|
فاضل الربيعي: رثاء بفكرة مؤجلة (إعادة قراءة)
محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8315 - 2025 / 4 / 17 - 20:16
المحور:
القضية الفلسطينية
رحل فاضل الربيعي.. تاركاً وراءه إرثاً يثقل كاهل البعض، ويخفّ على البعض الآخر. لم أكن على معرفة مباشرة بالربيعي، ولكنني التقيته عدة مرات في دمشق، ربما في العام 2011 أو 2012. كان أول لقاء لنا في مكتب الراحل بلال الحسن، خلال نقاش حول كتابه الجديد آنذاك "القدس ليست أورشليم"، قدّمه كتتويج، في حينه، لأطروحته حول تفكيك الرواية الاستشراقية عن تاريخ فلسطين، وهي رواية كما يصفها" كرّست منظومة من الأفكار الزائفة والخاطئة" مؤكداً أنها قد بلغت الآن "الشوط الأخير من انهيارها"، إذ "بدأت تتآكل وتتمزق بفعل تناقضاتها الداخلية؛ فهي رواية تقوم على الشيء ونقيضه". منذ بداية الحوار، بدا لي النقاش معه صعباً وغير مثمر، إذ لم يكن منفتحاً على النقد أو المراجعة، حتى من غير المتخصصين. واتخذ موقفاً أقرب إلى "التعالي المعرفي"، واضعاً محاوره في خانة المتلقي، وليس في خانة الشريك في الحوار أو التفكير. ورغم أنني لست متخصصاً في مجاله ولا أملك - مثله - كمّاً هائلاً من المعلومات، إلا أنني كنت قد قرأت معظم أعماله حتى ذلك الحين. ووجدت في مجمل فرضياته ومقولاته عن "جغرافية الحدث التوراتي" مجرد إعادة غير موفقة لأفكار المؤرخ اللبناني كمال الصليبي، ما جعلني أنأى لاحقاً عن المتابعة الحثيثة لإنتاجه اللاحق في هذا الشأن، إلا بدافع الفضول. تعد مسألة تحديد المكان الجغرافي لأحداث المرويات الكتابية من القضايا المركزية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والدراسات التاريخية العربية الحديثة. وكان المؤرخ اللبناني، كمال الصليبي (1929-2011) من أوائل من تناول هذه الإشكالية، حين قدم فرضيته المثيرة للجدل في كتابه الشهر "التوراة جاءت من جزيرة العرب" في ثمانينيات القرن الماضي، وتبعه في ذلك عدد من الباحثين مثل فرج الله صالح ديب (1943-2022) ود. زياد منى(1950-2022)، وغيرهما. والتي تقوم على فكرة أن تضاريس جنوب الجزيرة العربية، وخصوصاً عسير واليمن، تتطابق أكثر مع أوصاف الأحداث المذكورة في نصوص العهد القديم، أكثر من تطابقها مع جغرافية فلسطين، كما هو شائع، زاعماً أن هذه الأسماء حُرّفت أو شُوّهت من خلال النقل أثناء نقلها وتداولها عبر الزمن، كما هو سائد في التقاليد الكتابية. اعتمد الصليبي في فرضيته على التحليل اللغوي والتاريخي، وتفسير الأسماء الجغرافية في التوراة على أنها تتماشى مع المواقع الجغرافية في الجزيرة العربية أكثر من فلسطين. تلقت هذه الفرضية ردود فعل عديدة، وأثارت موجة من التفاعل معها تراوحت بين القبول والرفض. ومن أبرز من انتقدها كان الباحث السوري فراس السواح في كتابه "الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم: نظرية كمال الصليبي في ميزان الحقائق التاريخية والآثارية" (1999)، مشيراً إلى المشاكل المنهجية التي تعتري دراسات تاريخ الشرق الأدنى القديم، واصفاً عمل