أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - تاجر البندقية: The Merchant of Venice أو سرديات الغنيمة















المزيد.....



تاجر البندقية: The Merchant of Venice أو سرديات الغنيمة


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 04:51
المحور: الادب والفن
    


عن السينما بصفتها ساحة صراع للذاكرة
يقول ميلان كونديرا: "نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان" (كما وردت في روايته "كتاب الضحك والنسيان").
فالسلطة لا تسيطر فقط على الموارد المادية، بل على الروايات والذاكرة الجماعية نفسها وتسعى دائماً لـتزييف التاريخ أو حذف ما يهدد شرعيتها كأن تمحو آثار خصومها، وتبرر ما تقترفه من فظائع، إلى جانب ترويجها لسرديات انتقائية. فمن يملك الحق في رواية الماضي يتحكم في الحاضر والمستقبل. تختزل مقولة كونديرا فكرة أن النسيان/ مثله مثل المال أو الجيش، أداة قمع بامتياز
وفي هذا الإطار، أنتجت السينما، بوصفها أهم المدونات التاريخية المعاصرة، وبصفتها الأرشيف الأكثر تأثيراً في عصرنا، أفلاماً اعتمدت على السير الذاتية والأحداث التاريخية المؤثرة باعتبارها -أي الأحداث- تلقى رواجاً شعبياً، ورغبة في التعرف على تلك الشخصيات وحياتهم داخل التاريخ، بما في ذلك الحكايات عن أشخاص مجهولين نجحوا في كسب تحدياتهم الاجتماعية واليومية، وهي تحديات ليست بالضرورة موضع إعجاب أو شهرة، بل الغرابة -في معظم الأحيان- حتى لو كانت في جزء منها خيالية هي الحافز الأول لخلق الحبكة السينمائية التي نرغب نحن كمتلقين في متابعتها، لا سيما ما يتعلق بتفاصيل إنسانية شديدة الالتصاق بحياتنا اليومية.
فالسينما ليست مجرد وسيلة ترفيه بل ساحة لصراع الذاكرة والنسيان وأداة لتوثيق الذاكرة الجماعية أو تشويهها، تماماً كما يظهر وصف كونديرا السابق لصراع السلطة مع الذاكرة. إذ يمكن للسينما إحياء ما طمسته السلطة- عمداً ربما- فتنتزع "غنيمة الرواية" من يد السلطة التي تروي فقط سرديات الأبطال الرسميين.
وبهذا المعنى، يظهر كل فيلم حياةً غير مرئية هو ضربة لمطرقة النسيان التي تستخدمها السلطة.
فالسينما تعيد توزيع "غنائم الذاكرة" لمصلحة من حُرموا منها، ولكنها لا تعيد تمثيل الوقائع بقدر ما تعيد تأويلها. كما أنها لا تبحث في "الحقيقة" التاريخية بل في أثرها، وصداها، وفي القصة التي نحب سردها عن أنفسنا. لهذا تلقى أفلام السِّيَر الذاتية، والأحداث الكبرى، وأحياناً الشخصيات المجهولة التي تتحدى مصائرها اليومية، رواجاً واسعاً. فما يشدّ المتلقي ليس بالضرورة البطولة أو الشهرة، بل الغرابة. الغرابة بوصفها دافعاً إنسانياً أساسياً للسرد.
في هذا السياق، لا تُفهم السينما بوصفها أداة توثيق بقدر ما تُقرأ باعتبارها وسيلة لتشكيل الخيال الجمعي. إنها تعيد ترتيب الوقائع ضمن منطق درامي، رمزي، عاطفي. فنحن لا نذهب إلى فيلم عن الحرب من أجل معرفة ما جرى، بل من أجل أن نعيش إحساس الخسارة، أو الانتصار، أو الذنب، كما يُعاد تأطيره بصرياً وزمنياً. ويتجلى ذلك في الطريقة التي تقدم بها السينما شخصياتها؛ حيث تنجذب الكاميرا إلى المهمّش، وإلى من يتحدى مصيره لا من يتحكم به. لهذا لا يهم أن يكون البطل مشهوراً أو عظيماً، بل أن يكون غريباً، استثنائياً في معاناته أو انكساره أو حيلته. والغرابة هنا ليست شذوذاً، بل انكشافاً لما هو إنساني في أعمق لحظاته هشاشةً.
ولهذا أيضاً، تكثر في السينما الحديثة الأفلام التي تعيد كتابة التاريخ من وجهات نظر مهملة: نساء منسيات، عمال مجهولون، أقليات عرقية، ضحايا صامتون. وهي كتابة لا تطمح إلى تصحيح السرد، بل إلى مساءلته. لا تقول هذه الأفلام: "هكذا جرى الأمر"، بل: "تخيل لو أن القصة رُويت بهذه الطريقة".
من هنا يمكن فهم علاقة السينما بالذاكرة ليس بوصفها خزّاناً لما حدث، وإنما مختبر لإعادة تخييله، فقوة السينما ليس في دقتها، بل في قدرتها على خلق أثرٍ يقيم طويلاً في المتلقي، كجرحٍ مفتوح لا يندمل بسهولة.
ينطبق ما سبق، أشد الانطباق، على فيلم "تاجر البندقية" [من إخراج مايكل رادفورد(2004)، وبطولة آل باتشينو في دور شايلوك].
إن شايلوك "اليهودي السينمائي" ليس هو شايلوك "اليهودي الشكسبيري". فالأول شخصية درامية مؤنسنة، مكثفة وقوية لا تلين ولا تعتذر، تتـألم وتغضب وتدافع عن "قضية".
باختصار، شايلوك رادفورد لديه الكثير من أسبابه الخاصة التي تجعله يعبر عن غضبه بحرية غير معهودة في ذلك العصر،(يدفعنا هذا التحوير في الشخصية لإعادة قراءة النص بعين جديدة، بعيداً عن الصورة الشكسبيرية لشايلوك وما يريد النص قوله عن ملامح يهود أوروبا في القرون الوسطى حتى لو بصور مجازية تختصر شخصية "اليهودي" في قالب استعلائي شرير ذي بعد واحد .
ولكن، [دائماً هناك ولكن] ألا يدعو هذا إلى الاستغراب؟ بافتراض أن معظمنا قرأ نص المسرحية، أو على الأقل سمع بها أو يعرف خطوطها العامة.
فالمسرحية إنتاج أدبي شديد الحساسية، ولكن أن يدفعنا الفيلم لإعادة قراءة نصه الأصلي فهذا يعني إما الشك بما قرأنا أو التيقن من صواب قراءتنا السابقة.
وغالباً ما نغفل، وسط متعة المشاهدة، أن نص شكسبير ليس بياناً سياسياً، ولا تأملاً فلسفياً، ولا تحليلاً نفسياً أو وثيقة تاريخية. إنها نص مسرحي [كوميدي] قبل كل شيء. وإن حملت رسالة أخلاقية ضمنية، فهذا يعود إلى التزام الكاتب ووعيه، ولا يعود إلى بنية النص أو غايته. لذا، سيكون من باب التأويل المفرط تحميل المسرحية معاني زائدة، لما فيه من تشتيت الانتباه عن فكرة العمل الجوهرية.
"تاجر البندقية": حدود التأويل
يعتقد بعض النقاد أن عمل شكسبير "تاجر البندقية" يمثل وثيقة "أخلاقية" لطبقة مسيحية سعت من خلاله تبرير طبيعة علاقتها باليهود، ولكن بمشاعر تغلفها الكراهية والتوجس.
غير أن تأطير النص الشكسبيري كطباق "يهودي- مسيحي" هو تعريف مضلل وخطر في آن معاً. إذ لا يمثل أنطونيو المسيحية، كما لا يمثل شايلوك اليهودية، والقبول بهذه الصيغة يعني القبول بالتمثيل السابق للعلاقة التي تربط أنطونيو بشايلوك ونقل الأحداث إلى صراع يهودي مسيحي مفتوح على كل الاحتمالات، يسقطنا في فخ قراءة مغلوطة ترسخ خطاب الاستقطاب، وتحول المسرحية إلى مناظرة عقائدية. بينما هي في أصلها دراسة أدبية لنزعة الانتقام، وحدود الرحمة، وإشكالية العدالة.
وربما تكون هذه المضامين الخطيرة بشأن "العداء لليهود [معاداة السامية؟]"، السبب في إحجام الكثير من المخرجين السينمائيين عن الاقتراب من هذا النص. وهذه المواضيع المقلقة والمثيرة للريبة والتي تحمل أوجهاً متعددة في التأويل. وتثير أسئلة صعبة عن حدود الفن، ومسؤولية التأويل.
وحده شايلوك، ربما، يملك الإجابة على تساؤلاتنا. فهو من يملك التبرير لحقده ورغبته "كإنسان ليس إلا" في الانتقام ويتجلى ذلك حين يتساءل صارخاً "تسخّرون العبيد وتسخّرون كلابكم وبغالكم وحميركم في أحط الأعمال لأنكم اشتريتموهم. هل أطالبكم بعتقهم؟ هل أناديكم لتزوجوهم من ورثتكم؟ ولو سألتكم لماذا تغرقونهم بعرق الأعباء؟ ستجيبون بأنهم عبيدكم".
وشايلوك هذا، ليس مجرد شخصية درامية ( مسرحيّة و- أو سينمائية) منقطعة عن الماضي والتاريخ، رغم عدم الجزم بوجود "شخصية تاريخية" مؤكدة بهذا الاسم وتلك الصفات(1). لكن ما قام به شكسبير (وهو ما سعى رادفورد لتأويله في الفيلم) جعل من مجاز شايلوك، عبر حمولة رمزية كثيفة، ينطبق على أي يهودي عاش في وقت ما من القرن السادس عشر في أوروبا [وما أدراك ما القرن السادس عشر الأوروبي]، أو بالأحرى: لما أراد الخيال الجمعي المسيحي رؤيته.. بما يعني ذلك من إلباس الشخصية اليهودية عبء "سياسي" يخفي الكثير من التحامل والتحيز، والكثير من الأسئلة عن أخلاقيات القروض والعدالة، والسلطة والاختلاف والانتقام، وهي أسئلة بقيت حية ومتكررة حتى بعد قرون.
وعلى هذا لا يقدم الفيلم نص شكسبير كواقعة تاريخية، بل يعيد تأويله (بمعنى تأويل الأثر) بصرياً وعاطفياً ضمن سياق معاصر للوعي الأخلاقي والسياسي. فإذا كان نص شكسبير يظهر شايلوك خصماً عنيداً وجشعاً، يعيد رادفورد تشكيله ليظهر ضحية للتمييز والقهر الاجتماعي والديني، من خلال بعض المشاهد التي تظهر اضطهاد اليهود في مدينة البندقية في الزمن المفترض للأحداث (تظهر علامات الاضطهاد في إجبارهم على وضع قبعات حمراء ويُبصق عليهم وتُهان مقدساتهم). فشايلوك الفيلم ليس بطلاً تقليدياً، ولا شريراً صرفاً. بل هو شخص غريب، متشظٍ، مأزوم (2). غرابته ليست في دينه فقط، بل في مفارقته الأخلاقية والإنسانية: يريد تطبيق العدالة بدقة قاتلة (مطالبته برطل اللحم)، لكنه يفشل في نيل الرحمة حين يحتاجها. وما سوف يشد المتلقي ليس انتصاره أو هزيمته، بل تلك المسافة المؤلمة بين القانون والرحمة، بين الغضب والخذلان.
