|
|
قراءات في كتاب عصور الرأسمالية الأمريكية : تاريخ الولايات المتحدة
محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 04:48
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
ترجمة وتحرير محمود الصباغ استهلال هذا كتاب صدر حديثاً (2021) للمؤرخ الاقتصادي جوناثان ليفي يتتبع فيه تطور الرأسمالية الأمريكية من الحقبة الاستعمارية حتى الوقت الحاضر، ليصل إلى استنتاج لافت للنظر يرى بأننا مقبلون على نقطة تحوّل سوف تحدد مسار ومعنى الحقبة " الاقتصادية الرأسمالية "التالية. ويعتبره البعض من بين أفضل ما كُتب عن تاريخ الرأسمالية الأمريكية، إذ لم يعد بالإمكان فهم الولايات المتحدة دون فهم تاريخها الاقتصادي، فنحن نشهد وصول الرأسمالية الأمريكية إلى مفترق طرق منذ انهيار السوق والركود الكبير في عام 2008 ، في خضم أزمة اقتصادية جديدة وخلاف سياسي حاد. وحسب أقسام الكتاب: يمتد عصر التجارة إلى الحقبة الاستعمارية من خلال اندلاع الحرب الأهلية، وهي مدة تاريخية اعتمد فيها النمو الاقتصادي والإنتاج إلى حد كبير على العمالة المستعبدة وكان مقيداً بما يمكن استخلاصه من الأرض وأين يمكن تداولها. ثم يلي ذلك، عصر رأس المال الذي كان له تأثير أولي تسبب في حدوث قفزة كبرى في التنمية الاقتصادية، لا سيما بعد الحرب الأهلية، تمثلت هذه القفزة بانبثاق الثورة الصناعية "الأمريكية"، عندما صب الرأسماليون رأس مالهم في المصانع لإنتاج السلع التجارية، مما أسهم في انتقال العمالة إلى المدن. لكن الاستثمارات في الاقتصاد الصناعي الجديد أدت إلى تقلبات كبيرة، وقع أكثرها إثارة في بداية مرحلة الكساد الكبير1929، الذي حرّك من فوره العصر التالي، أي عصر السيطرة، وذلك عندما أخذت الحكومة على عاتقها القيام بدور أكثر نشاطاً في المجال الاقتصاد، وأهم سمات هذه الحقبة تمثل في عمليات تمويل الإنتاج الحربي خلال الحرب العالمية الثانية. أدى التشكك في تدخل الحكومة في الحرب الباردة إلى جانب الركود والركود التضخمي في السبعينيات إلى أزمة الرأسمالية الصناعية وسحب الإرادة السياسية للتنظيم. وقد أدى الجمع بين تحرير القيود ونمو صناعة التمويل، في عصر الفوضى الذي أعقب ذلك، إلى خلق اقتصاد مزدهر للبعض ولكنه أدى، أيضاً، إلى عدم المساواة الواضحة وانعدام الرقابة التي أدت مباشرة إلى انهيار العام 2008. يثبن جوناثان ليفي في كتابه أن الرأسمالية في الولايات المتحدة، على عكس العقيدة السياسية، لم تكن أبداً مجرد شيء واحدـ بل شابها التغيير عبر التاريخ، وسوف تتغير، على الأرجح، في عصرنا الحالي. تتعامل القراءات الثلاث للكتاب على تعيين «الحدود المحددة عبر النقد» أو «القيود التي تظهر من خلال التحليل النقدي»، وليس «الحدود المهمة/الحاسمة» فما يتعلق بالنقد والتحليل بدلالته النقدية لا يعني بالضرورة الوصف بدلالة الأهمية، ومن هنا تركز القراءات على نقد منهجية كتاب ليفي، ويُشير إلى ثغرات في رؤيته لتاريخ الرأسمالية (مثل إهمال البُعدين الإمبريالي والعنصري). أي أن «الحدود» هنا هي نتائج النقد، وليست «حدوداً حاسمة» في المضمون. تعد هذه القراءة -بحق- دراسة تاريخية شاملة جديدة للرأسمالية الأمريكية تُفنّد أساطير التميز الريادي وتُظهر أن المكاسب الاقتصادية دوماً ما دفعتها الدولة. ملاحظة: توسعنا في الهوامش نظراً لاحتواء النص على العديد من المصطلحات الأكاديمية والمحلية الخاصة. التي قد لا يكون القارىء العادي على معرفة بها. ...... القسم الأول: صورة الولايات المتحدة كدولة نامية* جاستين. فاسلو بدأت الأيام الأولى من عهد الرئيس [الأمريكي السابق] "جو بايدن" بعملية إعادة تقويم غير متوقعة لاتجاهات الرأسمالية الأمريكية. وكان إعلان بايدن عن "تحول نموذجي" جذري بعيداً عن سياسات حابت الأثرياء على مدى عقود بلا انقطاع أو فتور، واستحضر بايدن روح ما يعرف في تاريخ الولايات المتحدة "الصفقة الجديدة"(New Deal) (1) ليعبر عن رؤيته لحكومة ناشطة. وقد وعد، إلى جانب توسيع مفهوم ومعنى دولة الرفاه، بطرح أجندة تنموية طموحة تربط بين البنية التحتية والسياسة الصناعية والتحول في قطاع الطاقة لمكافحة التغير المناخي. وتبدو فرصة احتمالات التدخل الجريء للدولة أكبر بكثير مما كانت عليه خلال الركود العظيم، عندما أصبح التقشف، فجأة، ظاهرة عابرة للأطلسي. وكان الاختلاف الأكثر بروزاً بين الماضي والحاضر يكمن، حالياً، في تحديد بايدن للاستثمار طويل الأجل باعتباره أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على الديمقراطية. وعلى خلاف الاقتصاديين النيوليبراليين الذين هيمنوا على سياسات الحزب الديمقراطي لعقود، تعد رؤيته تنصلاً ضمنياً لما تباهت به هيلاري كلينتون بأنها، رغم خسارتها الانتخابات الرئاسية للعام 2016 أمام دونالد ترامب، لكنها "فازت في المناطق التي تمثل ثلثي الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي"- تلك الأجزاء من البلاد" المتفائلة والمتنوعة والديناميكية والمتطلعة نحو المستقبل"؛ على حد قولها. ولم يفعل الوباء [جائحة كورونا] سوى أن كشف بوضوح أكبر كيف حتى أكثر مدن البلاد ازدهاراً، والتي كانت ذات يوم تقود محركات النمو في عصر العولمة، أصبحت، الآن، بحاجة ماسة إلى توزيع متكافئ للثروة أكثر عدالة؛ وإلى مشاريع تقودها الدولة. نحن هنا أمام سؤال مركزي يتعلق بهذه المرحلة الجديدة من مراحل الاقتصاد السياسي الأمريكي يدور حول الطريقة التي يمكن للحكومة بموجبها تحفيز رأس المال على العمل لمصلحة الرفاه العام. فإذا كان رأس المال ميالاً بطبيعته للسيولة؛ فكيف تتمكن الجهات السياسية من توجيهه نحو الاستثمار؟ يوضح المؤرخ الاقتصادي جوناثان ليفي، في كتابه "عصور الرأسمالية الأمريكية: تاريخ الولايات المتحدة"، الظروف التاريخية التي جعلت هذا التوجه ممكناً، مؤكداً عدم نشأة مسارات التحولات التنموية الكبرى في تاريخ الولايات المتحدة بطريقة عفوية أو تلقائية من السوق. وكما يقول: "ما يميز عصور الرأسمالية الأمريكية.. ليس المتغيرات الاقتصادية البحتة، بل المبادرات السياسية". كما يوضح كيف يقود رجال الدولة، على الدوام، القوة التي توجه مسار الرأسمالية الأمريكية، مع ما يترافق ذلك من تداعيات عميقة على التفاوت الاقتصادي، وعدم المساواة، والحراك الاجتماعي، ومفهوم المواطنة، والتصورات الشعبية حول مسؤوليات الحكومة والشركات. يقسم ليفي كتابه إلى أربعة عصور: "التجارة (1660–1860)"، "رأس المال (1860-1932)"، "السيطرة والضبط (1932-1980)"، "الفوضى (1980-)". ويتبع في كل قسم ثلاث أطروحات؛ كما يلي 1.رأس المال ليس مجرد موضوع مادي، أو "عامل إنتاج مادي"؛ بل هو "صيرورة" -أي، استثمار يقوم على توقعات ربح مستقبلية. 2.لم يكن دافع الربح وحدة كافٍ يوماً لدفع عجلة التاريخ الاقتصادي، حتى في سياق الرأسمالية ذاتها. 3.تاريخ الرأسمالية عبارة عن صراع مستمر بين ظاهرة الادخار قصيرة الأمد، والقدرة طويلة الأمد على الاستثمار وتحفيزه. ويغطي ليفي مجموعة واسعة من الجوانب التقنية -بدءً من التصعيد أو التوترات بين السياسات النقدية والمالية وعواقب الانكماش والتضخم، وصولاً إلى تعقيدات التمويل العالمي المتزايدة وهيمنة الاحتياطي الفيدرالي المعاصرة. لكن الكتاب لا يقتصر على التحليل الاقتصادي، بل تتضاعف أهميته، أيضاً، باعتباره كتاباً اجتماعياً حيوياً وتاريخاً جيوسياسياً. وكما كتب في المقدمة: "يتبع الاقتصاد، السائد اليوم، مساراً رياضياً صارماً للغاية.. لا يفسح المجال لسرديات أخرى عن الحياة الاقتصادية". ومن هذا المنطلق يدعو إلى تعزيز "المكانة الصحيحة للتحليل التاريخي في علم الاقتصاد، وتمكين رؤية أوسع لتعيين ماهية الاقتصاد ذاته". وفي استعراضه للتضاريس المتغيرة للتنمية الاقتصادية والتحالفات السياسية التي قادتها، يدفع ليفي إلى واجهة النقاش اثنين من أعظم التحالفات التنموية وأكبرها حجماً في تاريخ الولايات المتحدة، رغم عيوبهما العميقة: التحالف الجمهوري الصناعي في القرن التاسع عشر، وتحالف الصفقة الجديدة في القرن العشرين. إذ ركّز رأس المال الأميركي بشكل أساسي، من خلال هذين التحالفين، على الأولوية القصوى للاستثمارات غير السائلة، مما حفّز تقدماً في البنية التحتية والتكنولوجيا أدت في النهاية إلى دمج وتكامل اقتصاد وطني قائم على النزعة الاستهلاكية. وإذا كان الكتاب يتناول مواضيع أكثر تعقيداً وأوسع من هذين التحالفين، إلا أن مثالهما يعزز بقوة حجته المركزية بشأن دور الفاعلية السياسية في تشكيل الشؤون الاقتصادية. بل ربما الأهم، أن هذين التحالفين سوف يساعداننا على فهم المسار التاريخي للولايات المتحدة كدولة نامية، إذ يظهران أن التقدم الاقتصادي -سواء رافقه توسع أو تراجع ديمقراطي-اعتمد على تسويات واصطفافات بين طبقية أبرمها الفاعلون السياسيون سعياً لإدارة الدولة وتعزيز قوتها الوطنية. وسوف يبدي الاقتصاديون ومؤرخو الاقتصاد آراءهم حول إسهامات الكتاب في النقاشات التقنية، لكن في ضوء جهود بايدن الإعلان عن تحول حاسم بعيداً عن النيوليبرالية، ويصبح ذو دلالة بالغة استحضار وتأمل نجاحات وإخفاقات هذين التحالفين التجارة الاستعمارية ومؤسسة الرق يكشف الكتاب أن العديد من السمات التي ستشكل مرحلتا التوسع الاقتصادي الكبيرتان هاتين في تاريخ الولايات المتحدة-بما في ذلك الانقسامات الإقليمية الحادة والتفسيرات التنافسية المتباينة لمفهوم الحرية الاقتصادية-نمت في الحقبة الاستعمارية ما قبل الصناعية؛ فيبدأ الكتاب في تناول أصول الرأسمالية التجارية الإنكليزية (وتعرف تقليدياً باسم الميركانتيلية) في أواخر القرن السابع عشر، والتي يرى فيها ليفي مثالاً على "التناقض بين تشجيع سلطة الدولة القدرات التجارية الخاصة المولدة للثروة، وبين تقيّد المصلحة التجارية الذاتية -وهذه نزعة خطيرة تهدد النظامين الأخلاقي والسياسي". فالصراع والتنافس بين الحرية والمسؤولية الاجتماعية، الذي طبع مسار الفكر السياسي الأميركي الطويل، ينبع في جوهره من هذه المفارقة المحورية. في البداية، كان الغرض من المستعمَرات أن تعمل كـ "متنفس" أو مخرج لتصريف الزيادة في الإنتاج الصناعي وفائض السكان في إنكلترا، بمعنى خلق طلب خارجي من جهة، والحد من البطالة المحلية الداخلية من جهة أخرى، بالإضافة إلى توفير بعض المواد الخام للمتروبول. لكن مستعمِري نيو إنغلاند عارضوا، بالأحرى تحدّوا القيود المفروضة على التصنيع المحلي، مما عجّل بنمو بيروقراطية إنكليزية حاولت مواكبة المستعمِرات التي كانت تسعى لتحقيق وفرض السيطرة السياسية على تنميتها الاقتصادية. ولمواجهة ذلك، تبنّت الحكومة في المتروبول نهجاً أكثر واقعية وبراغماتية، وبدفع بنك إنكلترا للاستثمار التجاري، تم وضع أسس التجارة الحرة داخل الإمبراطورية. ومن هنا، يجادل ليفي ببدء إرساء القواعد الفكرية والعملية لـ"النمو الرأسمالي المتسارع (بالمعنى الأسيّ الرياضي)". كما يؤكد، في ذات الوقت على أن "العصر التجاري في أميركا الشمالية بدأ، إلى حد كبير، بالتزام الإمبراطورية البريطانية بالرق الأسود". لكنه يؤكد أن هذا الالتزام لم يكن "حتمياً". فقد بدأ التوسع الكبير للعبودية بخيار اتخذته النخبة الحاكمة في إنكلترا للحد من الهجرة بعد بدأ تعداد سكانها في التراجع. وبديلاً عن الهجرة، أصبح المشروع الاستعماري يعتمد على العبودية. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، كانت السلع المنتجة من قبل العبيد السود تشكل 80% من إجمالي صادرات المستعمرات الأميركية إلى المتروبول. وبعد العام 1689، فُتحت تجارة العبيد أمام جميع البريطانيين، تمهيداً لما سيصبح لاحقاً ديمقراطية التفوق العرقي Herrenvolk (2) في الجمهورية الأميركية المبكرة. لكن التركز الأكبر للعبودية في الجنوب أرسى مسارات تنموية إقليمية متباينة، مما أسهم في تفاقم النزعة الانفصالية التي بلغت ذروتها في الحقبة التي سبقت الحرب الأهلية. بينما كانت ولايات الجنوب المعتمدة على نظام المزارع تضم أغنى المستعمرات خارج جزر الهند الغربية، شهد الشمال تنوعاً في قدراته التجارية والتصنيعية الناشئة. وأدى انخفاض عدد العبيد في المستعمرات الشمالية إلى زيادة عدد المشاركين في التجارة، رغم أن النخب الشمالية ظلت نشطة في تجارة الرقيق حتى صعود حركة إلغاء العبودية abolitionism. ويصف ليفي، في سياق تحليله للثقافة الناشئة للبرجوازية الاستعمارية الشمالية، كيف غذّى التبادل التجاري الأطلسي ما سماه "المضاعِف التجاري السميثي Smithian commercial multiplier" (3) طوال القرن الثامن عشر، ما عزز ثروة المستعمرات وانتشار الأسواق لدرجة ربما تجاوزت فيها مستويات المعيشة مثيلاتها للفرد العادي في أي مكان آخر في العالم. وفي ذات الوقت، أدى ازدهار التجارة والعبودية إلى ترسيخ مذهب الملكية الخاصة في المستعمرات. كانت حرب الاستقلال الأميركية بمنزلة محطة مهمة عمقت الانقسام الجوهري حول اتجاه المسار الاقتصادي للجمهورية الناشئة، ويقول ليفي في هذا الشأن: "لم يكن رجال الأعمال هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن رسم الملامح الاقتصادية طويلة الأمد للجمهورية في هذا العصرـ بل من قام بذلك، في الحقيقة، رجال السياسة" وجسّد توماس جيفرسون وألكسندر هاملتون هذا الانقسام/ بالأحرى الصدام بين الرؤى الجمهورية المتنافسة: فقد استند تصوّر جيفرسون إلى بناء جمهورية زراعية مكتفية ذاتياً تعتمد على عمليات التوسع غرباً، بينما سعى هاملتون إلى تعزيز نموذج تمويل تنموي عبر الأطلسي الذي حفّز التجارة والصناعة في الشمال. ويرى ليفي أن جوهر رؤية هاملتون قام على أن "الدولة وحدها في الجمهورية يمكنها تحقيق التوازن بين المصالح الفردية الخاصة والصالح العام؛ فهي الوحيدة التي تملك سلطة القيام هذا العمل". وهو ما عارضه جيفرسون بشدة، إذ كان يخشى أن يؤدي إلى تهميش صغار الملاك، وتعزيز الأوليغارشية، وفتح المجال أمام نخبة عابرة للحدود لاستنزاف سيادة الجمهورية الاقتصادية. لكن في نهاية المطاف، أثّر نهج كل رؤية في الأخرى: فقد موّل النظام المالي حسب رؤية هاملتون، بما في ذلك بنك الولايات المتحدة، صفقة شراء لويزيانا التي أبرمها جيفرسون، بينما أسهم الحظر الذي فرضه جيفرسون على الصادرات خلال إدارته في تعزيز السوق الداخلية، ما دفع قدماً التصنيع الأولي الناشئ الذي دافع عنه هاملتون في تقريره للعام 1791 بشأن التصنيع. وعلى الرغم من التوليف العرضي بين هاتين الرؤيتين التنمويتين، فرؤية جيفرسون هي التي انتصرت سياسياً حتى اندلاع الحرب الأهلية. فقد شن أندرو جاكسون هجوماً على "النظام الأميركي" للتخطيط التنموي القومي طويل الأمد الذي اقترحه هنري كلاي من حزب "الويغ Whig "(4) في أعقاب حرب العام 1812. ونجح جاكسون، مستغلًا مشاعر العداء للاحتكار، في تشكيل تحالف سياسي يضم صغار المصنعين الذين خشوا الوقوع في تبعية الأجور، وأطلقوا على أنفسهم اسم "التحالف الديمقراطي". تميزت التنمية خلال رئاسة جاكسون (1829-1837) بالفوضوية والتسرع. في حين حاولت الشعبوية، السائدة آنذاك، إلى عزل الحيز العام عن المصالح التجارية الخاصة (أو "تحجيمه"، على حد قول ليفي) إلا إن سياسات التخطيط الحكومي حفزت الاستثمار، والعكس صحيح. لكن العامل الأبرز كان سياسة الإبادة الجماعية لجاكسون لطرد السكان الأصليين، والتي فتحت المجال أمام استثمارات مضاربة في الأطراف الآخذة في الاتساع للبلاد، ما أدى إلى طفرة في مشاريع البنية التحتية. غير أن هذا النمو ارتبط بقروض مصدرها دائنو المناطق البعيدة؛ فالمصارف المملوكة للدولة، على سبيل المثال، غالباً ما كانت تُموَّل من خلال بيع ديون حكومية. وعندما رفع بنك إنجلترا سعر الفائدة لاستعادة احتياطيات الذهب، لم تكن هناك سياسة طارئة لإدارة الذعر المالي والانكماش الاقتصادي في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر. ويشير ليفي إلى أن هذا الحدث كان مثالاً كلاسيكياً على انتهاء دورة ائتمان عالمية. ورغم أن جاكسون بنى مسيرته السياسية على مهاجمة النخب، لكن العمليات التنموية التي عجل بها كانت في النهاية مرتبطة بشكل وثيق بنزوات المستثمرين في الشمال الشرقي وبريطانيا. كان توسع السوق الداخلية الوحشية للعبيد، إلى جانب جبهة الاستيطان الأبيض التي ظهرت في عهد جاكسون، عاملاً أساسياً في دفع التنمية الاقتصادية بين المناطق. وأدى إغلاق تجارة الرقيق عبر الأطلسي في العام 1808 إلى ظهور ما عُرف بـ"مرحلة وسطى ثانية"، تغذت على التكاثر البيولوجي القسري للعبيد. وقد أدى ازدهار الاقتصاد المعتمد على المزارع إلى تنشيط التجارة الداخلية على طول الممرات المائية التي ربطت ولايات الشمال الغربي القديمة بالولايات الجنوبية. ويوضح ليفي، عبر دمج تحليل كارل ماركس للعبودية، كمؤسسة اقتصادية، وفهم نخبة ملاك الأراضي الزراعية لها، كيف جرى النظر إلى العبيد كأصول رأسمالية منقولة ذات "عائد مالي متوقع"، تحدد قيمة هذه الأصول بالأساس وفقاً لسعر القطن. استخلص هذا النظام ثروة وطنية إجمالية هائلة تفوقت بشكل مذهل على مصادر النمو الأخرى في خمسينيات القرن التاسع عشر. ويكشف ليفي أن "قيمة" الأربعة ملايين عبد في الولايات المتحدة بلغت ثلاثة مليارات دولار—أي ثلاثة أضعاف قيمة إجمالي رأس المال الصناعي الأمريكي في العام 1860. وبحلول ذلك الوقت، كانت أكبر مزارع القطن تُنظم فعلياً وفق خطوط ما قبل فوردية(5)، حيث عملت كمصانع بنظام تقسيم عمل