الصليبي بأنه يغفل السياق التاريخي والثقافي للنصوص الكتابية بحد ذاتها، إضافة إلى النصوص غير الكتابية والأدلة الاثرية وتأويلاتها التي تشير إلى فلسطين كمسرح لتلك الأحداث. واعتبر-السواح- أن عزل الحدث عن بيئته التاريخية، التي أنتجته وأنتجت مروياته، يفقده معناه الرمزي والديني، وأن البحث عن مواقع بديلة ربما يقود إلى إلغاء التقاليد التي تشكلت عبر قرون من التجرية التاريخية والدينية (وعلى وجه الخصوص التاريخ اليهودي المبكر). اتخذ الربيعي موقف القبول المتحفظ لفرضية الصليبي ورأى بضرورة تطوير مقاربة أوسع تتعدى نطاق تحديد المواقع الجغرافية بالطرق التقليدية، والانتقال نحو قراءة وفهم أكثر شمولاً لـ "تاريخية الحدث التوراتي". ورغم تبنيه بعض أفكار الصليبي، خاصة فيما يتعلق بإعادة النظر في "الأصول الجغرافية للأنساب"، إلا أنه توسع في التحليل ليشمل البنية الثقافية والاجتماعية للهُويات القبلية وتحولاتها عبر الزمن. وسعى إلى تفكيك المرويات الكتابية بقراءتها من منظور نقدي تاريخي، يضاف إلى المنظور اللغوي -على كل حال-، مركزاً على دور الأسطورة والذاكرة الشفوية في صياغة التصورات التاريخية بعيداً عن الطرح اللغوي الأحادي الذي ربما يقتصر على تفسير "فرضيات جغرافية" معزولة. وهذا ما دفعه لألقاء مزيد من الأسئلة المتعلقة بـ "المكان والزمان" في مسار التاريخ القديم بمعزل عن "الثوابت التقليدية" والمسلمات التاريخية. بيد أنه، وفي سعيه لتقديم "رؤية جديدة" -حسب اعتقاده-، وقع في عدة إشكاليات منهجية ومعرفية (وهو ذات المأزق الذي وقع في الصليبي نفسه)، فبدلاً في تثبيت تراكم معرفي يشتبك نقدياً مع المصادر الكلاسيكية والحديثة على حد سواء، اكتفى غالباً بإعادة صياغة أفكاره بلغة جازمة لا تحتمل التعدد والنقاش، متكأً بشكل مفرط على المقارنات الجغرافية كأداة تفسيرية. كما سعى إلى "فرض" قراءة موحدة للأحداث وربطها بأماكن محددة ذات طابع رمزي وديني، وإسقاطها بشكل ميكانيكي على جغرافية معينة (اليمن). وقد بدت الكثير من مقولاته تعاني من غياب الإسناد المنهجي الواضح، بل أنه -بالأحرى- لجأ إلى انتقاءات لغوية وجغرافية طوّعها لتخدم فرضيته الأصلية دون اختبار حقيقي لها في سياقات متعددة. فاعتمد على نصوص بعينها وأهمل أخرى تناقضها أو تفكك -بمعنى تنفي أو تلغي- سرديته. وتبدو النزعة التأويلية في قراءته أقرب إلى الاجتهاد التخيلي منها إلى التحري والتحليل الدقيق، ما جعلها غير قابلة للتوثيق الأكاديمي، بل أنها تفتح المجال لتوظيفها خارج السياق العلمي ضمن أطر إيديولوجية وحتى شعبوية. ومن الأهمية بمكان الإشارة أيضاً إلى أن انغماس الربيعي في التاريخ الفلسطيني القديم طغى على جوانب أخرى تستحق المزيد من التنقيب الأكاديمي في إطار دراسات الأنثروبولوجيا. فالتراث الكتابي ليس مجرد جغرافيا، بل نسيج متداخل من المعاني الدينية والتاريخية والثقافية، وأي محاولة لفصله عن سياقه هذا قد تؤدي إلى تفسيرات قسرية تتجاهل تعقيد النصوص الدينية وتأويلاتها المتعددة. إذ يبدو من غير المجدي في هذا الصدد، دمج