تأطير الأحداث
يدور الفيلم- كما هو حال المسرحية- حول شاب نبيل يدعى "بسانيو" ينتمي إلى طبقة النبلاء ويعيش حياة بذخ، فيبدد ثروته هنا وهناك، ويقع في غرام "بورشيا"، السيدة الجميلة والثرية، لكن تكلفة هذا الحب باهظة، ما يدفعه لطلب قرض مالي "3000 دوقية" من صديقه التاجر "أنطونيو" للفوز بقلب حبيبته وخطبتها، لكن "أنطونيو" كان قد استثمر للتو جميع ثروته في حمولة سفن تجارية ما زالت في عرض البحر. فيقترح على صديقه اقتراض المال -بضمانته- من المرابي /اليهودي "شايلوك" الذي يعيش في غيتو المدينة مع ابنته الوحيدة "جيسيكا"، وسوف نعلم لاحقاً أن "شايلوك" هذا يكن عداءً شديداً لـ "أنطونيو" لأنه كان قد أهانه فيما مضى وأسهم في تدهور أعماله بسبب قيام "أنطونيو" بإقراض الناس دون فائدة، وبالتالي حرمه من الربح الذي كان يحصل عليه.
يحاول "أنطونيو" إقناع "شايلوك" بتقديم قرض لـ "بسانيو" بضمانته، فيوافق ويشترط اقتطاع رطل لحم من جسد الضامن-أي "أنطونيو"- في حال لم يتمكن "بسانيو" من تسديد القرض في الموعد المحدد، فيوافق "أنطونيو" لاعتقاده أن سفنه قادمة لا محالة قبل حلول أجل سداد القرض. ولكن الأخبار السيئة التي تصل إلى البندقية تفيد بأن السفن فُقدَتْ في البحر؛ وهنا يطالب "شايلوك" بتنفيذ الشرط المتفق عليه "رطل لحم من أنطونيو"، الأمر الذي يدفع هذا الأخير للدخول في صراع مع المرابي، فيتعاركان على أحد جسور المدينة، كما يظهر في افتتاحية الفيلم حين يبصق "أنطونيو" على "شايلوك" فوق جسر "ريالتو" (يظهر هذا المشهد في المسرحية على هيئة حوار) ويقول له بكل وقاحة إنه سيبصق في وجهه مرة أخرى كلما طلب منه سداد القرض. وتستند "جرأته" ووقاحته، كما يبدو، على الصورة النمطية له ولليهودي؛ فأنطونيو يمثّل المسيحي الذي يحمل الصفات الطيبة والذي يرفض الربا كمقابل لليهودي.
هذا في العموم، أما في العمق، فيظهر "شايلوك" كشخصية حساسة تعاني العزلة والاضطهاد، وتزداد هشاشة، أكثر من كونه شخصية شريرة نمطية، وضحية تراجيدية بذات الوقت الذي تنحدر فيه نحو مصيرها المحتوم بسبب عيوبها الخاصة "الأصيلة"، أليس هو من يقول "سوف أطبّق عليكم ما علمتموني إياها من نذالة"، حين يحاول أن ينزع عن كاهله ثوب الضحية ليرد الصفعة، مع التأكيد (من النص والفيلم) بأن دوافعه ليست ثورية، فحتى صفة الثوري حُرم منها.
إذ لا يمكن لشخص أن يكون ثورياً وكل ما يشغله من هرب ابنته أنها سرقته فقط دون الاكتراث لفعلتها ومصيرها(3). ولكن حين يتمكن "بسانيو" من تأمين المبلغ (إنما بعد فوات الزمن المحدد) ويحاول مضاعفة المبلغ يرفض "شايلوك" ويصر على تنفيذ الاتفاق، فتتنكر "بورشيا" بزي رجال قانون لتبدأ على إثرها محاكمة "أنطونيو" برئاسة الدوق حاكم المدينة، وحين تطرح "بورشيا" عرض "بسانيو" السخي يكرر "شايلوك" رفضه وعدم نيته الندم لهذا الرفض فتعلن أن نص الاتفاق يعطيه الحق فعلاً في اقتطاع رطل لحم من جسد "أنطونيو" دون اعتراض هذا الأخير، ولكن [دائماً هناك ولكن] الاتفاق يشير إلى رطل لحم.. لحم فقط لا أكثر ولا أقل، وليس أي شيء آخر، بمعنى دون إراقة قطر دم واحدة.
وهنا يدرك "شايلوك" المأزق الذي وضع نفسه فيه، فيتراجع ويقبل بعرض بسانيو، إلا أن "بورشيا" تتهمه بالتآمر على قتل مواطن "مسيحي" بندقي، فيصدر الدوق أمراً بمصادرة ثروته ليحصل "أنطونيو" على نصفها؛ ومدينة البندقية على النصف الآخر".
يحاول "أنطونيو" إقناع الدوق بتغيير الحكم والغرامة والسماح للمرابي اليهودي الاحتفاظ بنصف ثروته على أن تؤول بعد وفاته إلى ابنته "جيسيكا" وحبيبها "لورنزو"، غير أن ليس هذا ما سوف يقاسي منه شايلوك، بل الأمر الأكثر صعوبة عليه هو الحكم بتحوّله إلى المسيحية، فيرتسم الرعب على وجوه اليهود الحاضرين في المحكمة، وينهار "شايلوك"، فيخر على الأرض، باكياً، وقد خسر الآن ثروته وابنته ودينه وطائفته، بل حتى "هُويته" التي على وشك الاقتلاع من جذورها، في مشهد لا يُنسى.
عن المسرحية والفيلم
يقال إن عظمة شكسبير لم تأتِ من محض أفكاره بحد ذاتها، بل أتت، وإلى حدٍ كبير، من لغته المتألقة وحيويتها، ولا بد لقارئ النص أن يلحظ تفاصيل تلك المعاني الدقيقة التي تنساب عبر مفرداته سواء في مسرحياته أم قصائده. لقد خلق، شكسبير، بامتلاكه لناصية اللغة، تمايزاً مذهلاً لشخصياته من خلال تنوع الأساليب الأدبية وتعدد مستويات الكلام، والإيقاع الموسيقي الشعري الذي يمنح خطابه نبضاً حياً، ويمنح كل شخصية طابعها اللغوي الخاص. ولكننا لا نستطيع -للأسف- إطلاق أحكام قاطعة وشاملة لعدم امتلاكنا تسجيلات لأعمال شكسبير المسرحية في حينه، وبالتالي نفتقر إلى تكوين صورة عن الطريقة التي تلقى فيها الحضور مسرحياته وردود أفعالهم، لا نعرف كيف ضحكوا، أو صمتوا، أو صُدموا.
ويزداد تعقيد هذه المعضلة حين نتعامل مع مسرحيات ذات طابع إشكالي مثل "تاجر البندقية"، التي استند إليها رادفورد في الفيلم، ليقدّم قراءة سينمائية تحمل تأويلاً معاصراً للنص الشكسبيري، يختلف -بل يتصادم أحيانًا- مع بنيته الأصلية(4).ليظهر كأنه دعوة لإعادة النظر في النص المسرحي بقراءة تفسيرية مختلفة تحمل عناصر بصرية وسردية تأويلية عديدة، وربما جديدة، غير موجودة في النص الأصلي لتوضيح واقع اضطهاد يهود البندقية، وإبراز العنف الديني والاجتماعي الذي كان سائداً آنذاك، مثل مشهد الراهب على متن القارب القادم باتجاه جسر ريالتو وهو يحرض المارّة المسيحيين على مهاجمة مقرضي الأموال اليهود، تتبعه جوقة من العازفين والمرتلين يرددون أغانٍ كنسية غريغورية، تعمق مناخ الكراهية المحيط بيهود المدينة.
ورغم هذا الجهد الواضح، إلا أن الفيلم لم يستطع التخلص من المأزق الجوهري الذي ينبت في ومن قلب النص الشكسبيري ذاته: لقد جرى تصوير شايلوك على أنه شرير بالأصالة. وهو ما أراده شكسبير وما أراد له الظهور بهذه الصورة. فهو ليس مجرد شخص عام نكرة، بل هو في الحقيقة تجسيد للصورة النمطية لليهودي في المتخيل المسيحي الأوروبي، في مقابل شخصية أنطونيو، المسيحي النبيل، الكاره للربا، المتسامح (ظاهرياً).
ورغم كل محاولات رادفورد وآل باتشينو في "أنسنة" شايلوك -وقد نجحا إلى حد ما من خلال كشف جراحه العميقة، وانكساراته الداخلية، ودوافعه المفهومة للانتقام- إلا أنه لم يتحرر تماماً من صورة الشر الأصلية، وبقي أسيراً لثأر غريب ورغبة عنيفة في تجليها لانتقام لاعقلاني، رغم المبرر المنطقي الذي يدّعيه لهذا الانتقام وبتلك الطريقة.
لا ينفي الفيلم -أو ينكر- تحامل شكسبير، لكنه لا يتواطأ معه أيضاً. بل يعيد توضع البؤرة، بحيث يضطر المشاهد المعاصر لأن يرى في شايلوك طبقات متراكبة من الظلم التاريخي. فلم يعد مجرد مرابي يطالب بـ"رطل من لحم"، بل رجل حُرم من زوجته، وابنته، وكرامته، وحتى دينه -في مشهد الإكراه على التحول إلى المسيحية، الذي يبدو في الفيلم أقسى من أي حكم قضائي. هذا المشهد، الذي لا يظهر في المسرحية كحدث درامي مركزي، يتحوّل في الفيلم إلى ذروة مأساوية، يُجبر فيها شايلوك على التنازل عن جوهره، أي التخلي ليس عن ونفسه إلى جاني تخليه عن ثأره.
يجري اختزال "الآخر" في صفات سلبية (مرابي، حاقد، لا يتسامح)، ثم يُدفع دفعاً إلى تأكيد هذه الصفات، ثم يُدان بسببها. ومن ثم، يصبح انتزاع إنسانيته جزءاً من طقس "التطهير الجماعي" الذي تبرّره العدالة الشكلية.
يلمّح شايلوك ببعض الإشارات من العهد القديم فيما يتعلق بمشروعية طلبه فيستند إلى قصة يعقوب ولابان لتبرير الفائدة التي يأخذها على قروضه، وكأنه يحاول إضفاء شرعية دينية على سلوكه. غير أن هذه المحاولة تبدو هشّة في سياق المسرحية، التي تبني، في جوهرها، ثنائية رمزية صارخة: فتظهر الشخصية الشكسبيرية شريرة ليس بشخصها بل بـ "يهوديتها" مقابل "مسيحية" أنطونيو، أي نمطين متضادين أحدهما مظلم والآخر نقيّ. وليس شخصيتين إنسانيتين معقّدتين، على عكس ما اجتهد آل باتشينو في إظهاره.
طيب... هل يمكننا كتم صوت شايلوك(5)؟
أليس شايلوك المرابي هو واحد من أوائل اليهود الذين نسمع صوتهم في الأدب الأوروبي كمحاولة منهم لنكتشف إنسانيتهم؟
في الحقيقة، نحن لا نعلم ما إذا كان شكسبير قد التقى طوال حياته بشخص يهودي- على شاكلة شايلوك أو غيره- بل ربما لم يزر البندقية أو فرنسا أو الدنمارك. ومع ذلك قدم لنا نموذجاً ثقافياً مجتمعياً مركباً ينم عن استقراء لشخصية اليهودي في عصر النهضة الأوروبي وما تلاه وما سوف يليه، ولا تزال حاضرة حتى اليوم. فجرى تصوير الكراهية والحقد على أنهما لازمتان لرؤية اليهودي إلى جانب صورته كثريّ يستغل حاجة الناس للمال، فيقرضهم بفوائد يعجزون عن دفعها. وما رطل اللحم إلا رمز لصورة الفائدة التي يستحيل سدادها، لذلك كانت صورته في الحكايا والقصص الشعبية تجمِع على بخله وغدره وتعطشه للدماء ورغبته في إلحاق الأذى بالآخرين وأمنياته في الخراب والدمار.
وضمن هذا السياق سوف نكتشف توجّه الفيلم العميق (وهي رغبة المخرج لا شك) نحو تفكيك سلطة النص ضمن تأطير سينمائي يجمع ما بين التراجيديا والكوميديا في منهجية واضحة باستخدام النص كمنصة، وليس كحكم نهائي. والاستعانة بقدرات آل باتشينو، لتحرير شايلوك من أسر المجاز النمطي ليخلق شايلوك آخر، أكثر لحماً ودماً، وأكثر حضوراً وشرعية، مبتعداً كلما كان ذلك ممكناً عن الفضاء المسرحي(6). (ربما باستثناء المشهد الأخير في المحكمة).
