محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 01:21
المحور:
الطب , والعلوم
كثيراً ما تساءلت من أين أتت قدرة غرينوي في فيلم Perfume: The Story of a Murderer على الشم.. شم ما لم يستطع أحد غيره على شمه.. ومازال منظره في ختام الفيلم من أشد اللقطات إثارة وأسىً بآن معاً..
تخيلوا كيف يمكن لجسد بشري من لحم وعظم ودم وأعصاب، أن يتلاشى.. أن يذوب في أنوف تلك الحشود الهائجة..
على المقلب الآخر... من منا لم يطرب لقول الشاعر
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا
كنت أتساءل عن سبب تعلقي برائحة "فتاة المطر" تلك التي التقيتها صدفة قبل نحو نصف قرن في تلك المدينة على التلة. عن السر الخفي في تلك الرائحة التي أعادتني إلى اصلي ... الهوموسابيينيس الأول، حتى اهتديت بفضل محبتي للكيمياء إلى جوهر الأمر..
إنه الجيوسمين يا سادة... تلك الرائحة الترابية المنعشة التي نشمّها بعد هطول المطر على أرض جافة، والمعروفة علمياً باسم Petrichor، المصطلح الذي ظهر في العام 1964 لوصف الأثر العطري الفريد الذي يفيض من الأرض حين تبتل بالمطر.
أتت كلمة Petrichor من كلمتين يونانيتين Petra وتعني الصخر أو الحجر، وIchor التي قصد بها الإغريق السائل الإلهي الذي يسري في عروق الآلهة. وهكذا صارت Petrichor تعني حرفياً "دماء الصخر"، أو بالمجاز "عطر الأرض"، أي الرائحة التي تنبعث من باطنها حين يلامسها البلل.
تنشأ هذه الظاهرة من إفرازات بكتيريا التربة الشعاعية المعروفة باسم Actinomycetes،(وهي كائنات دقيقة ذات بينة خيطية تشبه الفطريات، تعيش في التربة الرطبة، وتلعب دوراً أساسياً في تحليل المواد العضوية). فعندما تجف التربة أو تبتل مجدداً، تنتج هذه البكتيريا مركباً عطرياً يسمى الجيوسمين Geosmin،(من اليونانية Geo أي الأرض، وOsme أي الرائحة، أي “رائحة الأرض”) وهو المسؤول عن تلك الرائحة المميزة.
وحين تسقط قطرات المطر على سطح جاف، تحدث ما يعرف في الفيزياء بـ "تأثير الرذاذ الشعري" فهي لا تمتص فوراً، بل تتحرك معها جسيمات دقيقة من التربة، وتحرر، بسبب اصطدامها السريع بسطح الأرض غير المنتظم، فقاعات هواء دقيقة محملة بجزيئات الجيوسمين* ومركبات عضوية أخرى(جزء منها زيوت نباتية طيارة تفرزها النباتات خلال الجفاف). تحبس هذه الفقاعات داخل القطرة لمدة وجيزة، ثم ترتفع الجزيئيات في الهواء بسرعة عالية وتنفجر على هيئة رذاذ دقيق جداً aerosol فتنتشر ضمن الطبقات السفلى من الغلاف الجوي، أي ضمن النطاق الذي نتنفسه مباشرة** فتلتقطها مستقبلات الشم في أنوفنا-نحن البشر- نظراً لامتلاكنا قدرة عالية على التحسس لهذا المركب حتى عند وجوده بتراكيز ضئيلة جداً، أو حتى تراكيز شبه معدومة (تقدر نسبة التركيز الدنيا بنحو واحد جزء من مليار 1ppb) ما يجعلنا نشعر برائحة المطر قبل اشتداده، مع إحساس غامض بالانتعاش والارتباط بالأرض.