مسائل تاريخية شائكة -مثل المسألة الفلسطينية المعاصرة- إلا إذا كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بمسألة الهُوية والثقافة بشكل أوسع، الأمر الذي يبدو أنه أخذ حيزاً أكبر عند فاضل الربيعي. فإذا كان الصليبي قد اكتفى بـ "إعادة تأويل جغرافية النص التوراتي"، فقد حاول الربيعي الجمع بين التفسير الجغرافي والاجتماعي، لكنه وقع في إشكالية أخرى، إذ انحرف خطابه نحو مسارات إيديولوجية ضيقة، وأنساق افتراضية "متخيلة" للتاريخ الفلسطيني القديم، مما جعل قراءته أقرب إلى التحليل السياسي منها إلى البحث الأكاديمي الرصين. لكن المشكلة لا تكمن فقط في رد الفعل الأكاديمي المتحفّظ أو الهجومي إزاء أطروحته، بل في غياب تفاعل نقدي حقيقي معها. فقد تَراوح التعامل مع مشروعه بين الإقصاء السريع، أو الإعجاب الحذر، أو التوظيف الإيديولوجي. أما النقاش المعرفي الجاد الذي يتناول فرضياته، ويتقاطع معها أو يفندها في ضوء مناهج بديلة، فلا يزال نادراً، إن لم يكن غائباً. علماً أن أطروحته تثير اعتراضات أسئلة جذرية حول علاقة السرد بالمكان، وحول الكيفية التي يُبنى بها التاريخ لمصلحة السلطة، تخرج من حدود التأريخ الضيق، وتُمثل جزءً من تحوُّل أوسع تشهده الدراسات التاريخية والدينية في العالم العربي، وتقدم إسهاماً في النقاش الأوسع حول علاقة السلطة بالسرد، وحول الكيفية التي تُبنى بها "الهوية" على رُكام من الأساطير المؤسِّسة. حيث لم تعد الروايات التقليدية تحظى بالقبول التلقائي، ولم يعد ينظر إلى "الموروث" بوصفه حقيقة لا تقبل الشك. فحين يشكك الربيعي في مكان وقوع الحكاية التوراتية، فإنه يهزّ أسساً راسخة في الوعي الديني والسياسي، ويدعو القارئ العربي إلى إعادة النظر في مفردات طالما اعتقدنا أنها نهائية. وهذه الدعوة بحد ذاتها تشكّل اختراقاً معرفيّاً مهمّاً، حتى لو لم تنجُ من العثرات، إذ أن الخروج من أسر الرواية السائدة لا يعني بالضرورة الوقوع في أسر رواية مضادة، تُسقط أدوات النقد والتمحيص، وتستبدل سلطة بأخرى. فالنقد الحقيقي لا يكتفي بإثارة الشك، بل يعمل على إقامة بدائل أكثر اتساقاً وصرامة ووضوحاً. غير أن الخروج من أسر الرواية السائدة لا يعني بالضرورة الوقوع في أسر رواية مضادة، تُسقط أدوات النقد والتمحيص، وتستبدل سلطة بأخرى. فالنقد الحقيقي لا يكتفي بإثارة الشك، بل يعمل على إقامة بدائل أكثر اتساقاً وصرامة ووضوحاً. وبين الجرأة في التفكيك، والثغرات في المنهج، تبقى مساهمة الربيعي علامة فارقة في نقاش لم يُستكمل بعد، ولا ينبغي أن يُغلق بسهولة. لطالما كانت الدراسات المتعلقة بتاريخ فلسطين القديم محفوفة بمخاطر الانزلاق نحو مسارات سياسية قد تخرج البحث عن إطاره العلمي بسبب الظرف السياسي المعاصر. وهذا ما بدا واضحاً في بعض أعمال الربيعي ومن تأثروا بمنهجه، حيث اختلط النقد التاريخي بالخطاب السياسي، ما أفقد مشروعه الوضوح والاتساق المطلوبين عادةً في مثل هذا النوع من الأبحاث. لو أنه تأنى أكثر لكان بمقدوره، في ما أظن، تقديم إضافة نوعية في الأنثروبولوجيا