في الواقع أسهم أداء آل باتشينو في إعادة فهم وتفسير شخصية شايلوك المعقدة، وتقديمها كبطل مأساوي وليس شرير تقليدي، فظهرت ملامح الغضب والمرارة مختلطين بالحاجة الإنسانية العميقة للانتقام والكرامة. مما أضفى عمقاً إنسانياً حقيقياً على شايلوك، وجعل الجمهور يتأمل في معاناة الشخصية بدلًا من إطلاق الأحكام المسبقة عليها.
كما استطاع الفيلم إبراز عناصر العنف النفسي والاجتماعي التي تعرض لها شايلوك، فظهرت ملامح الإذلال والرفض بشكل واضح من خلال التفاعلات مع الشخصيات المسيحية، خاصة أنطونيو.
عمل هذا التأطير السينمائي للشخصية على توسيع نطاق النص المسرحي الذي كان مقيداً بالحدود الزمنية والمكانية للمسرح الكلاسيكي، ليصبح شايلوك رمزاً عالمياً للظلم الاجتماعي والقهر الديني. فاللغة البصرية القوية للفيلم، مثل مشهد طلب رطل اللحم الذي استعرض من خلاله شايلوك معاناته وحقه في الانتقام بطريقة مؤثرة ومباشرة. جاءت كمقابل موضوعي لمادة النص المسرحي المعتمدة على الحوار والشعر في تصوير الصراع الداخلي لشايلوك وألمه، وهو أمر يتطلب من المتلقي بذل مجهود ذهني مضاعف لتفسير المجازات والتلميحات.
تقنيات العمل
يلجأ رادفورد إلى تصوير الشخصيات في إطارات ضيقة أو محاطة بمساحات فارغة، للتأكيد على شعور العزلة: فغالباً ما يصور شايلوك في إطارات منفردة أو محاطة بجدران أو أعمدة تعزل شخصيته، كأنها سجون رمزية. كما تظهر جيسيكا في مشاهد هروبها بلقطات تظهرها بمفردها في فضاءات شاسعة لكنها خاوية، تعكس فقدانها للأمان الداخلي والخارجي. ويظهر أنطونيو يظهر كثيراً في مشاهد يبدو فيها منعزلًا عن الآخرين، حتى في وجودهم، مما يعزز شعور الاغتراب الداخلي.
ويعمل التكوين البصري على تقديم الصراع الداخلي لكل شخصية، عبر الفضاء السينمائي الذي يصبح شهادة بصرية على حالة التفكك النفسي والاجتماعي.
يستثمر رادفورد بشكل مكثف في تعابير الوجه ولغة الجسد، خاصة في المشاهد الصامتة أو التي يغلب عليها الصمت(بطريقة تذكرنا بمشاهد الصمت الطويلة في فيلم The Good, The Bad and the Ugly)، فيستخدم إضاءة متناقضة بين الظلال والنور لتعكس الحالة النفسية للشخصيات، خاصة شايلوك وجيسيكا وأنطونيو. ليكشف عما وراء الكلمات، فيظهر شايلوك في معظم اللقطات الختامية في ظلال قاتمة، تبرز ملامحه الصلبة ويرتسم على وجهه حزنٌ عميق وانكسار يؤكد عزلته ومرارة تجربته كيهودي منبوذ في مجتمع مسيحي معادٍ. لكنه يحتفظ برمزية الكبرياء والمرارة معاً. أما جيسيكا فتظهر في لحظات هروبها وقلقها، بإضاءة باهتة، توحي بالضياع والتشظي، كأنها بين عوالم لا تنتمي إليها، ضوءها متردد وكأنها تتأرجح بين الظلمة والنور، وتتسم حركاتها بالتوتر والقلق، وكأنها تحاول باستمرار الهروب من عبء الهوية القديمة، بينما تعبيراتها تحمل مزيجاً من الذنب والتمرد. وأنطونيو يتحرك ببطء، وتعابير وجهه تنم عن حيرة وغموض داخلي، توحي بصراع عاطفي مع هويته المزدوجة، ويتسم لونه في كثير من المشاهد ببريق بارد، يميل إلى الأزرق الرمادي، مما يعكس كآبته وحيرته، وعلاقته المعقدة مع هويته الجنسية والاجتماعية. وسوف يعزز هذا التركيز على التفاصيل الجسدية والوجهية العمق النفسي ويحوّل المشاهد إلى مراقب صامت يعايش الألم والاغتراب.
والحديث عن شايلوك وجيسيكا وأنطونيو هنا مبني على أساس تقنية صنع الفيلم، فقد أضاف رادفورد خاتمة للفيلم بإضافة ثلاثة مشاهد قصيرة كخاتمة بصرية صامتة تقريباً تستعرض "أنطونيو" و "شايلوك" و "جيسيكا". يعرض في كل منها على حدة رؤية فراغية معمقة تتجاوز الأبعاد الإقليدية وتغوص في أبعاد نفسية ووجودية لتلك الشخصيات ويظهرها مجردة ومعزولة عن بقية الشخصيات وعن السياق العام:. وكأنه يقترح على المشاهد الأخذ بهم كشخصيات رئيسة لموضوعات الفيلم باعتبارهم يشكلون محركات الحدث التراجيدي ليجسد كل واحد منهم وجهاً من وجوه الصراع.
يلتزم المخرج في المشاهد الثلاث الختامية الصمت على نحو ما، ويركز على الشخصيات في فضاءات خالية، ليخلق شعوراً بالفراغ الوجودي، إذ تذوب الهًويات وتتراجع إلى حالات أساسية من العزلة والانتظار، في انسجام مع فكر التراجيديا المعاصرة التي ترى الإنسان في مواجهة وحيدة مع وجوده.
ويعيق انعدام الحوار الوصول المباشر، إلى حد ما، إلى المجازات والمعاني الرمزية التي يتصورها المخرج (سوف نعتمد على حدسنا مدعومين بالسياق الكامل للفيلم في الاستدلال عليها واستشفاف المجازات الكامنة خلف صمت الصورة).
يحقق رادفورد من خلال هذه العناصر السينمائية والتباينات اللونية صورة بصرية تنقل معنى حسياً عميقاً لصراعات الهُوية الدينية والمجتمعية في المسرحية. ويتجاوز السرد الأدبي الكلاسيكي ليمنح المشاهد تجربة بصرية ووجدانية تجمع بين التوتر النفسي والعزلة الوجودية، والتوترات التاريخية القائمة.
وما انفجار هذا الصراع لدى شايلوك إلا نتيجة لانكسار داخلي حاد سببه هروب ابنته مع رجل مسيحي، وهجرها له لا كأب فقط، بل كهُويّة، وتاريخ، وذاكرة. جيسيكا، بدورها، لا تنجو من هذا التفكك. فمشهدها الختامي يؤكد أنها لم تجد الطمأنينة في عالمها الجديد، بل فقدت كل شيء. لم تعد تنتمي إلى عالم والدها، ولم يُفتح لها الباب تماماً إلى العالم الذي هربت إليه.
وهكذا، تظهر الشخصيات الثلاث في صمت الصور الأخيرة كضحايا (ليس أبطالاً على كل حال). ضحايا لانقسامات الهوية، وصراعات دينية وثقافية، وللحب الذي لم يجد موضعه الصحيح. وكل واحد منهم يختتم رحلته دون نصر أو هزيمة، بل بفراغ يكتنفه أفق مزدوج: فمن جهة، يبرز عمق الصراع النفسي والقيمي بين الشخصيات، ومن جهة أخرى، يؤكد على ترسيخ الصور النمطية الدينية التي لم يفلح الفيلم في تجاوزها أو نقدها، بل غاص فيها برؤية سينمائية تنطوي على رمزية دينية تاريخية تعزز موقف "أنطونيو" كمظلوم مسيحي و "شايلوك" كعدو يهودي.
ورغم أن العنوان، أي "تاجر البندقية" يشير بوضوح إلى "أنطونيو"، إلا أن حضوره لا يكتسب دلالته بوصفه النقيض "المسيحي" لليهودي إلا من خلال مقابلته بشايلوك ، لذلك لا يبدو غريباً أن ينتهي أنطونيو وحيداً منعزلاً، لا سيما أن "بورشيا" لاحظت حجم العلاقة التي تربطه بحبيبها "بسانيو" وتلك النغمة الجنسية الواضحة بينهما، والتي يمكن أن تقوض علاقتها بحبيبها (لتوضيح العلاقة بين "أنطونيو" و"بسانيو" استخدم رادفورد لقطات تصوير مقرّبة لوجه "بورشيا" أثناء جلسة المحاكمة، وكانت تعابير وجهها المرتبكة تشير إلى اعترافها بوجود منافس لها في حبها، وإدراكها للخطر الذي قد يشكله "أنطونيو" على زواجها، كما يكشف جانباً من تراجيديا بورشيا نفسها كامرأة تحاول التمسك بحبيبها وسط منافسة لا تتوقعها).
أما "شايلوك" وعدائه لأنطونيو، فقد كان صراعاً متخفياً تحت الرماد تحول لاحقاً إلى صراع وجودي مفتوح يقتضي نفي أحدهما للآخر يحفزه هروب "جيسيكا" مع عشيقها.
ورغم أن رادفورد حذف فقرات كثيرة من النص الأصلي، إلا أنه لم ينجح في إزالة كل الإشارات التي تصوّر "شايلوك" اليهودي بصورة مكروهة ومقيتة. ويظهر ذلك جلياً في المشهد الذي يستحضر مجاز يسوع المسيح القتيل على يد اليهود، كمؤشر على استمرار الفيلم في إعادة إنتاج صورة سلبية تقليدية.
ففي مشهد المحكمة، يعجز "شايلوك" عن تقديم سبب منطقي أو قانوني لإصراره على اقتطاع رطل من لحم أنطونيو، فيتضح أن دافعه الحقيقي هو حقده الشخصي العميق والممتد. وتتصاعد حدة المشهد حين يلوّح شايلوك بسكينه، بسرور مشوب بالانتقام، وكأن لحظة قطع صدر أنطونيو ستمنحه انتصاراً كاملاً على خصمه. إذ يظهر مشهد المحاكمة مسيحياً بامتياز سواء من حيث الموسيقا التصويرية التي تعزز هذه الإيحاءات، أم من خلال تصوير "أنطونيو" كما لو أنه في حالة تشبه وضعية صلب جالساً على الكرسي يكشف صدره النحيل، وملامح وجهه الملتحي تنطق بمعاناة تشبه تلك التي خاضها المسيح. في اللحظة التي يكاد فيها "شايلوك" يغرس سكينه في صدر "أنطونيو"، تصرخ "بورشيا" صرخة تحمل في مضمونها الكلمات التي نجحت في وقف إبراهيم عن ذبح ابنه في اللحظة الحاسمة، كما وردت في الإصحاح 22 من سفر التكوين.
يرى العديد من النقاد أن المشهد المركزي في المحكمة يشكّل ذروة الفيلم، ليس فقط على مستوى السرد، بل بوصفه مسرحاً لتكثيف كل ما تم كتمه أو التمهيد له: العدالة، الانتقام، الدين، الجندر، التلاعب باللغة.
استخدم رادفورد في هذا المشهد تقنية سينمائية مزدوجة، فهو، من جهة، اعتمد إضاءة قاتمة، تكاد تكون تقنية مسرحية بامتياز، لعزل الشخصيات وتأكيد التوتر، ما يعزز من حضور الفضاء كقوس محكمة وكفضاء خنق رمزي. ومن جهة أخرى، لجأ إلى لقطات قريبة جداً من الوجوه، خاصة وجه شايلوك، ثم وجه بورشيا، وبعدها أنطونيو وبسانيو، لتصبح التعابير الصامتة بحد ذاتها أداة محاكمة تتجاوز النص.
فالمحكمة، التي يُفترض أنها فضاء "العدالة"، تتحول إلى ساحة إذلال.