حين حاولت شركات العطور محاكاة رائحة المطر الأولى، أي Petrichor، واجهت تحدياً فريداً يتمثل في كيفية احتواء إحساس طبيعي متحول، يتكون من عشرات المركبات الدقيقة المتفاعلة في لحظة تماس بين الماء والتراب والهواء؟
وقد حاولت بعض الشركات تحليل مكونات الرائحة عبر تقنيات التحليل الطيفي للغازات باستخدام تقنية الكروماتوغرافيا الغازية مع كاشف مطياف الكتلةGas Chromatography–Mass Spectrometry، فكشفت النتائج أن الجيوسمين ليس المسؤول الوحيد وحده عن الرائحة، بل هو جزء من مزيج معقد يشمل الأوزون المتكون في الجو قبل العاصفة، والزيوت النباتية الطيارة، ومركبات نيتروجينية وكبريتية بتراكيز ضئيلة للغاية. لكن الصعوبة الكبرى لم تكن في تركيب الرائحة، وإنما في استعادة الإحساس الترابي ذاته، فـالجيوسمين النقي رائحته قوية وخانقة ما لم يخفف إلى مستويات شبه متلاشية، ونظراً لقدرة أنوفنا على التقاط تلك المستويات الضئيلة للغاية فقط طور صانعو العطور صيغاً دقيقة تمزج فيها نسب مجهرية من الجيوسمين مع نسب أخف مثل روائح طحالب الأنهار والأخشاب الرطبة ونفحات طينية أو من الطحالب البيضاء بهدف تحقيق التوازن بين "رطوبة: الذاكرة ونظافة الهواء بعد المطر. وكان أن ظهرت بسبب ذلك أنواع من العطور الفاخرةniche perfumes حاولت استحضار هذا الأثر الحسي عبر مركبات صناعية تحاكي الجيوسمين دون أن تكرره كيميائياً***
لكن حتى الآن، لم يتمكّن العلم ولا الصناعة من استنساخ الرائحة الأصلية تماماً، لأن ما نشمه في المطر ليس ناتجاً عن مركب واحد، بل عن حدث كيميائي حي يتغيّر مع نوع التربة، ودرجة الحرارة، وكثافة المطر، وحتى موقعنا الجغرافي.
بكلام آخر، إن رائحة المطر ليست "عطراً" بل لحظة وجودية تنتج من تفاعل بين الأرض والنفس، أي ين الجزيء والذاكرة.
إن هذه الوجبة الكيميائية، يا سادة، ليست أقل من ضربة خفيفة على كتفنا تذكرنا بأن العطر (والشعور به) لطالما كان أول مختبر للمعنى، وأن العلماء حين اكتشفوا Petrichor وGeosmin، لم يبتكروا شيئاً جديداً بقدر ما أعطوا أسماء كيميائية لما كان الإنسان يشعر به منذ فجر الوعي.
ويبقى شعور بالأرض أعمق من أي معادلة. فالأرض تهمس برائحتها قبل أن يسميها العالِم أو يصنعها العطار.
رائحة المطر رسالة بيولوجية ونفسية لمعنى الحياة والأمان وتستثير فينا إحساساً فطرياً بالسكينة. وحين يلامس المطر الأرض، لا تتكون الرائحة فقط من الجيوسمين وفقاعات الرذاذ، بل تستيقظ قلوبنا وعقولنا على ذكريات قديمة: أنفاس الأرض وأنفاس الطفولة وشقاوتها، وهمسات ولمسات أول حب فطري، وأول معرفة بالحياة.
كل قطرة تهبط مسرعة لتغسل الغبار، وكل نفحة ترابية تتطاير في الهواء، تنبش في أعماقنا مشاعر مختلطة يصعب تعريفها.
لله در غرينوي كما كان محقاً... لله دره، كأنه يقول لنا
هنا على هذه الأرض ما يستحق أو نتنفسه بسلام.
ليس كيمياء فحسب... لا، على الإطلاق ليس مجرد كيمياء، بل قصيدة صامته بإيقاع الأرض الطيبة يتراقص فيها الجيوسمين على وقع نغمة أبدية بين التراب والنفس.