العربية لو ركز أكثر على الجانب الثقافي والاجتماعي (كما فعل في كتابه الرائد "شقيقات قريش") بدلاً من انخراطه في تأويلات تاريخية ذات حساسية إيديولوجية،(وإن كانت مفهومة في بعض الحالات) قد تبتعد عن الهدف الرئيسي لعمله وتشتت القراءة الأكاديمية المحايدة. وينطبق هذا على أعمال فاضل الربيعي (على الأقل تلك التي اطلعت عليها شخصياً) حيث يبرز فيها (بقصد أو دون قصد) التأثر الواضح بالوضع السياسي المعاصر لفلسطين، مما يضع بحثه موضع تساؤل أيا كان القصد منه. فالبحث في تاريخ المنطقة يجب أن يستند إلى أدوات منهجية صارمة، بعيداً عن أي إسقاطات إيديولوجية تخرجه عن موضوعيته وتضر به وبمصداقيته أكثر مما تخدمه، كما أنها تشتت القراءة الأكاديمية المحايدة، وتجر الباحث إلى سجالات سياسية لا تخدم البحث العلمي، وتضعه في موضع التحليل السياسي أكثر من موضوع البحث الأكاديمي. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار الأثر الذي أحدثته أطروحة الربيعي في توسيع مجال النقاش، بالأحرى إعادة فتحه، حول الجغرافيا التوراتية، وفك الارتباط بين "المقدس" و"المكان" بوصفه علاقة غير بديهية، بل علاقة تشكلت عبر قرون من التراكم السردي والديني والسياسي. نجح الربيعي، إلى حد ما، في نقل النقاش من حدود الثوابت العقائدية إلى ساحة الأسئلة التاريخية المفتوحة. وهي خطوة، رغم كل ما يحيط بها من تحفظات نقدية، تبقى مشروعة وضرورية لفهم كيف جرت صياغة "تاريخ فلسطين" في الوعي الغربي الحديث، وكيف أُعيد إنتاجه في الوعي العربي المعاصر. ولعل التحدي الأبرز أمام الربيعي وأمثاله من أصحاب الأطروحات غير المألوفة، يكمن في القدرة على بناء حوار جاد مع المؤسسة الأكاديمية، وليس الانزواء على هواشمها أو الوقوع في خصومة مستمرة معها. فالأفكار التي تملك القدرة على الصمود ليست تلك التي تعتمد على إثارة الدهشة أو التصادم، بل التي تملك بُنية معرفية مرنة، تتطور مع النقد، وتنتج أدواتها ومفاهيمها داخل حقول معرفية منفتحة على التعدد والتطوير. لا يكتفي الربيعي بالاعتراض على تفاصيل التاريخ الشائع، بل يرفض بشدة وجرأة خريطة التاريخ كما رُسمت في أذهاننا، ويقترح خريطة بديلة تُفكّك المركز وتعيد بناء الهوامش. ومن هنا، فإن ما يقدمه أقرب ما يكون إلى مشروع تفكيكي واسع، وليس مجرّد بحث جغرافي في أسماء القبائل والمدن والجبال والأنهار يعيد النظر في أسس "التاريخ المقدس" ويكشف عن قلق مشروع سكن العقل العربي طويلاً تجاه التوظيف السياسي للتاريخ. وتظل هذه المحاولة، رغم ثغراتها المنهجية، إسهاماً مهماً في نقاش لم يكتمل، وربما لن يكتمل قريباً. لماورائية" التي سكنت العقل العربي طويلاً. فالسؤال عن "المكان" و"الحدث" و"السردية" في تاريخ فلسطين، يظل مفتوحاً على إمكانيات كثيرة، بعضها لا يزال يُكتب، وبعضها لم يُكتب بعد. وحسب الواقع الراهن. يبدو أن محاولة تصحيح المفاهيم الغربية المعاصرة بشأن بعض القضايا التي تشغلنا، مثل القضية الفلسطينية، تواجه صعوبات وتحديات جسيمة. فمع مرور الزمن، تتوارى الحقائق، وتغدو حقائق