محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8436 - 2025 / 8 / 16 - 09:20
المحور:
القضية الفلسطينية
في أحدث مشهد من مشاهد فصول النذالة السياسية، أذعن لبنان الرسمي (رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس الوزراء) لقبول الورقة الأمريكية* كما هي، علماً أن جميع الملاحظات التي عرضتها الدولة اللبنانية** قوبلت بالرفض الأمريكي التام غير القابل للنقاش وأتى جواب وحيد فقط من إدارة أبو حنان (take it´-or-leave it).
وزاد الطين طيناً في هذا المشهد خروج من يعبر عن فرحه بأن الدولة اللبنانية استطاعت أخيراً اتخاذ قرار "وطني" يصب في مصلحة البلد.
بهدوء أكثر، يمكن تفهم حجم الضغوطات المفروضة على البلد، لا سيما لجهة الترتيبات الإقليمية الجديدة، التي هي أكبر من قدرة لبنان على "الاعتراض".
بهدوء أكثر وأكثر، ها قد عرفنا الآن ما هو مطلوب من الرئيس الجديد والحكومة الجديدة، فالتوجه لتشكيل خرائط النفوذ في الشرق الأوسط يقتضي ترتيب الأمور على المقاس الأمني الإسرائيلي، بحيث يكون (أو يصبح لا فرق) لبنان جزء من منظومة ضبط إقليمي بإدارة واشنطن وتل أبيب.
لا يغرك خطاب السيادة، فهو واجهة إعلامية وسياسية تحاول استيعاب الصراعات الداخلية وضبط التوترات الاجتماعية، دون امتلاك القدرة أو الإرادة على مواجهة القوة الموازية فعلياً، خطاب متهافت موجه للاستهلاك المحلي، وغطاء لغوي فارغ للرضوخ السياسي إذ لطالما كان لبنان كياناً "تفاوضياً"، دائم التعامل مع الملفات الكبرى بمنطق "المقاطعجي" المتمثل في شبكة علاقات الفساد، السمسرة، الطوائف المتوارثة، والإقطاع السياسي، التي تغلغلت في بنية الدولة والمجتمع اللبناني. فضلاً عن حرب أهلية (1975-1990) تركت وراءها جروحاً نازفة، وانقسامات طائفية ومذهبية لم تُلتئم حتى اليوم.
وينسجم حزب الله ضمن هذا المنظور كجزء من شبكة نفوذ تتشارك مصالح متبادلة مع أقطاب الفساد والطائفية، فتتداخل الخطوط بين السلطة الرسمية والسلطة الموازية، وتتشابك المصالح بحيث يصعب الفصل بين الدولة والمليشيا والمصالح الحزبية. لا أحد يستطيع تحديد بالضبط مدى خسارة حزب الله "العسكرية" و"البشرية"، غير أنه ليس صعباً معرفة قوة الحزب على أصعدة أخرى، فهو لا يزال يملك شبكة واسعة من النفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفرض إرادته في المناطق التي يسيطر عليها. ولعل هذا ما دفع الوسيط الأمريكي لصياغة الورقة بحيث تحاصر الحزب تماماً، وبطرح بنود على هيئة رزمة متكاملة "غير قابلة للتفاوض" من خلال تنسيق مضمونها مع إسرائيل بحيث جاءت البنود منسجمة مع المطالب الإسرائيلية، وخصوصاً في قضايا أمن الحدود ونزع السلاح الثقيل. وقد أتت البنود بصيغة تنفيذية وليس بصيغة مقترحات أو مسودات وربطها بسقف زمني، في ظل تهديدات إسرائيلية متواصلة بتصعيد العمليات. وهذا يعني إما القبول بها أو مواجهة العصا الإسرائيلية. وكان واضح منذ البداية أن الولايات المتحدة تستخدم إسرائيل باعتبارها "العقوبة الجاهزة"، فالوسيط الأمريكي في الحقيقة لا يحمل جزرة في يده وعصا في الأخرى، بل هناك عصا في كلتا اليدين، يعني كأن تكون إسرائيل هي الشرطي السيء وأمريكا هي الشرطي الطيب.
