محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 03:00
المحور:
القضية الفلسطينية
-الفيتو الأمريكي، يدٌ بيضاء تُغطي على جريمة إبادة
ما الذي يعنيه أن تكون فلسطينياً في عالم يمعن في إنكارك؟
كيف يبدو شكل العدل حين تحتكره قوة تقرر وحدها من يستحق الحياة، ومن يُترك للموت تحت الأنقاض؟
استخدمت الولايات المتحدة، للمرة الثالثة منذ بدء العدوان في تشرين الأول 2023، حق النقض (الفيتو) لإسقاط مشروع قرار تقدّمت به الجزائر إلى مجلس الأمن الدولي، ينص على وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وضمان حماية المدنيين.
صوّتت لصالح القرار 13 دولة من أصل 15، وامتنعت بريطانيا عن التصويت. وحدها واشنطن رفعت يدها لتعطيل القرار.
بئس الغرب حقاً، حين يدّعي تمثيل القيم والعدالة، ثم يعادي "الآخر" لأنه لا يناسب سرديّته.
حين يُسقط ذنوبه على الضحية الخطأ، ويعالج جراحه التاريخية بمجزرة جديدة. ما كان ينبغي أن يكون تكفيراً عن "الخطيئة الأوروبية"، تحوّل إلى مشروع نزع جماعي لحقوق شعبٍ آخر.
وما سُمّي "وعداً"، كان في الحقيقة صفقة استعمارية لتصدير "المسألة اليهودية" إلى الشرق، وجعل الفلسطيني يدفع ثمن دماء لم يسفكها. بهذا المعنى، الغرب لم يُخطئ فقط في حق الفلسطيني، بل عاداه بنيوياً، لأن وجوده وتاريخه يُربكان سردية "الخلاص الأوروبي". فالغرب لا يحتمل وجود ضحية جديدة
وهذه اليد المرفوعة ليست مجرّد موقف سياسي، بل بيان استعماري صريح، يتحدث بلغة هيمنة لا تحتاج إلى ترجمة. يدٌ إمبريالية "بيضاء" تُحيّد الجلاد، وتُشيّئ الضحية، وتجردها من إنسانيتها وسياقها السياسي، وتحوّلها إلى مجرد "جموع جائعة" تنتظر الإغاثة.
لا أبرياء في غزة، وفق خيال المستعمِر. لا ضحايا، لا قضية، لا شعب. فقط أجساد تحت الأنقاض وصور تُبثّ للعالم لثوانٍ ثم تُنسى.
يتكثف في حركة اليد كل منطق التاريخ الاستعماري والغطرسة الإمبريالية والاستعلاء وتبرير الهيمنة. إنه خطاب القوة في أوضح تجلياته: احتكار لسردية المعاناة، وإقصاء لصوت الفلسطيني، وتعميش لحقه في الرواية.
لا يُسأل الفلسطيني عن رأيه، ولا يُصغى لحكايته، بل يتحدث الآخرون باسمه، حتى حين "يتعاطفون" معه.
حتى "التعاطف" مشروط ومفرغ من المعنى، بدار بلغة نقصيه عن موقع الفاعل، وتحيله إلى مستودع دائم للشفقة. إنه "الضحية المستحيلة" في هذا الخيال الأخلاقي الغربي، لا يحق له أصلاً أن يكون ضحية. ماذا، وإلا سيهدد الاعتراف به كضحية الأساس الأخلاقي لمعايير "النظام العالمي القائم على القواعد"، ويقوض جوهر السردية الغربية ذاتها.
"معاداة الفلسطينيين"، ليست فقط في القصف والتهجير والتجويع، بل أيضاً نزع الاعتراف، وفي تبرير الجرائم باسم "الحياد" وقمع الموقف الأخلاقي باسم "العقلانية السياسية". وفي مشهد مناقض، يتحوّل الفلسطيني إلى "وظيفة رمزية"؛ أداة لتطهير الضمير الغربي من تاريخه العنيف، بإسقاط صفات "العنف" و"اللاعقلانية" و "الرفض" عليه، فيتحول إلى كائن زائد عن الحاجة ينبغي تقنين حضوره أو إزالته.
لا ينعكس التواطؤ الغربي في معاداة الفلسطينيين في الموقف السياسية فقط، بل أيضاً في البنى الثقافية، وفي صمت دولي وإقليمي مثير للريبة والجدل.
وهذا لا يعكس خذلاناً سياسياً فقط، بل أيضاً انخراطاً في مشروع نزع إنسانية الفلسطيني بصفته ضحية لا تجد صدى لها أو انعكاس في مرآة العالم الأخلاقية
لنتذكر! إن هذه الإسرائيل -التي ليس كمثلها عدو-ليست فقط قوة استعمارية، بل مشروع إزالة، لا ترى في الفلسطيني سوى تهديد بيولوجي وثقافي ينبغي اجتثاثه.
-ماذا يعني أن يُدار الوجود الفلسطيني تحت نظام عقوبات متكامل؟
ليس المقصود، قطعاً، مجرد فرض العقوبات التقليدية، بل تحويل الحياة الفلسطينية بأكملها إلى فضاء خاضع لمنظومة شاملة من المكافآت والعقوبات، تتغلغل حتى أعماق التفاصيل اليومية. تشبه إسرائيل الفلسطيني في نظرها بكائن عليه الطاعة والولاء والصمت لتتكرم عليه بالعيش. والوسيلة لتحقيق ذلك: بناء نظام عقابي-رقابي يجعل من كل حركة للفرد الفلسطيني موضوع مراقبة وحكم ومساءلة.
