن لحظة الطاعة تلك تحمل دائماً بديلاً صامتاً. لا بد من أن هناك من سيقاوم منذ اللحظة الأولى. لن يسأل كثيراً، و لن يناقش. لن يدخل اللعبة. لأنه عين لنفسه موضعاً ما خارج المشهد برمته.
هذا الرفض البسيط يكشف أن الطاعة ليست قدراً، فالمشهد قابل للاختراق، وتلك البنية القائمة على الامتثال ليست مغلقة تماماً. يكفي أن نتذكر أن لنا "صوتاً" قبل أن يكون لنا "دوراً"، حتى تتصدّع آلية الامتثال.
لكن هذا الاستثناء القليل لا يقلل من فداحة النتيجة، فأغلب الناس يميلون للطاعة حين يجري تصنيع مشهدية مناسبة للطاعة في سياقات مضللة تبتعد كثيراً عن الأسئلة الأخلاقية التقليدية. فيتحولون إلى أدوات للعنف دون أي إحساس بالخطأ أو الندم، وهذا يعني هشاشتنا أمام هذه البنية، ناهيك عن وحشيتنا حين نظن أننا "نقوم بعملنا فقط".
أخيراً لم يحتاج ميلغرام إلى العنف لتنفيذ تجربته، ولم يستخدم ولو تهديد واحد، كما لم يلوح بأي عقوبة. فالمختبر أعطى للفعل شكله وقوامه. لأن السلطة لا تحتاج إلى صراخ كي تنال الطاعة؛ يكفي ترتيب المكان، وتحديد موقع كل جسد داخله، ثم لندع اللغة تكمل البقية.
لا نفهم الطاعة إن اعتبرناها سمة داخل النفس فقط، لأنها تنتج عبر التفاعلات داخل وبين بنية السلطة ونمط التوجيه والسياق الذي تقدم فيه. تمنح السلطة فعل الطاعة شكله وتحوله من فعل فردي إلى تدبير محض تقني. وحين يصبح الفعل "تدبير أو إجراء" يخفت صوت وفعل الضمير ويقل ظهوره بوصفه محوراً للقرار. وهكذا، لم تكن الأوامر في التجربة قاسية. ولم يصر الفريق على طلب تكرارها بإلحاح، بل كانت أوامر هادئة ومتزنة ومحايدة (هذه الأخيرة هي التي تزلزل الضمير. فالضمير لا ينتفض أمام الخبث الظاهر، وإنما يهتز بسبب التدابير الباردة والجافة الذي يجري تقديمها بصفتها "عمل".)
وإذن، يكفي منح السلطة حق تصنيف وتعريف الموقف و "ما يجب فعله" حتى تحصل على الطاعة والامتثال.
ما يجدر التفكير فيه أن أغلب السلطات في حياتنا لا تحتاج أكثر من ذلك جهاز بيروقراطي (وزارة أو مؤسسة أو تنظيم أو مؤسسة أمنية، أو سلطة إدارية، يضاف إلى ذلك لغة محايدة، مكان رسمي، ) يعيد إنتاج المشهد بطريقة طقسية تخلق شعوراً بالمشروعية، وإن بدرجات مختلفة من الوضوح. وكأن هذه المشروعية تنتقل من السلطة إلى الجسد عبر رموز بسيطة. كل عنصر منها يثبّت المعنى بتبني الدور وليس المسؤولية، فالأمر، في النهاية، فعل بنية وليس فعل نفس. لكن خلف تلك اللغة والمكان والطقوس تختفي آليات تفكيك مقاومتنا الأخلاقية، فكل شيء مبرر ومشتمل بالهدوء. طبعاً الهدوء الذي يسبق العنف، وليس الذي يلغي وجوده. ويبدأ الجواب من التفاصيل الصغيرة.
....
العنوان الأصلي للكتاب : Obedience to Authority: An Experimental View (1974)
تأليف Stanley Milgram
ترجم إلى العربية في العام 2022 من إصدار منشورات نصوص . ترجمة أندي مارديني ، مراجعة وتدقيق نوار الحمصي
......