ويخرج منها شايلوك، الذي دخلها بوصفه المطالب بحقه، مسلوباً من ماله، ودينه، وكرامته. لكن الأكثر فداحة أنه يُجبر على التحول إلى "نقيضه": يتحوّل إلى مسيحي كعقوبة قسرية تقرّها المحكمة وليس تحولاً روحياً حراً، ما يجعل هذا "التحول" صيغة من صيغ القتل الرمزية، كما أنه موازاة درامية لهروب جيسيكا: ففي كلا الحالين، تفقد الهُوية معناها الداخلي وتصبح مجرد قناع (أو جلد) مستعار أو مستبدل.
تظهر بورشيا، في هذا المشهد، امرأة قانون ذكية تحترف التفكيك اللفظي للنصوص القانونية، وتستخدم تأويلات تقنية لتقلب المنطق ضد شايلوك (لم تكن وظيفة بورشيا الدرامية أن تظهر كبطلة نبيلة تنقذ أنطونيو بأي حال). بل إن فصاحتها تمثل إحدى أدوات الإذلال، إذ تجعل من العدالة واجهة للثأر الرمزي. أما أنطونيو، فوجوده في المشهد لا يثير التعاطف، بل يبدو خاضعاً لمصيره. مجرد أداة لفتح الستارة على تراجيديا شايلوك وجيسيكا، وهو ما سنصل إليه الآن.
يحمل هذا التصوير تأثيراً عميقاً على فهم العمل وتلقيه، إذ يكرس انطباعاً ثابتاً عن الصراع بين أنطونيو وشايلوك كصراع ديني وثقافي، وليس مجرد نزاع شخصي أو اجتماعي. وعبر إبراز أنطونيو في مشهد يشبه الصلب، يعزز الفيلم دوره كبطل ضحية يعاني من ظلم واضح، بينما يصبح شايلوك رمزاً للعداء اليهودي، المترسخ في ذاكرة الثقافة الغربية. ولا تقتصر هذه الصورة على إعادة إنتاج سرديات قديمة، بل تؤثر في المتلقي المعاصر من خلال استثارة مشاعر التعاطف مع أنطونيو بوصفه مهدور الحقوق، وفي المقابل ترسخ في ذهنه صورة "العدو اليهودي" الذي يحمل الحقد والانتقام.
بهذا، ينطلق الفيلم من خلفية دينية عميقة تمزج بين التاريخ والرمزية، ما يصعب معه فصل المواقف الفردية عن الصراعات الجماعية ذات الطابع الطائفي. علاوة على ذلك، يحد تصوير أنطونيو كبطل مسيحي يعاني، وشايلوك كعدو يهودي يسعى للانتقام، من فرص قراءة أعمق وأكثر تعقيداً للشخصيات. إذ لا يسمح هذا التصوير بإدراك دوافع شايلوك الإنسانية أو عرضه كضحية للظلم الاجتماعي والاقتصادي، بل يحصره في قالب عدائي نمطي.
وهنا يبزغ سؤال مهم: هل يسهم هذا التأويل في تعزيز الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تكرس الانقسامات الدينية والثقافية؟ أم أن التمثيل الرمزي كان ضرورياً لإيصال صراع درامي حاد يلامس جذور التاريخ والتوترات الاجتماعية؟ لعل إحدى فوائد الإجابة على مثل هذه الأسئلة تشير إلى ضرورة إعادة التفكير في كيفية قراءة هذه الأعمال اليوم، في ضوء وعينا الحديث بتأثير الصور النمطية وأثرها السلبي في تغذية التعصب والكراهية، وإمكانية تجاوز هذه الرموز واستخلاص معنى إنساني شامل يحترم تعقيد الشخصيات. ويعكس التوترات الاجتماعية بطريقة أكثر موضوعية وعدالة وإفساح المجال أمام نقد معمق يجاوز التمثيل السطحي، ويدعو إلى فهم أعمق لتداخل الدين، السياسة، والهوية في الأدب والسينما.
فكما نرى في تأويل مايكل رادفورد السينمائي، تتحول تاجر البندقية من نص درامي كلاسيكي إلى خطاب بصري/تاريخي بالغ الحساسية، فلا تظهر البندقية كمدينة ساحرة مفعمة بالجمال فقط، بل كمكان مشحون بالتوتر الطبقي والديني والاقتصادي، هي ليست مدينة الأحلام، بل مزيج بغيض من التجارة والتعصب، ومسرحاً لتناقضات النهضة الأوروبية. ليس المدينة فحسب، بل سكانها أيضاً. فشايلوك ليس مجرد شرير كلاسيكي، وإنما إنسان منخور من الداخل، محاصر في زاوية لا مهرب منها، ولا تكتفي كاميرة رادفورد بتصوير انفعالاته، بل تصوّر عزلته، وخطواته في شوارع المدينة الضيقة، ونظراته المرتابة، وطريقته في لمس النقود، داخل إطار مزدوج: ضحية ومنبوذ، غريب وفاعل(7).
لكن ما سرّ هذا الرعب؟. هل هو كره للمختلف؟. أم خوف من أن يكون "المختلف" شبيهاً بنا إلى درجة مزعجة؟ كأن تكون ملامحه مرآة مقلوبة لما نخشاه في أنفسنا؟
التاريخ من جديد
في لحظة مؤلمة، يقف شايلوك صامتاً، بعد أن يُنتزع منه حقه في الانتقام (مثلما انتزعت منه ابنته، وانتزع منه إيمانه). لا يقول شيئاً. فقط ينسحب من المشهد في تفكك إنساني أكثر منها لحظة هزيمة تقليدية، تمثل فيها شايلوك صورة إنسان أمامه خياران لا ثالث لهما: أن يكون شريراً كما يريد له المجتمع، أو أن يُمحى تماماً من المشهد.
تختزل هذه اللحظة قدر "الآخر" في سرديات الهيمنة. ويظهر الفيلم -والمسرحية أيضاً- ساحة مواجهة بين مركز يملك كل أدوات القهر، وهامش لا يملك إلا صوته. وبهذا المعنى، لم يكن شايلوك لم يكن طالب ثأر، بل اعتراف.
ثمة مثل أوروبي يقول "الشخصية الكريهة تترك وراءها ذكريات حية كريهة"؛ يعني كما يقال عندنا "العنزة تلد عنزة"، ولو أردنا ترجمة ما سبق إلى لغة شكسبير، فلابد من أن يجول بخاطرنا ما قاله أنطونيو لبسانيو عن شايلوك أثناء التفاوض معه للحصول على القرض: "لاحظ يا بسانيو كيف بوسع الشيطان -في سعيه لتحقيق مآربه- أن يلجأ حتى إلى ترتيل الكتاب المقدس، وما الروح الشريرة التي تلوّح باقتباساته الدينية إلا كوغد يزرع ابتسامة على وجهه أو كتفاحة جميلة لكنها متعفنة من الداخل، ألا ما أجمل المظهر الخارجي للزور والكذب".
ورغم عدم وجود اليهود في إنكلترة في عصر شكسبير لكن ظهور شخصية دينية -بالأخص يهودية- بهذه الصورة لم يكن مستغرباً، أي كيهودي قاتل في ضوء النمطية التاريخية لليهود التي تصورهم قتلة متعطشين لدم يسوع ولدم الأطفال المسيحيين، فكراهية اليهود حاضرة إلى حد كبير في إنكلترة، فقد كانوا -قبل طردهم سنة 1290- يعملون في الربا وجمع الضرائب من الأقنان لمصلحة البلاط الملكي، ويعود سبب عملهم هذا بسبب العديد من الحواجز-دينية و غير دينية- مما منعهم من امتلاك الأرض أو الانضمام للنقابات والوصول إلى الوظائف أو القيام بالأعمال التجارية.
وبذلك أصبحت كلمة يهودي مرادفة للطمع المالي والجشع والربا، ونظراً للحاجة الماسة للسيولة المالية بدأ ظهور اليهود كمرابين محترفين يعيشون على هامش المجتمع "المسيحي"، وهنا تظهر العلاقة المتناقضة بين كره المجتمع لليهود بحكم تمركز السيولة المالية بأيديهم وبين الحاجة لهم للاقتراض والاستدانة.
لقد كان العهد الإقطاعي في أوروبا آنذاك يمتاز بمراكمة الثروة بيد النبلاء المنغلقين في قلاعهم وحصونهم حيث يعيشون بذخاً قلَّ مثيله، ويقيم قرب قصورهم العديد من التجار بما يشبه أسواق شبه دائمة أو موسمية ويدفعون الإتاوات لأسياد القلاع مقابل حمايتهم، فبدأت تتشكل صورة وشخصية الدول "القومية" في أوروبا.
ولعل الذين عاشوا في عصر شكسبير لم يعتادوا تماماً على فكرة "الأمة" الإنكليزية حين صارت كلمة "أمة" تعني الدولة القومية بحدودها الجمركية، أو الطبيعية، وأصبحت مسائل الهُوية من القضايا الخلافية الملحّة، فصارت اللغة جزء من الفخر القومي تميز أصحابها عن "الأغراب" و "الأجانب"، ولذلك كان من الضروري تحديد من هم "خارج الأمة " وكان السبيل إلى ذلك يقضي بنفي وطرد الغرباء للحفاظ على النقاء الثقافي والقومي والديني، وتتعدد صور أولئك الغرباء وتنعكس في الأدب مثل اليهود والمغاربة والأتراك وأصحاب البشرة السوداء الموسومين بالخطيئة (كما يظهر من سلوك السيدة الثرية "البيضاء" بورشيا وموقفها وغضبها من أمير المغرب).
وإذن ليس مفاجئاً الترويج لهذه الصورة النمطية عن اليهودي، فتظهره شبحاً يتصيد الفلاحين والبسطاء بواسطة كلابه في غابات أوروبا، كما جعلوه يقطن في غابة "فونتين بلو" في فرنسا، و"الغابة السوداء" في ألمانيا، وغابة "وندسور" الإنكليزية. ويظهر، بين الحين والآخر، شبح يسبب الموت للحيوانات، والوباء والأمراض للناس الذين أطلقوا عليه أسماء متعددة مثل (يوتاديوس) [بمعنى قاتل الإله].
وتوّجت شخصية اليهودي هذه في الأسطورة الإيطالية النمساوية عما يسمى "ألفية الصقيع" التي تطابق بين الضرر الناتج عن الصقيع واليهودي، فتحكي الأسطورة عن السبب الذي كان وراء ضمور صناعة النبيذ في المناطق الجنوبية من جبال الألب، والذي تم تفسيره بسبب الرياح الباردة التي استمرت لمدة ألف عام بسبب ظهور هذا الشبح اليهودي، فظهور اليهودي في أي مكان مثله مثل البرد القارس يقتل كل حي ولا يترك خلفه إلا الخراب والدمار. (الشيء بالشيء يذكر، يقول الفلسطينيون في أحد أمثالهم التي ظهرت في زمن الانتداب البريطاني "البرد والإنكليز أساس كل علّة".. وقد سمعتها من جدي كثيراً).
وتعكس هذه الأساطير في رمزيتها، الى جانب عشرات غيرها، كيان الجماعات اليهودية بوصفها جماعات وظيفية " كما يصفهم عبد الوهاب المسيري"، يضاف لها التقليد الأوروبي بتحميلهم دوراً تخريبياً- من خلال الربا واحتكار السيولة النقدية- بحيث جعلت الذاكرة الشعبية لأمم القارة الاوروبية من هذه الجماعات شبحاً متوحشاً وموتاً بارداً وهي صورة يسهل توظيفها سياسياً مع كل تأويل بسيط من خلال إسقاطها على أحداث عادية وطبيعية بحد ذاتها. وفي المقابل حرصت الكنيسة على الترويج للدور السلبي الذي لعبه اليهود في مقتل يسوع المسيح وهو الإرث المتأصل بعمق في الوعي المسيحي (8)، وحين يبصق أنطونيو على شايلوك فهذا تأصيلاً لما ورد في إنجيل متى أنهم بصقوا على يسوع قبل أن يصلب (9).