يصف إيريك فروم الإنسان بأنه كائن استجابة يتفاعل مع أي محرض أو مؤثر خارجي، مثل بقية الكائنات الحية، لكنه يتميز عنها بامتلاكه منظومة عقلية وأخلاقية (يدعوها هيغل منظومة الأوامر والنواهي). ورغم هذا التمايز، يرى بعض أهل الاختصاص في الفيزيولوجيا وعلم النفس السلوكي، أن السلوك البشري يخضع، في جوهره، لمنطق الثواب والعقاب، وأن الحياة الإنسانية-الاجتماعية تخضع إلى حد كبير لتأثير هذه الثنائية، حيث ينتظر من الفرد أن يسلك، مثل أي كائن آخر، سلوكاً يقوده أو يضمن له في نهاية المطاف المكافأة أو ،على الأقل يجنبه المعاقبة أو، حتى التهديد في العقاب "باعتباره معاقبة من سوية أخرى"
هذا بالضبط ما تعممه إسرائيل حرفياً على الوجود الفلسطيني، بتحويله إلى مساحة دائمة للتهديد بالعقوبة أو الوعد بالمكافأة، وفق مشيئتها، فهي توظف سياسات العقاب الجماعي من هدم البيوت والحصار والاعتقال والإعدام على الحواجز، ولا تكتفي بالاستحواذ على الأرض، بل تستولي أيضاً على ما فوقها وما تحتها، على الهواء والفضاء، على الضوء والصوت، وتحصي الأنفاس والسعرات الحرارية عبر نظام مراقبة معقد وشامل من الرصد اليومي، بواسطة أقمار صناعية وطائرات استطلاع وبالونات حاملة لكاميرات المراقبة تبث ملا تلتقطه في الزمن الحقيقي، لتسجيل أدق التفاصيل عند أدنى شبهة بوجود فعل أو عمل مقاوم.
إلى جانب ذلك، أنشأت هذه الإسرائيل -التي ليس كمثلها عدو، "بنك" معلومات بيومتري ضخم يضم قاعدة بيانات دقيقة، تشمل فحوصات الـ DNA بحيث تحول الصراع إلى ما يشبه "حرب ميكروسكوبية" تقاس فيها المسافة بين أطرافها بالأمتار، بل أقل.
منح هذا التفوق التقني والأمني والاستخباراتي إسرائيل قدرة مرعبة على رصد كل غرفة في كل منزل، بل كل سيارة، بل كل مكالمة هاتفية أو بث إذاعي.
وكل هذا لا تعده إسرائيل ومن يدعمها إرهاب، فالقاعدة المعروفة -على الصعيد الإسرائيلي- القيام بدعاية عالمية صاخبة لتحويل المجموع الفلسطيني إلى مجموع كمي إرهابي لا يقدم للعامل سوى العنف، وبالتالي، تستوجب محاربة هذا المجموع (المتعين بهذه الصفة)، من خلال سردية تؤسس لهوية تربط بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال في إطار واحد فضفاض وغامض، دون تحديد شكل أو جذور أو سمات هذه الهوية، ودون مساءلة عن السياق أو الأسباب، في سردية تحتكر فيها حق الدفاع عن النفس، وتزعم تمثيل الضحية الأبدية .
لقد قامت إسرائيل بكي "سطح" الحياة الفلسطينية اليومية، وهو أمر لا يمثل فقط اعتداء على الجسم الاجتماعي الفلسطيني ككيان سياسي محتمل، بما يتجاوز الإشارة إلى الأذى الظاهر، ليصف تفكيك "الحياة المجردة" بحد ذاتها، أي الوجود الإنساني في أبسط حالاته وأشكاله. والعمل على إعادة إنتاج الإنسان الفلسطيني كشخص لا خيار له ولا قرار يملكه، إلا الطاعة أو الصمت، وإعادة تشكيل إدراكه وهندسة وعيه وترتيب حياته العادية عبر الضغط المتواصل على تفاصيل معيشه اليومي، ضمن بيئة عقاب مستدام تسهم في فتق غلالة نسيج حياته اليومية وفرص هندسة القوة بطريقة تدفعه إلى هامش التاريخ وحافة اليأس.
على الهامش: تحدثت اليوم مع صديق من غزة، وكلامه أثار في داخلي أشياء كثيرة؛ بعضها عظيم، وبعضها مؤلم، بعضها قاسٍ، وبعضها قاتل، وبعضها مقاوم يقطع كالسيف. بعض من حديثه أصابني في الصميم حقاً.
ما يجري اليوم في غزة، من حرب إبادة جماعية، أسهم في تعميق رؤيتي لتاريخ المشروع الاستيطاني الأوروبي الأبيض، وطبيعة عمله، منذ القرن السادس عشر، فكل عناصره حاضرة اليوم: رمزية الضحية، وهندسة الجوع، وتقنية العقاب والثواب، والموت المجاني، وتحويل الفلسطيني، إلى "موضوع" لا "إنسان" في المخيلة الإسرائيلية والغربية على حد سواء...
ورغم كل هذا الموت أنا متفائل... متفائل، ليس بتفكير مرغوب فيه.. بل لجهة أن ما يقوم به مجتمع المستعمرين في فلسطين الآن، يعيد إنتاج ورسم "منحنى الانحدار" الاستعماري الذي يبدأ بالاحتلال فمصادرة الأرض وحيازتها، فمحاولة القضاء على السكان المحليين، فبناء كيانهم، ثم بلوغ الذروة، وأخيراً تبدأ مرحلة الانهيار وهي الأشد قسوة وفتكاً.. لكن هذا الانهيار الموضوعي لا يحدث وحده أو من تلقاء ذاته، بل يحتاج إلى تحقق شرط جوهري ذاتي: صمود سكان الأرض أمام الفناء.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