صارم عبر مهام مختلفة لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة. وفي ذات الوقت، عززت طبقة ملاك المزارع هذا النظام الاقتصادي الوحشي عبر تبني خطاب مشوه قائم على "الوصاية" للدفاع عن العبودية، واصفين العبيد كأفراد يحظون برعايتهم ضمن عوائلهم، أي عائلات ملاك الأراضي. ويؤكد ليفي بأن نهج الوصاية هذا عمّق من حدة التباين في الاقتصاد السياسي الإقليمي ما بين أربعينيات القرن التاسع عشر وصولاً إلى انتخاب لينكولن. فأطلقت ثورة في تطوير "البنية التحتية للسوق وطرق النقل" قادتها حكومات الولايات تركزت بشكل أكبر في الشمال، مما أدى إلى قفزة هائلة في التصنيع هناك. وعززت شركات النقل عبر القنوات المائية وشركات الطرق ذات الرسوم، من كثافة الأسواق وسهولة الوصول إليها، فأسهم بنشوء شبكات حضرية مزدهرة تضم الممولين، والصناعيين، والتجار، والحرفيين. ويصف ليفي هذه الظاهرة بأنها "مضاعِف الاستثمار الصناعي"(6)، حيث كانت تتشكل مرحلة جديدة من الرأسمالية الأمريكية. فقد كانت طبقة صناعية ناشئة على وشك ضخ استثمارات رأس مالية ثابت طويل الأمد بمستويات غير مسبوقة، وهو ما أدى ليس فقط إلى إعادة تشكيل البنية المادية للمدن والبلدات، بل أيضاً إلى تسريع التكامل الاقتصادي عبر شبكة السكك الحديدية، مما خلق حزام تصنيع يمتد من الشمال الشرقي إلى الغرب الأوسط. وكان لهذه التحولات تأثير هائل على الاقتصاد الأمريكي، لكنها تطلبت حافزاً سياسياً أتى في صورة الحزب الجمهوري، الذي لعب دوراً حاسماً في تسريع هذه التغيرات الاقتصادية وتثبيتها. صعود التصنيع الجمهوري يبدأ القسم التالي من الكتاب المعنون بـ "عصر الرأسمال"، عشية الحرب الأهلية، كيف كان التصنيع السريع مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحزب الجمهوري وانتصار الاتحاد. بحلول رئاسة لينكولن، أصبحت مستقبل العبودية وتوسعها الجغرافي خلاف أو فجوة لا يمكن جسرها في السياسة الوطنية. لم يكن لينكولن من دعاة إلغاء العبودية المتشددين، لكنه خشي، بعد قرار دريد سكوت الصادر عن المحكمة العليا في العام 1857،من شرعنتها مجدداً في الولايات التي حظرتها،. وبحسب ليفي، أثارت خطابات لينكولن قلق عدد كافٍ من المزارعين في الغرب الأوسط الأدنى، بشأن احتمال انسياح ملاك العبيد نحو مصادر عيشهم من خلال التوسع في أراضيهم واستحواذهم على أفضل الأراضي الزراعية. أدى هذا إلى ترجيح كفة الانتخابات لصالح الجمهوريين في العام 1860. ورغم الهيمنة القوية لما يُعرف بـ "قوة العبيد"، يوضح ليفي أن الحزب الجمهوري الوليد استمر في تنفيذ المسار التنموي الذي رسمه سابقاً حزب الويغ المنحل. كان شعار الجمهوريين "أرض حرة، عمل الحر، رجال أحرار" مفتاحاً لتشكيل قاعدة سياسية قوية عبر المناطق الزراعية في الشمال وحزام التصنيع المتنامي. كان ارتباط الجمهوريين العميق بالصناعة والتمويل في الشمال عاملاً حاسماً في انتصار الاتحاد في الحرب الأهلية. ويرى ليفي أن "الاقتصاد السياسي الفعّال القائم على الفساد" لعب دوراً جوهرياً في انتصار الاتحاد. فقد شهدت الشركات الشمالية دفعة اقتصادية هائلة بسبب طلب الحكومة الفيدرالية المتزايد على السلع والإمدادات، والتي كانت تُشحن إلى الجنود الاتحاديين عبر السكك الحديدية الخاصة المرخصة من قبل الدولة. وفي غضون ذلك، عزز الكونغرس الجمهوري دور الدولة في توجيه التنمية الاقتصادية وتسريعها. خلال الحرب الأهلية، أطلق الجمهوريون سلسلة من التشريعات التي أعادت تشكيل الاقتصاد الأمريكي وربطت مصالح الصناعيين والمزارعين بالحزب الجمهوري لعقود طويلة، ومن أبرزها: -قانون موريل للتعرفة الجمركية (1861) لفرض مجموعة واسعة من الرسوم الحمائية التي عززت الصناعات الشمالية ووفرت لها سوقاً محمية من المنافسة الأجنبية. -قانون المزارع (Homestead Act)، أو قانون الاستيطان (1862) الذي أتاح ملايين الأفدنة من الأراضي الفيدرالية للاستيطان شبه المجاني، فساعد على تشجيع الهجرة إلى الغرب. -قانون موريل للأراضي (1862) الذي قدّم الأراضي لإنشاء جامعات حكومية، ما أسهم في دعم التعليم والتدريب التقني. -قوانين السكك الحديدية Pacific Railway (1862 و1864) التي مهدت الطريق لإنشاء خطوط السكك الحديدية العابرة للقارات عبر منح امتيازات لشركات يونيون باسيفيك وسنترال باسيفيك، مما ربط الشرق بالغرب وسرّع التكامل الاقتصادي. فرفع وتائر السفر عبر القارة. ومن خلال هذه السياسات التصنيعية الحمائية، ودعم الاستيطان وملكية الأراضي، وإنشاء سوق وطنية موحدة، أسس الجمهوريون ائتلافاً تنموياً قوياً قاد التحديث الاقتصادي للولايات المتحدة. لكن في الوقت ذاته، أنتج هذا التحول الاقتصادي هرمية جديدة، حيث أصبح النفوذ متركزاً بشكل متزايد في يد النخب الصناعية والمالية، ليمهد إلى مرحلة جديدة من عدم المساواة الاقتصادية. كانت التغييرات التي طرأت على النظام المالي الأمريكي نتيجة الحرب الأهلية محوراً أساسياً في تلك البنية الهرمية الاقتصادية الجديدة، لكنها لم تؤدِ إلا إلى تفاقم الاختلافات والفوارق الإقليمية وتعميقها. ويوضح ليفي إخفاق الحزب الجمهوري في تبني نموذج تنموي شامل في أعقاب إلغاء العبودية، فقانوني البنوك الوطنية (للعامين1863 و1864) اللذان مهدا الطريق لإنشاء عملة موحدة، سمحا باستخدام الدّين العام لتمويل حملة الاتحاد، مما أدى إلى ازدهار سوق السندات العامة وتعزيز نفوذ وول ستريت في النظام المالي الوطني والدولي. واستخدمت الضرائب الوطنية لتمويل هذا الدين، بينما أسهم الاستخدام المؤقت للأوراق النقدية الخضراء " Greenbacks"(7) خلال الحرب إلى تعزيز الإنتاج والتجارة. لكن توسع المعروض النقدي، إلى جانب إمكانية فرض ضرائب تصاعدية، كانا مجرد إجراءين مؤقتين لم يدوما طويلًا. إذ سرعان ما أصبح استئناف العمل بمعيار الذهب أولوية قصوى للنخبة المالية الجديدة بعد انتهاء الحرب، وهو ما شكل ضربة قاصمة لإعادة الإعمار. فقد أدى الرجوع إلى الذهب إلى انكماش نقدي وسياسات تقشف صارمة، مما قلص بشدة الإنفاق المالي الضروري لضمان الحريات السياسية للسود في الجنوب بعد الحرب. وأدى تراجع الاستثمار إلى حرمان غالبية العبيد السابقين من الفرصة للحصول على الأراضي ومزاولة التجارة، فهيمن نظام إيجار الأراضي sharecropping الواقع بأكمله تحت سيطرة ملاك المزارع السابقين. ومع بداية "عصر معيار الذهب Gilded Age " في سبعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت أولى سمات الصناعة العملاقة على المستوى الوطني. ويسلط ليفي الضوء على تحول أندرو كارنيغي من تاجر مُضارب في السكك الحديدية إلى قطب من أقطاب صناعة الفولاذ والصلب، بصفته مثالاً على الانتقال نحو اقتصاد قائم على الطاقة ورأس المال المكثف. فكما يوضح ليفي، أدى ازدهار صناعة الفولاذ إلى "مضاعفة سلسلة مترابطة backward and forward linkages من القطاعات الإنتاجية"، مشيراً إلى أن تماسكاً أوسع للبنى الاجتماعية، أضحى يعتمد بشدة على الإنتاجية والربحية المتأتية من رأس المال الثابت. استفاد كارنيغي، شأنه شأن غيره من الصناعيين، من سياسة التعرفة الحمائية، واستغلت هذه الحماية للوقوف في وجه المنافسة الأوروبية إلى أقصى حد عبر رفع إنتاجية العمل بلا رحمة وبوسائل صارمة، ومراقبة التكاليف والإنتاج بدقة من خلال المحاسبة المالية والتجارية ونظام إدارة الوقت. فرضت هذه السياسة الحمائية نوعاً من التراتبية داخل التكتل الجمهوري، حيث منحت الأفضلية لمُنتجي السلع الرأسمالية والصناعات الوسيطة، بينما أجبرت المستهلكين والمزارعين على دعم الإنتاج المحلي، بما في ذلك أولئك الموجودون في الجنوب الذي كان يعاني نسبياً من شح في رأس المال. كما حلت عائدات الرسوم الجمركية محل الضرائب الوطنية، مما عمق الفجوات الإقليمية. وتداخلت هذه المنظومة بعمق مع النمو الحضري لمدن الشمال والتطور المتسارع غرباً. وكما يرى ليفي، كان هناك طلباً متزايداً على المنتجات الغذائية لتلبية احتياجات الطبقة المتنامية من العمال الصناعيين المأجورين، مما أدى بدوره إلى زيادة الطلب على الصناعات والمنتجات المحلية اللازمة لتطوير وتحسين الإنتاج الزراعي. وحتى مع تعرض حزام الحبوب في الغرب الأوسط (والتي تعرف بسلة الخبز الأمريكي) لتقلبات الائتمان العالمي، ربط نظام التعرفة الجمركية المزارعين والعمال والرأسماليين الصناعيين في سلسلة من المبادلات التجارية المتعاظمة بين الولايات والمناطق. لكن الحمائية الاقتصادية لم تكن كافية لكبح جماح الصراع الصناعي. فتفاقم الخلل وعدم المساواة والاستغلال بسبب المعيار الذهبي لتصبح هذه الحالات من القضايا الملحة للعمال، ومع ذلك، لكن التنظيم العمالي كان متعثراً وأظهرت جهوده انقساماً واضحاً. وجسدت تجربة فرسان العمل Knights of Labor في ثمانينيات القرن التاسع عشر، مجمل العقبات -البنيوية والذاتية- التي واجهتها الحركة العمالية المبكرة. كانت هذه الجماعة المنحازة بقوة للنزعة الإنتاجوية producerist والمناهضة للاحتكار (بدلاً من تبني سياسة دولية)، وصعدها سبق توطيد نظام الأجور الذي رافق موجة الاندماجات الكبرى للشركات بين عامي 1895 و1904. ورغم اعتبار إدراج النساء وبعض المنتجين السود، أحد أكثر جوانب المساواة في تنظيم فرسان العمل، إلا أن قيادته كانت معادية للصينيين بشكل ضريح، وأيدت قانون استبعاد الصينيين Chinese Exclusion Act (1882) ويرى ليفي أن الفشل في التوفيق بين تطلعات البروليتاريا الحضرية المحرومة من الملكية وبين المنتجين من الطبقة المتوسطة، الذين كانوا يسعون للحفاظ على أهميتهم الاقتصادية في مواجهة التوسع الهائل لحصة الشركات العملاقة في السوق، كان عاملاً رئيساً في انهيار التنظيم. أما اتحاد العمل الأمريكي The American Federation of Labor، فقد تبنّى لاحقاً نهجاً إصلاحياً، لكنه استبعد الرأسماليين الصغار، مما ضيق من آفاقه أكثر بتجنب التحالفات السياسية وإقصاء السود والمهاجرين الجدد. ويشير ليفي إلى أن تحول الحركة العمالية نحو إصلاح نظام الأجور كان مقدمة للتركيز الأوسع على سياسات الدخل، التي ستصبح السمة الغالبة على الاقتصاد السياسي في القرن العشرين. مثّل الحراك الشعبويPopulist من جانبها تحدياً آخراً لتحالف رأس المال الصناعي والمالي، فدعا الشعبويون -وسلفهم في تحالف المزارعين-إلى مجموعة من السياسات والابتكارات التنظيمية، شملت التعاونيات، وخطة دعم الدولة للمحاصيل وتخزينها، وتنظيم السكك الحديدية لمكافحة الاحتكارات، بل وحتى الدعوة إلى ملكية الدولة الكاملة لقطاعي السكك الحديدية والاتصالات، واستخدام الفضة لزيادة المعروض النقدي. وسعى أنصار "حركة الفضة" تحديداً لتقليص نفوذ النخبة المالية العالمية المتحكمة بسياسات السيولة المالية، وتحرير الزراعة في الغرب والجنوب من الممارسات الاحتكارية. كانت دورة الازدهار والركود (الكساد) الاقتصادي التي فرضها معيار الذهب بالغة الضرر، بشكل خاص، على المزارعين في الغرب، الذين كانوا يعانون أصلًا من أسعار الفائدة المرتفعة على القروض المصرفية والرهون العقارية. وأدى انهيار العام 1893 إلى أزمة ائتمانية حادة تسببت في انكماش حاد بأسعار المحاصيل؛ ويشير ليفي إلى أن دخول المزارعين تراجعت بنسبة 22% خلال الكساد الذي تلا ذلك. لكن الشعبويين كانوا مقدمين على فشل أسهم في تدميرهم بسبب التركيز المفرط على قضية الفضة ورفعها إلى صدارة المشهد في الجملة الانتخابية الرئاسية لسنة 1896، حيث طغت على أفكارهم التنموية وشبه الحكومية الأخرى؛ دعوتهم إلى سياسة نقدية تضخمية. ومن خلال تحالف مصيري مع الحزب الديمقراطي- كان له أثر مزدوج تمثل في احتواء الشعبوية وإعادة تشكيل مسار السياسة الديمقراطية حتى عصر الصفقة الجديدة-أيّد الشعبويون ترشيح ويليام جينينغز بريان، الذي صاغ خطاباً نارياً وحماسياً ركز فيه على الفساد والأوليغارشية التي أفرزها معيار الذهب. لكن بريان مُني بهزيمة ساحقة أمام الجمهوري ويليام ماكينلي، الذي ربط بين الصناعة المحلية وازدهار الطبقات الوسطى المتزايد. ويرى ليفي أن التعرفة الحمائية حالت دون تشكيل تحالف عريض بين الشعبويين الزراعيين، والمصنّعين الصغار في الغرب الأوسط، والعمال في الشمال الشرقي، وهو التحالف الذي كان يمكنه -لو نجح-تقويض الهيمنة الجمهورية على الانتخابات الفيدرالية. في الواقع، وفر التعريف الجمركي وسيلة تحوط موثوقة ضد مسار بديل للتنمية لم يُختبر إلى حد كبير، حتى وإن كان ذلك يعني تحمل التقلبات المالية التي فرضها معيار الذهب. ورغم أن هذه التعرفة لم تعد ضرورية، بالأحرى لم تعد تلعب دوراً حيوياً في تعزيز ودعم الصناعات الناشئة، إلا أنها جمعت سياسياً بين شرائح متعددة الطبقات في الشمال المتقدم اقتصادياً. ورغم التفاوت الشديد في عصر معيار الذهب Gilded Age، فقد باتت الصناعة المحلية المزدهرة تشكل المصدر الرئيس للوظائف، وأصبحت تُربط بشكل متزايد بارتفاع الأجور. كما يلاحظ ليفي، في ذات الوقت، تأرجح المحكمة العليا بين مواقف مناهضة للاحتكار وأخرى مؤيدة لسياسات عدم التدخل في الاقتصاد، لكن حكمها الصادر في العام 1895، والذي قضى بأن "عمليات الاندماج الصناعي الكبرى لا تشكل انتهاكاً" لقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890، لم يؤدِ إلا إلى تعزيز صعود الشركات الحديثة وزيادة اعتماد العمال على الأجور الثابتة. وجاء تأييد الجمهوريين مدعوماً بشكل إضافي من خلال الانتشار الواسع لمعاشات الحرب الأهلية، وهو شكل بدائي -لكنه ناجح سياسياً- من أشكال الرعاية الاجتماعية، وُجد قبل وقت طويل من تقديم الضمان الاجتماعي. وفي النهاية، لم تتمكن الحملة التي تركزت بشكل غير متناسب على "الفضة الحرة" وشكاوى قاعدة، معظمها ريفية، من تفكيك التحالف الجمهوري، رغم الصراعات المتكررة بين الرأسماليين والعمال في قلب البلاد الصناعي التحولات الإقليمية للصفقة الجديدة والتحولات ما بعد العصر الصناعي يبحث القسم الثالث من الكتاب، «عصر الضبط»، في الصفقة الجديدة، ذروة الاستثمار بقيادة الدولة في الولايات المتحدة، وما أعقبها من تداعيات في اقتصاد ما بعد الحرب. يُظهر ليفي كيف كان لأنشطة المشتركة للوكالات التنظيمية والاستثمارية والإغاثية، خلال هذه المرحلة، آثار إقليمية واضحة، أعادت ترتيب النموذج الاقتصادي الجمهوري الذي حقق التصنيع الفعّال للشمال على حساب الجنوب إلى حد كبير. وبحسب رواية ليفي، جمع بناء دولة الصفقة الجديدة بين «سياسات الدخل»، أي التي جعلت الرأسمالية الصناعية «ديمقراطية» عبر إعادة التوزيع بوساطة الدولة والاعتراف القانوني بحقوق النقابات، وسياسات تنمية مستمدة من الإرث الشعبوي، الذي لم يركّز على توفير حد أدنى ثابت لدخل المزارعين فحسب، بل ركز أيضاً على مشاريع تحقق تكافؤاً إقليمياً في مستويات المعيشة. وقد أسهم التوسع في المشاريع العامة والائتمان المدعوم من الدولة، لا سيما في الجنوب والغرب، في إحياء الإنتاجية بقلب الشمال الصناعي، مع توسيع نطاق الاستثمار الخاص نحو الخارج. لقد كان للصفقة الجديدة تداعيات إقليمية واضحة، أعادت بشكل جذري ترتيب النموذج الاقتصادي الجمهوري الذي حقق التصنيع الفعّال للشمال على حساب الجنوب إلى حدٍ كبير. ارتبطت هذه التغييرات ارتباطاً وثيقاً بتحولات سياسية عميقة استغرق تشكيلها عقوداً، بدءً بسعي وودرو ويلسون لكسب ود البيض في الجنوب. بمساعدة كونغرس ديمقراطي ما زالت المصالح الزراعية تؤثر فيه بقوة، واستناداً إلى الأجندة الإصلاحية لولايات الشمال الشرقيNortheastern Progressives(8)، قدَّم ويلسون في ولايته الأولى (1913–1917) ضرائب على الدخل والشركات، وخفض الرسوم الجمركية، وأصدر تشريعات مكافحة الاحتكار، وأنشأ آليات جديدة لمنح الائتمان للمزارعين. ووسع روزفلت في ولايته الأولى (1933–1937)، هذا الانعكاس الإقليمي، بينما ثبت تحالفاً جديداً مع الطبقة العاملة الحضرية عبر الضمان الاجتماعي وقانون "واغنر" وتدابير أخرى عزَّزت التزام الحزب ببناء دولة الرفاه الحديثة، التي ظلت حتى ذلك الحين هزيلة في أحسن الأحوال. (يؤكد ليفي ما يذهب إليه العديد من دارسي الصفقة الجديدة، على أن روزفلت تبنَّى بحماس تحالفاً متنوعاً عرقياً وإقليمياً، حتى مع استمرار النظام العنصري لـ«الجنوب المُوحَّد» في لعب دور مؤثر في صياغة سياسات الصفقة الجديدة.) إلا أن الصفقة الجديدة لم تكن مجرد تكرار لليبرالية إدارة ويلسون المشبعة بالإرث الشعبوي. فثمة ملاحظة من ليفي تفيد بأن قانون التعافي الصناعي الوطني لعام 1933، رغم إبطاله من المحكمة العليا بعد عامين، قد قطع مع إرث الحزب الديمقراطي الجاكسوني المعادي للاحتكار. فالأزمة العظمى لن تحل باستعادة الصغار من الملاك، بل بدفع رأس المال الصناعي لإحياء نموذج «الرجل المعيل» الذي وعدت به الاستهلاكية الفوردية قبل الأزمة. يقول ليفي: «ظهر نمط جديد» تقوم فيه «الحكومة الاتحادية بتسهيل المبادرات الرأسمالية» على مستوى الإنتاج الضخم «حتى مع انتقاد العديد من رجال الأعمال لسياسات الضرائب والتنظيم». ومن ثمَّ، كان هدف روزفلت الرئيس هو دعم الطلب وحث الاستثمار، رغم أن مزيج تجاربه السياسية، بعضها أكثر تعارضاً مع رأس المال من غيرها، تجاوزت الحدود التي فرضها سلفه هيربرت هوفر على تدخل الدولة. كان هوفر نموذجاً للتكنوقراط؛ إذ تصوَّر «دولة الترابط» القائمة على مزيد من الحوكمة العلمية وعلى التنسيق بين فئات المصالح. وكانت محاولاته