كما أن الأساطير المعادية لليهود تطورت خلال فترة الحروب الصليبية، فظهرت القصة التي تتحدث عن تسميم اليهود لمياه الآبار مما تسبب في تفشي وباء الطاعون بصورة متكررة، والقصص التي تتحدث عن "فرية الدم" المتمثلة في قتل اليهود للأطفال المسيحين لصنع خبز الفطير في طقس ديني حيث يخلط الدم بعجين الفصح اليهودي "الماتزوت" ويقدم في احتفال خاص (يذكر أن هذه الفرية راجت كثيراً في ألمانيا ابتداءً من العام 1247 مما حدا بالبابا إينوسنت الرابع إلى نفيها في منشور بابوي نشر في السنة ذاتها رغم ما يعرف عنه من عدائه الشديد لليهود وللتعاليم التلمودية)(10)
عن العنوان في مجاز سرديات الغنيمة
إذا تجاوزنا المعنى المباشر لـ"سرديات الغنيمة" أي الجانب الاقتصادي في "تاجر البندقية"، يمكن الكشف عن المعنى في أبعاد أخرى أعمق، مثل الهوية والسلطة والكرامة، والانتقام الاجتماعي. وهنا يصبح الصراع ليس فقط حول المال، بل حول امتلاك الحق في الانتماء والسيطرة على القانون، وحتى احتكار القيم الأخلاقية.
فشايلوك ليس مجرد مقرض أموال، بل هو شخصية تحارب من أجل الاعتراف بها في مجتمع يرفضها. وعندما يقول: «أنا يهودي... أليس لليهودي عينان؟... إذا طعنتنا ألا ننزف؟»، فهو يطالب بـغنيمة معنوية تتمثل في كرامته الإنسانية باعتبارها "هُوية" وشرعية اجتماعية. لكن المجتمع المسيحي في البندقية يحصر هذه "الغنيمة" (الاعتراف بالمساواة) في دائرة مغلقة، لا يُسمح له بدخولها. فبورشيا، رغم أنها امرأة ذكية، تُختزل قيمتها في كونها غنيمة يجب الفوز بها عبر اختبار الصندوق (الذهب، الفضة، الرصاص) فحتى حريتها تُسلب باسم العرف الاجتماعي.
وهكذا تتحول الغنيمة إلى قانون وسيطرة على العدالة ونجد تعبيراً عن هذا في مشهد المحكمة كتجسيد للصراع على غنيمة السلطة القانونية، حين يصر شايلوك على تنفيذ العقد حرفياً («ليكن القانون!»). لأنه يعتقد أن القانون هو الغنيمة الوحيدة التي يمكنها حمايته في مجتمع يرفضه. لكن بورشيا (القاضية المتنكرة) تستخدم ذكاءها القانوني لتحويل القانون ذاته إلى أداة انتقامية ضد شايلوك، فتجبره على التنصر وفقدان ثروته. فالعدالة هنا ليست مبدأ، بل غنيمة تُكتسب بالمكر والسلطة فـ "الرحمة ليست صفات القوة فقط، بل تاجها" على حد قول بورشيا.
غير أن هناك بعد آخر لا يقل أهمية عما سبق، حيث تتحول الغنيمة إلى وسيلة "انتقام" وساحة لصراع الكرامة، نراها بوضوح شديد في رغبة شايلوك باقتطاع "رطل من لحم أنطونيو"، وهنا لا يكون للغنيمة معنى اقتصادي فقط، بل هي غنيمة رمزية، بصفتها تعويضاً عن الإهانات اليومية ("يَبصقون على لحيتي"). كما أنها نوع من إثبات الوجود، وانتزاع اعتراف المجتمع به كقوة يُحسب حسابها، حتى لو كان عبر العنف.
لكن انتصاره المؤقت يتحول إلى هزيمة، لأن النظام مصمم لحرمانه حتى من غنيمة الانتصار الأخلاقي. وهذا ما يكشف "القيمة الأخلاقية" الزائفة للغنيمة، فالمسيحيون في المسرحية (أنطونيو وبورشيا على سبيل المثال) يتحدثون عن "الرحمة" و"المحبة"، لكنهم يمارسون العكس، حيث تظهر بورشيا الرحمة فقط عندما تخدم مصلحتها (إنقاذ أنطونيو). كما أن المجتمع ككل يستخدم القيم المسيحية كـغطاء إيديولوجي لحرمان شايلوك من حقوقه.
الغريب أن شايلوك هو الوحيد الذي يلتزم بحرفية العقد، بينما المسيحيون ينقضونه عندما لا يناسبهم.
هل الغنيمة "جسد" يمكن التحكم به؟
يمثل طلب شايلوك "رطل اللحم" ترميز مباشر إلى جسد أنطونيو كغنيمة مادية تُستلب لتعويض الظلم. علماً أن جسد شايلوك نفسه الذي يُجبر على التنصر، أي سلبه هويته هو بحد ذاته غنيمة نهائية للمنتصرين. وحتى بورشيا، يُختزل جسدها إلى جائزة في اختبار الصندوق.
تعرض "تاجر البندقية" سرديات الغنيمة على مستويات غير مادية مثل الهوية والانتماء كغنيمة يُحرم منها "الآخر". والقانون كأداة تُستخدم لتحصيل الغنائم. والانتقام كتعويض عن الكرامة المسلوبة. وتعمل هذه المستويات ضمن منظومة أخلاقية زائفة لتبرير الهيمنة، فحتى المجتمعات عندما تتحدث عن القيم، تظل تعمل كسوق للغنائم المعنوية، حيث يُستبعد من لا ينتمي إلى الأغلبية.
كما يمكن فهم "سرديات الغنيمة" كمَجاز لتحليل الصراعات الإنسانية، سواء كانت مادية أو معنوية، عبر منظور الاستلاب، والتملك بما يتجاوز المال والسلطة المباشرة إلى أشكال غير ملموسة من "الغنائم" يسعى الأفراد أو الجماعات إلى امتلاكها أو حرمان الآخرين منها. فالأصل في ما نستولي من العدو بعد الحرب، وفي مجاز "تاجر البندقية" يمكن أن يكون، على سبيل المثال، احتكار الهُوية (مثل إجبار شايلوك على التنصر). أو الكرامة (انتزاع الاعتراف بالمساواة). أو الحقوق القانونية (تحويل العدالة إلى أداة انتقام). وهي حقول غير مادية تدور جميعها في فلك اللغة كأداة لتملك الغنيمة، فيصبح "الكلام" في "تاجر البندقية" غنيمة، كأن تستخدم بورشيا الخطاب القانوني للسيطرة على المحكمة. وكأن يُهزم شايلوك لأن اللغة القانونية صُممت لاستبعاده.
إن قوة المجاز تعادل قطبي الجسد والرمز كغنيمة، فرطل اللحم كمحصلة نهائية لتنفيذ العقد يتحول إلى رمز لجسد يستباح (كاستعارة للعنف المادي والمعنوي). وتصبح بورشيا "جائزة" تُختزل إلى جسد يمكن حيازته باختبار الصندوق.
وإذن كل صراع هو، في العمق، معركة على امتلاك شيء ما (حتى لو كان غير مادي). وتسمح لنا قوة مجاز سرديات الغنيمة في كشف زيف الصراعات التي تُقدَّم على أنها أخلاقية أو دينية، بينما جوهرها هو، من يملك الحق في تحديد من ينتمي إلى المجتمع، ومن يسيطر على أدوات صناعة القيمة (سواء كانت هذه القيمة قانوناً، أم ديناً، أو حتى أخلاق).
في "تاجر البندقية"، المسيحيون يمتلكون مفاتيح الغنائم الرمزية (مثل شرعية الدين وتفسير القانون)، بينما يحاول شايلوك اقتحام هذا النظام بسلاح المال، لكنه يفشل لأنه لا يملك المفاتيح الثقافية.
وبهذا المعنى، لم يكتب شكسبير عن البندقية في القرن السادس عشر فقط، بل عن الطبيعة البشرية التي تحوّل كل شيء إلى سوق للغنائم.
بدل من خاتمة: استعارة الواقع المعاصر، شايلوك الفلسطيني
يقول رادفورد عن الفيلم إنه "لا يتناول فكرة العداء لليهودية بحد ذاتها، بل هو محاولة لإلقاء الضوء على المسألة من وجهة نظر حديثة"، وكيف كان شكسبير يتحلى ببعد نظر إلى درجة أنه يمكن معالجة نصوصه في إطارٍ حديث دون تخوف.
أما آل باتشينو- أحد أفضل الممثلين في تاريخ السينما- فيقول عن دوره " لم أفكر أبداً في تقديم هذه الشخصية، ولكنني قبلتها لأنني كنت متأكداً من قدرة المخرج على تقديم سيناريو عميق يسلط الضوء على قضايا جوهرية في عصرنا. والتي يجب أن نتعرف عليها جيداً". ويضيف: "هذه الشخصية كانت مثيرة للجدل كشخصية إنسانية في حد ذاتها منذ ظهورها الأول وفي كل المحاولات التي تناولتها". وللإجابة على سؤال ما إذا كان شكسبير تعمد خلق أيقونة شر يهودية كصورة نمطية لمعاداة اليهود؛ يأتي الجواب من آل باتشينو غير متوقعاً: "إنه رجلٌ {يقصد شايلوك} نُهبت منه ابنته. خُطفت! وهي عائلته الوحيدة. لقد تعرض للمضايقة والبصق، لكنه سوف يحظى بفرصة للانتقام، وعندها سوف يتصرف بطيش، هذه هي الشخصية، تلك هي الشخصية التي أستطيع تأديتها."
ونرى مثل هذا الموقف مجسداً في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم -والذي يختزل تقريباً حبكته- حين يُسأل شايلوك عن الفائدة التي سيتحصل عليها إذا تأخر أنطونيو عن سداد دَينه باقتطاع رطل من لحمه؟ فيقول: "سأصنع منه طعاماً للأسماك. فإن لم يكن طعامٌ لها فسوف يغذي انتقامي، لقد لطخني بالعار، حال دون ظفري بنصف مليون، سخر من مكاسبي وضحك من خسائري، احتقر قومي، أحبط صفقاتي، أوقع بيني وبين أصدقائي، يوغر صدور أعدائي، وكل حجته في ذلك إنني يهودي!؟. ولكن، أليس لليهودي عينان؟ أليس له يدان؟ ألا يملك نفس الجسد بنفس الأبعاد؟ ألا يملك العاطفة والمحبة والوجدان والأحاسيس والمشاعر؟ ألا يأكل من نفس الطعام؟ وتؤذيه نفس الأسلحة؟ ويمرض بنفس الأمراض؟ ويشفى بنفس الوسائل؟ ألا يشعر بالحر في الصيف وبالبرد في الشتاء، مثله مثل المسيحي؟ هل إذا وخزتمونا لا ننزف؟ وإذا دغدغتمونا لا نضحك؟ وإذا سممتمونا لا نموت؟ هل إذا أخطأتم في حقنا لا يفترض بنا أن ننتقم؟ إن كُنّا نشبهكم في كل هذا، فلماذا لا نُعامَل بالمثل في هذا الشأن. حين يخطأ اليهودي بحق المسيحي يعاقب بقسوة، وحين يخطأ المسيحي بحق اليهودي ما هي احتمالية أن ينال جزاءه وفقاً لقوانينكم؟ سأطبق عليكم ما علمتموني إياه من نذالة وخسة، وسيكون الأمر قاسياً بل سأزيده قسوة وقوة".
هذا نداء يأتينا من العصور الوسطى من أجل الاعتراف بالجوهر الإنساني المشترك الذي يتقاسمه جميع البشر، ويظهر بدرجة معينة عيوب ونفاق الشخصيات الأخرى في الفيلم (في معظمها شخصيات مسيحية)، ويبرز التناقض الحاد للمسيحية في نداءاتها المتسامحة حين يظهر لنا أن إصرار أنطونيو بتحوّل شايلوك للمسيحية لا يعد عقاباً بل نعمة من شأنها أن تضمن خلاصه "بالمعنى المسيحي". من ناحية أخرى يهدف مثل هذا النداء والدعوة للمساواة إلى تخفيف الشعور بالذنب في سياق الزمن الذي ظهرت فيه المسرحية.