الأساطير الغربية المرتبطة بالصراع مع إسرائيل، أساساً للفهم السائد، وجزءً من "الحقائق" المهيمنة، وتتمثل هذه المعضلة في أن هذه الأساطير تتخذ طابعاً استعمارياً وتاريخياً مضللاً على نحو متواصل، لتستمر في التأثير على الفهم والعقل السياسي الغربي للوضع الفلسطيني لتتحدى-بذلك- الفهم الصحيح للواقع الفلسطيني. وتشكّل جزءً من الحكايات التي تسيطر على السرديات الغربية، حيث تصوّر الوضع الفلسطيني من زاوية واحدة، ما يعزز الانطباع بأن "الضحايا" ليسوا أكثر من مجرد نقطة عبور تاريخية محكومة لحقائق غربية دائمة. تسهم وسائل الإعلام، في تبنيها للأساطير السياسية، في ترسيخ الصورة المشوهة عن فلسطين. حيث تُقدّم القضية الفلسطينية والوقائع اليومية في الأراضي الفلسطينية من زاوية أحادية، ما يؤدي إلى تبسيط الصورة لدرجة تشويه الحقائق. ما يُروّج له في الغرب على أنه حياد في معالجة القضية الفلسطينية لا يعدو أن يكون تمويهاً لنظام استعمار مستمر، حيث تصبح التصريحات والتفسيرات التي تصدر عن وسائل الإعلام الغربية والمراكز الأكاديمية هي الوحيدة التي تُحدد سياقات فهم القضية الفلسطينية. هذه الصورة المختلة في الفهم لا تختفي بسهولة، رغم الجهود المستمرة لتحدي هذه السرديات المشوّهة. غالباً ما يُبنى التاريخ الفلسطيني على مفاهيم مغلوطة أو مشوّهة، مما يُعمق الفجوة بين الحقيقة الفعلية والمفاهيم المغيبة التي يتم إعادة تشكيلها بما يتماشى مع مصالح وإيديولوجيات الغرب. ويؤدي ادعاء الغرب بالحياد إلى إعاقة دوره الفاعل في إيجاد حلول حقيقية للصراع، ويُسهم في تشكيل سياسات غير متوازنة. في ظل هذا الادعاء، تظهر مشكلة أخرى تتعلق بالتصورات التاريخية المضللة، حيث يتجاهل الغرب خلفياته الاستعمارية ودوره المباشر في تشكيل السياسات التي أدت إلى هذا النزاع. هذا الادعاء بالحياد يعزز إنكار الحقائق التاريخية التي تم تكريسها على مدار عقود من الاستعمار الممنهج، مما يسهم في استمرار القمع وتشويه التاريخ. كما أن الإعلام الغربي يسهم في تقديم القضية الفلسطينية بشكل قاصر وبسيط، مغفلاً بذلك التفاصيل السياسية والثقافية العميقة التي ساهمت في تفاقم الوضع الراهن. والأهم من ذلك، تكمن المشكلة في أن الغرب غالباً ما يعرض تصوراته عن المجتمعات الأخرى من خلال عدسة استعمارية، تتسم بالتمييز والتنميط. يكمن التحدي الأكبر في إعادة صياغة هذه المفاهيم من منظور يعكس الواقع الملموس وعلى أسس أكثر واقعية وعادلة. في الوقت الذي تروّج فيه بعض الفئات الغربية لأيديولوجيات متسامحة، إلا أن واقع الحال يظل أسيراً للصورة النمطية الملتبسة التي تساهم في تغذية معاداة الفلسطينيين كجزء من هذا الانحياز العنصري. إعادة تشكيل هذه الصورة في سياق فلسطيني عادل وواقعي يتطلب التصدي لهذه الروايات المغلوطة بصرامة وبحث نقدي معمق، مع التأكيد على تأثير الذاكرة الجماعية الفلسطينية. هذه الذاكرة لا تعكس مجرد تاريخ مفصل من النضال، بل تتجاوزها إلى سردية تتحدى النظام الأكاديمي والإعلامي الغربي. وأي محاولة لتجاوز هذه الصورة