مواجهة الكساد محدودة بشدة لأنه -أي هوفر- لم يكن لِيُجبر الرأسماليين على الاستثمار»، بل كان، كما يوضح ليفي، أسير عقيدة التقشف السائدة التي عزَّزها، ووفقاً لما ذكره ليفي، تشخيص خاطئ لانهيار عام 1929. فمع مطلع القرن، أصبح سوق نيويورك للأوراق المالية أهمَّ سوق للأوراق المالية السائلة للشركات، مما وسَع نطاق الاستثمار طويل المدى في الإنتاج، لكنه خلق أيضاً إغراءات جديدة للمضاربة الشرسة. فطوال عشرينيات القرن العشرين، نشرت وول ستريت والشركات فكرة أن امتلاك الأسهم هو «ركيزة الملكية للمواطنة الديمقراطية»، تماماً كما كانت ملكية الأراضي في الماضي، مما أشعل نوبة جنون متزايدة من الاستثمار المضارب. لكن ما شخصه الاقتصاديون الكلاسيكيون على أنه «استثمار مفرط»، يرى ليفي أنه « استثمار خاطئ مضارب». وتفاقمت الأزمة عندما تحول الرأسماليون إلى «اكتناز احتياطي للسيولة كإجراء احترازي»، بسبب ركود «الطاقة الإنتاجية الحالية»، التي تجمع بين رأس المال الثابت المنتج وكتل العمالة الراغبة، ما أدى إلى انهيار الطلب. في أعقاب هذه التطورات، تمثل أول نجاح حاسم لروزفلت في استعادة مستوى استهلاكي أساسي. فحصل تعديل جزئي للأسعار عبر تحويل مؤسسة الإعمار المالي (التي يتناولها ليفي بإسهاب، مع التركيز على استثماراتها العامة وإعادة رسملة البنوك)، وضوابط إنتاج المحاصيل الزراعية، وخفض قيمة الدولار مقابل الذهب. ووجه التمويل الخاضع للإدارة الحكومية بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية التي وفرت الإغاثة التي كانت البطالة في أس الحاجة إليها، وستساعد تدريجياً، وإن ببطء، على جذب رأس المال إلى المناطق المتخلفة في البلاد. ورغم النزعة التنموية في المرحلة المبكرة للصفقة الجديدة، كما جسدتها هيئة وادي تينيسي وإدارة الأشغال العامة، يركز ليفي على عدم اتساق جوهري بين الذراع التنظيمي للصفقة الجديدة وذراعها التنموي. فضوابط رأس المال المختلفة، الرامية إلى استقرار النظام المالي، واستعادة الطلب، وتوجيه رأس المال نحو الإنتاج، كانت أولوية أعلى من بناء المساكن العامة والتوسع الإضافي للشركات العامة. يؤكد ليفي أن «تفضيل السيولة المُسيَّس» حديثاً لدى الرأسماليين خلق ظروفاً معادية لإدخال أشكال أكثر مساواة للتنمية بقيادة الدولة مع نهاية العقد الثالث من القرن العشرين. وقامت الحكومة، كإجراء بديل، بتعزيز التنمية في الإيواء السكني عبر الإدارة الفيدرالية للإسكان، التي قامت، ضمن أنشطة أخرى، بتأمين القروض وتوحيد إطار زمني مديد للقروض العقارية. وبفضل هذا الإطار التنظيمي الذي شجع الاستثمار طويل المدى، ازدهرت صناعة الإسكان في حقبة ما بعد الحرب، مكونة ركيزة أخرى للاستهلاكية القائمة على نموذج «المعيل الذكر» والعائلات النووية التقليدية. وقد كان الدخول في الحرب هو النافذة التي سمحت لإدارة روزفلت بإعادة تنظيم الاقتصاد مؤقتاً على نطاق غير مسبوق. ويرى ليفي كيف «دفعت الاستثمارات العامة الهائلة في مؤسسات «مملوكة للحكومة ويديرها مقاولون» أنشأت حديثاً إنتاج الحرب قدماً إلى الأمام». فبدأت عملية بناء مصانع جديدة أخيراً، مع توسيع قطاع صناعة السيارات على وجه الخصوص وزيادة إنتاجه لتلبية طلب الجيش على المعدات. وحققت التعبئة الحربية أخيراً طموحات الصفقة الجديدة في العمالة الكاملة، مغذية «تصنيعاً ثالثاً، غربياً» على طول الساحل الغربي للمحيط الهادئ، بينما عجلت أيضاً بصعود حزام الشمس(9)، الذي ستستمر أهميته الاقتصادية المعززة خلال الحرب الكورية وحالة الأمن الوطني الدائم التي أنجبتها الحرب الباردة. لكن اقتصاد ما بعد الحرب وضع، في الوقت ذاته، قيوداً واضحة على ليبرالية الصفقة الجديدة. فاستبدل التعريف الواسع للرفاه العام الذي دعت إليه الصفقة الجديدة يوماً، والذي تجسد في اقتراح روزفلت في العام 1944 لـ«وثيقة حقوق ثانية»، بـ «المثلث المالي» المكوَّن من الحكومة الاتحادية والشركات المتمركزة حول منشآت إنتاج ضخمة والأعمال الخيرية. ويقول ليفي «لم تكن لدى الولايات المتحدة اقتصاد «مختلط» من المنشآت العامة والخاصة، كما هو الحال في العديد من دول الرفاه الاجتماعي بعد الحرب، بل تنافست مجموعات المصالح الخاصة على مكاسب الحكومة الضخمة». وركزت السياسة الاقتصادية على الحفاظ على النمو، واستخدام الحوافز الكينزية لمكافحة الكساد وحالات الركود، بينما أصبح «الوفرة» حقًّا من حقوق المواطنة الاقتصادية. واستغرق تأمين آليات سياسية تكفل أن يوفر التصنيع الرخاء المشترك أكثر من نصف قرن. ومع ذلك، ستتهاوى بنية اقتصاد ما بعد الحرب تحت وطأة استمراره في تأبيد التفاوتات العرقية والجنسانية، وسعي رأس المال المتزايد لحركة أكبر، والصدمات الاقتصادية الدولية والمحلية المختلفة. يرفض ليفي بشدة الحنين إلى عصر ذهبي لرأسمالية الرفاهية، أثناء مناقشته للعملية الانتقالية من نظام الصفقة الجديدة إلى الاقتصاد المالي غير المستقر في عهد ريغان وخلفه. ويستحضر إخفاقات مرحلة إعادة الإعمار، ويُظهر كيف قوضت قرارات الحزب الديمقراطي الوضع الاقتصادي للسود الأمريكيين في الوقت الذي كانت تشريعات «المجتمع العظيم» تهدف فيه إلى ترسيخ مساواتهم السياسية. وكانت مخططات «التجديد الحضري» المُدارة بشكل خاطئ قد يسّرت نقل الاستثمارات الإنتاجية بعيداً عن حزام الصناعة، مما أزال ركيزة الفرص الاقتصادية النسبية للسود الأمريكيين الذين استقروا في مدن الشمال عبر موجة الهجرة الكبرى. كما تعرض السود الأمريكيون طويلاً لسياسة «الخطوط الحمراء» (redlining)(10)، بينما عززت سياسات الإدارة الفيدرالية للإسكان التفاوتات الاقتصادية بتوجيه الاستثمارات العقارية نحو بناء مساكن عائلية فردية في الضواحي البيضاء. وينسب ليفي مباشرةً تصاعد ظاهرة الحجز [ أو بمعنى أدق، الحبس] الجماعي mass incarceration(11) إلى هذه التطورات، قائلًا: «لا يوجد إحصاء أكثر دلالة على فشل برنامج التنمية الاقتصادية لليبرالية في القرن العشرين من كون الرجال السود المولودين بين عامي 1965 و1969 كانوا في المتوسط أكثر عرضة لأن ينتهوا في السجن بديلاً عن التخرج من الجامعة». ولا يقف ليفي وحيداً في تأكيده أن نظام الصفقة الجديدة حمل بذور دماره في أحشائه، لكن ما يجعل هذا التقويم أكثر حدة هو الرابط الذي يرسمه بين دولة الحرب الناتجة عن الصفقة الجديدة وتحول سياسات «حزام الشمس» إلى نموذج وطني، وبالتالي، هيمنةـ وأولوية المضاربة العقارية، والأصول المالية السائلة، ووظائف الخدمات ذات الأجور المتدنية. في الجزء المتبقي من الكتاب، «عصر الفوضى»، يواكب ليفي هذه الموضوعات حتى العصر الحالي، مستكشفاً الانعطاف ما بعد الصناعي والإجماع الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين سواء بسواء، الذي نقل صنع السياسات الاقتصادية إلى المجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي استبعدت تفويضه في مكافحة التضخم تحقيق العمالة الكاملة، ووفر غطاءً سياسياً ضد تجميد الأجور وتفاقم عدم المساواة. وبديلاً عن حديث غامض عن النيو ليبرالية الجديدة، يتحدث ليفي بوضوح عن النزعة الروبينية (Rubinomics)، إشارة إلى وزير خزانة بيل كلينتون روبرت روبن، الذي دعا إلى موازنات مالية متوازنة، وإعطاء أولوية، إلى جانب رئيس الاحتياطي الفيدرالي آلان غرينسبان، لثقة المستثمرين في أسواق رأس المال العالمية. ولم تفض هذه السياسات، إلى جانب تطورات أخرى في الاقتصاد العالمي، إلى موجة جديدة من الاستثمار طويل الأجل، بل عززت تصاعد تضخم أسعار الأصول، وتحويل الأفكار إلى رأس مال مولد عبر الإنترنت على حساب البنية التحتية والمعدات، والانسحاب الاستثماري المحلي الواسع النطاق المرتبط باندماج الاقتصادين الأمريكي والصيني. وتبقى النتيجة السياسية الأبرز لتحليل ليفي هي تحمل الحزب الديمقراطي، إلى جانب الجمهوريين، مسؤولية حالات دمار عصر الذهب الثاني. بلغت هذه التطورات ذروتها في العام 2008 بالطبع، حين تحولت الأزمة المالية إلى كساد عظيم في إطار «انكماش ديون معياري نموذجي». لكن بديلاً عن إحياء «مضاعف مالي fiscal multiplier » قوي، تبنى باراك أوباما إلى حد كبير سياسة أخلاقية قائمة على المسؤولية. وكان تحفيز إدارته، كما أجمع العديد من خبراء السياسات التقدميين، متحفظاً أكثر من اللازم، بينما تبنى أوباما سياسات تقشف طوعاً بعد موجة حركة حزب الشاي في العام 2010(12). ظل صنع السياسات الاقتصادية محصوراً في الاحتياطي الفيدرالي، لكن ابتكاره المتمثل في «التيسير الكمي» quantitative easing، الذي خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل، لم يحفز إعادة استثمار أرباح الشركات على النحو المقصود. واستغرق الأمر انتخاب دونالد ترامب وأزمة اقتصادية جديدة نجمت عن الجائحة حتى تعترف النخب الديمقراطية (بما فيهم بايدن) بأن جهود التحفيز في عهد أوباما كانت دون المستوى. وبالنظر إلى السرعة التي أعلنت بها إدارة بايدن سياساتها الاقتصادية، يبدو أن بعض صانعي السياسات يعتبرون عهد أوباما دليلاً على أن مراحل التوسع الطويلة لا تضمن انتعاشاً عادلاً. نجح كتاب "عصور الرأسمالية الأمريكية" في جزء منه بوصفه تاريخاً شاملاً للرأسمالية الأمريكية في مجلد واحد إلى حد كبير بسبب تركيز كاتبه على الأهداف المتنافسة التي تحث صنع السياسات الاقتصادية عند أعلى مستويات السلطة السياسية. كما أنه كتاب غني مليء -تاريخياً- بالتفاصيل الثقافية والاجتماعية، ويقدم نافذة على كفاح وأهداف الطبقة العاملة الأمريكية، ووسائل الراحة والقيود المفروضة على حياة الطبقة الوسطى، والرؤى المهووسة للنخب الاقتصادية الأكثر تأثيراً في البلاد. ويثب المؤلف بشكل حاسم أن رأس المال لا يعمل لمصلحة العامة دون آليات حكومية تنظم وتضبط نشاط الاستثمار. هناك بالطبع حدود ضرورية للعمل بهذا النطاق والتركيز. فعلى سبيل المثال، يرتبط السياق الدولي في الغالب بمناقشات السياسة النقدية وتقلبات الائتمان. ويتضمن الكتاب نقطة ضعف نسبية أخرى، فهو لا يتعامل مع مفهوم «الرأسمالية العنصرية» بشكل مباشر، وهي رؤية أصبحت مركزية على نحو متزايد في ضوء مناقشات تاريخ العبودية والرأسمالية. (يقر ليفي بأن المجال "لا يتسع هنا للحديث بإنصاف عن النقاشات" حول العلاقة بين الرأسمالية والعبودية، فـ "نقطة البدء في هذا الكتاب هي رأس المال. أما العبودية فهي مؤسسة قديمة ظهرت عليها سمات مشتركة عبر القرون، لكن ليس من بينها تحويلها إلى رأس مال"). ويشغل شرح ليفي للثروة المستخلصة بوحشية من العبودية جزءً كبيراً من النصف الأول من الكتاب، ويوضح بشكل كبير المسارات الإقليمية المتباينة للتنمية الأمريكية. لكن النص يفتقر إلى مناقشة مباشرة للنقد الذي قدمه سيدريك ج. روبنسون وغيره، الذي يرى بأن أشكال السيطرة والهيمنة العنصرية كانت جزءً جوهرياً من التطور الرأسمالي، وليست أنظمة تطورت بالتوازي بسبب ظروف سياسية. ويمكن القول، بشكل عام، رغم إن الظلم العنصري هو موضوع متكرر بوضوح في تحليل ليفي، لكنه تعامل مع الفاعلية السياسية والحياة الاقتصادية للسود بشكل هامشي اثناء النقاش العمومي. وبالمثل، بينما يفكر ليفي أحياناً في كيفية تعميق الرأسمالية الصناعية «المجالات» الخاصة بالحياة المنزلية والتهميش السياسي لعمل المرأة، فإن بنية الكتاب تسمح فقط باهتمام محدود بالأشكال المختلفة للاستبعاد والاستغلال التي رافقت التطور الرأسمالي. قد يلاحظ القراء أيضاً أن البُعد المادي للحياة الاقتصادية الأمريكية يتراجع مع تركيز ليفي المتزايد على السيولة وتيارات رأس المال العالمي. فعلى سبيل المثال، يقدم ليفي نقاشاً مثيراً حول النمو الاقتصادي لهيوستن في سبعينيات القرن العشرين، يوضح كيف مثل هذا النمو نموذجاً لإنشاء طبقة جديدة من الاستهلاك السريع المُعلن، وأعمال الرعاية منخفضة الأجر التي دفعت إليها موجة انضمام النساء إلى سوق العمل. لكنه لا يتناول بعمق عمليات التحضر وإزاحة السكان التي هزت المدن الناهضة على الساحلَين الشرقي والغربي، ولا يستكشف بشكل تفصيلي الظروف التي دفعت مناطق "حزام الصدأ Rust Belt "(13) إلى التصويت لترامب في العام 2016. في الواقع، ينتهي الكتاب قبل صعود ترامب. مع ذلك، يظل في معظم جوانبه إسهاماً قيماً وجذاباً. وأبرز إنجازاته توضيح أهمية النظر إلى تاريخ الولايات المتحدة كتاريخ دولة نامية. فثمة مجال معرفي متنامٍ يتناول هذا الموضوع، يضم أعمالًا مثل كتاب مارتن ج. سكلار "الولايات المتحدة كدولة نامية" (1992)، وريتشارد فرانكلين بنسل "الاقتصاد السياسي للتصنيع الأمريكي 1877–1900" (2000)، وكتاب مونيكا براساد "أرض الوفرة المفرطة: الوفرة الأمريكية ومفارقة الفقر" (2012)، بالإضافة إلى دراسات حديثة كمقالة نُشرت العام الماضي لنعوم ماغور وستيفان لينك. ويعمل هذا الكتاب التاريخي، بطرق مختلفة لكنها قوية، على تبديد الأساطير العالقة حول التميز الريادي الأميركي في مجال الأعمال. كما يؤكد على استنتاجات مركزية مشتركة تتعلق بعدم قدرة الموارد الهائلة والحرية الاقتصادية وحدها على تفسير الانطلاق الزراعي والصناعي المشترك من منتصف القرن التاسع عشر وحتى هيمنة النموذج الفوردي. إذ يؤكد المنظور التنموي -كتفسير بديل- على كيفية تشكيل المعتقدات الإيديولوجية والفاعلين السياسيين لمسار التصنيع. فلم تكن الحوافز "الطبيعية" المفترضة لتكوين رأس المال هي التي خلقت نمواً مطرداً أنهى في النهاية منافسي الولايات المتحدة الدوليين. بل على العكس من ذلك، كانت القرارات السياسية، وتنوع الدعم الشعبي لها، هي السمات التي حددت وتيرة التنمية والتطور، وصعود دولة الرفاه الأمريكية وسقوطها، ومدى، أو نطاق، الهيمنة الاقتصادية الأميركية. وتماشياً مع التوجه المعرفي لحقل يسميه المؤرخين الأكاديميين "تاريخ الرأسمالية"، يؤكد ليفي على مركزية المبادرة السياسية في التنمية الاقتصادية. ويثبت الكتاب بشكل حاسم، من خلال تراكم دقيق للأدلة عبر عدة قرون، أن رأس المال لا يعمل لمصلحة العامة دون آليات حكومية تُعزز نشاط الاستثمار وتضع حدوداً ومعايير له في آن واحد. كما يظهر ليفي أن المبادرة السياسية قابلة للخطأ أيضاً؛ فهي تحمل تحيزات أو مواقف تمييزية صريحة، وتسويات صعبة، وأحياناً نقصاً في الرؤية المستقبلية. وفي هذا السياق، يُعد سرد ليفي لاختلالات وعدم مساواة التصنيع في أواخر القرن التاسع عشر مفيداً بشكل خاص، فهو يوفِّر موارد جديدة لتفسير تحول الحزب الديمقراطي إلى حزب ليبرالية الصفقة الجديدة. وبفعل ذلك، يُثري ليفي فهمنا لصعود الحزب الجمهوري المبكر كحدث تاريخي عالمي إلى حد كبير. ما الذي قد ينبئ به هذا التاريخ الطويل لرؤية بايدن للاقتصاد الأمريكي؟ لقد حسّن فوزه على ترامب هوامشه الانتخابية بين سكان الضواحي الأثرياء، لكنه أثار شكوكاً حول قدرة الحزب الديمقراطي على حشد ناخبي الطبقة العاملة. وإذا كان بايدن ينوي حقاً إرساء نظام اقتصادي أكثر عدلاً وإنصافاً، فسيكون من الحكمة أن يسترشد بالمنجزات والمآسي في مسار التنمية الأمريكية، كما وثّقها كتاب ليفي. القسم الثاني: أرض رأس المال، تاريخ الولايات المتحدة كتاريخ للرأسمالية** ستيفين هان لم تكن المفاجأة الكبرى في العام 2016 في صعود وانتخاب دونالد ترامب؛ فقد مهّد لهذا الطريق منذ أكثر من خمسين عاماً شخصيات مثل باري غولدواتر، وجورج والاس، ورونالد ريغان، وبات بوكانان، ونيوت غينغريتش، والرئيسان بوش الابن والأب. بل إن المفاجأة الحقيقية كانت ظهور بيرني ساندرز، الذي يفتخر بوصف نفسه «اشتراكياً ديمقراطياً»، والذي وجّه بوصلته السياسية نحو الرأسمالية، ولا سيما في شكلها الاحتكاري المؤسسي، محدداً ومحملاً إياها مسؤولية التفاوتات الاقتصادية، والظلم الاجتماعي، وتجمع السلطة، وإهمال الصحة العامة التي أصابت البلاد بعمق. ورغم انتمائه كمستقل في مجلس الشيوخ، اختار ساندرز السعي للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة بديلاً عن الترشح بشكل منفرد أو كمرشح من حزب ثالث. ولم يسبق لأي اشتراكي أن فعل ذلك من قبل، ولربما كان من المتوقع خروجه المبكر. وكانت هيلاري كلينتون حتماً تتوقع ذلك. لكن كما نعلم جيداً، فقد جذب ساندرز قاعدة جماهيرية ضخمة، ولا سيما بين الشباب، مما بدا وكأنه دليل على أن الاشتراكية لم تعد محرمة، ولا الرأسمالية مقدسة. وهكذا، أثبت العام 2016 أنه لحظة استثنائية راهنة ورائعة في التاريخ السياسي الأمريكي، وربما كان أكثر دلالة مميزة في تاريخ الرأسمالية الأمريكية. للرأسمالية علاقة فريدة بتاريخ الولايات المتحدة. فبينما حددت معظم مجتمعات العالم الأورو-أطلسي تاريخها، على الأقل جزئياً، عبر انتقالها من الإقطاعية إلى الرأسمالية أو تفاعلها المعقد (والعنيف أحياناً) مع الأخيرة، افترض تاريخ المستعمَرات البريطانية في أمريكا الشمالية ثم الولايات المتحدة تزامناً في الأصول على وجه العموم. وكتب المؤرخ كارل ديغلر ذات مرة إن الرأسمالية وصلت إلى أمريكا الشمالية «على متن السفن الأولى»، ومهما بدا هذا التصوير مبسطاً، فإنه يجسّد، بلا شك، الإدراك الواسع النطاق بأن الملكية الخاصة، والاستحواذ والشجع والطمع، والفردانية individualism كانت الأسس التي بُنيت عليها هذه الدولة. ركز بعض المؤرخين على الصراعات بين الأشكال المختلفة للرأسمالية- التجارية والزراعية والصناعية والاحتكارية- لكن الرأسمالية في الولايات المتحدة نادراً ما وُضعت موضع تساؤل