[1] تظهر تجربة ميلغرام أن تغيير المشهد المؤسسي (مختبر مقابل مكتب عادي) يغيّر نسب الامتثال بدرجة جذرية. علماً أن النزوع للامتثال لا يعمل في فراغ؛ فشبكة الانتماءات (مهنة، طائفة، حزب، مؤسسة) تشكل ما يسمح به الخزان (اقرأها الجهاز إن شئت) المعرفي والعاطفي. فتمنح الهُوية تفسيراً لتبرير الأوامر أو رفضها (الرفض هنا يحمل مخاطر فقدان الهُوية). والنتيجة؟ تصبح الطاعة ظاهرة سياقية قبل أن تكون أخلاقية. الطاعة هنا آلية نفسية واجتماعية ثابتة، يجري تفعيلها حين تتوافر ثلاثة عناصر معاً: سلطة شرعية (انظر الهامش أدناه) وواجب معلن، وسياق يحول الفعل إلى إجراء تقني. وهذا ما يعطي التجربة بعداً مرعباً، ليس لأنها كشفت وحشينا، بل لأنها كشفت سهولة "غياب الضمير" خين يتوافر غطاء مؤسسي. ميلغرام نفسه لم يكن متفائلاً. كان مقتنعاً بأن المجتمعات الحديثة، بتنظيمها البيروقراطي وتقديسها للشرعية، تخلق أفراد ينفذون الأوامر بضمير هادئ، لأن النظام جعل الشر "إجراء" مع التجاهل الكلي لكونه فعلاً أخلاقياً قبل كل شيء.
[2] لا تعني الشرعية القانون فقط؛ فهي مزيج من رموز عدة (مظهر، لغة) وطقوس (اجتماعات، بروتوكولات)، ومؤسسات وأزياء وأسماء مناصب وأمكنة رسمي... تزيد هذه العناصر -مجتمعة أم منفردة- من قيمة "السلطة" كمرجع. وقد استغل ميلغرام هذه الرموز في التجربة. إن فهم هذه الرموز يفسّر أسباب انهيار الامتثال حين تختفي عناصر الشرعية الظاهرية.
[3]تشير الأبحاث اللاحقة إلى أن حالات الطاعة المصحوبة بتدني التعاطف تقترن بتغيرات فسيولوجية مثل ارتفاع التوتر وازدياد نشاط اللوزة الدماغية Amygdala ، وتغيّر في شبكات التحكم التنفيذي. لا تبرر هذه الدلالات الفعل، لكنها تشرح كيف تصبح مقاومة الأوامر أصعب من الناحية الجسمانية والعصبية، وليس فقط من الناحية الذهنية والفكرية. إذ ينتقل الدماغ من نمط تفكير عقلاني بطيء إلى نمط دفاعي سريع. وتعمل اللوزة الدماغية مثل عمل جهاز إنذار حساس، حيث تلتقط أي أمر صادر عن السلطة باعتباره "واجب التنفيذ"، وتتعامل مع صوت الضمير باعتباره مصدر خطر يجب كتمه. يحدث هذا تسارعاً في النبض فيزيد من توتر الجسد مما يرفع مستويات هرمون الكورتيزول، فينخفض مجال الرؤية، ويتحول الفرد إلى كائن "معبأ" تماماً لتنفيذ ما يُطلب منه.
[4] ترسم تجربة ميلغرام مسار مهم في سيرة الاستعمار الحديث. ففي غزة اليوم، نرى الوجه الآخر للتجربة. الجندي الذي يقصف ويقتل وينسف البيوت ويحاصر ويجوع...إلخ والسياسي الذي يعطي "الضوء الأخضر" لفعل وسلوك الإبادة-هؤلاء جميعهم يتحركون داخل البنية المحددة التي وصفها ميلغرام، أي الشعور بتوزيع المسؤولية بالتساوي حتى تكاد تتلاشى، وأن القرار ليس قرار الفرد، بل قرار "المنظومة أو المستوى السياسي أو السلطات.. مثل إله من التعابير البيروقراطية الباردة". وكلما تلاشت المسؤولية الفردية، أصبح العنف أكثر سهولة، وأكثر اتساقاً، وأكثر تكراراً. مما يعني أن الفرد لا يحتاج إلى حمولات إيديولوجية ثقيلة ليؤذي غيره، يكفيه الانتقال من موقع "الفاعل" إلى موقع "الأداة" أو "الوكيل". يكفيه الاقتناع أنه يؤدي "واجباً".... مجرد واجب. لعل هذا ما يربط بين تجربة ميلغرام وبين البنية الاستعمارية. فالاستعمار لا يحتل الأرض فقط ولكنه يعمل تدريجياً على تحويل الأفراد من الداخل إلى جهاز طاعة. ويصبح المستعمِر والجندي والبيروقراطي والمستوطِن كتلة واحدة من الامتثال... جاهزون للتنفيذ والقول " نحن نتبع التعليمات".