ومع الأخذ في الاعتبار أن الجمهور الذي تابع العرض المسرحي يتألف من المسيحيين فقد رمى شكسبير من وراء هذا الخطاب "الشايلوكي" تصوير دونية المرابي اليهودي وتهافته مقارنة بالتفوق الروحي المسيحي.
لا شك أن شكسبير جعل من شايلوك شخصاً شريراً مليئاً بالغضب والكراهية ويهودياً "نموذجيّاً" مكروهاً بسبب يهوديته و"وظيفته الاجتماعية- الاقتصادية"
طيب.. ماذا لو تحدثنا بقليل من الشطط؟
ماذا لو كان شكسبير حياً قبل مئة عام، أي على أبواب القرن العشرين؟
هل سيكتب عن شايلوك الذي نعرفه أم عن شايلوك آخر سيكون ضحية ليلة الكريستال أو أوشفيتز؟ أم عن شايلوك يتنازل طوعاً عن ثروته في ماينز أو كولن أو مانهايم أو درسدن لينتقل إلى غيتو أكبر في شرق المتوسط فيطالب من هناك بأرطال من لحم وأرض سكانها؟ أم سينقله من مرابٍ مكروه إلى ضحية للنكبات الكبرى.
هنا، لا يعود شايلوك رمزاً للشر، بل يصبح ممثلاً للضحية الإنسانية التي تتعرض للاضطهاد العنصري والإبادة، وتعاني من فقدان الثروات، والكرامة، وربما الأرض والهوية. يعكس هذا التحول تغيّراً في فهم المجتمع للأدوار التي تلعبها الصور النمطية، إذ تُعيد الشخصية إلى دائرة النضال من أجل البقاء والحقوق والكرامة، بدلًا من كونها شخصية انتقامية شريرة. بالتالي، تتجاوز شخصية شايلوك حدود الأدب الكلاسيكي لتصبح رمزاً عالمياً ضد الظلم والتمييز.
يمكن أن نذهب أبعد من ذلك، إذ نتصور شايلوك في سياق فلسطين اليوم، حيث يُجبر على التنازل عن ثروته وأرضه، ليعيش في غيتو محاصر، مطالباً بالحقوق الأساسية والمساواة، كتحوّل درامي يربط بين معاناة الماضي والواقع المعاصر. يتداخل هذا الإرث التاريخي مع الديناميات السياسية الحديثة التي تنطوي على القضية الفلسطينية، حيث تزداد معاداة الفلسطينيين بوصفهم "الآخر" المتهم، المرتبط بصورة اليهودي التقليدية التي تحمل صبغة العداء والخطر. وسوف تُستخدم هذه الصور النمطية لتبرير سياسات التمييز، التهميش والحرمان من الحقوق السياسية والإنسانية.
وينقلنا هذا التأويل النقدي "ما بعد الكولونيالي" لاعتبار تاجر البندقية ليس مجرد عمل أدبي أو سينمائي، بل معضلة عميقة في العقل الغربي ذاته، الذي كتب تاريخ العالم من منظور "الرجل الأبيض". فبعد أربعة قرون من مسرحية شكسبير، ظهر من يعيد تقديم "الحل الشايلوكي" لليهود متذرعاً بمزيج بائس من إيديولوجية قومية فظة وزهو عسكري ساذج. حلاً متجذراً في نمطية نفسية وثقافة الجنرال رابين حين تمنى أن ينام ليستيقظ وقد غرقت غزة في البحر كاستمرار للملهاة الشكسبيرية (مع أن هذه الأخيرة لم يكن يرغب صاحبها بتجاوزها حدود خشبة المسرح). وكما يتمنى اليوم قطعان المتطرفين هناك من سموطريتش وبن غفير وميليكوفسكي وغيرهم.
يفترض هذا الحل وجود خطاب مزدوج يدار ببراعة لتحديد الاختلافات الإثنية/ الثقافية/ التاريخية، وجوهر الوظيفة الاستراتيجية للخطاب- على حد قول هومي بابا- يتمثل في خلق فضاءٍ مخصص لـ "شعوب خاضعة" عبر إنتاج معرفة- معارف تُمارس من خلالها المراقبة القائمة على التنميط وحشر الآخر في مرتبة أدنى، وهو يسعى لرسم حدود واضحة للأمة: "نحن" و "هم"، لرسم حدود واضحة للأمة وهوية الجماعة .
ذلك العقل الأوروبي المجسد في المسرحية والفيلم هو ذاته العقل الذي اختار "الحل الشكسبيري" بأن أخرج أحفاد شايلوك من أوروبا ودفعهم نحو غيتو أكبر في شرق المتوسط فكان حل عنصري أصاب بالتلف ضمير وأخلاق كل من الجلاد الأوروبي وضحيته "الأوروبية أيضاً)، فها هم، كما سيقول البعض، أحفاد شايلوك يردون الصفعة الشكسبيرية بأن يتحولوا سكيناً عظيمةً تقطع أرطال اللحم الفلسطيني، فينساح الدم في كل مكان عبر أكثر صيغ "الاستعمار الاستيطاني" بشاعة حسب المبدأ الشايلوكي- الشكسبيري: "أريد رطل لحم هذا الآدمي، إنه حقي ولن أتنازل عنه". في حل جبان وهجين وبخس يمزج بين صورة شكسبير النمطية وإشكالية الجلاد- الضحية. ليؤدي إلى حل مزر لا يعترف إلا بحق القوة الوحشية التي تفرض إرادتها بلا هوادة، وتحوّل مأساة الإنسان إلى مسرح دموي لا ينتهي.
مازلنا نعاني من الأبعاد العميقة لمجازات شايلوك -لحم ودم- التي لم يدركها اللورد بلفور حين أطلق تصريحه المشؤوم، فعندما وضعت بورشيا شايلوك أمام خيارين (مصادرة جميع ثروته ويبقى يهودياً أو مصادرة نصفها بشرط اعتناقه المسيحية)، لم يكن سوى رمزية واضحة للممارسة الأوروبية "المسيحية" ضد اليهود (بعد ظهور البروتستانتية): اعتناق المسيحية أو النفي ومصادرة الأموال.
وينعكس هذا الاختيار "الشايلوكي" بما حدث في ألمانيا النازية عن "الوضع النهائي" و "اتفاقية هعفراه [הסכם העברה] بين الوكالة اليهودية وألمانيا ( 25/8/1933) التي نصت على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين مقابل التنازل عن ممتلكاتهم، فضلاً عن دور بقية الدول الأوروبية القومية "المسيحية" الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا في دفع اليهود للهجرة من بلادهم نحو فلسطين. فتعاونوا بشكل غير مباشر أو مباشر على تحويل فلسطين إلى ملاذ اضطراري لليهود المهجرين، وهو ما يضع هذا التاريخ في إطار ممارسة استعمارية استهدفت شعوبًا أخرى بذرائع دينية وقومية. وهذا ما يجعل المسرحية والفيلم يتقاطعان، من حيث التوازي الكاشف، مع السردية الفلسطينية.
كيف؟
لنطرح السؤال ببساطة: من هو شايلوك الفلسطيني؟
شايلوك في النص الأصلي ليس مجرد شخصية يهودية نمطية محاطة بالريبة والاحتقار، بل هو استعارة مركبة لإنسان جرد من كرامته، ثم طلب منه إثبات إنسانيته، وإلا سوف يدان.
هذه هي المأساة الأخلاقية التي تصنعها السرديات المهيمنة: أن تطالب الضحية إثبات جدارتها بالتعاطف قبل منحها الحق في الوجود. بينما الفلسطيني اليوم هو الطرف الذي يراد تصويره عبر الإعلام والسرديات المهيمنة كـ"آخر" غير جدير بالتعاطف، ولا يمتلك إلا خيارين: إما أن يتخلى عن كل حقوقه ليقبل في حضن "العدالة الغربية"، أو يُدان لأنه لم يكن الضحية الصامتة الكاملة.
والفلسطيني، مثل شايلوك، يُطالب إثبات إنسانيته في كل مرة يذكر فيها. فكل دم يسفك في غزة أو جنين أو نابلس لا يكفي وحده، بل لا بد من شهادة "حسن سلوك". وفوق هذا يسأل الفلسطيني دائماً: هل تبكي؟ هل تحب؟ هل تتألم؟ هل تغفر؟
تماماً كما يسأل شايلوك: "أليس لليهودي عينان؟... ألا نبكي إن ضُربنا؟". هذا الخطاب، الذي يبدو لأول وهلة إنسانياً، يكشف قسوته حين نتأمله في سياق من يجبر على تقديمه. فلا ينبغي للإنسان تبرير وجوده أو ألمه. لكنه، مثل الفلسطيني، لا يعامل كإنسان إلا إن تجرد من الغضب وتنازل عن حقه. وكما انتهى شايلوك بالإكراه على التنازل عن دينه وابنته وماله، يريد النظام العالمي المعاصر للفلسطيني التنازل عن ذاكرته وألم نكبته ومقاومته وتاريخه، القبول بدور الضحية الصالحة أو السجين الصامت. وعدم منحه فرصة كتابة روايته داخل مشهد العدل، ولو حاول فسوف تجري محاكمته بتهمة الإرهاب. هذه المفارقة المؤلمة التقطها رادفورد ببراعة، إذ كلما حاول شايلوك انتزاع الاعتراف بإنسانيته، كلما زاد تغوّل النظام ضده.
هذا النوع من الخطاب -أي اشتراط الإنسانية قبل منح التضامن- لا يحدث مع الجلاد، بل مع الضحية. والغرب، مثل جمهور مسرح شكسبير، مستعد للتعاطف مع الآخر فقط إنْ قبل شروط البطولة الأخلاقية، التي تتضمن دوماً التخلي عن أي شكل من أشكال المقاومة أو الغضب أو الانتقام. لهذا حين يقول شايلوك: "سأنتقم"، لا يعود يرى كإنسان، بل كخطر. وكذلك الفلسطيني حين يرفض الصمت، تعاد صناعته كتهديد.
فماذا لو قرأنا المسرحية بطريقة معكوسة؟ ماذا لو قرأناها من منظور فلسطيني؟ من منظور شعب مُهان، يقف أمام محكمة عالمية تمثلها البندقية، حيث "العدل" لا يكون إلا على حسابه؟
ماذا لو اعتبرنا مطالبة شايلوك بـ"رطل اللحم" ليست فعلاً وحشياً، بل صرخة لانتزاع الكرامة من محكمة لا ترى فيه إلا مرابياً؟
سيكف شايلوك هنا عن كونه رمزاً للمرابي اليهودي، ليتحول إلى استعارة إنسانية لأي شعب جرد من حقه في الغضب، ثم أُدين لأنه حاول الصراخ.
هل هناك استعارة أنسب من شايلوك لتجسيد هذا الوضع؟
أم علينا أن نقلب المسرحية رأساً على عقب ونكتبها من جديد... بصوت فلسطيني هذه المرة؟
في "تاجر البندقية"، ينهزم شايلوك لأنه طالب بحقه، لكن مشكلته الأكبر أنه لم ينجح في تجاوز المنطق الذي صنعه مضطهدوه. لم يكن الثأر مقاومة، بل إعادة إنتاج للعنف بلغة جديدة. وهذا بالضبط ما يجعل قراءته في سياق فلسطين ضرورية: هل نقاوم بمنطق المستعمَر أم نخلع عنه منطقه؟ وهل نكتفي بالبكاء على محكمة ظالمة أم نصوغ لغتنا وسرديتنا ومحاكمنا؟
فلسطينياً، كم من شايلوك عرفنا؟ كم من شخص أو حركة أو فصيل طالب بحقه أو انتقم لمظلوميته، لكنه صُوّر كشرير، متعطشاً للدم، وحوكم بمنطق أخلاقي استعماري يُجرد الفعل المقاوم من سياقه؟
إنها المسرحية ذاتها، تُعاد كتابتها في فلسطين.
إن شايلوك الفلسطيني لا يطلب انتقاماً أو دماً أو رطل لحم، بل اعترافاً وذاكرة واسماً ووطناً وسردية يُسمح له بكتابتها.