كظاهرة تاريخية، باستثناء عقدين من الزمن عندما برزت الكتابات التاريخية الاجتماعية. فقد بنى لويس هارتز تاريخاً كاملاً لـ«التقليد الليبرالي» في أمريكا حول غياب الماضي الإقطاعي، ورغم هذا الرأي للتاريخ الأمريكي -المسمى بـ«توافقي»- فقد واجه نقداً لاذعاً من الباحثين لاحقاً، فإن الانفصال عن الإقطاع الأوروبي ظل مقبولاً عموماً. ومع صعود النيو ليبرالية ونهاية الحرب الباردة، تلاشى الاهتمام بالرأسمالية كموضوع دراسي تقريباً — وهو أمر مفارق نوعاً ما، نظراً للسيادة التي بدت الرأسمالية قد حققتها عالمياً آنذاك. إلا أن انهيار العام 2008 كان بمنزلة منبه أكاديمي واجتماعي واقتصادي في آن واحد. فازداد الاهتمام بدراسة الرأسمالية الأمريكية، وسرعان ما ظهرت مجالات بحثية فرعية حول تاريخ العبودية، والصناعات الصغيرة اللامركزية أو الصناعات المنزلية cottage industries وظهور الأدوات المالية، والاستغلال العنصري الذي يبدو أن الرأسمالية الأمريكية ازدهرت عليه طويلاً. وتنتشر اليوم في الساحة الأكاديمية أجزاء كثيرة، معظمها دراسات رصينة ومحددة النطاق، من قصة كبرى قد تُروى يوماً، مُثيرة أسئلة استفزازية غالباً ما تكون غير مترابطة عبر الزمان والمكان. ويملأ كتاب جوناثان ليفي «عصور الرأسمالية»، أحد أولى الأعمال الشاملة والتركيبية التي توحد الاهتمام الجديد والتوجه التفسيري لهذا المجال البحثي من تاريخ الرأسمالية، حاجة فكرية مهمة. إنه كتاب طموح ومثير للإعجاب، يتفوق على معظم الأدبيات الحديثة ليس فقط في حجمه، بل في عزمه على بناء نطاق تاريخي يستند إلى مفاهيم واضحة المعالم. وقد يشترك أيضاً، إلى حد ما، مع الرؤية «التوافقية» القديمة أكثر مما قد يرغب ليفي أو غيره من الباحثين المؤيدين لآرائه في الاعتراف. وعلى عكس العديد من الذين كتبوا عن تاريخ الرأسمالية الأمريكية، يشرح ليفي كيفية تعريف الرأسمالية، أو كيف ينبغي تعريفها، ويحدّد مراحل تطورها والاختلافات الجغرافية فيها. وهو أيضاً، على خلاف كثير من أقرانه، لا يقدم مجرد دراسة «اقتصادية» تاريخية: فكتابه دراسة للاقتصادات السياسية المتغيرة والمظاهر الثقافية المصاحبة (باستثناء المظهر الديني). بل إن بعض أفضل صفحات النصف الأول من الكتاب مكرسة بالفعل للأدب والفكر الاجتماعي والثقافة الشعبية، وللكيفية التي تعامل بها الأمريكيون مع التحديات التي فرضتها العلاقات والقيم الرأسمالية، والكيفية التي أعادت بها الرأسمالية تشكيل ملامح الحياة اليومية. ويمتلك ليفي فهماً للنظرية الاقتصادية قادراً على إقناع حتى القراء المشككين من مجال الاقتصاد، إلى جانب منظور تاريخي غني يفتقر إليه الاقتصاديون عموماً أو يرفضونه. وعلى الرَّغم من التحاشي الأكاديمي الحالي، فهمت الرأسمالية بطرق متنوعة: كشكل من أشكال استغلال العمل واستخلاص الفائض؛ أو خصخصة الملكية واتساع نطاق تداول السلع؛ كشبكة واسعة ومترابطة بشكل متزايد من الإنتاج والتبادل؛ بل كمزيج من كل هذه الجوانب في أبعاد متعددة. وأصرَّ إيمانويل والرشتاين، وأخيراً سفين بيكرت، على فهم الرأسمالية كنظام عالمي ذي أجزاء معقدة ومتفاوتة. لكن ليفي لا يتناول هذه التفسيرات؛ وربما من أجل القارئ العام غير المتخصص، فيعرض ببساطة رأيه الخاص. بالقول إن الرأسمالية هي «رأس المال». وليست هذه مجرد مغالطة لفظية، أو مجرد حشو، فهو يوضح أن رأس المال ليس «شيئاً» بل «عملية-صيرورة» متشبعة بالأصل القانوني بقيمة نقدية نظراً لقدرته على تحقيق مكاسب مستقبلية. وهذا لا يقتصر على دافع الربح الذي يعترف ليفي بأنه موجود منذ الأزل؛ بل هو شكل تاريخي محدد للاستثمار، تُشكّل فيه النقود والائتمان والتمويل مكونات حاسمة، وتكون نتيجة ذلك تمكين مالكي رأس المال (أي الرأسماليين). يقدم ليفي تفسيره، بما في ذلك بروز أنواع مختلفة من السيولة، على شكل ثلاث «أطروحات» في مقدمة الكتاب، رغم أن القارئ سيواجه صعوبة في العثور على أطروحة عامة أو حجة موحدة تمتد عبر بقية فصوله. ويدّعي أيضاً أن تاريخ الرأسمالية في الولايات المتحدة يمكن تقسيمه إلى «عصور» أربعة بتقسيمات زمنية متناقصة على نحو مطرد: الأول «عصر التجارة»، الذي يمتد من إعادة بريطانيا تنظيم مستعمَراتها في أمريكا الشمالية حتى انفصال الولايات المعتمدة على العبودية، ويستغرق هذا العصر نحو قرنين كاملين. ثم هناك «عصر رأس المال»، الذي بدأ خلال الحرب الأهلية واستمر حتى الكساد العظيم، أي حوالي ثمانية عقود. أما العصر الثالث فهو «عصر السيطرة والضبط»، الذي يغطي المرحلة المضطربة من الصفقة الجديدة حتى سبعينيات القرن العشرين وامتد لنحو خمسة عقود. وأخيراً هناك «عصر الفوضى»، الذي بدأ قبل نحو أربعة عقود (ومازال) بصدمة سعر الفائدة التي فرضها بول فولكر وانتخاب رونالد ريغان. ويوضح ليفي أن كل عصر يتميز بسيادة أشكال محددة من رأس المال، وينشأ كل منها نتيجة أزمات سياسية وتدخّلات حكومية. وعلى الرغم من أنه لا يوضح لنا كيفية تأطير سنوات الاستعمار الإنجليزي المبكر حتى العام 1660، ولا يمنح السكان الأصليين أي دور سوى بوصفهم عقبات في الطريق، فإن ليفي يقترح أن المستعمِرين جلبوا معهم التجارة الرأسمالية معهم فعلياً. بمعنى آخر، يرى تاريخه أن الرأسمالية لم تكن غائبة أبداً، ولم تُنازع بجدية في أي لحظة. يطرح ليفي في القسم القاني والمطول : "عصر التجارة" بعضاً من أكبر التحديات التركيبية نظراً لطبيعته الانتقالية. فهو يحدد العام 1660 كنقطة انطلاق للرأسمالية بسبب الإمبراطورية التجارية الاحتكارية التي سعت إنكلترا لبنائها بعد انحسار الثورة الإنكليزية واستعادة النظام الملكي (وإن كانت إنكلترا قد استعمرت اسكتلندا وإيرلندا بيدٍ من حديد قبل القرن السابع عشر بوقت طويل)، لكنه يعترف أيضاً بعدم انتظام، بالأحرى تفاوت تطور الرأسمالية. فقد حاول إيرل شافتسبري، الذي يسميه ليفي «رأسمالياً أرستقراطيًاً»، إنشاء مجتمع شبه إقطاعي مليء بالإقطاعيات في كارولينا الجنوبية، إحدى المستعمرات الخاصة العديدة (ساعدَه جون لوك في وضع المخططات). ورغم فشل هذه الفكرة إلى حد كبير، فإن طريقة توزيع الأراضي في كارولينا الجنوبية جعلتها أكثر المستعمرات الأمريكية أرستقراطية، ثم على نطاق الولايات المتحدة لاحقاً. وفي أماكن أخرى، ظلت الأسرة المعيشية، بكل ما تحمله من تراتبية هرمية للسلطة وتوجهها نحو وسائل الاكتفاء الذاتي [اقرأها الكفاف أيضاً-المترجم] والتجارة المحلية، حجر الزاوية في الحياة الاقتصادية حتى القرن التاسع عشر. وبينما اعتبر البعض هذا الاقتصاد المنزلي شكلًا من أشكال «الإنتاج السلعي الصغير» ما قبل الرأسمالي، يراه ليفي أساساً للنمو التجاري المتصاعد، خاصةً بسبب شكليْ رأس المال اللذين حددا ذلك العصر: أي، الأرض والعبيد. كانت المضاربة في الأراضي حاضرة بلا شك منذ البداية، والضغط للحصول على الأراضي (يصفها ليفي بالمجال الحيوي lebensraum، مستخدماً تعبير النازيين عن طموحاتهم لشرق ألمانيا) أثار، لعقود عدة، اضطراباً في السياسة الأمريكية الشمالية -شملت الحكومة البريطانية والشعوب الأصلية-. وقد شكل هذا الضغط «سياسة الملكية» التي اجتاحت «عصر التجارة» حسب تقسيم ليفي. وأدت الثورة الأمريكية إلى منح مزيد من السلطة لأرباب الأسر البيض، لا سيما في المناطق الريفية، وفي الصراع اللاحق بين رؤيتي هاملتون وجيفرسون لمستقبل البلاد الاقتصادي، انتصر توجه جيفرسون وما يسمى بـ "إمبراطورية الحرية"، مما غذى دورة ائتمانية مضاربة تتأرجح بين ازدهار وكساد. كما أنّ شراء لويزيانا في العام 1803، الذي تمّ في عهد جيفرسون، ضاعف مساحة الولايات المتحدة تقريباً، ودفعها نحو النطاق القاري، وخلق نسخة من جزر الهند الغربية في وادي المسيسيبي السفلي. (ومن الغريب أن ليفي، رغم الأثر الهائل سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً لشراء لويزيانا، لا يذكر أن هذه العملية أصبحت ممكنة بفضل نجاح تمرد العبيد في سان-دومينيغو) ارتبطت عملية الاستحواذ على الأراضي والعبودية معاً بشكل وثيق خلال «عصر التجارة». فعمالة العبيد شكّلت معظم تجارة الصادرات الأمريكية الشمالية منذ منتصف القرن الثامن عشر، وساعدت في دفع عجلة النمو الاقتصادي للولايات المتحدة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفي الواقع، يرى ليفي، متّبعاً المنطق المفاهيمي لعلماء كثر في مجال ازدهار العبودية والرأسمالية، أن المستعبَدين يجسّدون «أصول رأس المال» في تلك الحقبة: فهم يمثلون ملكية خاصة ذات سيولة تداولية، ركبت موجة دورة الائتمان المتقلبة، وعزّزت على نحو مطرد ثروة أصحابهم ونفوذهم. مع الوقت، شهدت الولايات المتحدة نموذجين للرأسمالية: أحدهما في الجنوب، قائم على الأراضي والعبيد، والآخر في الشمال، قائم على مجتمع صناعي ناشئ، حيث انفصل الإنتاج «عن المنزل»، وأصبح العمل بأجر «شارة استقلال الذكر». ويؤكد ليفي أن هذين النموذجين لم يكونا محكومين بالضرورة بالاصطدام. لكن بعد العام 1840، أدّت أنماط تجارية متغيرة وتباين بين «تصلب الجنوب وتحوّل الشمال» إلى أزمة في «جيوبوليتيك التجارة» تذكّر بخطة إيرل شافتسبري. فانفصل الجنوب العبودي. وهنا سوف ينتهي «عصر التجارة» مع اندلاع الحرب التي تلت هذا الانفصال. من رماد الحرب وإلغاء العبودية (أو «التدمير السياسي لرأس المال المستعبد») نشأ ما يسميه ليفي «عصر رأس المال». ويمكن وصف هذا العصر على نحو أفضل بأنه «عصر رأس المال الصناعي». فبحسب تعريف ليفي، كل عصر من عصور الرأسمالية هو بالضرورة عصر رأس مال. وقد شمل هذا العصر الثورة الصناعية الأمريكية والتحوّل المطرد والكثيف للولايات المتحدة إلى مجتمع صناعي وحضري. برز إنتاج السلع الرأسمالية إلى الصدارة؛ وتكوّن حزام تصنيع جديد يمتد من الشمال الشرقي عبر الغرب الأوسط؛ وصعدت فئة جديدة من الصناعيين والممولين إلى السلطة؛ وحدثت إعادة تنظيم رئيسة لعملية الإنتاج، الإنتاج الضخم. وفي هذه الحقبة، تحققت بعض أعظم الثروات في التاريخ الأمريكي، واندلعت بعض أكثر النضالات العمالية عنفاً. يولي ليفي تركيزاً كبيراً على «قضية النقود»، ولسبب وجيه. فقد وضعت الحرب الأهلية وعصر إعادة الإعمار أساس نظام مالي جديد وفئة جديدة من الممولين الذين أثروا في سوق السندات المُحرك بالحرب، وكانت واحدة من أعظم الصراعات، والمستمرة، حول المعروض النقدي ومَن سيستفيد: الدائنون أم المدينون. انتصر الدائنون في جبهات عديدة، وفي الاقتصاد السياسي الجديد لأمريكا ما بعد الحرب الأهلية، وجرى دفع المزارعون الأقوياء ملاّكو العبيد إلى الوراء وتقلص دورهم في عملية صنع السياسات، وترك المستعبدون سابقاً (الذين جعلوا إلغاء العبودية وهزيمة الكونفدرالية ممكنين) تحت نير الاستغلال في نظام المزارعة حسب تعبير ليفي، اقتصاد رأسمالي أقل «كفاءة» من العبودية. والشخصيتان اللتان تهيمنان على «عصر رأس المال» لدى ليفي هما أندرو كارنيجي، الذي بدأ حياته في مجال السكك الحديدية، وكوّن ثروته في التمويل الحربي، وأصبح رائداً في صناعة الصلب، وهنري فورد، الذي استفاد من حكمة مذهب تايلور [Taylorism بمعنى المبادئ أو الممارسات الإدارية العلمية وكفاءة العمل. المترجم] وأدخل آليات الإنتاج الضخم وخط التجميع. لكن الطريق لم يكن سهلاً. فما بين الحرب الأهلية وفجر القرن العشرين، شهدت الرأسمالية الأمريكية في المدن والأرياف على حد سواء حدثين ماليين خطيرين (عامي 1873 و1893)، تلا كل منهما كساداً اقتصادياً عميقاً. ويخصص ليفي فصلين للاضطرابات الاجتماعية التي أعقبت هذه الأزمات وأدخلت مصطلح «الصراع الطبقي» إلى المعجم السياسي للولايات المتحدة. فقد حصلت منظمات مثل «فرسان العمل» Knights of Labor على تأييد جماهيري، وطالبت بيوم عمل مدته ثماني ساعات، وشجبت نظام «عبودية الأجور». ووقعت إضرابات مريرة على طول خطوط السكك الحديدية وفي المصانع، ليتم قمعها في كثير من الحالات بعنف من قبل الجيوش الخاصة، والميليشيات الحكومية، والجيش الأمريكي، أو عن طريق أوامر قضائية. وفي المناطق الزراعية في الجنوب والسهول، انضم «تحالف المزارعينFarmers’ Alliance » ثم «الشعبويين Populists» إلى انتقاد الرأسمالية وشاركوا مع «فرسان العمل» إيديولوجية «مكافحة الاحتكارات» والالتزام بالتعاونيات. ومع ذلك، كانت هزائمهم، حسب توصيف ليفي، أمراً محسوماً مسبقاً تقريباً. فقد حلّت «سياسة الدخل» محل «سياسة الملكية»، وكانت الوعي الطبقي في تلك المرحلة هو وعي الطبقة الرأسمالية(«وعي طبقي من الأعلى») وليس الطبقة العاملة أو منتجي القطاع الزراعي. أما النزعة الإصلاحية، التي لم تحظَ باهتمام كبير هنا، فقد حوّلت لاحقاً «مكافحة الاحتكارات» إلى «مكافحة السيطرة» بالمعنى القانوني، و«تحرير الفضة» في المجلس الاحتياطي الفيدرالي. أما النزعة الاحتكارية والانبهار الواسع النطاق بالهندسة الاجتماعية، بما في ذلك الفصل العنصري، التي كانت محورية فيما يسمى «إعادة الهيكلة الاحتكارية» للرأسمالية الأمريكية، فهي مهملة تقريباً لدى ليفي، باستثناء مثال هنري فورد. ما أدى إلى نهاية «عصر رأس المال» هو الكساد العظيم، والذي بدأ بدوره بفعل الدورة الرأسمالية المتكررة للاعتماد على الائتمان، والتي تسللت هذه المرة إلى سوق نيويورك للأوراق المالية، حيث بلغت ذروة غير مسبوقة في عشرينيات القرن العشرين، وصفها البعض بأنها «عربدة مضاربة» قبل أن تنهار في العام 1929. وفي أعقاب الانهيار، وقع اللوم على عاتق المجلس الاحتياطي الفيدرالي وإدارة هوفر، اللذين التزما بمعيار الذهب. ورغم اهتمام هيربرت هوفر بـ«الذكاء الإداري» و«الدولة الترابطية»، إلا أنه لم يُظهر تلك المقدرة على إدراك حجم الأزمة أو التعامل معها، وهي الأزمة التي «دمرت الاقتصاد الأمريكي ودمرت معه رئاسته»، على حد تعبير ليفي. من أنقاض انهيار 1929، قاد فرانكلين روزفلت والصفقة الجديدة البلاد إلى عصر رأسمالي جديد يسميه ليفي «عصر السيطرة والضبط»، نسبةً إلى هدفه «تخفيف تقلبات» الرأسمالية واستخدام سلطة الدولة لإعادة تشغيل الرجال المُعيلين لأسرهم. لكن القارئ لا يحصل في كتاب ليفي على فهم عميق لتغير الاقتصاد السياسي الأمريكي في ثلاثينيات القرن العشرين، والذي شهد تنامي نفوذ الصناعات ذات رأس المال الكثيف والمستثمرة دولياً، والمصرفيين الاستثماريين الجدد داخل الحزب الديمقراطي، ويرجع ذلك جزئياً إلى إهماله المميز والفعال للمرحلة ما بين عامي 1900 و1920. ومع ذلك، نراه يعترف بالصبغة الاحتكارية للتدخلات المبكرة في الصفقة الجديدة (ولا سيما قانون التعافي الصناعي الوطني) وإمكانية اللجوء إلى حلول استبدادية مشابهة لتلك التي ظهرت في ألمانيا وإيطاليا. ففي عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن العشرين، حظي موسوليني ودولته الفاشية بتغطية إعلامية إيجابية في الولايات المتحدة (حتى إن رئيس إدارة الإنعاش الوطني كان يضع صورة لموسوليني في مكتبه)، بل شجع الصحفي الليبرالي والتر ليبمان روزفلت نفسه على اتخاذ سلطات ديكتاتورية. ودفعت الحركة العمالية المتشددة بثبات الصفقة الجديدة نحو اليسار في نقاط حرجة عامي 1934 و1935، وساعدت مؤقتاً في صد المعارضة المتزايدة من الديمقراطيين الجنوبيين، والرابطة الوطنية للصناعات، وغرفة التجارة الأمريكية، واليمين شبه الفاشي. وكانت النتيجة بناء ليبرالية جديدة تركّز على أجور الذكور كأداة رئيسة للعدالة التوزيعية والحفاظ على السيطرة الخاصة على الاستثمار. وهكذا، ظلت الصفقة الجديدة شكلاً من أشكال الرأسمالية، مهما كانت سماتها الديمقراطية الاجتماعية أو شكاوى خصومها منها. ومع ذلك، ورغم عدة تطورات مهمة، مثل خروج الولايات المتحدة من معيار الذهب، وإعادة الشركات الاحتكارية الكبيرة إلى الربحية، والاستثمار في المشاريع العامة، ولا سيما في الغرب والجنوب (اعتماداً على الكينزية)، كانت الصفقة الجديدة تترنح بحلول أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وبدت مُصابة بسمات «التعافي من البطالة». وكانت الحرب العالمية الثانية، كما يعترف معظم المؤرخين، هي التي غيرت الاتجاه. فتشكل ما يسميه ليفي «تصنيعاً ثالثاً»، مُركزًا حول الألومنيوم، والطاقة الكهرومائية، والإلكترونيات، ومدعوماً من «الحكومة الكبيرة». كسبت الولايات المتحدة «حرب المصانع»، وبمساعدة اتفاقيات بريتون وودز النقدية، برزت كسلطة غير مسبوقة في الشؤون العالمية، مع «دولة وساطة» محلية مرتبطة بجهاز أمن قومي جديد. وفي مرحلة ما بعد الحرب، مالت كفة الصراع بين العمل ورأس المال حول مفهوم «الديمقراطية الصناعية» لمصلحة رأس المال، رغم تنازلات مهمة للعمال المنظمين في شكل أجور ومزايا وتعويضات عن تكاليف المعيشة. وبدأ «العصر الذهبي للرأسمالية» في الولايات المتحدة يقوم على امتلاك المساكن والاستهلاك الجماهيري، بينما ظهرت «أشكال متنوعة من الرأسمالية» لدى حلفاء الولايات المتحدة، مدعمة ببضائعها الاستهلاكية. تتمثل المشكلة، وفقاً لليفي، في أن ليبرالية ما بعد الحرب لم تضع استراتيجية للاستثمار العام، وبمنتصف ستينيات القرن العشرين، هزّت البلاد ثورات اجتماعية، وحرب جديدة في جنوب شرق آسيا، وتنامي المنافسة في السوق العالمية. بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس زمن الصفقة الجديدة، فشل الحزب الديمقراطي في الحفاظ على تحالف انتخابي كافٍ، خاصة مع تعري وانكشاف «المجتمع العظيم». وبدأ الديمقراطيون الليبراليون يعانون