ما يخرج عن تجربة ميلغرام أمر على غاية من الأهمية أيضاً وهو فعل المقاومة. فالمقاومة هنا ليست نقيضاً للاحتلال فقط، وإنما نقيض لفعل الطاعة أيضاً. فعل المقاومة هو خروج من تراتبية ميلغرام، ومن آلية الانصياع التي تحتاجها السلطة لتستمر. لنتذكر كيف كانت الانتفاضة الفلسطينية قبل نحو أربعين عاماً الأولى "تمريناً جماعياً عمل على كسر هذه التراتبية. وغزة اليوم، رغم حجم الرعب والدمار والقتل ، تدفع بالعالم كله إلى اختبار سؤال ميلغرام بطريقة معكوسة: من يطيع؟ ومن يعترض؟ ومن يكتفي بأن "ينفذ الأوامر"؟



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتفاضة الحجارة :بين العفوية و القصدية
- سوريا اليوم... نحو لغة سياسية جديدة
- زمن الضفادع: مجازات الطغيان في التجربة السورية
- جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان
- دونالد ترامب وعصر ما بعد الحقيقة في الخطاب السياسي
- عن الطوفان وأشياء أخرى (50)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (48)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (49)
- قراءات في كتاب عصور الرأسمالية الأمريكية : تاريخ الولايات ال ...
- في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى
- كيف يصبح الخوف مصنعاً لحكايات -الغولة-
- أنطولوجيا الخوف في ظل الدولة الأسدية
- من -الكيانية- إلى -الفلسطينيزم-: تحولات الوعي الفلسطيني بين ...
- المثقف السمسار والمستعمِر: التبعية والهيمنة
- ما بعد إيران: صعود نموذج -القوة الوظيفية- وانحسار استراتيجية ...
- رائحة الحياة الأولى: حكاية الجيوسمين
- إيران في عمق التداعيات والتحولات الجيوسياسية: هامش تحليلي
- حدود السلطة على النص
- العقوبات الاقتصادية على إيران: هندسة جديدة للشرق الأوسط
- ما بعد الطوفان : تفكك -الهلال الشيعي- والنظام الإقليمي الجدي ...


المزيد.....




- هكذا ردت زعيمة المعارضة في فنزويلا على سؤال بشأن تأييد التدخ ...
- فيديو متداول لـ-فيضانات شديدة في كردستان العراق-.. هذه حقيقت ...
- شباب المنطقة في مواجهة تغيّر المناخ
- المغرب والسعودية في مواجهة طموح سوريا وفلسطين في ربع نهائي ك ...
- سيناتور أمريكي: محمد بن سلمان -سيُقتل- إذا لم يحقق نتيجة أفض ...
- فيديو- فيضانات جارفة تضرب إقليم كردستان العراق وتودي بحياة 3 ...
- بعد مقتل أبو شباب.. جماعات مناهضة لحماس تواصل التجنيد وتثير ...
- انهيار 3 مبان في غزة بسبب المنخفض الجوي والفيضانات تغمر القط ...
- لافروف يهدد أوروبا ويطمئنها بذات الوقت
- إحباط هجوم انتحاري يستهدف أكاديمية عسكرية بمقديشو


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الصباغ - قراءة في كتاب ستانلي ميلغرام. الطاعة للسلطة: وجهة نظر تجريبية