النمطية تظل معركة موازية في مواجهة الحقائق التي يروج لها هذا النظام يتقدّم الربيعي بأطروحته بوصفها رداً معرفياً على المشروع الصهيوني، الذي يستمد شرعيته من دعوى "الحق التاريخي والديني" في "أرض الميعاد". لكنه لا يكتفي بذلك، بل يوسع من مدى اشتغاله ليشمل نقداً جذرياً للموروث الإسلامي الكلاسيكي، وما يعتبره خضوعاً غير واعٍ للروايات التوراتية. وهو يرى في الجغرافيا مفتاح لفهم هذا الالتباس الذي امتد قروناً. فالمشكلة ليست في من قال، بل أين حدث ما قيل. ومن هذا المنطلق، تتصدر أعماله التي يتناول فيها علاقة الدين والسياسة في الفكر الاستشراقي الأكاديمي (ومن خلفه الفكر الصهيوني) وتحليل نصوص العهد القديم في سياق جغرافي مختلف عن الرواية التقليدية. فيكشف- كيف استخدم النص الكتابي لإعادة تشكيل هوية سياسية وجغرافية لفلسطين منحازة، وكيف جرى تطويعها لتخدم أغراضاً سياسية ودينية في العصور الحديثة. ومن أبرز هذه الأعمال: "فلسطين المتخيلة" (جزءان)، "القدس ليست أورشليم"، "أسطورة عبور الأردن وسقوط أريحا"، "حقيقة السبي البابلي"، "بنو إسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر" (سفر الخروج)، "مصر الأخرى: إسرائيل المتخيلة"، "مساهمة في تصحيح التاريخ الرسمي لمملكة إسرائيل القديمة"، "يهوذا والسامرة: البحث عن مملكة حمير اليهودية"، "الرومان ويهود اليمن"، "إبراهيم وسارة"، "إسماعيل وهاجر"، "مكة وإيلاف قريش"، "الذاكرة المنهوبة: علم الآثار التوراتي وتزوير تاريخ فلسطين والشرق الأدنى القديم"، "إرم ذات العماد - من مكة إلى أورشليم - البحث عن الجنة"، "الشيطان والعرش: رحلة النبي سليمان إلى اليمن"، "يوسف والبئر: أسطورة الوقوع في غرام الضيف"... وغيرها. في موازاة ذلك، يُعيد الربيعي قراءة جغرافيا اليمن من زاوية مغايرة للتقاليد، تستفز التفكير التقليدي حول تاريخ فلسطين وجغرافيا التوراة، وتفتح باباً لفهم أعمق وأكثر تنوعاً عن كيفية تطور هذه المفاهيم عبر العصور، حيث يرى أن بعض الأحداث التوراتية ربما جرت في مناطق مختلفة من جنوب الجزيرة العربية، بما في ذلك اليمن، وليس في فلسطين، كما هو شائع. وتثير هذه المقاربة النقدية تساؤلات حول كيفية توظيف الجغرافيا والتاريخ لصنع أساطير تأسيسية -سياسية ودينية-، كما يفتح تحليله الفيلولوجي باباً لفهم تحولات المفاهيم الجغرافية والتاريخية، التي طالما كانت تُعتبر ثابتة، ودوافع إعادة صياغتها لتنسجم مع مصالح القوى المعاصرة. ورغم أهمية إعادة قراءة السرديات الدينية بروح نقدية، فهذا لا يعني إلغاء مساراتها التاريخية أو إسقاط نظريات جغرافية غير محسومة على نصوصها ذات الطابع الرمزي المعقد. ويبقى البحث في هذا الموضوع مفتوحاً، لكنه بحاجة إلى أدوات أكثر دقة وحياداً، بعيداً عن الرؤى الاختزالية والتوظيف السياسي الذي قد يسيء إلى البحث أكثر مما يخدمه. لم يكن فاضل الربيعي باحثاً أكاديمياً بالمعنى التقليدي؛ بل كان مفكراً مثيراً للجدل ترك وراءه أعمالاً تستحق التأمل والمتابعة من حيث توقف. وإن لم تكن خالية من الثغرات.