من هزائم سياسية، وفي سبعينيات القرن العشرين، شهدت الرأسمالية الأمريكية أزمة عميقة تميزت بالركود التضخمي stagflation، وتراجع معدلات أرباح الشركات، وتحوّل رأس المال إلى «حزام الشمس Sun Belt »، و«صدمتي نفط»، وهجوم متزايد من رأس المال على مكاسب ما بعد الحرب المتعلقة بالعمل المنظم. تجمدت، بالأحرى تراجعت مداخيل الطبقة الوسطى والعاملة من الذكور، وبدأ تزدهر بينهم سياسة محافظة جديدة (رغم أن هذا التاريخ أكثر تعقيداً مما يسمح به كتاب ليفي). واتجه الديمقراطيون، وخاصة في عهد جيمي كارتر، إلى رفع القيود التنظيمات. بديلاً عن أعادة تجديد مذهب كينزية الصفقة الجديدة، ووصف كارتر هذه السياسة بـ«إزالة السيطرة والضوابط»، وفي العام 1979، عيّن «صقر التضخم» بول فولكر رئيساً للمجلس للاحتياطي الفيدرالي. وأدى إصرار فولكر على رفع أسعار الفائدة بشكل حاد إلى دفن رئاسة كارتر، ودق المسمار الأخير في نعش «عصر السيطرة الضبط». مع ذلك، كان يمكن لليفي، كما يُجادل، تحديد نهاية «عصر السيطرة الضبط» قبل عقد من الزمن، مع الكوارث السياسية للعام 1968 (بما فيها هجوم تيت في فيتنام)(14)، وتصاعد التضخم، وصدمة النفط الأولى، وإلغاء نيكسون قابلية تحويل الذهب عالمياً، وصعود رأسمالية «حزام الشمس» على حساب حزام الصناعة (حيث أصبحت العقارات هي القوة الدافعة والنزعة المحافظة السياسية هي الملاذ). بأي حال، برزت مرحلة جديدة من الرأسمالية الأمريكية يسميها ليفي «عصر الفوضى» في ثمانينيات القرن العشرين، تسترشد بقطاع مالي متنام القوة يبحث عن استثمارات مضاربة ويبتكر أدوات جديدة لتعزيز صعوده، مثل عمليات الاستحواذ الممول بالديونleveraged buyouts، ورهونات القرض العقاري عالية المخاطر الائتمانية، ومقايضات التخلف عن سداد الائتمان، والمشتقات المالية. أثبتت إدارة ريغان أنها إدارة تسهيلات كبيرة، سواءً من خلال تسريع الاتجاه التحرري نحو إلغاء التنظيمات التي بدأ بها عهد كارتر، أو بتقديم مساعدات فيدرالية للهجوم الذي شنه رأس المال على العمالة، خاصة في سحق إضراب مراقبي الحركة الجوية المحترفين في العام 1981. وبرزت أفكار «نيو ليبرالية»، ويستخدم ليفي المصطلح بتردد، تتعلق بالأسواق والعولمة ودور الحكومة في تعزيز حركة رأس المال. بل كانت هذه الأفكار مؤثرة لدرجة أن إدارة كلينتون في تسعينيات القرن العشرين اعتنقتها بالكامل، إلى جانب نهج ريغان الصارم تجاه الإصلاحات المتعلقة بالرعاية الاجتماعية والعدالة الجنائية، وأسهمت في التوسع الهائل لقطاع تكنولوجيا المعلومات والإنترنت. وليس من المستغرب أن كلينتون، متبعاً نهج المصرفي الاستثماري ووزير الخزانة روبرت روبن، قد أشرف على إلغاء تنظيم بعض أدوات الائتمان، وتخفيف قواعد الإقراض العقاري، وإلغاء قانون غلاس-ستيغال لعصر الصفقة الجديدةGlass-Steagall Act (15) ، الذي كان يفرض فصل المصارف التجارية عن المصارف الاستثمارية. وأصبح «التدفق والسيولة والمخاطرة والاختيار الفردي وطمس الحدود وانهيار الحواجز والعولمة» هي القيم السائدة في «عصر الفوضى» لدى ليفي (على الرغم من عدم وضوح أي عصر للرأسمالية لم يكن فوضوياً). وآمن كل من رأس المال المالي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي، تحت إدارة آلان غرينسبان الآن، بأنهم وجدوا مفاتيح الأرباح والسيولة التداولية للمعاملات والتضخم المنخفض وأسعار الفائدة المنخفضة ومزايا تزايد الديون الاستهلاكية، خاصة في مجال الإسكان. وتوجهت أكبر مصارف الاستثمار نحو أعمال تجميع الرهون العقارية، متخيلة مصدراً لا نهائياً للأرباح. لكن كما نعلم، كل ذلك تحطم في العام 2008 عندما تراجعت قيمة المنازل وارتفعت حالات التعثر عن السداد بشكل كبير. وتبع ذلك الكساد العظيم، الذي يختتم به ليفي كتابه. ومع قيام إدارة أوباما بصنع السياسات خلال هذه الأزمة الكبرى، ربما كان من المتوقع بداية عصر جديد للرأسمالية. لكن ليفي يرى هنا مزيداَ من الاستمرارية، حيث شكل أوباما فريقاً يعود إلى سنوات كلينتون وركز على إنقاذ القطاع المالي. وما تغير بالفعل هو الديناميكيات السياسية: فوفقاً لعرض ليفي، أخفق اليسار في الإمساك بالمبادرة وسلمها إلى اليمين، ولا سيما حركة حزب الشاي الجديدة، التي ساعدت في إلحاق هزيمة ساحقة بالديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للعام 2010 ومهدت الطريق للشعبوية اليمينية التي سيطرت سريعاً على معظم الحكومات المحلية، ثم مكّنت من انتخاب ترامب في العام 2016. يعد كتاب «عصور الرأسمالية الأمريكية» كتاباً ضخماً، يُظهر بوضوح أنه نتاج بحث واسع النطاق وتفكير جاد. سيجد قيمة حقيقية فيه أي شخص مهتم بالتاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة، وبالنظر إلى حجمه (800 صفحة)، يتردد المرء في طلب المزيد من الموضوعات والمناقشة. لكن هناك بعض السهو والإغفالات الغريبة، وبعض الأخطاء، والانقطاعات في السرد تشير مباشرةً إلى مجموعة من الأسئلة الجوهرية من نوع: كيف تطورت الرأسمالية الأمريكية؟ وكيف انعطف الاقتصاد السياسي باتجاه معين؟ وكيف يمكننا فهم بعض أعمق الصراعات التي اندلعت في هذا البلد؟ وهل كان للرأسمالية الأمريكية أي منافس مهم يوماً؟ يبدأ ليفي بتأسيس الإمبراطورية البريطانية وإعادة التنظيم السياسي للمستعمَرات البريطانية في أمريكا الشمالية، كما يتطرق إلى «إمبراطورية الحرية» لجيفرسون. لكن هذا آخر ما نسمعه تقريباً عن الإمبراطورية، والغزو الاستعماري، والأشكال المختلفة من الإمبريالية، وامتداد النفوذ الأمريكي خارج حدود البلاد، على الأقل حتى نصل إلى نهاية القرن العشرين. وبالكاد يذكر ضم تكساس (ليس مدفوعاً بالعبودية وحدها ولكن أيضاً السعي بالجهود المبذولة للسيطرة على سوق القطن العالمي)، ولا حرب الولايات المتحدة مع المكسيك، ولا الاستثمارات المالية الضخمة في شمال المكسيك بعد الحرب الأهلية (التي أسهمت في اندلاع الثورة المكسيكية)، ولا سياسة «الباب المفتوح Open Door »(16) (الواردة في سياق آخر)، ولا الحرب الأمريكية الإسبانية (التي حوّلت الولايات المتحدة إلى إمبراطورية من نوع مختلف)، ولا حرب فيتنام (المذكورة كهامش في مناقشات أخرى). ومع ذلك، منذ خمسينيات القرن العشرين، حين أعاد ويليام أبلمان ويليامز وتلامذته صياغة «التاريخ الدبلوماسي» الأمريكي بالإصرار على أن السياسات الخارجية والمحلية لا تنفصلان عن بعضهما البعض، بات من المستحيل التفكير في البحث عن الأسواق، والسعي وراء الحدود الإقليمية والقواعد، وبناء دولة الأمن القومي، والتدخلات ضد الحركات الاشتراكية والشيوعية، باعتبارها خارج التاريخ الجوهري للرأسمالية الأمريكية. فعلى أقل تقدير، نحن بحاجة إلى منظور حول ما إذا كان تطور الرأسمالية الأمريكية شجّع المشاريع الإمبريالية، وما الذي عنته هذه المشاريع لها. ففي النهاية، كان الاقتصاد السياسي الأمريكي بين عامي 1945 و1989 منظماً إلى حد كبير حول التهديد المتزايد للاشتراكية والشيوعية. كما أـسهمت نهاية الحرب الباردة، ولا سيما انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، ليس في مدة قصيرة من التفاؤل بما يسميه ليفي «اقتصاداً جديداً»، بل في الطابع الفوضوي الظاهري لهذه الحقبة بأكملها، أي في فوضى عالمية جديدة؟ لم يكن ليفي أول من يرى أن عمل الأفارقة المستعبَدين كان حاسماً في النمو الاقتصادي للمستعمَرات البريطانية في أمريكا الشمالية ثم الولايات المتحدة الفتية، ولا الأول الذي يصور العبودية كشكل من أشكال الرأسمالية أو المستعبَدين كأصول رأسمالية. لكن هذه الحجج تتجاهل ببساطة جدالات استمرت عقوداً، بدءً بكتاب إريك ويليامز «الرأسمالية والعبودية» (1944)، ثم «الاقتصاد السياسي للعبودية» ليوجين جينوفيزي (1965)، و«العبودية والحرية في الأرض الوسطى» لباربارا فيلدز (1984)، أي من هذه الكتب يستحق الذكر في الهوامش، والتي أصابت العلاقة بين العبودية والرأسمالية بمزيد من التعقيد بسبب أشكال السلطة والاستغلال والتنمية التي تنطوي عليها أنظمة الاستعباد. كما أنها تتجاهل الأدبيات الغنية حول نظرية التبعية والاقتصاد المزدوج (أي العملية المتناقضة للتطور الرأسمالي) التي ركزت على أمريكا اللاتينية وأفريقيا، لكن باحثين مثل إرنستو لاكلاو ربطوها مباشرةً بالعبودية. سيشعر بخيبة أمل شديدة أولئك الذين يرون في العبودية شكلًا من أشكال الرأسمالية (ربما جوهرها) لكنهم مهتمون تحديداً بمفهوم «الرأسمالية العرقية العنصرية». لا يعير ليفي هذا المفهوم اهتماماً، رغم وجود أسباب كثيرة الاعتراض عليه، بل يتجنب أيضاً إلى حد كبير مسألة ما إذا كانت الرأسمالية الأمريكية قد غذّت بشكل جوهري استغلال ذوي البشرة الملونة داخل الولايات المتحدة أو خارجها. وما نسميه «جيم كرو»(17) لم يكن مجرد نظام فصل عنصري وحرمان من الحقوق؛ بل كان نظام كامل للهيمنة والخضوع، لا ينفصل عن مسار الجنوب في رأسمالية ما بعد إلغاء العبودية، وكان، إلى حد ما، نموذج لتنظيم رأس المال الأمريكي في الخارج، كما في منطقة قناة بنما وأمريكا الوسطى والفيليبين، بل ولنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. إن تصور الرأسمالية بشكل أساس كعملية استثمارية له آثار أوسع من مجرد دراسة العبودية والعنصرية؛ فهو يحد أيضاً من فهمنا لكيفية عمل الرأسمالية، بأشكالها المختلفة، في الاستيلاء على الموارد، وتدمير المجتمعات، وطرد السكان، واستغلالهم بوحشية. فالمتحرك في كتاب ليفي هو رأس المال، والمتحركون هم الرأسماليون. ويُولى اهتماماً ضئيلاً، على سبيل المثال، للعمالة المهاجرة داخل الولايات المتحدة أو في الدوائر العالمية، والتي ساعدت في صنع الرأسمالية كنظام دولي. فما مدى إنتاج الرأسمالية لـ«فائض السكان» -إلى جانب فائض القيمة- ثم اعتمادها عليهم؟ وبالمثل، يُهمَل الالتفات إلى الجاليات المهاجرة وكيف أسهمت في تشغيل آليات الرأسمالية واستنباط استراتيجيات ومؤسسات مصممة لحمايتها من أسوأ آثارها. كما هناك اعتراف ضئيل بتاريخ طويل من الاستبعاد المدني والسياسي للطبقة العاملة الأمريكية. فباستثناء مرحلة وجيزة في منتصف القرن العشرين، تألفت الطبقة العاملة الأمريكية في الغالب من أشخاص ذوي وضع مدني غير مستقر وحقوق سياسية محدودة: أناس مستعبدون، ونساء، وأطفال في القطاعات الرائدة قبل الحرب الأهلية؛ مهاجرون أوروبيون وصينيون، كثير منهم عادوا إلى بلدانهم أو لم يتمكنوا من التصويت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ذوو أصول أفريقية هربوا من الحرمان من الحقوق والقمع في الجنوب ليواجهوا أشكالاً جديدة من التمييز في الشمال والغرب؛ وتيارات متزايدة من العمال غير الموثقين، خاصة في العقود الأخيرة، الذين يواجهون خطر الاعتقال والترحيل باستمرار. ورغم حساسية ليفي لمسائل الثقافة، فإن ما نفتقده في الكتاب، أي تقديم منظور حول الحساسية الجماعية للرأسماليين. واقتراحه بأن عصر معيار الذهب شهد تراجعاً في الوعي الطبقي لرأس المال، لم يعززه كثيراً أو قليلاً أبعد من ذلك، ويرجع ذلك، في جزء كبير منه، إلى عدم وجود رؤية واضحة للعلاقات المتغيرة بين قطاعات الرأسمالية المختلفة والأحزاب السياسية والسياسات التي حكمت البلاد، وهو ما يمثل جوهر الاقتصاد السياسي. يظهر دونالد ترامب في بعض لمحات في الكتاب؛ أما بيرني ساندرز فلا يظهر أصلًا. ولا يظهر أيضًا يوجين في. ديسبس، ولا الحزب الاشتراكي، ولا الحزب الشيوعي الأمريكي، ولا الجبهة الشعبية، ولا الحزب التقدمي 1948. كما لا نتعرف على توماس سكيدمور، أو وليام هايتون، أو وليام مانينغ، أو فاني رايت، الذين كانوا، كلاً على طريقته، من منتقدي الرأسمالية الناشئة في الجمهورية الجديدة، رغم أننا نُذكَّر بشكوك تشارلز ديكنز، وإيمرسون، وميلفيل، ولا سيما ثورو. ومن الغائبين أيضاً منتقدو الرأسمالية من اليمين، من منظري تأييد العبودية إلى جماعة مزارعين ناشفيل(18). ومع ذلك، لا يمكن القول إن ليفي مؤيد صريح للرأسمالية الأمريكية؛ فكلمات كتابه مصاغة بميزة نقدية واضحة على طول صفحات كتاب وُلد في عصر النيو ليبرالية، عندما بدت الرأسمالية تهيمن وتسيطر بشكل كلي، وعندما برز الرأسماليون بصفتهم «أسياد الكون» يستمدون قوتهم من اختراع الأدوات المالية والتلاعب بها، بينما اعتبرت المعارضة هزيلة ومضللة ولا طائل من ورائها. فحركة «احتلوا وول ستريت Occupy Wall Street» مذكورة بشكل عرضي، بينما لا ترد أي إشارة للحركات المناهضة للعولمة في تسعينيات القرن العشرين. كما يهمل الاهتمام المتجدد بالاشتراكية الذي غذّته وتبنّته حملات بيرني ساندرز الرئاسية. ومما يلفت الانتباه هنا أن ليفي يختم كتابه بالأمل في ظهور «سياسات ديمقراطية لرأس المال» أو إمكانية تخيُّل «مستقبل ما بعد الرأسمالية»، لكن هناك القليل ما يمكن أن يحتويه الكتاب أو ما يستخلص منه لدعم لمثل هذه السياسة أو ذلك المستقبل. القسم الثالث: الحدود النقدية لتاريخ الرأسمالية «الجديد»*** جيمس باريسوت بما يزيد عن 700 صفحة، يضع جوناثان ليفي في الكتاب معياراً لتأويل شامل نسبياً لتاريخ الرأسمالية الأمريكية في كتاب واحد. يجمع تصورات من الطفرة البحثية التي أعقبت الكساد العظيم حول تاريخ الرأسمالية الأمريكية — والتي يُطلق عليها غالباً «تاريخ الرأسمالية الجديد» — يمتلك الكتاب إمكانية أن يصبح بيان معرفي واضح لهذه المنعطف الفكري. ويشير، في المقدمة، إلى أن النقاشات حول «تاريخ الرأسمالية الجديد» تفتقر إلى تفاعل كافٍ مع الاقتصاد. ولتعويض ذلك، يضع هدفين رئيسين لكتابه: أولًا، تقديم صورة كاملة لتاريخ الرأسمالية الأمريكية تتعارض مع الميل السائد في حقل الاقتصاد الأكاديمي (الذي يترجم غالباً إلى الساحة السياسية) والقائم على الرياضيات والنماذج models بديلاً عن السياسة والحياة الاجتماعية؛ ثانياً، حث مؤرخو الرأسمالية على التعامل بدقة أكبر مع تاريخ الاستثمار والتمويل والإنتاج. ويؤكد المؤلف أن هدف كتابه هو «تصحيح السجل التاريخي» لتاريخ الرأسمالية الأمريكية، من بداياتها المبكرة حتى الكساد العظيم. ينتظم الكتاب حول ثلاثة مبادئ (أو إحالات) مركزية. أولاً: «رأس المال بوصفه عملية-صيرورة على وجه التحديد، أكثر من كونه عاملاً مادياً في الإنتاج أو شيئاً. فرأس المال هو العملية التي يحدث فيها منح أصل قانوني قيمة نقدية باعتبار قدرته على تحقيق ربح مالي مستقبلي». بعبارة أخرى،- وانعكاساً لفكرة ماركس عن رأس المال كعملية تتدفق وتتغير أشكالها (رغم عدم وضوح مدى اعتماد ليفي على ماركس هنا)-، يمكن لرأس المال أن يتخذ أشكالاً متعددة (صناعة، تمويل، إلخ) ويعتمد على إسناد قيمة كمية لموجود معيّن. ثانياً، يرى ليفي أن «رأس المال يتحدد بالسعي وراء ربح مالي مستقبلي»، لكن البحث اللامتناهي عن الربح وحده لا يكوّن الرأسمالية. فـ«دافع الربح لدى الرأسماليين كان دائماً غير كافٍ لدفع عجلة التاريخ الاقتصادي، ولا حتى لقيادة تاريخ الرأسمالية». بمعنى آخر، تكون الدوافع الإنسانية، حتى في المجتمع الرأسمالي، أوسع من مجرد السعي للربح. فمالكو العبيد كانوا يبحثون عن الأرباح، لكنهم كانوا أيضاً مهتمين بنمط حياة قائم على الهيمنة العنصرية. والصناعيون دفعهم الربح، لكنهم رغبوا أيضاً في الخلق والإنشاء. وهكذا دواليك. ثالثاً: «تاريخ الرأسمالية هو صراع لا نهائي بين الميل قصير المدى للادخار والقدرة طويلة المدى على الاستثمار وحوافزه». وهذه، بالنسبة لليفي، سمة أساسية لتفسير تاريخ الرأسمالية. فـ«الخطوة الأولى»، كما يصفها، في المجتمع الرأسمالي هي الاستثمار، وتوفر هذه الخطوة المنظار المناسب الذي يراه مفيداً لفهم تاريخ الرأسمالية، بمعنى ليست العلاقات الإنتاجية أو الصراع الطبقي، بل حوافز الاستثمار وتاريخ اختيار المستثمرين بين الادخار أو الإنفاق والأصول التي يقررون استثمار رؤوس أموالهم فيها. عصور الرأسمالية الأمريكية تستند بقية الكتاب إلى هذه المفاهيم لتحليل ما يقسّمه المؤلف إلى أربعة عصور للرأسمالية الأمريكية. الأول هو عصر التجارة (نحو 1660–1860). مع توسع الإمبراطورية البريطانية في نيو إنغلاند وفيرجينيا، مكونة إمبراطورية استعمارية تعتمد على إزاحة السكان الأصليين واستيراد العبيد الأفارقة لاستغلالهم، يتميز هذا العصر بما يطلق عليه المؤلف «النمو السميثي»[ نسبة للاقتصادي الإسكوتلندي آدم سميث- المترجم]، حيث كان العامل الرئيس للرأسمالية الأمريكية في هذه الحقبة هو التبادل التجاري، وتوسيع حجم السوق، وخلق "مضاعف تجاري سميثي". أما العصر التالي، فيسميه ليفي عصر رأس المال (1860–1932)، ويمثل حقبة التصنيع الأمريكي التي أدت في النهاية إلى النمط الفوردي، إلى جانب مجموعة من ثورات متنوعة ضد تصاعد الرأسمالية الأمريكية، من حركات العمال والإضرابات إلى الشعبوية الزراعية. وهنا، كان «المضاعف الصناعي للاستثمار» هو المحور، مع توجيه رؤوس الأموال بازدياد نحو الصناعة وارتفاع الإنتاجية. وثالثا جاء عصر السيطرة والضبط (1932–1980)، الناشئ من رحم الصفقة الجديدة ومدعوماً بالتحفيز الاقتصادي لحرب الثانية، مقترناً بصعود الولايات المتحدة كقوة هيمنة عالمية، حيث بُني هذا العصر حول «المضاعف المالي الكينزي» الذي تلعب فيه الدولة دوراً محورياً في تشجيع النمو الكلي. وأخيراً، نصل إلى عصر الفوضى (منذ1980 وحتى الوقت الحاضر). وهنا، يرى ليفي أن الاختلاف الجوهري مع العصور السابقة هو تحول في «الديناميكية الأساسية