لقد تحول لبنان إلى دولة محتواة***، فقدت قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة بسبب سيطرة شبكات نفوذ داخلية (الدولة العميقة) وشبكات نفوذ خارجية (خليجية بالدرجة الأولى ، بعد انحسار أو انتهاء الدور السوري)، وتستثمر هذا الشبكات مجتمعة في مؤسسات الدولة لخدمة مصالحها الخاصة،
إن لبنان الذي كان يوماً منارة فكرية وفاعل مهم في الحركة القومية والتقدمية ، يشهد اليوم ضعفاً مدوياً، ها هو ينهار بشكل شبه كامل، مثل جاره القريب (الأخ الأكبر) ويتحلل من الرابط "القومي" مع المحيط العربي، كأحد تداعيات تفكك الهوية الوطنية الجامعة. وازدياد حجم وشراسة التدخلات الخارجية وتنامي الخطاب الطائفي ضيق الأفق يستمد شرعيته من العائلة والمذهب ويقتات على أوهام مجد آفل.
...
*أهم ما في الورقة الأمريكية: "سيادة الدولة وحصر السلاح بيدها" والوقف الدائم للأعمال العدائية، والعمل على النزع التدريجي للسلاح غير الحكومي، إضافة إلى نشر القوات الحكومية (الجيش اللبناني) على الحدود، يتبع ذلك انسحاب إسرائيلي، ووقف جميع أشكال الانتهاكات (بما فيها الإسرائيلية) وتسوية دبلوماسية بين البلدين تشمل ترسيم الحدود وتؤمن عودة السكان المدنيين إلى بلداتهم وقراهم، وسوف تدعو الولايات المتحدة إلى عقد مؤتمر اقتصادي تشارك فيه الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وقطر وغيرها، بهدف دعم الاقتصاد اللبناني وتعزيز إعادة الإعمار، وفق رؤية أعلنها الرئيس دونالد ترامب، تتضمن أيضاً تقديم دعم دولي إضافي للأجهزة الأمنية اللبنانية، وخصوصًا الجيش، عبر تزويدهم بالوسائل العسكرية الملائمة لضمان تنفيذ بنود الاقتراح وحماية لبنان. للمزيد انظر، https://www.aljazeeramubasher.net/news/politics/2025/8/7/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9?utm_source=chatgpt.com
** رفض لبنان توسيع لجنة مراقبة القرار 1701 لتضم دولاً غربية إضافية مثل ألمانيا وبريطانيا، مفضّلاً الإبقاء على اللجنة الحالية (الولايات المتحدة، فرنسا، إسرائيل، لبنان، والأمم المتحدة) وكان رئيس مجلس النواب نبيه بري قد نفى أن تتضمن الورقة أي ضمانات تُتيح للجيش الإسرائيلي حرية الحركة داخل الأراضي اللبنانية، واعتبر ذلك غير مقبول وغير قابل للنقاش . كما تساءل لبنان عن هوية الضامن للاتفاق؟ من اللجنة؟ هل هي الأمم المتحدة؟ وهل يحق لحزب الله أن يقترح دولاً توفر له الطمأنينة؟ جاء في الورقة الأمريكية المطالبة بتسليم 50٪ من ترسانة حزب الله الصاروخية خلال ثلاثة أشهر، مع تحديد مواقعها في بعلبك والهرمل والضاحية وشمال الجنوب، ما دفع لبنان للتساؤل: من يحدد هذا الرقم؟ وكيف يتم التحقق منه لاحقاً؟ للمقارنة، انظر، https://addiyar.com/article/2253628-%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%B6%D9%8A%D8%B6%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%AA%D8%AE%D9%88%D9%81-%D9%85%D9%86-%D8%A5%D9%82%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D9%86%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%87%D9%88-%D8%B9%D9%84%D9%89
*** يستخدم مصطلح الدولة المحتواة (Captured State) في العلوم السياسية والعلاقات الدولية السياسي لوصف دولة أو نظام سياسي يخضع فعلياً لسيطرة قوى خارجية، سواء كانت دولة أخرى أو جماعة أو مصالح أجنبية، مما يفقدها استقلاليتها الحقيقية في صنع القرار ويحد من خياراتها. حيث تتحكم قوة أجنبية في السياسات الداخلية والخارجية للدولة، إما مباشرة (عبر الاحتلال أو التدخل العسكري) أو بشكل غير مباشر (عبر النفوذ الاقتصادي أو السياسي). وهذا يؤدي إلى غياب السيادة الفعلية فتكون الحكومة المحلية تابعة، وتنفذ أجندة القوة المسيطرة، التي تؤمنها اقتصادياً أو أمنياً . لا تعني الدولة المحتواة أنها دولة عميلة (Puppet State): فهذه الأخيرة تتبع أوامر القوة الأجنبية بشكل واضح ومباشر حتى لو كان لها حكومة محلية
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