وإن كانت طروحاته لا تخلو من الثغرات، فقد كان بإمكانه أن يصبح علامة فارقة في الدراسات الأنثروبولوجيا العربية، لو ركز على الجوانب الثقافية والاجتماعية، لكنه انجرف إلى مساحات سياسية أضعفت طروحاته البحثية. يبقى التحدي الأساسي لأي مشروع من هذا النوع يكمن في القدرة على بناء فرضيات قابلة للنقاش، تستند إلى أدوات تحليل دقيقة، ومنفتحة على التعدد والتعقيد، وليس الاكتفاء بتفكيك السرديات السائدة ثم استبدالها بأخرى لا تقل عنها وثوقية أو أحادية. فالمعرفة، حين تنغلق على ذاتها، تفقد قدرتها على مساءلة العالم.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في -دروس الحرب والهزيمة-: عبرة العرب من هزيمتهم
-
ستة أقدام بحجم قبر. قصة قصيرة
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (31)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (30)
-
الجوانب الاجتماعية والسياسية لعلم الآثار الكتابي المعاصر في
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (29)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (28)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (25)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (24)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (23)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (26)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (27)
-
استثمار الكارثة بين العقاب الإلهي والشخصنة والتأويل
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (22)
-
مختبر فلسطين: تسويق وتصدير تقنيات الاحتلال
-
الطوفان وأشياء أخر (21)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (20)
-
علم الآثار الكتابي في إسرائيل: حين يغمّس -إسرائيل فنكلشتين-
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (19)
المزيد.....
-
فيديو مكالمة تصل جوال ترامب وردة فعله كاشفا من المتصل يثير ت
...
-
الفوضى تتفشى في غزة بينما ينتظر -السكان اليائسون- وصول الطعا
...
-
مستشفى الشفاء في غزة مكتظ بالمرضى بعد توقف باقي المستشفيات ش
...
-
قبل أيام من محاولة الهبوط الخطيرة.. مسبار ياباني يلتقط صورة
...
-
حيرت العلماء.. اكتشاف نسخة عملاقة من درب التبانة عمرها 11 مل
...
-
مجلس أوروبا: ما يحصل في غزة -قد يرقى لمستوى إبادة جماعية-
-
نائب ترامب يتحدث عن -اللكمة القاضية-.. ويستشهد بالحوثيين
-
صور فضائية تكشف حجم -الكارثة التي أغضبت زعيم كوريا الشمالية-
...
-
كييف في حالة تأهب بعد هجوم روسي بطائرات مسيرة وصواريخ
-
بعد فضيحة -سيغنال-.. إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي الأمريكي.
...
المزيد.....
-
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية
/ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
-
الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها
/ محمود خلف
-
الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها
/ فتحي الكليب
-
سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية
...
/ سمير أبو مدللة
-
تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل
/ غازي الصوراني
-
حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية
/ فتحي كليب و محمود خلف
-
اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني
/ غازي الصوراني
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
/ غازي الصوراني
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|