للرأسمالية، أي في منطق الاستثمار في عمله عبر الإنتاج والتبادل والاستهلاك». ففي هذه الحقبة، سعى رأس المال بشكل متزايد لتحقيق الأرباح عبر ارتفاع قيمة الأصول والسيولة قصيرة الأجل، على عكس الحقبة الصناعية المبكرة التي كانت تتوافر فيها أموال كثيرة مرتبطة باستثمارات ثابتة. بعبارة أخرى، أصبحت ميول المستثمرين تفضل تحويل رؤوس الأموال إلى أشكال سائلة مثل المشتقات المالية دون القيام باستثمارات ضخمة في المصانع والعمالة. فعلى سبيل المثال اتخذت الصناعة أشكالاً أكثر مرونة في ظل العولمة وسلاسل الإنتاج الدولية والإنتاج في الوقت المناسب. باتباع هذا التقسيم الزمني لتاريخ الرأسمالية الأمريكية، يبرز ليفي الطرق المعقدة التي غيّرت بها رؤوس الأموال أشكالها عبر التاريخ الأمريكي، ويظهر أيضاً دور الدولة في هذا التاريخ. فكل عصر من عصور ليفي لم يحدد بقوى اقتصادية وحدها، بل بعوامل تشمل السياسات الحكومية والقوانين والسيكولوجية الجماعية للاستثمار. كما يكشف جوانب جندرية وعنصرية في هذا التاريخ، من مركزية علاقة «المعيل-ربة المنزل» في التاريخ الأمريكي، إلى العبودية العنصرية وما بعدها. والأهم، أنه يُبرهن على أهمية التمويل والسياسة النقدية في تاريخ الرأسمالية الأمريكية. ولئن كان الكتاب يقدم نظرة مفيدة عن تاريخ الاقتصاد الأمريكي، وتكمن نقاط قوته في النقاشات المفصلة لأزمات مالية تاريخية، والتحوّلات في أنماط استثمار رأس المال، والطرق التي أعادت بها الحكومة تشكيل ذاتها تاريخياً لتنظيم رأس المال، إلا أن هناك حدوداً ونقائص متنوعة في رواية ليفي. سوء فهم ماركس وقد يعود بعضه إلى التفاعل الإشكالي مع أعمال ماركس. ففي قسم فرعي بعنوان «نظرية ماركس لرأس المال الصناعي»، يلخّص ليفي أجزاءً من أفكار ماركس في كتاب «رأس المال»(19) المجلد الأول، قائلًا: «يحتوي رأس المال على حجج متنوعة، لكن جوهر حجة ماركس الاقتصادية كان بسيطاً جداً». ثم يقدم تفسيراً إشكالياً لأعمال ماركس، التي قد لا تكون بسيطة بهذا القدر. وربما تبدو هذه تفاصيل تقنية، إلا أن آثار عدم فهم أعمال ماركس — بل وعدم فهم المناهج النقدية والماركسية في التاريخ المستمدة من رؤى ماركس — لها تداعيات أوسع لتفسير تاريخ الرأسمالية. يقول ليفي على سبيل المثال: «ثمة سلعة واحدة فقط في الرأسمالية، كما يجادل ماركس، وهي «قوة العمل»، والتي هي مصدر كل القيمة الاقتصادية- بما في ذلك فائض القيمة». لكن ماركس لم يقل إن كل القيمة الاقتصادية تأتي من قوة العمل تحديداً. فهو يدرك تماماً أن وسائل الإنتاج (كالآلات والأدوات والمصانع) تنقل القيمة إلى المنتجات. كما يرى أن الأرض ورأس المال الوهمي والمضارب يمكنهم، زعماً، المشاركة بحصص من القيمة الإجمالية في الاقتصاد. فقوة العمل، لدى ماركس، هي بالطبع مصدر فائض القيمة. لكن هذا لا يعني أن كل الأسعار أو «القيم الاقتصادية» عموماً هي ببساطة نتيجة لقوة العمل. فأسعار الألماس والذهب المرتفعة، على سبيل المثال، تتحدد بقوى غير قوة العمل في حد ذاتها. ثم يكرر المؤلف رأياً قديماً، مهملاً لفقدانه المصداقية (يسمى غالباً «أطروحة الإفقار عند ماركس»)(20) مفاده أن «يدفع الرأسماليين، في سوق عمل تنافسية، للعمال تكلفة إعادة إنتاج قوتهم فقط، أي الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية للعمال، أي العيش الكفاف». وهذا تفسير خاطئ -إلى جانب كونه قراءة نمطية شائعة لدى الليبراليين والمحافظين- يغفل حقيقة أن ماركس كان يرى «الاحتياجات» متغيرة تاريخياً ومرتبطة بسياقات اجتماعية. كما تتجاهل، هذه القراءة، إلى أي حد كان ماركس يرى معدلات الأجور وساعات العمل على النحو الذي يحدده الصراع الطبقي وتنظيم العمال ضد رأس المال. لا يكتفي ليفي بهذا، بل سوف يستعرض، بعد صفحات قليلة، كيف ارتبطت ديناميكيات نظام ماركس الاقتصادي على الزمن وحده بعكس ما كان يرى آدم سميث. وهذا ادعاء غريب أيضاً، خاصةً أن ماركس كان شديد الاهتمام بالمكان. فمنذ نقاشه في «البيان الشيوعي» عن كون رأس المال قوة عولمية، إلى حديثه عن «إبادة المكان بواسطة الزمن» في «المخطوطات الأساسية Grundrisse »، وصولًا إلى الفصول عن الاستعمار في كتاب «رأس المال» ، لم يفضل ماركس الزمن على المكان، بل ركز على تفاعل الاثنين: من ميل الرأسماليين لتسريع الإنتاج لاستخلاص قيمة أكبر من العمال، والصراعات حول يوم العمل، إلى الاستعمار والعولمة. بعد ذلك، يزعم ليفي أن كتاب رأس المال كان كتاباً فلسفياً ذا نزعة حتمية رغم وجود بعض الاستثناءات في كتاباته مصل "الثامن عشر من برومير". غير أن ليفي، لم يخبرنا قط، لسوء الحظ، بما يعنيه بهذا (أو، في هذا الصدد، أن يقدم استشهادات أو أدلة على قوله). ليس هذا فحسب، بل سوف تنشأ لديه إشكالية رئيسة أخرى عندما يقول: «على النقيض من ذلك، فإن الديناميكيات الطارئة لرأس المال - دورة الائتمان المتكررة، وتاريخ النقود والسيولة والمضاربة والذعر والادخار المليء بالأحداث- لم تكن موضوع كتاب رأس المال، رغم أن ماركس تناولها في كتابات نُشرت بعد وفاته، أحياناً بشكل هامشي وأحياناً لا». هنا نرى أن المؤلف يعترف بوجود كتابات ماركس عن النقود والتمويل، لكنه لا يرى ضرورة للتعامل معها بجدية. وهذا أمر غريب، خاصةً أن ماركس كان واضحاً في أن الجزء الأول من كتاب «رأس المال» يقدم صورة لأنماط الإنتاج الرأسمالي عند مستوى تجريدي معين يركز على الإنتاج، بينما يتناول الجزآن الثاني والثالث قضايا التداول والنظام على نطاق واسع: بما في ذلك مئات الصفحات في الجزء الثالث عن النقود والائتمان والتمويل. وربما تبدو هذه تفاصيل تقنية، إلا أن آثار عدم فهم أعمال ماركس- بل وعدم فهم المناهج النقدية والماركسية في التاريخ المستمدة من رؤى ماركس- لها تداعيات أوسع لتفسير تاريخ الرأسمالية. ويظهر هذا في تركيزه على الرأسمالية كنظام مدفوع بالاستثمار وفي تعريفه: «الرأسمالية هي اقتصاد- وسيلة أداتية فعالة لإنتاج سلع للاستهلاك- موجّه لتحقيق غاية رأس المال، وهي الربح النقدي». يثير هذا المنظور، في العديد من الجوانب، مشكلة «الدجاجة والبيضة» التي يعجز إطار عمل المؤلف على حلها. وببساطة أكثر: إذا كانت الرأسمالية نظاماً مدفوعاً بالاستثمار، فماذا الذي أنشأ هذا النظام؟ وكيف بُني شكل المجتمع أو نمط الإنتاج الذي جعل نظاماً مدفوعاً بالاستثمار ممكناً؟ ومن أين أتت الطبقة الرأسمالية المُدفوعة بالربح؟ لنأخذ على سبيل المثال تحليل ليفي لـ«عصر التجارة». فهو يدرك جيداً، من خلال تفاعل محدود مع نقاش استمر عقوداً حول نشوء الرأسمالية في شمال أمريكا، أن العديد من المزارعين مارسوا الزراعة «ذات الأولوية للأمان» أو «الزراعة المركبة» حيث كان الإنتاج لإعادة إنتاج الكفاف العائلي الأبوي غالباً أكثر أهمية من الإنتاج للسوق. ويستشهد بالمؤرخ الاقتصادي ويليام باركر الذي رأى أن المزارع الشمالي منقسم بين رغبات «الفلاح» و«المقامر». لكنه يفرض هذا التحليل على تاريخ الزراعة الشمالية دون أن يتساءل عما إذا كان بالإمكان حقاً اعتبار العائلة الزراعية الشمالية الأبويّة «فلاحين»، بالنظر إلى عدم وجود سادة lords يحكمونهم كما في أوروبا الإقطاعية. وفي أقرب ما يصل إليه من مناقشة الانتقال إلى الرأسمالية في شمال أمريكا، يقول: «لم يكن هناك انتقال وحيد إلى الرأسمالية، بل سلسلة متتالية من «الثورات السوقية» وثورات مضادة، خاصة بكل مكان جغرافي». لكنه أخفق في توضيح كيفية نشوء الرأسمالية في الشمال الأمريكي، أو تحديد التاريخ غير المتكافئ للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية وغير الرأسمالية (أو الأقل رأسمالية والأكثر رأسمالية)، وكيف تداخلت هذه العلاقات عبر الزمن، وكيف هيمن رأس المال على العلاقات الاجتماعية.. كل ذلك لأنه كان مقيداً برؤية تجعل الاستثمار سابقاً للتنمية الاجتماعية في تاريخ الرأسمالية، وبإطار محدود لفهم التحوّلات في أنماط الإنتاج. وربما أبالغ، لكنه يصبح تاريخ لانتصار رأس المال على البشر دون تفسير لكيفية سيطرة الرأسمالية على الحياة الاجتماعية وتحكّمها بها. فيما يتعلق بالعبودية الجنوبية، يقدم المؤلف تحليلاً جيداً يدمج فيه الحجج الواردة في «تاريخ الرأسمالية الجديد» التي تظهر أن العبودية في المزارع كانت شكلاً من أشكال الرأسمالية. لكن كتحليل للنظام الاجتماعي الجنوبي ككل، يظل هذا السرد محدوداً. فهو يشير في مكان ما إلى إخفاق «اقتصاد المزارع، على سبيل المثال، في دمج مجموعة كبيرة من الأسر المزارعين لصغار الملاك البيض في المناطق الداخلية، وانصرف كثير منهم للاكتفاء الذاتي (اقتصاد الكفاف)، في السوق التجاري». لكن بقية التحليل تظل تركز على «نمط الرأسمالية» القائم على المزارع. وهكذا، عندما يصل المؤلف إلى الحرب الأهلية، يقول إنها انطلقت من نوعين مختلفين من الرأسمالية (شمالي وجنوبي)، لكنها كانت تعتمد بشكل كبير على السياسات الخاصة بتلك الحقبة. ولا يطرح السؤال الذي طرحه مؤرخو التاريخ الاجتماعي للرأسمالية: إلى أي حد، حتى في ستينيات القرن التاسع عشر، لم تكن الولايات المتحدة مجتمعاً رأسمالياً بالكامل؟ تظهر مشكلات مماثلة في تحليله لـ«عصر الفوضى»، وهو مصطلح يفضله على المصطلح الآخر الذي يراه إشكالياً؛ أي «النيو ليبرالية» الأكثر شيوعاً. فبحسب المؤلف: «ما يميّز عصر الفوضى أكثر هو التحول الدائم في الديناميكية الأساسية للرأسمالية: أي منطق الاستثمار، ودوره عبر الإنتاج والتبادل والاستهلاك». ويبدو هذا غير خاطئ من نواحٍ كثيرة. فهو محق في رؤيته تحول رأس المال نحو وسائل أكثر سيولة: كأسواق المشتقات المالية على سبيل المثال. كما أنه يقدم تحليلاً جيداً لكيفية تضمّن هذا الجانب هجوماً مقصوداً من طبقة الرأسماليين على العمال، بينما كانت الطبقة التجارية الأمريكية تعيد تنظيم نفسها. لكن بالإمكان توسيع هذه الحجة. فعلى سبيل المثال، الاستثمار ليس قوةً منفصلة عن الفاعلية البشرية، بل يتدفق عبرها. وكان باستطاعة ليفي التطرق إلى حجج تركز على استعادة السلطة الطبقية للرأسماليين في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حيث لم تكن استراتيجيات الاستثمار، كممارسة طبقية، مجرد نتيجة لتغيير رأس المال لأشكاله ذاتياً، أي بشروطه الخاصة، بل كانت نتيجة لتغيير الرأسماليين لاستراتيجياتهم الاستثمارية لتعزيز موقعهم الطبقي. وهناك سؤال سببي هنا يتعلق بالطبقات الاجتماعية ومواقعها وقوتها، سيكون مفيداً لو تعمّق المؤلف في مناقشته. العرق والجندر في الرأسمالية الأمريكية أما فيما يتعلق بالعرق والجندر، يدمج المؤلف هذه الجوانب إلى حد كبير في تاريخه، رغم وجود حدود. فمن اللافت، في تحليله الشامل، عدم تفاعله مع أعمال وليام إدوارد بورغاردت دو بوا W.E.B. Du Bois ، مثل كتاب «إعادة تشكيل السود في أمريكا Black Reconstruction in America »، وبشكل أكثر تحديداً، حجة دو بوا بأن «إضراب العبيد العام» لعب دوراً محورياً في إنهاء العبودية. وأوسع من ذلك، هذه جزء من قضية «الفاعلية التاريخية». فعلى الرغم من أن ليفي يتناول، على سبيل المثال، الحروب الاستعمارية بين المستوطنين البيض والشعوب الأصلية، إلا أن مقاومة المستعبَدين لا تلعب دوراً ذا شأن في روايته. لكن العبودية كمؤسسة تشكلت بفعل كل من المستعبَدين والمُستعبِدين. ويعكس هذا نمطاً أوسع في الكتاب (باستثناءات قليلة كمناقشاته لحركات العمال في أواخر القرن التاسع عشر والحركة الشعبوية) حيث تهمل غالباً المقاومة ضد رأس المال. فعلى سبيل المثال، بينما يعرض المؤلف سيراً ذاتية لرأسماليين مشهورين، لا يتناول حياة يوجين دبس السياسية، مما يقدم لنا في أحيان كثيرة سرداً أحادي الجانب للتاريخ الأمريكي يركز أكثر على النخبة من الطبقات الدنيا. وعندما نصل إلى القرن الحادي والعشرين، لا تحصل حركة «احتلوا وول ستريت» على أكثر من ذكر عابر. وبينما يركز تحليله للجندر على علاقة «المعيل-ربة المنزل»: من تأسيسها المبكر إلى انحسار الأسر المعتمدة على دخل واحد. فهو يقدم، متناثرة هنا وهناك، تحليلاً لما يعنيه انهيار هذا النموذج للذكورة في الولايات المتحدة. لكن تركيزه على علاقة المعيل-ربة المنزل يحول دون تحليل أوسع للجندر، وبالتحديد للمجتمعات التي لم تندرج في هذه العلاقة. فعلى سبيل المثال، لا تمنح عاملات المنازل السوداوات في الشمال الأمريكي ومجموعات الهامش المرتبط بها أي مساحة تُذكر. أما فيما يتعلق بدور الإمبريالية والاستعمار في التاريخ الأمريكي، يحق للمؤلف أن يشير، خاصة في المقاطع الأولى من الكتاب، إلى أن الولايات المتحدة بنيت كإمبراطورية استعمارية منتظمة حول التفوق الأبيض (رغم عدم تقديمه تفاصيل كافية عن ماهية التفوّق الأبيض وكيف تغير عبر الزمن). وعندما يصل إلى حرب العراق، يكتب: «كانت غزواً إمبريالياً بنمط الخصخصة». كما يوضح باستمرار أن صعود وهبوط الاقتصاد الأمريكي مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بإدماج الولايات المتحدة في الاقتصاد السياسي العالمي. لكن هذه الإشارات تحصل على اهتمام أقل بكثير من، على سبيل المثال، تحليل آليات التمويل الأمريكية، مما يُخاطر بتهميش مركزية الإمبريالية كعملية متواصلة في تاريخ الولايات المتحدة. ثمة بضع ملاحظات أخيرة: فبالإضافة إلى تفاعله الإشكالي مع ماركس، يتناول المؤلف، في نقطة ما، بإيجاز، أفكار أنطونيو غرامشي حول الفوردية. ويخلص إلى أن الشيوعية والفاشية والرأسمالية «استعارت من بعضها البعض، لكنها حاربت بعضها في صراع عالمي حتى الموت حول ما أسماه غرامشي ‹الهيمنة›». وهذا ادعاء غريب- كما حصل في القسم المتعلق بماركس، لا يقدم المؤلف مراجع محددة ليتحقق القارئ من دقة التفسير. ففكرة غرامشي عن الهيمنة، المشهورة، لم تكن بالضبط عن «صراع حتى الموت» بين ترتيبات اجتماعية متنافسة، بل أشارت إلى الطريقة التي تبني بها البورجوازية توافقاً مهيمناً للحكم الطبقي، وتحديداً في السياق الإيطالي، مع تساؤل عن كيفية تنظيم الطبقة العاملة لنفسها ضد هذا الهجوم. تظهر مشكلات مماثلة في ادعاءات المؤلف المتكررة بأن مثالاً أو دليلاً ما هو «الأفضل». طوال النص، خاصةً فيما يتعلق بالأفلام والروايات التي يستشهد بها ليفي لإثبات التأثير الثقافي للتغيرات الاقتصادية والسياسية، ويذكر غالباً أن مثالاً معيناً هو «الأفضل» دون مقارنته بغيره. ويفعل ذلك أيضاً في مناقشته للثورة الصناعية، حيث يقول: «أفضل تعريف ممكن للثورة الصناعية عموماً هو العملية التي يتحول فيها نمط الاستثمار بشكل قاطع نحو السلع الرأسمالية الوسيطة، مولداً عادات اقتصادية جديدة». لكن من غير الواضح لماذا هذا هو التعريف «الأفضل» أو كيف يمكنه منافسة تعريفات أخرى. فنحن مضطرون لأن نقبل كلام المؤلف دون ريب. أخيراً، تبدو الحلول السياسية التي يقترحها المؤلف لمشكلات الرأسمالية الأمريكية مُجزأة وغير واضحة. ففي الخاتمة يقول: «يلزم سياسة ديمقراطية لرأس المال. لإصلاح الرابط المكسور بين الرأسمالية والديمقراطية، يجب على السياسة أن تتقدم رأس المال في بداية العملية الاقتصادية، لإعادة تشكيل غايته». وهنا، نتساءل لماذا لا يأخذ في الاعتبار أن الديمقراطية- حسب نوعها- قد لا تتوافق مع وجود رأس المال أصلاً. ثم يقول: «أخلاقياً، يعتمد رأس المال على توقعات المستقبل، وهذه أعظم فضيلة محتملة فيه، فهي تحثنا على تخيّل إمكانية مستقبل نوعي مختلف وأفضل من الماضي، بما في ذلك مستقبل ما بعد الرأسمالية». فيبدأ أولاً باقتراح الحاجة إلى «سياسة ديمقراطية لرأس المال»، أي نسخة أكثر إنصافاً وأكثر ديمقراطية من الرأسمالية. ثم يتلاعب بمقولة أن التفكير في تاريخ الرأسمالية قد يتيح لنا التفكير في مستقبل ما بعد الرأسمالية. وبعد ذلك يقول: «ماذا يعني لحياة الاقتصاد الأمريكي أن يتحرر من أنماط عصر الفوضى، وأن يستثمر ويخطط لمستقبل اقتصادي مختلف وأفضل؟». وهنا، وباستخدامه كلمة «يستثمر»، يبدو أنه يعود مرة أخرى إلى شكل من أشكال الرأسمالية حيث لا يلغى رأس المال كعملية اجتماعية. في النهاية، يبقى غير واضح تماماً ما الذي يقترحه المؤلف سياسياً. وقد يعود هذا مرة أخرى إلى تفاعله الإشكالي مع ماركس والمناهج النقدية وتفسيرات التاريخ المتعلقة بالرأسمالية عموماً. يقدم كتاب «عصور الرأسمالية الأمريكية» نظرة عامة مفيدة عن التاريخ الاقتصادي الأمريكي، من صعود الشركات متعددة الجنسيات إلى تفاصيل السياسة النقدية في القرن الحادي والعشرين وصولاً إلى عمليات التمويل والكساد العظيم. وتسلط أقسامه الخاصة بالتمويل الضوء بشكل خاص، فهو يُظهر بإقناع كيف أن السياسات الاقتصادية عبر التاريخ استندت أقل إلى نظريات اقتصادية كبرى، وأكثر من ذلك يلقي مزيداً من الضوء على ردود فعل صانعي السياسات المتواصلة على الظروف الاقتصادية المتغيرة والأزمات. لكنه يكرر أيضاً مشكلة شائعة في العديد من أعمال «تاريخ الرأسمالية الجديد»: أي الإخفاق في التعامل مع المادية التاريخية بدقة، أو استكشاف الدروس التي قد تمنحنا إياها نقد ماركس للاقتصاد السياسي ومنهجه التاريخي حول تاريخ الولايات المتحدة والعالم على حد سواء. بوجه عام، يمكن قراءة الكتاب كموجز لنهاية الطريق الذي تصل إليه «التاريخ الرأسمالية الجديد»، باعتباره، أي الكتاب، تاريخ وصفي جيد، مدعوم إمبريقياً، لكنه يحتاج إلى تطوير مفاهيمي أعمق، مع تفاعل إشكالي مع النظريات النقدية للرأسمالية، ومتعثر سياسياً بين الديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية دون رؤية سياسية واضحة. .... *العنوان الأصلي: Portrait of the United States as a Developing Country https://www.bostonreview.net/articles/portrait-of-the-united-states-as-a-developing-country/ **العنوان الأصلي: Land of Capital . The history of the United States as the history of capitalism https://www.thenation.com/article/society/jonathan-levy-ages-of-capitalism/ *** العنوان الأصلي: Critical-limit-s of the “New” History of Capitalism https://spectrejournal.com/critical-limits-of-the-new-history-of-capitalism/ ..... هوامش الترجمة 1. الصفقة الجديدة New Deal سلسلة إجراءات من البرامج ومشاريع العمل العام والإصلاحات المالية واللوائح أقرها الرئيس فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة بين عامي 1933 و 1939. 