فهل نجرؤ، نحن، أن نعيد كتابة المسرحية بصوت شايلوك الفلسطيني؟
......
الهوامش
1. يقال أن العنوان الأصلي للمسرحية كان "يهودي من البندقية"، وهو عنوان يعكس بوضوح مركزية شخصية شايلوك اليهودي في العمل. ويقال أيضاً أن شكسبير اعتمد في مسرحيته على عدة مصادر مختلفة، لعل أهمها النجاح الذي لاقته مسرحية كريستوفر مارلو "يهودي من مالطا " التي كتبت سنة 1591. فقد تأثر شكسبير بهذا النص وأراد تقديم عمل مماثل مع بعض التعديلات والتطويرات. ففي مسرحية مارلو، يقع باراباس، اليهودي المالطي الغني والماكر والذكي في الفخ الذي يحدده لعدوه (ثمة إشارة من شايلوك إلى باراباس في مشهد المحاكمة). كما استفاد شكسبير بصورة أساسية من مجموعة قصصية إيطالية تدعىIl Pecorone ، كتبها جيوفاني فيورنتينو في العام 1378 ونشرت في العام 1565، تدور حول شاب نبيل يتزوج من امرأة ثرية تعيش في بلمونت يطلب من صديقه مساعدته في إقراضه بعض المال فيذهب صديقه إلى مقرض يهودي فيطلب رطلًا من لحم الصديق كدفعة إذا لم يتم سداد القرض في الوقت المناسب. وعندما يذهب اليهودي إلى المحكمة لضمان دفع أجرته، تتحدث الزوجة الثرية (مثل بورشيا)، في المحكمة عن العدالة الحقيقية وتقنع القاضي برفض الرهن. كما استفاد شكسبير من مجموعة قصصية أخرى بعنوان Gesta Romanorum نشرت في العام 1577، عند كتابته المشاهد المتعلقة بتنافس الرجال للظفر بالجميلة بورشيا واحتكامهم إلى الصناديق الثلاثة وهي تتضمن الموتيفات الأساسية عن الرقم ثلاثة مثل الفوز من المرة الثالثة وتحقيق الثروة والسعادة الأبدية ويظهر الرقم ثلاثة بطريقة لافتة في المسرحية، فهناك الخاطفون الثلاثة، والصناديق الثلاثة، والدوقيات الثلاثة آلاف، والعقوبات الثلاث .. إلخ من تكرارات الرقم ثلاثة التي تضفي رمزية ودلالة على الحظ والثروة والسعادة الأبدية. وتؤكد هذه المصادر المتعددة على براعة شكسبير في استثمار مواد أدبية متفرقة، وتحويرها بطريقة تعزز التوتر الدرامي وتُعمّق الشخصيات والصراعات في المسرحية، مما يجعلها نصاً غنياً يجمع بين الأسطورة، التاريخ، والرمزية في قالب فني متقن.
2.حين يصرخ شايلوك في المحكمة مطالباً بحق الانتقام، لم يكن يدافع فقط عن فرديته المجروحة، بل ليكشف القناع عن منظومة ترى الآخر كعدو محتمل، ولا تمثل شخصيته، في مزيجها الغرائبي من القوة والهشاشة، من الإصرار والعزلة، يهودياً فردياً، بل تمثل صورة نمطية مضخمة ومشحونة بتحيزات دينية واجتماعية واقتصادية. إن اختزال "اليهودي" في شخصية المرابي القاسي القلب هو تعبير عن سردية أوروبية متجذرة، فيها قدر كبير من التنميط ومن تحميل الآخر وزر الشرور التي يعانيها المجتمع نفسه. إنه خطاب استعاري، لا يروم فقط الشرح، بل التبرير أيضاً. يختصر شايلوك أزمته المركبة هذه بقوله "أليس لليهودي عينان؟ أليس له يدان وأعضاء وجوارح وعواطف؟
أليس يتغذى بنفس الطعام، ويُجرَح بنفس الأسلحة، ويُصاب بنفس الأمراض ويُشفى بنفس الأدوية،
ويشعر بالبرد والحرّ كما يشعر بهما المسيحي؟
إذا وخزتموه، ألا ينزف؟ إذا دغدغتموه، ألا يضحك؟ إذا سممتموه، ألا يموت؟ وإذا أسأتم إليه، ألا ينتقم؟"
3. تهرب جيسيكا مع حبيبها لورنزو صديق بسانيو بعد سرقة ذهب أبيها. تبدو جيسيكا، في الفيلم، شخصية قلقة، فحين نقرأها، سنغض النظر عن رؤيتها شابة عاشقة، ونلتفت إليها بصفتها بنية رمزية لحالة تمزق يهود أوروبا. فهي لا تهرب فقط من أبيها، بل من ماضيها، ودينها، وذاكرتها الجماعية، وأشيائها الخاصة (حين تسرق مجوهراته وأمواله). لا يُجمّل الفيلم هذا الهروب، بل يُعرّيه. فحين تظهر جيسيكا في المشاهد الختامية، لا تبدو سعيدة أو حتى متصالحة. ويكون وجهها شاحباً، ونظراتها زائغة، وحتى صمتها يحمل مزيجاً من الشك والأسى. لقد كانت، طوال الفيلم، هي النقطة العمياء في عدالة المحكمة: لم يسألها أحداً، لم يُحاسبها أحد، ولم تُمنح صوتاً كاملاً. ورغم ضعفها وسلبيتها، كانت أحد أسباب انهيار أبيها (ينهار شايلوك مرتين: مرة في المحكمة، حين يُسحق أمام الملأ؛ ومرة أخرى حين يُطعن في قلبه، عندما تدير ابنته ظهرها له ولدينه ولمظلوميته. وبهذا يصبح شخصية مأساوية مكتملة، ليس لبخله أو انتقامه، بل بسبب تعرضه للخيانة الكبرى، أي فقدان ابنته وهُويته في ضربة واحدة). تمثل جيسيكا، صورة الهارب الذي لا يندمج. وستكون مكافأتها الضياع وليس الطمأنينة (مثل حال أي مهاجر). فهي لا تصبح "مسيحية" حقيقية، ولا تعود "يهودية". إنها، بالمعنى الوجودي، ما بعد-يهودية، أي شخص خرج من المعبد ولم يدخل أي بيت آخر.
4. لم يرغب رادفورد أن يعكس فيلمه صورة معاصرة، بل قصد تصوير البندقية كمدينة " كريه الرائحة وقذرة، تشبه قذارة تلك الأيام". أراد لها أن تظهر في ذروة مجدها، كواحدة من أهم المراكز التجارية الكوسموبوليتانية التي تربط بين أوروبا وآسيا، بائسة وغامضة ومبهمة ومزدحمة وتعج بالتجار والمسافرين والدبلوماسيين من جنسيات متعددة، ولكنها رغم هذا النجاح التجاري عانت من التوتر الديني ومخاطر العنف. لقد كانت بحق مدينة مليئة بالأسرار يتلطى فيها الرجال خلف أقنعتهم ليمارسوا أعمالهم غير الشرعية. ورغم أنها من المدن الأوروبية القليلة التي لم تطرد اليهود، لكن سلطاتها أجبرتهم على ارتداء قبعات حمراء أثناء تجوالهم في شوارع المدينة وفي الأماكن العامة لتمييزهم عن المسيحيين. الاستثناء الوحيد كان في جلسة المحكمة، حين ظهر شايلوك واضعاً على رأسه غطاء اليهود المعتاد الذي يرتديه داخل حدود الغيتو، كما ينبغي فعله من قبل أي يهودي مؤمن. تتكرر الإشارات إلى اللون الأحمر في الفيلم إذ نراه على هيئة شمع أحمر يقطر كالدم في ختم وثيقة الاتفاق بين أنطونيو وشايلوك. ونراه دماً يتدفق من رقبة الماعز المذبوحة في سوق اللحم اليهودية حين يجتمع بسانيو مع شايلوك (سوف نسمع صريراً عنيفاً أثناء عملية الذبح بما يمهد لما سيليه من تجربة حين يلوّح شايلوك لاحقاً بسكينه فوق أنطونيو). من ناحية أخرى تظهر بغايا البندقية مرتديات فساتين قرمزية تكشف أثداؤهن، في إشارة إلى مهنتهن وللتأكيد على أنهن نساء (وجود البغايا إشارة إلى الجانب المنحل للبندقية في ذلك الوقت). ولا شك في أن هذه التفاصيل البصرية تعزز من الجو الكئيب المشحون بالغموض والتوتر الديني والاجتماعي، وتكشف التناقض العميق بين الواجهة التجارية المزدهرة والواقع المظلم المختبئ وراءها.
5. يتحدث ميشيل فوكو -أثناء تناوله لموضوعة "السلطة والمعرفة"- عن الطرق التي يجري فيها تشكيل الخطاب والسلطة من خلال الرقابة والضوابط المؤسسية - المجتمعية لفرض الأنظمة المعرفية التي تحدد ما هو "صحيح" أو "مقبول" في المجتمع؛ ليتم -في المقابل- "إسكات الأصوات غير المتوافقة مع السلطة وخطابها؛ وإذن فالإسكات هنا جزء من آلية السلطة التي تفرض حدوداً على ما يُسمح للناس بالحديث عنه وما يُمنع. فالإسكات ليس مجرد الصمت، بل هو عملية تتم من خلال إلغاء أصوات ومواقف معينة وتفضيل أصوات أخرى. وهو- بصفته وسيلة من وسائل التحكم بالمعرفة- جزء من نظام أوسع يفرض الحدود على ما يمكن أن يُعتبر علمياً وشرعياً. وهنا يبدو الإسكات "آلية" و"صيرورة" نسقية تشير بها إلى مجمل عمليات منع أو قمع التعبير عن الأفكار، أو المشاعر، أو الآراء للأفراد، أو الجماعات السياسية وغير السياسية؛ لمصلحة هُوية، أو جماعة أو ثقافة مهيمنة. بهذا، لا يصبح الإسكات مجرد عملية منع، بل أداة لإعادة تشكيل المجتمع وصوته بطريقة تجعله متماهياً مع رؤية السلطة ومشروعها. فالإسكات يجعل المجتمع يتحدث، لكن بالصوت الذي تريده السلطة، بحيث تُحجب أصوات، وتُرفع أخرى المتوافقة مع أهداف الهيمنة.
تخضع ظاهرة الإسكات لعلاقات القوة والسلطة والهيمنة وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، حيث يُصبح أداة رئيسة في إدارة هذه العلاقات والتحكم بها. فالهدف منه ليس مجرد السيطرة على الأصوات أو اللغة، بل فرض نظام معرفي وثقافي وسياسي يُعزز الهيمنة ويعيد تشكيل بنية القوة داخل المجتمع، بفرض السيطرة الرمزية، فيستخدم كوسيلة للسيطرة على الرموز الثقافية والمعرفية داخل المجتمع. ويتم، من خلال التحكم بالخطاب والرواية، إرساء صورة واضحة عن من يملك "الحق" في الكلام، ومن يُمنع منه. والعمل على إعادة إنتاج علاقات القوة بما يضمن بقاء السلطة في مركز الهيمنة. ويجري ذلك عبر اختيار "أصوات" تخدمها وتقوي نفوذها، مع تهميش أو إقصاء الأصوات التي تهدد هذه الهيمنة. وإضفاء الشرعية على السلطة لإظهارها كصانع للنظام والاستقرار، مما يمنحها مبرراً لاستمراريتها.