ها قد صرنا الآن نعرف خدتع الشعراء عن رائحة الأرض.
....
*الجيوسمين (Geosmin) مركب عضوي كحولي ذو بنية حلقية معقدة (C₁₂H₂₂O)، ينتج عن التحلل الحيوي للمادة العضوية بوساطة البكتيريا الشعاعية Actinobacteria. وهي مجموعة دقيقة خيطية تعيش في التربة وتعدّ من أقدم الكائنات التي استعمرت اليابسة. وأشهر أجناسها (Streptomyces)، التي تشتهر أيضاً بإنتاجها للمضادات الحيوية. هذه البكتيريا، عند موتها أو تعرضها للرطوبة، تطلق الجيوسمين الذي يمتاز بقدرته العالية على الالتصاق بجزيئات الماء والهواء، مما يفسر سرعة انتشاره واستقراره بعد المطر. والمفارقة أن هذه المادة، رغم أنها تمنح رائحة الأرض الجذابة بعد المطر، تعد غير مرغوبة في مياه الشرب، لأن وجودها ولو بنسبة ضئيلة يمنح الماء طعما "ترابياً" غير محبب. و يرتبط الجيوسمين مباشرة بمستقبلات الشم في الأنف، وهذه المستقبلات مرتبطة باللوزة الدماغية Amygdala والحصينHippocampus ( يعرف ايضاً باسم قرن آمون)، أي المناطق المسؤولة عن العواطف والذاكرة. هذا يعني أن شم الرائحة يمكن أن يوقظ ذكريات إيجابية ويقلل من التوتر النفسي. ولها تمنحنا تلك الرائحة الترابية إحساساً بالانتعاش، وتثير فينا مشاعر عميقة توحي بالراحة والطمأنينة على نحو تلقائي، لارتباطها بالذكريات المبكرة، فقد عاش البشر، منذ آلاف السنين، في بيئات طبيعية اعتمدوا فيها على المطر للبقاء. وكانت رائحة الأرض الممطرة إشارة دائمة لوفرة المياه والخصوبة، التي تعني سهولة الحصول على والمكان الصالح للحياة. لذلك، تتصل هذه الرائحة بالذاكرة التطورية واللاشعورية للإنسان.
** انظر“Aerosol generation by rainimpact on soil”. “Aerosol generation by rainimpact on soil”. (2015), Nature Communications وكذلك https://news.mit.edu/.rainfall-can-release-aerosols... وقد استخدمت الدراسة استخدمت كاميرا فائقة السرعة (high-speed imaging) لتصوير لحظة سقوط قطرة مطر على سطح صلب من التربة. وقد أظهرت اللقطات أن سقوط القطرة يؤدي إلى احتباس الهواء وتكوين فقاعات دقيقة microbubbles داخل الماء المترشح إلى مسام التربة، ثم انفجارها، مطلقةً جسيمات دقيقة (aerosols) تحمل مركبات عضوية متطايرة من سطح التربة إلى الهواء. وتبين للباحثين أن سقوط قطرة واحدة على سطح رملي يمكن أن ينتج ما بين 100 إلى 1000 فقاعة مجهرية التي تنفجر وتطلق عشرات الجسيمات الدقيقة المحملة بمركبات عضوية عطرية مثل geosmin، وهذه الجسيمات هي ما يُعطي رائحة المطر المميزة Petrichor، وفسرا ذلك بتحكم التوتر السطحي والضغط الهوائي داخل الفقاعات، في إطلاق هذه المركبات. وهذا يعني، مجازاً، أن المطر لا "يغسل" الأرض فقط، بل "يبث عطرها" في الهواء عبر تلك الآلية الفيزيائية الدقيقة التي تحكمها التوترات السطحية والضغط الهوائي داخل الفقاعات.
***على سبيل المثال أسماء مثل “Wet Earth” و “After the Rain” و “Petrichor”
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