2.الديمقراطية العنصرية العرقية Herrenvolk : نظام حكم تسيطر فيه الأغلبية العرقية على السلطة السياسية في البلد، دون منح الأقليات الأخرى أي حقوق من أي نوع. وتاريخ الكلمة الألمانية يبين أنها استخدمت في البداية لتوصيف "العرق الأساسي" السائد في المجتمع، وسرعان ما تم توظيفها في الخطاب الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر لتبرير التفوق الأوروبي على السكان الأصليين للمستعمرات، وأهم الأمثلة على تطبيق "الديمقراطية العرقية" سياسات الولايات الجنوبية للولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ونظام الحكم الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا, ولعل أبرز مثال معاصر على هذا نظام الحكم هذا هو مجتمع المستعمِرين اليهود الحاكم في فلسطين الآن. 3. يشير مصطلح المضاعف التجاري السميثي (Smithian Commercial Multiplier)الذي يقترحه الكاتب إلى آلية نمو اقتصادي تأسست في «عصر التجارة» (1660–1860) بالولايات المتحدة، والتعبير مستمد من أفكار كتاب آدم سميث «ثروة الأمم» (1776)، والتي تركز على التبادل الحر كمحرك للرخاء، والتوسع في السوق عبر تقسيم العمل والمتخصصين(مثل ربط المستعمرات بالأسواق العالمية)، وتعميق العلاقات التجارية محلياً وعالمياً. مما سيخلق تأثيراً مضاعفاً، حيث ستعزز كل عملية تبادل التخصص مما يؤدي إلى رفع الإنتاجية ومن ثم توسع السوق الذي سيحفز، بدوره، مزيداً من التبادل. في الواقع، لم يعتمد هذا «المضاعف» على مبادئ سميث المُثلى (كالمنافسة الحرة)، بل على نظام استغلالي اشتمل على العمالة القسرية( استيراد العبيد الأفارقة وتوسيع المزارع في الجنوب) والاستيلاء على أراضي السكان الأصليين وانفتاح الاحتكارات الاستعمارية على الصعيد العالمي. 4. يستخدم مصطلح الـويغ (Whig) للإشارة إلى فئة سياسية ظهرت في بريطانيا في القرن السابع عشر واستمرت تأثيراتها حتى القرن التاسع عشر. كانت حركة الويغ تتبنى العديد من المبادئ التي تتعارض مع حزب التوري، وعارضوا في البداية الحكم الاستبدادي للملوك ودعموا السلطة البرلمانية. أما في السياق الأمريكي، فيشير إلى الحزب السياسي الذي نشأ في معارضة حزب الديمقراطيين بقيادة أندرو جاكسون. كان حزب الويغ الأمريكي يشمل مجموعة من السياسيين الذين دعموا فكرة الحكومة الفيدرالية القوية، وأيدوا الاستثمار في البنية التحتية الوطنية، مثل تطوير شبكة النقل والنظام المصرفي. كان الويغ الأمريكي يعارض السياسات الاقتصادية التي تبناها جاكسون، مثل معارضة بنك الولايات المتحدة وسياسته المالية. كما كان يميل إلى تبني رؤية مناهضة للاحتكار، ويدافع عن الاقتصاد المختلط بين القطاعين العام والخاص، وكان يتطلع إلى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة من خلال مشاريع حكومية كبيرة. 5. المقصود بـ "خطوط ما قبل فوردية" (proto-Fordist lines) هو أن تنظيم العمل في مزارع القطن الكبرى قبل الحرب الأهلية الأمريكية كان يشبه، إلى حد ما، نظام الإنتاج الذي طوره هنري فورد لاحقاً في أوائل القرن العشرين، لكن من دون استخدام الآلات الحديثة أو خط التجميع الصناعي الكامل. علماً أن الفوردية (Fordism) تعني نظام التصنيع الذي أطلقه هنري فورد في أوائل القرن العشرين، حيث استخدم خطوط الإنتاج المتسلسلة وتقسيم العمل الصارم لزيادة الإنتاجية وتقليل التكلفة. وبناء على ذلك كان يعني تنظيم العمل ما قبل الفوردي في مزارع القطن تقسيمه بدقة إلى مهام محددة يؤديها الرقيق، مثل زراعة القطن، وجنيه، ونقله، ومعالجته، بحيث يعمل كل فرد في جزء معين من العملية دون الحاجة إلى التحكم في الإنتاج ككل. بكلام آخر. كان هناك تقسيم منهجي للعمل، حيث تخصصت مجموعات من الرقيق في مراحل معينة، مما زاد الكفاءة والإنتاجية. لم يكن هذا التنظيم يعمل آلياً كما هو الحال في مصانع فورد، لكنه كان تنظيم مدروس يهدف إلى تحقيق أقصى إنتاجية بأقل جهد ممكن من قبل مالكي العبيد. ويظهر التشابه الجزئي بين النظامين أن العبودية لم تكن مجرد نظام اجتماعي ظالم، بل كانت أيضاً نظاماً إنتاجياً منظماً بشكل دقيق أسهم في تراكم ثروة هائلة للولايات الجنوبية، على حساب استغلال العبيد بشكل وحشي. 6. يشير المضاعِف الاستثماري الصناعي (Industrial Investment Multiplier) إلى التأثير المتسلسل أو التراكمي للاستثمار الصناعي على الاقتصاد، حيث يؤدي الاستثمار الأولي في قطاع معين إلى توليد استثمارات إضافية وفرص اقتصادية جديدة، مما يعزز النمو الاقتصادي بشكل أكبر من حجم الاستثمار الأصلي نفسه. فعندما تستثمر الشركات أو الحكومات في البنية التحتية الصناعية (مثل إنشاء المصانع، وتوسيع شبكات النقل، وبناء المرافق)، سوف يخلق هذا الاستثمار، من ناحية، وظائف مباشرة في قطاع التصنيع والبناء. ومن ناحية أخرى سوف ينفق هؤلاء العمال أجورهم على السلع والخدمات، مما يحفز قطاعات أخرى مثل التجارة والخدمات المالية والتوزيع. مما يؤدي إلى زيادة الطلب على المواد الخام والمعدات والخدمات اللوجستية، فيدفع شركات أخرى إلى التوسع والاستثمار أيضاً، ومع الوقت سيتولد نمط متصاعد من النمو الصناعي والتوسع الاقتصادي سواء بسواء، بحيث يدفع كل استثمار جديد المزيد من الاستثمارات الأخرى. ويقصد ليفي بالإشارة إلى هذا المفهوم، بأن الاستثمار في البنية التحتية للنقل والأسواق في الشمال أدى إلى تدفق رؤوس أموال جديدة إلى قطاعي التصنيع والتجارة، مما خلق شبكة من المصانع والتجار والممولين. وهذا أدى، بدوره، هذا التوسع إلى تعزيز التكامل الاقتصادي عبر السكك الحديدية، مما ساعد في بروز مرحلة جديدة من الرأسمالية الأمريكية. بمعنى آخر، لم يكن الاستثمار في النقل والتصنيع مجرد إنفاق مالي، بل كان له أثر مضاعِف أسهم في تحفيز نمو اقتصادي واسع وأعاد تشكيل الاقتصاد الأمريكي ككل. 7. تشير Greenbacks إلى الأوراق النقدية التي أصدرتها الحكومة الفيدرالية الأمريكية خلال الحرب الأهلية (1861-1865) لتمويل نفقات الحرب. كانت تعرف هذه الأوراق بهذا الاسم بسبب لونها الأخضر من الخلف. لم تكن هذه الأوراق النقدية مدعومة بالذهب أو الفضة عند إصدارها، بل استندت قيمتها إلى ثقة الناس بالحكومة. وقد ساعدت في تمويل جهود الاتحاد الحربية، لكنها أدت لاحقاً إلى نقاشات حول التضخم، وقيمة العملة، ومعيار الذهب بعد انتهاء الحرب. 8. المقصود بمصطلح «الإصلاحيون الشماليون الشرقيون» (Northeastern Progressives): التيار الإصلاحي الذي ظهر في الولايات المتحدة خلال مرحلة العصر الإصلاحيProgressive Era في التاريخ الأمريكي (نحو 1890–1920)، وارتبط بمنطقة الشمال الشرقي الأمريكي (مثل ولايات نيويورك، ماساتشوستس، بنسلفانيا)، التي كانت مركزاً للصناعة، والتمويل، والمؤسسات الأكاديمية والثقافية آنذاك. كان هؤلاء الإصلاحيون ينتمون غالباً إلى الطبقة الوسطى الحضرية، والمثقفين، والسياسيين الليبراليين، وكانوا يدعون إلى تحديث الحكومة عبر تعزيز الكفاءة الإدارية ومكافحة الفساد السياسي. وتنظيم الاقتصاد عبر تشريعات مكافحة الاحتكارات (مثل قانون شيرمان)، وفرض ضرائب تصاعدية (مثل ضريبة الدخل لفيدرالية عام 1913). والقيام بإصلاحات اجتماعية تدعم حقوق العمال، وتحسين ظروف العمل، وحماية المستهلك. إلى جانب توسيع دور الدولة في ضبط السوق الرأسمالي لمصلح العدالة الاجتماعية. وقد استفادت إدارة وودرو ويلسون (1913–1917)، من هذه الأفكار لتمرير سياسات مثل خفض التعريفات الجمركية، وفرض ضرائب على الشركات، وإنشاء نظام ائتماني للمزارعين، رغم اعتماد الرئيس ويلسون على دعم الكونغرس الديمقراطي الزراعي (الممثل للمصالح الجنوبية والغربية). شكل هذا المزيج بين المصالح الزراعية الجنوبية ورؤية الإصلاحيين الصناعيين الشماليين تحالفاً سياسياً غير تقليدي، مهد لسياسات الصفقة الجديدة لاحقاً. ولا بد من التذكير أن هؤلاء الإصلاحيين الشماليين يختلفون عن الشعبويين (Populists) الذين ركزوا على مطالب المزارعين في الجنوب والغرب، بينما ركز «الإصلاحيون الشماليون» على قضايا المدن والصناعة، رغم تداخل بعض أهدافهم (كمعارضة الاحتكارات). في التاريخ الأمريكي، الذي ركز على إصلاحات مؤسسية واقتصادية واجتماعية داخل إطار الرأسمالية، وليس تغيير النظام جذرياً. 9. يشير مصطلح «حزام الشمس» Sun Belt إلى مجموعة من الولايات الأمريكية الواقعة في الجنوب والغرب (مثل كاليفورنيا، تكساس، فلوريدا، أريزونا، كارولينا الشمالية) التي شهدت نمواً اقتصادياً وسياسياً هائلاً بعد الحرب العالمية الثانية، مدفوعاً بعوامل رئيسية، مثل الاستثمار الدفاعي واقتصاد الحرب الباردة، والتحول الديمغرافي والصنعي، والاختلاف السياسي والاقتصادي. فقد ركزت الحكومة الفيدرالية خلال الحرب الباردة استثماراتها الضخمة في الصناعات العسكرية والفضائية (مثل قواعد سلاح الجو، مصانع الطائرات، مشاريع التكنولوجيا) في هذه المنطقة، نظراً لاتساع مساحاتها، وقربها من سواحل المحيط الهادئ والأطلسي، ومرونة لوائحها التنظيمية. كما أسهمت التعبئة الحربية خلال الحرب العالمية الثانية و«الحرب الكورية» و«الدولة الأمنية الوطنية» الدائمة أثناء الحرب الباردة في دعم هذا النمو، مما جعل الحزام الشمسي مركزاً للاقتصاد القائم على الإنفاق الدفاعي. الأمر الذي دفع أعداداً كبيرةً من السكان للتوجه إلى تلك الولايات قادمين من مناطق الشمال الشرقي (أو ما يعرف بمنطقة «حزام الصدأ» Rust Belt) بحثاً عن فرص عمل في الصناعات الجديدة، إلى جانب المناخ الأكثر اعتدالاً، وتكلفة المعيشة الأقل. أسهمت هذه "الطفرة" في نشوء مدن كبرة مثل لوس أنجلوس وهيوستون وأتلانتا كمراكز صناعية وتكنولوجية، مدعومة بسياسات فيدرالية مثل الإسكان الحكومي (عبر الإدارة الفيدرالية للإسكان) التي شجعت التوسع العمراني والضواحي السكنية التقليدية (المرتبطة بنموذج «الأسرة النووية»). أصبح حزام الشمس في العقود اللاحقة قاعدة للحزب الجمهوري، نظراً لسياساته المعروفة بالتركيز على اقتصاد السوق الحر، وعدم الاعتماد على النقابات، وجذب الشركات عبر حوافز ضريبية. وفي العموم لا يقصد بالمصطلح مجرد وصف جغرافي وحسب، وإنما يستخدم أيضاً لوصف التحول الجيوسياسي والاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة خلال القرن العشرين، وأصبح حزام الشمس في الثقافة الأمريكية الشعبية رمزاً لـ «الرخاء المشترك» المزعوم في حقبة ما بعد الحرب، رغم أنه استند إلى هيمنة الرأسمالية العسكرية والتفاوت الاجتماعي كما هو مبين في النص. 10. يشير مصطلح «الخطوط الحمراء أو الرسم الأحمر» إلى ممارسة تمييزية مؤسسية كانت متبعة في الولايات المتحدة منذ ثلاثينيات القرن العشرين، حيث كانت الجهات المالية والحكومية تصنف الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية من السود والأقليات بأنها «منطقة مُحاطة بخط أحمر» (على الخرائط) باعتبارها ذات مخاطرة اقتصادياً، مما يؤدي إلى رفض منح قروض الإسكان أو التأمين العقاري لأصحاب المنازل في هذه المناطق. وحرمان المجتمعات من الاستثمارات العامة والخاصة (مثل تجديد البنية التحتية، أو فتح متاجر). وسوف تؤدي هذه التدابير إلى تعميق التمييز العنصري المكاني عبر إجبار الأقليات على العيش في أحياء مُهمشة. للمصطلح جذور تاريخية وبيروقراطية ففي ثلاثينيات القرن العشرين، أي خلال حقبة «الصفقة الجديدة»، أنشأت لجنة قروض ملاك المنازل (HOLC) خرائط تُصنف أحياء المدن الأمريكية بألوان كالتالي -الأخضر: «أفضل» (أحياء بيضاء). -الأحمر: «مخطر» (أحياء سوداء أو مختلطة). وكانت الإدارة الفيدرالية للإسكان (FHA) ترفض ضمان القروض في المناطق المحاطة بخط أحمر، وفق سياسات رسمية وصفتها دليلها الإرشادي (1936) بأنها «تجنب المناطق ذات المجموعات العرقية غير المتجانسة». مما أدى إلى حرمان السود من تملك المساكن وهذا أدى يدوره إلى منعهم من الدخول في سوق العقارات المزدهر في الضواحي البيضاء، فقطع عليهم فرصة تكوين ثروة عبر ارتفاع قيمة الممتلكات. وبسبب تدهور الأحياء "الحمراء" فقد أدى انعدام الاستثمار إلى تردي الخدمات والبنية التحتية، مما زاد الفقر والجريمة. وأسهم في استمرار الفجوة الاقتصادية، وحتى بعد حظر هذه الممارسة قانونياً («قانون الإسكان العادل» 1968)، ظلت آثارها جلية في الفوارق في الثروة بين البيض والسود حتى اليوم. في السياق، يربط ليفي بين هذه السياسة المُؤسسية وتعميق التفاوتات الاقتصادية عبر توجيه استثمارات الإسكان الحكومي نحو الضواحي البيضاء (عبر سياسات FHA). وحرمان السود من الوصول إلى رأسمالية المساكن كوسيلة لبناء الثروة، حتى مع تشريعات «المجتمع العظيم» التي ركزت على المساواة السياسية دون الاقتصادية. والإسهام في نشوء السجن الجماعي، حيث أدت البطالة والفقر الناتجين عن هذه السياسات إلى زيادة التهميش وانعدام الفرص، مما يُفسر إحصائية حبس السود أكثر من تخرجهم من الجامعة. وضمن الثقافة الأمريكية لا يشير المصطلح إلى ممارسة فردية فقط، بل إلى نظام مؤسسي تغذيه الحكومة الفيدرالية، وهو بهذا المعنى مثالاً واضحاً على كيفية استخدام السياسة الاقتصادية كأداة للتمييز العنصري، حتى في حقبة الإصلاحات التقدمية المُعلنة. أما اليوم، فيستخدم المصطلح أحياناً بشكل أوسع لوصف أي حرمان من الخدمات بناءً على الخلفية العرقية أو الاجتماعية، لكن جذوره التاريخية متجذرة في سياسات الإسكان الأمريكية. 11. المقصود بـ«ظاهرة الحجز الجماعي» (Mass Incarceration)، الارتفاع الهائل في معدلات السجن في الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن العشرين، مع تركيز غير متناسب على السود والأقليات، نتيجة لسياسات نظامية تدمج بين التحيز العنصري والسياسات الاقتصادية والجنائية. ويعزو هذه الظاهرة إلى جذور نظامية (أي ليس جذوراً فرديةً) وسياسة جنائية تمييزية، فالإقصاء الممنهج للسود حرمهم من الفرص الاقتصادية عبر سياسيا الرسم الأحمر (redlining) الذي منعهم من تملك المساكن في الضواحي البيضاء. وعبر • «التجديد الحضري» الذي دمر أحياءهم في المدن الشمالية وأزال الصناعات التي توفر وظائف مستقرة (مثل حزام الصناعة). وهذا أدى إلى فقر مزمن وانعدام الفرص، مما جعل المجتمعات السوداء عرضة للاستهداف الأمني أكثر من الاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية. كما أسهمت بعض السياسات التمييزية، مثل حملات «الحرب على المخدرات» (التي بدأها نيكسون وعززها ريغن) والتي ربطت بين الفقر والأحياء المُهمشة والجريمة، إلى فرض عقوبات قاسية (مثل الحد الأدنى الإلزامي للأحكام)، وتحويل السجون إلى أداة للتحكم الاجتماعي، خاصة بعد انهيار الصناعة، حيث أصبح السجن بديلاً عن توفير فرص العمل أو التعليم. وكما يلاحظ النص، فقد ركزت برامج مثل الصفقة الجديدة و«المجتمع العظيم» على المساواة السياسية دون الاقتصادية، بينما استمرت السياسات المالية (مثل دعم الضواحي البيضاء عبر الإسكان الحكومي) في تعميق التفاوت. وبعض الإحصائيات تظهر تفاوتاً واضحاً بين السود والبيض فالذكور السود المولودين بين 1965–1969 كانوا أكثر عرضة لأن يُسجنوا من أن يتخرجوا من الجامعة، كما زاد السياسات ما بعد الصناعية (تحول الاقتصاد إلى مضاربات مالية ووظائف خدماتية منخفضة الأجر "خاصة في «حزام الشمس") من الهشاشة الاقتصادية، مما سهّل تبرير السجن كـ«حل» للبطالة والفقر. وتحول السجون إلى "صناعة" وخصخصتها وربط تمويلها بعدد المحتجزين، مما حوّل البشر إلى سلعة. إلى جانب حرمان النزلاء السابقين من الحقوق المدنية مثل من حق التصويت أو العمل في مجالات معينة، مما يعيد إنتاج الفقر عبر الأجيال. وتحول السجن إلى أحد حلول الإقصاء العنصري والاقتصادي. 