فالإسكات ليس فعلاً معزولاً، بل هو نتاج لعلاقات القوة والسلطة تلك، وهي علاقات ليست مادية فقط، بل أيضاً رمزية (السيطرة على اللغة، التاريخ، والثقافة)، مما يجعله أداة شاملة لإعادة تشكيل بنية القوة داخل المجتمع. وعلى هذا الأساس يعد الإسكات جزءً أساسياً من خطاب السلطة، حيث يتم استخدامه بغرض بناء هذا الخطاب وتعزيزه، وضمان استمرارية السيطرة، وخلق نظام رمزي ومعرفي يعطي الشرعية لوجود السلطة، ويعيد تشكيل هوية وثقافة المجتمع بشكل يتناسب مع أهداف الهيمنة لإنتاج نظام معرفي يُعيد تشكيل الواقع من خلال الهيمنة على الصوت والمعنى. ويرتبط بالسياقات الخطابية التي تجعل من الإسكات عملية مستترة أحياناً ومعلنة أحياناً أخرى، مثل السيطرة على الصحافة أو النظام التعليمي لتحديد ما يُقال وكيف يُقال.
6.اعتمد التمثيل المسرحي، ومازال، على المبالغة ليتناسب مع الكلمة وبلاغتها. حيث يستخدم الممثل أصواتاً مرتفعة وحركات إيمائية وضحة تثير الضوضاء على خشبة المسرح، ليصل صوته إلى أرجاء الصالة خصوصاً في غياب التقنيات المساعدة الموجود في السينما. هذه المبالغة في الأداء تختلف جذرياً عن واقع الحياة اليومية، أو حتى المشهد السينمائي الذي يعتمد على "السرد البصري"، الذي فتح آفاقاً جديدة أمام التعبير الدرامي للتعرف على "الوجه الإنساني" بتعابيره المختلفة وتفاصيله الدقيقة. إذ تسمح الكاميرا بتسجيل أدق اهتزازات عضلة الوجه وتقلصاته، فتتحول ملامح الوجه من مساحة وصفية بلاغية إلى فضاء غني بالتعبير يمكنه كشف الأبعاد الخفية التي تستعصي على الكلمات والسرد. وبحسب دراسات الأدب المسرحي والسينمائي، تتيح عملية تحويل نص مسرحي كلاسيكي إلى فيلم معاصر، إعادة قراءة النص بمنظور مختلف، حيث يمكن للكاميرا والزوايا الصوتية والمرئية أن تضيف طبقات من الدلالات لا تتوافر في المسرح.
وفي هذا الإطار، حمل آل باتشينو عبء الفيلم وحده تقريباً، إذ اكتسب سمعة مرموقة بقدرته على تجسيد الشخصيات المركبة في إطار سرد بصري ساحر، وهذا ليس غريباً من ممثل يتقن الأدوار الصعبة، ويستخرج طبائع الشخصيات بعمق ويتقمصها ببراعة كما يقول هو نفسه "كل ما أحاول فعله هو الوصول إلى نقطة تشعر فيها بغريزية الشخصية" ويرى أن ارتباطه بالأدوار الشكسبيرية ينبع من شعوره بأن هذه الأعمال تمسه شخصياً، ولكنه يعترف، مع ذلك، بأنه "لا يدرك تماماً ما إذا كان يخرج فعلاً عن حدود الشخصية" وهذا ما يثير قلقه ويجعله يعيد التفكير مرات عديدة.
إن وجود آل باتشينو يجعل العديد يقاربون الفيلم قياساً لأدائه فيه، لاسيما إذا كان الموضوع يتعلق بقضية حساسة كما يطرحها العمل، وهي اليهودي المرابي الشرير. فواقعية آل باتشينو، وهدوئه، أسهما -إلى حد كبير- في تقديم رؤية المخرج للنص" الذي قام بإعادة كتابته للسينما".
7. يتجلّى هنا الفرق بين المسرح والسينما. فبينما قد يحتمل المسرح نوعاً من التجريد، تُجبر السينما على التجسيد. ولا يعود بإمكان المتلقي أن يرى شايلوك كرمز فقط، بل كجسد له عرق ينبض، ووجه تتسلل إليه نظرات الخوف والكره والرغبة. وهنا تقع المفارقة: كلما اقتربنا من شايلوك، كلما صار أكثر إنسانية، وكلما صار، في الوقت عينه، أكثر رعباً بالنسبة لخصومه.
8. أشار القديس يوستينيوس الشهيد (النصف الأول من القرن الثاني الميلادي) بـأن نفي اليهود عن "مدينتهم المقدسة" إنما هو عقوبة إلهية حلت عليهم. ويتكرر في الإرث المسيحي أن حرمان اليهود من ممارسة شعائرهم في المدينة المقدسة يعني من بين ما يعني النهاية الإلهية للعهد القديم، وسوف تستمر معاناتهم كعقوبة بسبب موت المسيح. كما استخدم القديس يوحنا الذهبي الفم إنجيل لوقا للتأكيد على أن [أورشليم] سوف تحكم من قبل "الوثنيين" لآخر الزمان بحسب مذهب المسيح نفسه (لوقا 21 -24: وَيَقَعُونَ بِفَمِ السَّيْفِ، وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ، وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ، حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ" ويفسر بنبوءة الشتات اليهودي. ‏وبعد هذه الشهادات بأكثر من ألف وخمسمائة عام، أي في بداية العام 1904 استقبل وزير خارجية الكرسي الرسولي في الفاتيكان، الكاردينال (الإسباني) رافائيل ميري ديل فال، ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الذي كان يحاول إقناع الفاتيكان بقبول عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة وطن قومي لهم هناك. حاول هرتزل أن يقنع الكاردينال بعدم رغبة اليهود في بسط سيادتهم على الأماكن المقدسة في حال تحقيق المشروع الصهيوني. ورغم براعة هرتزل الخطابية، إلا أنه على ما يبدو لم يتمكن من إقناع الكاردينال الذي أصرّ -متمسكاً بإرثه الكنسي المذكور أعلاه- على أن إنكار اليهود للطبيعة الإلهية للمسيح هو الذي يجعل حكمهم للأرض المقدسة ضربا من المحال: "كيف يمكننا القيام بذلك دون أن نتخلى عن مبادئنا العزيزة على قلوبنا بمنح اليهود حق السيادة على الأرض المقدسة مرة أخرى". وكان البابا بيوس العاشر أكثر صرامة حين قابل هرتزل بعد ثلاث أيام من لقاء الكاردينال، لكنه كان أيضاً أكثر دبلوماسية حين أشار بأنه لا يمكنه منع اليهود من الذهاب للقدس، لكنه بذات الوقت يرفض بشدّة أن يكون لهم سيادة من أي نوع على الأرض التي شهدت حياة وموت المسيح .
9. [27 فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ،28 فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا،29 وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!»30 وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ.31 وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ.] ( متّى : 27: 27-31)
10. لعل أشهر الحوادث التي نعرفها عن فرية الدم، أو فطير صهيون، تلك الواقعة التي حصلت في دمشق في العام 1840. فقد اتُهم يهود دمشق بقتل طبيب وصيدلاني إيطالي الأصل من سردينيا، من الرهبان الفرنسيسكان اسمه بادري توماسّو (ويعرف بلقبه الأب توما الكبوشي) ومساعده المسلم إبراهيم عمارة، وكان الدافع لقتلهما استخدام دمهما لأغراض طقسية لصنع الفطير غير المختمر لتناوله في عيد البوريم "الفصح اليهودي" (ماتزوت). وتقول الحكاية أن الأب توما ذهب يوم السادس من شباط 1840 إلى حارة اليهود في دمشق لتلقيح أحد أبناء داود هراري اليهودي ضد فيروس الجدري، ولما تأخر في العودة مضى في إثره مساعده إبراهيم يبحث عنه فاختفى أيضاً، فضجت دمشق بالخبر، وكادت أن تشتعل فتنة عظيمة، فتم تشكيل لجنة خاصة للتحقيق التي اشتبهت في حلاق يهودي يدعى سلمون سلوم الذي اعتقل، واعترف بعد تعذيبه أنه هو الذي ذبح الاب توما الكبوشي بطلب من عائلة هراري "وهي من العائلات اليهودية الدمشقية الغنية ذات النفوذ الواسع"، كما اعترف الحلاق اليهودي أيضاً أن أحد دوافعه كانت وعداً له بتزويجه من إحدى الفتيات اليهوديات الدمشقيات. ويقال أنه تم اختطافهما (الأب توما ومساعده إبراهيم عمارة) على يد الحاخام يوسف أبو العافية والأخوان يوسف وداود هراري، فقاموا بقتلهما وسحبوا دمهما لاستخدامه في صنع الفطير، ولعل الأخبار القادمة من دمشق صعّدت من مخاوف بعض أثرياء أوروبا من اليهود، فها هو الحاخام موسى أبو العافية يعلن من دمشق ارتداده عن اليهودية ويعتنق الإسلام ويبدل اسمه إلى " محمد أفندي المسلماني" ويقوم لاحقاً بتحديد النصوص التلمودية التي تبيح لليهود قتل "الأغيار" ويؤكّد أن الحاخامات يمزجون دقيق القمح مع الدم بأيديهم. وتشير حادثة دمشق هذه استغلالها إلى التنافس بين اليهود الذين كانوا يتمتعون بحماية الإنكليز وبين الكاثوليك الذي كانت ترعاهم فرنسا، علماً أن التحقيقات أشارت إلى ضلوع القنصل الفرنسي في الترويج للحادثة. وأصدر السلطان العثماني عبد المجيد فرماناً في 6-11-1840 وصف فيه "تهمة الدم" بأنها غير صحيحة، واعتبرها قذفاً بحق اليهود توجب إقامة الحد، فتم الإفراج عن الحاخام أبو العافية والأخوين هراري، وأغلقت القضية. علماً أنه "عثر" على بقايا عظام الأب توما ومساعده وتم دفنهما في دير الكبوشييّن قبل أن يتمّ نقل شاهد قبرهما في العام 1866 إلى كنيسة الفرنسيسكان عند زاوية تقاطع شارع باب توما مع شارع الدير ويظهر على الشاهدة العبارة التالية باللغتين العربية والإيطالية:
زر تربة الأب توما الكبوشي و اندب مقامه
مرسل رسولي لشام يعظ و يبدي اهتمامه
قد ذبحوه يهودا و لم تجده بتمامه
في خامس أسباط أرخ هذه بقايا عظامه
سنة 1840



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد إيران... أم ما بعد الخطاب؟
- عن الطوفان وأشياء أخرى (41)
- عنتريات السيادة في العصر الإسرائيلي: لبنان المقاطعجي نموذجاً
- عن الطوفان وأشياء أخرى 40
- عن الطوفان وأشياء أخرى (38)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (39)
- قراءة في كتاب -المملكة الكتابية المنسية-: حين يغمس إسرائيل ف ...
- عن الطوفان واشياء اخرى (37)
- عن الطوفان واشياء أخرى (35)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (35)
- عن الطوفان واشياء أخرى (34)
- الطوق والأسورة: من الرواية إلى السينما... ميلودراما عجزت عن ...
- عن الطوفان وأشياء أخرى (33)
- -مأساة النرجس، ملهاة الفضة-... عن تجربة بنيوية في ذاكرة شخصي ...
- عن الطوفان وأشياء أخرى (32)
- -شقيقات قريش-: قراءة أنثروبولوجية في سرديات العرب الكبرى
- فاضل الربيعي: رثاء بفكرة مؤجلة (إعادة قراءة)
- قراءة في -دروس الحرب والهزيمة-: عبرة العرب من هزيمتهم
- ستة أقدام بحجم قبر. قصة قصيرة
- عن الطوفان وأشياء أخرى (31)


المزيد.....




- -حادث بسيط- لجعفر بناهي في صالات السينما الفرنسية
- صناع أفلام عالميين -أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-
- كلاكيت: جعفر علي.. أربعة أفلام لا غير
- أصيلة: شهادات عن محمد بن عيسى.. المُعلم والمُلهم
- السعودية ترحب باختيارها لاستضافة مؤتمر اليونسكو العالمي للسي ...
- فيلم من إنتاج -الجزيرة 360- يتوج بمهرجان عنابة
- -تاريخ العطش-.. أبو شايب يشيد ملحمة غنائية للحب ويحتفي بفلسط ...
- -لا بغداد قرب حياتي-.. علي حبش يكتب خرائط المنفى
- فيلم -معركة تلو الأخرى-.. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون ...
- لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - تاجر البندقية: The Merchant of Venice أو سرديات الغنيمة