محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 10:25
المحور:
القضية الفلسطينية
-التطبيع بوصفه استراتيجية للهزيمة
"لا يمكنك التفاوض مع الوحش عندما يكون رأسك داخل فمه"
لم يكن التطبيع (مع إسرائيل)، يوماً، حدثاً منفصلاً، أو لحظة ارتياب ذاتية، إنما هو سلسلة وقائع سياسية محسوبة ومتراكمة ويجري تقديمها على مراحل (أو جرعات بمعنى أدق)، بعضها في العلن، وبعضها في الخفاء (وإن بات الآن الجميع يجاهر به دون مواربة بلا خجل ولا بطيخ). وسواء كان التطبيع علنياً أم سرياً، وسواء كان صريحاً أم مضمراً، فالنتيجة ذاتها: إعادة تشكيل المنطقة وفق سردية المنتصر وإعادة هندسة الوعي السياسي بقبول الهزيمة وتصوير التطبيع كخيار وحيد للسلام.
فإذا اعتبرنا الهزيمة العسكرية هي بوابة التطبيع، فهل التطبيع ذاته من مستوجبات الهزيمة؟ أم يجري تسويقه كمنفذ لتجنّب هزائم مقبلة؟ والسؤال الأهم من كل هذا، هل الترويج للتطبيع "مناورة" سياسية ذكية أم اعتراف بالعجز؟
في أدبيات م ت ف خلال مرحلة بيروت ،كان هناك خط سياسي (أو ربما فكري، لست أدري) يرى أن مقتل إسرائيل يكمن في السلام .. إرغامها على السلام أو محاصرتها به (الآن صار اسمها سد الذرائع)...
المهم، كان هذا الطرح (وهل لا يعني التشكيك بوطنية أصحابه) يرى في هذا "السلام" بوابة لتحويل إسرائيل إلى دولة "طبيعية" ستتخلى بموجبه عن امتياز التفوق الاستثنائي، مثلاً، (وأهم ملامحه التفوق العرقي العنصري).
وكانت النتيجة أن دعا هذا التوجه إلى "تعميق" العلاقة مع ما يدعى "اليسار" الإسرائيلي (مع إغفال متعمد لصفة "الصهيوني") وأن هذا التحالف بين قوى السلام الفلسطينية والإسرائيلية وبقية أحرار العالم وغيره.. وغيره هو الضامن لقيام دولة "ديمقراطية" بين النهر والبحر...
وهذا طبعاً كلام فارغ. إذ لم يجرؤ أحد منهم على تسمية ما هي الدولة، كيف ستكون، شكلها، لونها، نكهتها، طعمها، ... لا شيء البتة، سوى أنها "ديمقراطية"... دون الانتباه أن مصطلح "ديمقراطية" في الأساس، تعبير "تقني" بآلية الوصول إلى الحكم (مثلما وصل هتلر إلى السلطة سابقاً.. ومثلما وصل الآن بيبي ميليكوفسكي والعزيز ناريندرا مودي، وأخيراً أبو حنان القاطن في جادة بنسلفانيا، وبوتين وقيس سعيد وغيرهم كثر... على سبيل المثال لا الحصر ).
ومن هذا المنطلق، لا بد من توسيع نطاق التفكير في المقاومة (مقاومة الاحتلال ومقاومة التطبيع) بوصفها مشروع إعادة صياغة الوجود الفلسطيني ذاته. فإذا كان التوحش الاستعماري أنتج "كائناً فلسطينياً مستباحاً"، فعلينا سؤال أنفسنا كيف يمكن لنا إنتاج ذواتنا خارج هذا الإطار، دون الانغماس في لعبة التطبيع؟
يعني!... هل المقاومة رفض للعنف فقط، أم هي أيضاً خلق خطاب جديد يُعيد تعريف معنى أن تكون فلسطينياً؟ " بمعنى كيف نبني هُويتنا ونعيد تشكيل وعينا ذاتياً بطريقة لا يحددها الاحتلال.
فالمراوحة في ملعب الاحتلال ستفرض علينا تحكماً مادياً وبيولوجياً لمصلحة الاحتلال ونتحول إلى مجرد "موضوع" للسلطة. وإلى حالة عجز غير قادرة على كسر خطابها الذي صادر صفة الضحية وحوّلنا إلى إرهابيين وخطر عالمي*، وبالتالي موضوع قابل للقتل. ولكن قبل كل شيء، قابل للتحكم والإدارة.
إن الاستخدام المبتذل والمتهافت لمفردة "السلام"، أسهم في استبدال الصراع الوجودي بمرادفات شكلية تتحول فيها "النكبة" و"النكسة" من هزائم إلى مجرد محطات على طريق التطبيع، ويتحول "السلام" إلى شعار، (قوة ناعمة) لإعادة إنتاج القوة ذاتها التي من المفروض هزيمتها، أو -على الأقل- كسر إيقاعها المتوحش.
التطبيع، باختصار، إخضاع للوعي، ليتحول الاحتلال من "استثناء" إلى "عادي" في المخيلة العامة، ويتحول الأفق أمامنا إلى مشهدية واقع تفوق إسرائيلي لا غير.
ليس التطبيع سوى الوجه الآخر للهزيمة.