12. حركة حزب الشاي (2009–2010) توجه سياسي داخل الحزب الجمهوري محافظ لجهة الإجراءات المالية، يدعو إلى خفض الضرائب، والديْن القومي وعجز الميزانية الفيدرالية من خلال خفض الإنفاق الحكومي، كرد فعل على تحفيز أوباما الاقتصادي بعد أزمة العام 2008. وحسب النص، أدت هذه الحركة إلى تراجع أوباما عن سياساته التحفيزية (التي وُصفت بأنها "متحفظة أكثر من اللازم") وتبنّيه لسياسات تقشفية بعد العام 2010، مما عزز هيمنة الليبرالية الجديدة. يتكون تيار حركة حزب الشاي من تحالف إيديولوجي واسع يربط بين الليبرالية المالية، الداعمة لاقتصاد السوق الحر وخصخصة الخدمات، والشعبوية اليمينية، التي تعمل على التحريض ضد "الطبقة السياسية" والحكومة الفيدرالية، إلى جانب جهات وأفراد يتبنون "ضمنا" توجهات عنصرية، تربط "الرفاهية" بدعم الفقراء السود، كما في نقاشات إلغاء قانون الرعاية الصحية "أوباما كير". وقد أسهم هذا التحالف في تغذية الاستقطاب وتهيئة الأرضية لصعود ترامب، كما يشير النص إلى أن الحركة ساعدت في صعود الجناح اليميني الشعبوي الذي استطاع وضع دونالد ترامب في السلطة في العام 2016. ما يميز طرح ليفي هو اعتباره حركة حزب الشاي انعكاساً لـ ـ"الرأسمالية المالية" التي سادت منذ ثمانينيات القرن العشرين، التي دعت لأولوية مصالح رأسمال المالي (مثل خفض الضرائب على الشركات) على حساب الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الاجتماعية. وتحويل النقاش السياسي من التنمية الاقتصادية الشاملة إلى مفاوضات حول حجم الحكومة، مما أعاق إمكانية سياسات تعيد توزيع الثروة. غير أن النص تغافل عن توجيه نقد كافٍ للجذور العنصرية للحركة (مثل استخدام خطاب "الإفلاس الوطني" للتحريض ضد برامج المساعدة الاجتماعية التي يستفيد منها السود). وفي هذا الصدد لم تكن الحركة مجرد دعوة لخفض الإنفاق، وإنما ذراع سياسي للسياسات النيوليبرالية التي بدأت في عهد ريغان، والتي تدمج بين خصخصة القطاع العام، وضعف النقابات، وتحرير الأسواق المالية. لعبت حركة حزب الشاي دوراً إيديولوجياً واضحاً في تحويل الحزب الجمهوري من حزب مؤيد للحرب والحكومة القوية (في عهد بوش) إلى حزب داعم لليبرالية المالية والشعبوية. وتعزيز فكرة أن الدولة هي المشكلة (وليس فشل الرأسمالية)، مما أعاق أي محاولة لإصلاح نظام ما بعد العام 2008 بشكل جذري. وإذن هذا بالضبط ما يقصده النص عندما يقول إن أزمة العام 2008 لم تُنتج "عصراً جديداً" للرأسمالية، بل أنتجت نوعاً من استمرارية لـ«الفوضى» التي تتحكم فيها النخب المالية بالسياسة عبر آليات مثل حركة حزب الشاي. 13. حزام الصدأ Rust Belt جزء من ولايات الغرب الأوسط والشمال الشرقي الأمريكي تتميز بانخفاض الصناعة وعدد السكان. وكما كمر معنا عن حزام الشمس(انظر الهامش 9.)، لا يقصد بحزام الصدأ المعنى الجغرافي فقط، بل هو مجاز تحليلي لفهم الطرق التي تعيد فيها الرأسمالية إنتاج التفاوتات عبر نقل الأزمات من منطقة إلى أخرى، وكيف تشكل- هذه الرأسمالية- جغرافيتها السياسة، :فانهيار حزام الصدأ سمح لليمين الشعبوي (مثل ترامب) باستغلال الغضب الطبقي، بينما حول حزام الشمس الحزب الجمهوري إلى حزب المليارديرات والطبقة الوسطى البيضاء. في مرحلة سابقة من تاريخ الولايات المتحدة كانت مناطق وولايات حزام الصدأ مركزاً للصناعة الثقيلة (مثل الصلب والسيارات) في "عصر رأس المال" (1860–1932) و"عصر السيطرة والضبط" (1932–1980) لكنها شهدت انهياراً تدريجياً بدءً من سبعينيات القرن العشرين بسبب هجرة الاستثمارات إلى الخارج أو إلى "حزام الشمس" وانهيار مصانع التصنيع التقليدي (مثل مصانع ديترويت). إلى جانب ارتفاع البطالة وانخفاض السكان (هجرة الشباب إلى مناطق أكثر حيوية). ويربط النص هذا المعنى بالبنية الاجتماعية والعنصرية، فقد سهل «التجديد الحضري» المُدار بشكل خاطئ نقل الاستثمارات من حزام الصدأ إلى حزام الشمس، مما دمّر فرص العمل الصناعي التي كانت دعامة النهوض الاقتصادي للسود الذين هاجروا من الجنوب إلى الشمال خلال «الهجرة الكبرى». كما عزز سياسات الفصل العنصري الاقتصادي عبر توجيه الاستثمارات نحو الضواحي البيضاء في حزام الشمس (مثل سياسات FHA).). ونتيجة ذلك، أصبح حزام الصدأ رمزاً للانحدار الطبقي، بينما حوّل حزام الشمس الرأسمالية نحو أرباح سريعة (المضاربات المالية والعقارات) وولم يحولها إلى عمليات إنتاج مادي. وكان لهذا التحول تأثيرات سياسية مهمة، فقد كان حزام الصدأ يمثل قاعدة انتخابية مهمة للحزب الديمقراطي بسبب النقابات العمالية القوية. ولكن مع انهيار الصناعة، تحولت مناطق منه إلى تأييد ترامب في انتخابات العام 2016 (مثل مقاطعة «يورك باند» في بنسلفانيا) بسبب الغضب من خسارة الوظائف وغياب الحلول التنموية. ومن تلك التحولات أيضاً، يمكن الإشارة إلى ما يعرف بـ "النموذج الحاكم"، فقد باتت سياسات حزام الشمس (مثل خصخصة الخدمات، وضعف النقابات، والمرونة التنظيمية) نموذج فيدرالياً قابلاً للتعميم، ولعل هذا السبب هو الذي دفع مؤلف الكتاب إلى القول إن «اقتصاد ما بعد الحرب برز مع هيمنة حزام الشمس»، بينما بقي حزام الصدأ هامشياً في السياسات الوطنية. على أنه، من ناحية أخرى، لم يكن انهيار حزام الصدأ "كارثة طبيعية" أو "انهياراً حتميا"، ولكنه كان نتيجة خيارات أو اختيارات سياسية صرفة (مثل إنهاء ضوابط رأس المال في عهد ريغان) التي فضّلت مصالح حزام الشمس. علماً أن النص لا يتطرق إلى مراجعات أخرى شديدة الأهمية مثل تأثير الاستعمار الداخلي Internal Colonialism (مثل معاملة السكان الأصليين في الشمال الغربي، كحالة هيمنة تمارسها الدولة على أجزاء من المجتمع، عبر التمييز الاقتصادي والسياسي والثقافي ما يجعلها أشبه بمستعمرات داخل الدولة. وهو مفهوم طوره عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بلاونر في كتابه الشهير القمع العنصري في أمريكا"Racial Oppression in America" 1972) أو الاستثمار الأمريكي في أمريكا اللاتينية كعوامل مكّنت من تحويل حزام الصدأ إلى منطقة "مهملة". في الثقافة الأمريكية، يشير تعبير حزام الصدأ إلى الرأسمالية الأمريكية القديمة التي هُجرت لفائدة نموذج جديد (حزام الشمس) يقوم على المضاربة والعنصرية الاقتصادية. 14. هجوم تيت Tet Offensive: عبارة عن سلسلة منسقة من الهجمات قامت بها قوات الفيتكونغ والجيش الشعبي الفيتنامي الشمالي بدأت في 30 كانون الثاني1968 على أكثر من 100 مدينة وبؤرة سكنية وأماكن تواجد قوات الجيش الفيتنامي الجنوبي والقوات الأمريكية في جنوب فيتنام. بغرض محاولة خلق حالة من عدم الاستقرار وإثارة التمرد بين سكان فيتنام الجنوبية وتشجيع الولايات المتحدة على تقليص مشاركتها في حرب فيتنام. والاسم مشتق من مهرجان السنة القمرية باللغة الفيتنامية الذي صادف موعد الهجوم حيث كان معظم أفراد الجيش الفيتنامي الجنوبي في إجازة. يقترح ليفي أن هذا الهجوم ربما يكون بمنزلة النهاية المبكرة لعصر السيطرة والضبط (1932–1980)، متخطياً عقد الثمانيات المتمثل بسياسات ريغان كنهاية لهذا العصر. لأنه كان أكثر من معركة عسكرية، إذ يعبر بوضوح عن نقطة انعطاف في العلاقة بين الحرب والرأسمالية الأمريكية، من حيث إنه كشف عن فشل الولايات المتحدة في السيطرة على فيتنام، مما أدى إلى زعزعة الثقة في الدولة الأمنية القومية التي بُني عليها ازدهار ما بعد الحرب (مثل تحالف الصناعة العسكرية مع حزام الشمس). كما أدت الصدمات النفسية للهجوم إلى تصاعد الحركة المناهضة للحرب في الولايات المتحدة، مما أضعف التوافق السياسي حول «الإجماع الليبرالي» الذي دعم الصفقة الجديدة. فإذا كانت الولايات المتحدة تقدم نفسها-قبل الهجوم- بصفتها قوة لا تُقهَر قادرة على إدارة الاقتصاد العالمي عبر مؤسسات مثل اتفاقات بريتون وودز، فقد هز إخفاق الجيش الأمريكي في صد الهجوم رغم التفوق التكنولوجي ثقة الأسواق في هيمنة الدولار. وسارع في ظهور أزمة الذهب التي أدت إلى إلغاء نيكسون تحويل الدولار إلى ذهب في العام 1971 (وهو ما يمثل حدثاً مركزياً في نقل الاقتصاد إلى "عصر الفوضى" حسب تصنيف ليفي). كما عمل هجوم الفيتكونغ في تبخر أحلام "الإمبراطورية الليبرالية" وإعاقة، ولو مؤقتاً، آليات توسع الرأسمالية الأمريكية عبر الأسواق العالمية. فظهرت هذه الإمبراطورية أنها قابلة للاختراق، مما دفع النخب الاقتصادية إلى البحث عن ملاذات آمنة، وتحويل الاستثمارات من الصناعة إلى المضاربات المالية (كمقدمة لعصر الفوضى... ودائما حسب تصنيف ليفي) ودعم سياسات خصخصة الجيش. وعلى صعيد قطاعات أخرى، كان لتصاعد الاحتجاجات ضد الحرب بعد هجوم "تيت" تأثير واضح على الطبقة العاملة الأمريكية، إذ حوّلت الحكومة الموارد من الرعاية الاجتماعية إلى التمويل الحربي، مما أهمل برامج عدة، مثل برنامج الرئيس جونسون «المجتمع العظيم» ولعب هذا دور غير مباشر في هجرة العمال من حزام الصدأ إلى حزام الشمس، حيث الوظائف منخفضة الأجر في قطاع الخدمات . بينما يركز ليفي على الهجوم كعامل في تحول الرأسمالية، فإن التحليل الماركسي النقدي (الذي ينتقد إهماله) يرى أن الحدث كشف تناقضات الإمبريالية، فالحرب في فيتنام لم تكن «دفاعاً عن الديمقراطية»، بل محاولة للسيطرة على أسواق جنوب شرق آسيا ذات الربحية العالية (قطن فيتنام على سبيل المثال). فضلاً عن أن فشل الهيمنة العسكرية أظهر أن رأس المال الأمريكي أصبح معتمداً على العنف المباشر للحفاظ على النمو، مما كشف هشاشة النموذج. في الواقع، هجوم تيت ليس مجرد حدث عسكري، بل رمز لانهيار الإطار الذي بُني عليه "عصر السيطرة الضبط" كما يرى ليفي، حيث كانت الهيمنة الأمريكية تُمول عبر الحرب والاستعمار الاقتصادي لدعم نموذج استهلاكي داخلي. وسقوط هذا الإطار يفتح الباب واسعاً أمام النزعة النيوليبرالية (عصر الفوضى)، حيث استبدلت النخب السيطرة العسكرية المباشرة بـالسيطرة المالية غير المباشرة(مثل ديون الدول النامية). فالتاريخ الاقتصادي لا ينفصل عن التاريخ السياسي والحرب. 15. قانون غلاس-ستيغال لعصر الصفقة الجديدة (Glass-Steagall Act of 1933) صدر في العام 1933 كجزء من حزمة إصلاحات الصفقة الجديدة لمواجهة آثار الكساد العظيم. وأخذ اسمه من اسم السيناتور كارتر غلاس (من فرجينيا) والنائب هنري ستيغال (من ألاباما). وكان يهدف إلى فصل البنوك التجارية (التي تتعامل مع ودائع الأفراد والقروض التقليدية) عن بنوك الاستثمار (التي تُمول المضاربات المالية، مثل تداول الأسهم والسندات). ومنع البنوك من استخدام أموال المودعين (في البنوك التجارية) في عمليات مخاطرة عالية المخاطر (مثل المضاربة في سوق الأسهم)، والتي اعتبرت أحد أسباب انهيار العام 1929. وجاء القانون رداً على انهيار آلاف البنوك الأمريكية خلال الكساد العظيم، حيث خسر المودعون مدخراتهم بسبب مخاطرات البنوك في السوق المالية. كما عبر عن جزء من رؤية فرانكلين روزفلت لـ«إعادة بناء الثقة» في الاقتصاد عبر ضبط الرأسمالية المالية وحماية الطبقات الوسطى والعاملة. أُلغي جزءً رئيساً من القانون (البند 20) في العام 1999 عبر قانون غرام-ليتش-بلايلي (Gramm-Leach-Bliley Act)، مما سمح للبنوك الكبيرة بأن تدمج بين الخدمات التجارية والاستثمارية. ويعتقد بعض أهل الاختصاص أن هذا الإلغاء كان سبباً أساسياً للأزمة المالية التي عصفت بالبلاد في العم 2008، حيث أدت مخاطر البنوك غير المنضبطة (مثل الرهون العقارية المُعقدة) إلى انهيار النظام المالي. ويشير النص إلى أن هذا الإلغاء من قبل إدارة بيل كلينتون (باستشارة وزير الخزانة روبرت روبن) يعكس تحولاً إيديولوجياً من تنظيم الدولة (في عصر الصفقة الجديدة) إلى ليبرالية السوق في مرحلة «الفوضى» الرأسمالية حسب النص. 16. المقصود بسياسة «الباب المفتوح» (Open Door Policy) الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي ركزت على الوصول الحر وغير المقيد للأسواق الصينية أمام جميع الدول، ومنع أي قوة استعمارية (مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان) من احتكار التجارة أو تقسيم الصين إلى مناطق نفوذ. ويعود الأمر إلى العام 1899 حين أصدر وزير الخارجية الأمريكي جون هاي (John Hay) ما عُرف بـ«مذكرات الباب المفتوح» (Open Door Notes)، داعياً القوى الكبرى إلى احترام المساواة في الفرص التجارية لجميع الدول في الصين. وعدم فرض رسوم جمركية تمييزية في مناطق نفوذها. والحفاظ على وحدة الأراضي الصينية (رغم أن هذا كان ذريعةً لتجنب انهيار الصين إلى دويلات خاضعة لقوى مختلفة). وكان الهدف الخفي من وراء هذا حماية المصالح الاقتصادية الأمريكية في الصين، حيث كانت الشركات الأمريكية (مثل شركات النفط والنحاس) تسعى لدخول السوق الآسيوية دون مواجهة حواجز استعمارية. وقد مثل استراتيجية الباب المفتوح هذه المرحلة المبكرة من العولمة الرأسمالية، حيث سعت الولايات المتحدة إلى تحويل الصين إلى سوق استهلاكي للبضائع الأمريكية. وقد فضلت الولايات المتحدة، ضمن استراتيجياتها الإمبريالية، السيطرة الاقتصادية على الاحتلال العسكري المباشر (على عكس القوى الأوروبية). بهدف الربط الآمن للاقتصاد المحلي الأمريكي (مثل مصانع التصدير في الشمال الشرقي) بالأسواق العالمية. وسوف تتطور هذه الاستراتيجية، بعد الحرب الثانية، لجهة خلق نموذج للرأسمالية المعولمة، ولاسيما مع هيمنة الشركات متعددة الجنسيات. 17. المقصود قوانين جيم كرو التي فرضت الفصل العنصري في جميع المرافق العامة في جنوب الولايات المتحدة" أي الولايات الكونفدرالية السابقة"، في أواخر القرن التاسع عشر. بقيت قوانين جيم كرو قائمة حتى العام 1965 18.كان مزارعو ناشفيل أو مزارعو فاندربيلت، أو المزارعون الجنوبيون، مجموعة من اثني عشر كاتباً وشاعراً وكتاب مقالات وروائيين أمريكيين، وجميعهم ينتمون إلى الولايات الجنوبية، أصدروا بياناً زراعياً مؤيداً للجنوب، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات نُشرت في العام 1930. شكل المزارعون الجنوبيون فرعاً مهماً من الشعبوية الأمريكية. وأسهموا في إحياء الأدب الجنوبي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي المعروف الآن باسم عصر النهضة الجنوبية. كان معظم هؤلاء الكتاب إما مدرسين أو طلاب في جامعة فاندربيلت في ناشفيل- تينيسي. 19. رأس المال (بالألمانية: Das Kapital, Kritik der politischen Ökonomie: رأس مال: نقد الاقتصاد السياسي) من تأليف كارل ماركس ويمثل جوهر نظرية الاقتصاد السياسي والفلسفة المادية الماركسيتين، يشرح فيه ماركس الأنماط الاقتصادية التي يقوم عليها نمط الإنتاج الرأسمالي بشكل مختلف عن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الذي أتى به آدم سميث وجان بابتيست ساي وديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل. يتألف من ثلاثة مجلدات، أنجزه ماركس في العام 1867، وكان زميل ماركس فريدريك إنغلز قد جمع وأتمّ المجلدان الثاني الثالث منه بعد وفاة ماركس. ويُنظر إلى كتاب رأس المال على أنه من أهم الأعمال الفكرية التي صدرت في القرن التاسع عشر، ويعد من المنجزات الفكرية الكبرى في ذلك العصر، رفقة كتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، و"نقد العقل المحض" لكانط، عدا عن أنه أهم كتاب تأسيسي للعلوم الاقتصادية بجانب كتاب آدم سميث "ثروة الأمم". 20. لم يستخدم ماركس أو إنغلز مصطلح الإفقار أو "نظرية الفقر". لقد صاغ ماركس قانوناً عاماً عن التراكم الرأسمالي الذي يؤدي إلى افقار البروليتاريا شيئاً فشيئاً، وه ما يفسر على أنه تنبؤ "ملموس" فتطور الرأسمالية سوف يؤدي بلا شك إلى تفاقم في وضعية طبقة البروليتاريا، مما سوف خلق وعياً لدى تلك الطبقة وإرادة تجعلهم يثورون ضد من تسبب ببؤسهم، ولعل فكرة ماركس هذه هي التي أدت، فيما بعد، إلى تطور الأفكار التي تدور حول إفقار الطبقة العاملة.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى
-
كيف يصبح الخوف مصنعاً لحكايات -الغولة-
-
أنطولوجيا الخوف في ظل الدولة الأسدية
-
من -الكيانية- إلى -الفلسطينيزم-: تحولات الوعي الفلسطيني بين
...
-
المثقف السمسار والمستعمِر: التبعية والهيمنة
-
ما بعد إيران: صعود نموذج -القوة الوظيفية- وانحسار استراتيجية
...
-
رائحة الحياة الأولى: حكاية الجيوسمين
-
إيران في عمق التداعيات والتحولات الجيوسياسية: هامش تحليلي
-
حدود السلطة على النص
-
العقوبات الاقتصادية على إيران: هندسة جديدة للشرق الأوسط
-
ما بعد الطوفان : تفكك -الهلال الشيعي- والنظام الإقليمي الجدي
...
-
من بلفور إلى ترامب: الدلائل الجوهرية
-
الحصار الأخلاقي: عن عسكرة التفوق اليهودي في إسرائيل
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (47)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (46)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (45)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (44)
-
The Company You Keep حلم ثورة لم تأتِ
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (43)
-
ثمة مدزرة هنا :الصورة التي نزفت معناها
المزيد.....
-
المغرب: أول رد فعل رسمي على تسريبات مثيرة للجدل نشرها الصحفي
...
-
ماذا وراء زيارة رئيس الإنتربول إلى المغرب
-
ليبيا: إدانات واسعة واستنكار لاغتيال المدونة وصانعة المحتوى
...
-
شهيد فلسطيني باشتباك مع قوة للاحتلال في نابلس
-
ضربة لترامب.. إسقاط تهم عن المدعية العامة لنيويورك ومدير -إف
...
-
هل توافق أوكرانيا على خطة السلام الجديدة لإنهاء الحرب الروسي
...
-
الحكومة الأميركية تأمر بمراجعة أوضاع 200 ألف لاجئ
-
بولندا تستدعي سفير إسرائيل بسبب منشور عن المحرقة
-
واشنطن وكييف تؤكدان تقدم مفاوضات وقف الحرب وموسكو ترفض مطالب
...
-
خطوط حمراء أوكرانية حول خطة السلام الأميركية.. ما هي؟
المزيد.....
-
كتاب : العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي
/ غازي الصوراني
-
نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي
...
/ زهير الخويلدي
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|