عملية القدس: المعنى لمن يريد أن يفهم
عند أي ممارسة "عنيفة" أو سلوك مقاوم، يستوقفنا مساران، أو مستويان أساسيان:
- مستوى إنساني- أخلاقي: حيث تقع هذه الممارسة في سياقها كعملية إنسانية عميقة ومعقدة، وليس مجرد رد فعل انفعالي** يذكرنا هذا المستوى بما نعرفه من إرث وأدبيات حركات التحرر العالمية (من الجزائر إلى فيتنام)، حيث ارتبطت المقاومة عضويا بمشروع تحرري طويل النفس، لا علاقة له -بتاتا- بحالات الانتقام اللحظي، وإن كانت هذه الأخيرة جزء منه في بعض الأحيان
- المستوى السياسي- العملي: حيث يوضع الحدث (وهنا عملية إطلاق النار في القدس) في إطاره الواقعي. السلاح "المتواضع"، الحصار، غياب الدعم عن الفلسطينيين، بالأحرى تجفيف منابعه.
يتقاطع هذان المستويان عند فكرة "التراكم الكمي" كشرط للتحول النوعي، وهو استدعاء جدلي منطقي لتوصيف حركة التاريخ. فجوهر العملية التحررية فعل وعمل قصدي (ليس عفوياً على كل حال) معقد له أبعاده النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرة. لا يجوز اختزاله بسلوك انتقامي عشوائي لأنه في هذه الحالة سيتحول إلى عبء أخلاقي وسياسي على صاحبه. هذا من أهم دروس المقاومة التي خبرها الفلسطينيين في لحظات إلياس (وما أكثرها) ولم يجنوا منها سوى المزيد من توحش المنظومة الاستعمارية. مشهد علمية القدس يعيدنا إلى الكارلو دون أن ننسى مشهدا آخر، مشهد طفلة أفرغ في جسدها نحو 335 رصاصة، وجوهر المسألة هنا لا يتعلق بالمفاضلة بين "إنسانية" و "توحش"، بل بفهم أن الاستعمار ذاته هو أعلى درجات العنف المنظم، وأن مواجهته لا يمكن أن تترك للأخلاقيات المجردة، بل لمعادلة سياسية- تاريخية يكون فيها عنف المقاومة جزء من عملية التخلص من المستعمر... نعم، جزء وليس كلا. فهل يحمل المقاوم عبئا أخلاقيا على استخدام العنف، أم أن العبء الأخلاقي يقع أصلا على المستعمر الذي خلق شرط المقاومة أصلا بتشريعه دائرة القتل والنهب والاقتلاع ***؟ إن التمسك الميكانيكي بثنائية "العنف" مقابل "الإنسانية" تغفل جوهر ودور المقاومة، وأن مطالبة الفلسطيني بالتحلي ب "إنسانية مفرطة" في مواجهة مستوطن يشارك في نفيه ليست سوى إعادة إنتاج للهيمنة. علما أن الكفاح المسلح، في نهاية المطاف، ليس نقيضا للأخلاق، إنما جزء مكمل من عملية أوسع لإعادة الاعتبار للذات المقهورة. أما البديل يا عيني فهو بيان من السلطة الفلسطينية يقوم على "إنسانية مخصية"، عاجزة عن حماية نفسها، فما بالك بالأرض والإنسان، بل تحولت، للأسف، إلى آلية لتثبيت الاحتلال
..
*بهذه المناسبة، ثمة قناعة أمريكية راسخة، حتى على الصعيد الشعبي، ترى في حركة حماس منظمة إرهابية تستخدم "الإرهاب" كوسيلة للوصول، بطريقة أو بأخرى، إلى دولتها، وتؤكد وجهة النظر الأمريكية، وبلغة الواقعية السياسية المباشرة، أنه لكي تنال حماس القبول الدولي من دول العالم، لا بد لها من نبذ الإرهاب، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، كما فعلت م ت ف منذ أيام ياسر عرفات. ليس هذا فحسب، بل عليها الإعلان -وبالفم الملآن- عن استعدادها غير المشروط بالتخلي عن سلاحها، والتزامها بجميع الاتفاقات والقرارات ذات الصلة التي وقعتها السلطة الوطنية الفلسطينية. وتدرك الإدارة الأمريكية أن حماس لا يمكنها القيام بذلك، الآن على الأقل، لذلك يتم الترويج بصخب أن هدف حماس هو تدمير إسرائيل، الدولة الديمقراطية الكيوت المسالمة التي من حقها الدفاع عن نفسها وعن شعبها وعن وجودها. وباستخدام هذه المغالطات يتم تفسير ما يجري من عدوان وإبادة في غزة بحيث يقع اللوم على حماس عما ينتج عن هذه الحرب من ضحايا من هنا وهناك.
** يرى فرانز فانين في كتابه معذبي الأرض، أن العنف الثوري ليس مجرد انتقام غريزي، بل أداة لإعادة تشكيل الذات المستعمرة وبناء إنسان جديد. وفي سياق آخر، انتبه إلياس مرقصا مبكرا إلى خطورة اختزال المقاومة في العاطفة أو في الانفعال الأخلاقي، معتبرا أن العمل الفدائي يحتاج إلى نظرية سياسية تحررية تعطيه معنى تاريخيا (نقد الفكر المقاوم، 1970).
*** نعلم أن الخطاب الدولي المعاصر يخضع المقاومة لمعيار مزدوج: يعترف بحق "الدفاع عن النفس" للمستعمر (إسرائيل)، بينما ينزع هذا الحق عن صاحب الأرض...
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