أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى















المزيد.....

في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 02:48
المحور: القضية الفلسطينية
    


لستُ أدري أين قرأت الحكاية التالية: يحكى أن رجلاً كان يتنقل يومياً من بلده إلى بلد مجاور وهو يقود دراجته النارية المحملة بالبرسيم ليبيعه هناك، فالبرسيم كان المادة الوحيدة التي لم تفرض عليها تلك الدولة رسوما جمركية باهظة نظراً لحاجتهم لتلك المادة. كان الرجل يمر يومياً من الحدود وقد بات معروفاً لجميع موظفي الجمارك على الحدود.
استمر الأمر على هذه الحال، انكشف أمر الرجل بأنه كان يهرب كل يوم دراجة نارية..!
طيب... لماذا لم يكتشف أمره منذ البداية؟
مهما وضعنا من أسباب قد يكون معظمها صحيحاً، إلا أن السبب الرئيس يعود إلى "النموذج" الفكري أو الإدراكي لموظفي الجمارك، لقد استطاع هذا الرجل وضع نفسه خارج أطرهم الفكرية، فلم يتمكنوا من كشفه (فقد كانت عيونهم مركزة على البرسيم لأنه المادة التي تسمح القوانين بإدخاله، فصار هو "الموضوع" الظاهر والوحيد القابل للتفتيش).
هذا هو أبسط تعريف لمعنى (النموذج الفكري) أو (النموذج الإدراكي) أو (الإطار النظري) أو" الباراديم"* وهي كلمة معربة درج الكثير على استخدامها. فعقل الموظف تحول إلى مرآة blind spot فكل شيء-ما عدا البرسيم- أصبح غير مرئي. والرجل في الحقيقة لم يخفِ شيئاً معقداً؛ فقط حرك انتباههم باتجاه خاطئ. إن ما حدث يشبه خدعة سحرية بسيطة حين يطارد الجمهور يد الساحر اليمنى اللامعة، بينما تقوم يده اليسرى بالحركة الحاسمة.
فالباراديم هو الإطار الخفي الذي نفكر من خلاله دون أن ننتبه. وهو مجموع الأفكار والعادات والتجارب التي تقول لنا ما هو طبيعي، وما هو ممكن، وما هو مستحيل.
وبطبيعة الحال، كل مجتمع، وكل إنسان، يعيش داخل باراديم خاص به.
هذا بالضبط جوهر “النموذج الفكري”. باعتباره زاوية رؤية مسيطرة نتوقف عندها عن رؤية ما يقع خارجها. وكثيراً ما نتعرض لمثل هذه الأمور في حياتنا اليومية، أتذكر حديث صديق يعمل في بنك؛ كان فريقه يبحث طيلة أسبوع عن ثغرة في حسابات عميل كبير. كانوا يفتشون في الحوالات والقيود الضريبية والتدقيق المحاسبي. المشكلة ظهرت في النهاية في شيء لم يكن ضمن “النموذج”، وهو البريد الإلكتروني الداخلي. كان هناك موظف في موقع غير مهم في البنك يرسل تعليمات مزورة من حساب يشبه حساب المدير. لم يفكر الفريق في هذا الطريق لأنه “خارج اختصاصهم”، وخارج النموذج المحاسبي الذي تعلّموا التفكير من خلاله.
المشكلة أن النموذج أو الباراديم ضروري في حياتنا كي نعيش بصورة طبيعية وندرك ما حولنا. بل إننا لا نستطيع العيش خارج الباراديم، إذ أن غيابه يحول العالم إلى كتلة صماء من الضوضاء والفوضى، غير أن المشكلة الأكبر تبدأ عندما يتحول هذا الباراديم إلى حدود ضيقة تحجب الواقع بدل أن تفسره. هنا سيظهر "مهرب البرسيم" في أي مجال، وقد يكون أي شخص يعرف زاوية رؤيتك ويلعب خارجها.
قرأنا كيف حدثت تلك المسارات الكبرى في العلوم، ولم ننتبه إلى أن تلك القفزات العظيمة لم لها أن تحدث لو لم يتجرأ أحد ما (ابن الهيثم، الخوارزمي، كوبرنيكوس، نيوتن، آينشتين، ستيف جوبز...وغيرهم) على النظر خارج النموذج لقد اكتشف كل واحد منهم أن البرسيم ليس هو الموضوع، بل الدراجة النارية التي يعبر بها أمام الجميع دون أن يلاحظوا.
هناك قصة متداولة (على الأغلب غير صحيحة) تقول أن الطفل سقراط كان يكره النهوض باكراً. وكانت أمه تكره هذه الخصلة فيه لأنها كات تريده أن يصبح تاجراً ثرياً عنما يكبر. فما كان منها إلا أن تتفق مع أستاذه على خطة لعله يقتنع بفضيلة الاستيقاظ المبكر. وذات يوم قال المعلم لتلميذه سقراط إنه سيحكي له قصة قصيرة، ثم عليه أن يستخلص منها الحكمة المناسبة، وبدأ الأستاذ كلامه فقال: “تخيل أمامك عصفورين. الأول استيقظ عند الفجر، جمع الحشرات، أطعم صغاره، وعاد إلى عشه مرتاحاً. الثاني نام أكثر من اللازم، وحين خرج لم يجد شيئاً يأكله. ما الذي يمكن أن نتعلمه؟” فقال سقراط على الفور " هذا يعني أن الحشرات التي تستيقظ باكراً تأكلها العصافير.”
لعل الأم اقتنعت أن ابنها يمتلك عقلاً لا يحب الأوامر المباشرة**، أما الأستاذ فربما اكتشف أن الطفل الذي يقف أمامه لا يأخذ القصص على علاتها، وإنما يعيد ترتيبها ليمتحن معناها، وأن كل قاعدة يمكن قلبها إذا نظرنا إليها من جانب مهمل. بكلام آخر، المغزى من القصة أن سقراط لا يرفض الاستيقاظ المبكر، لكنه يرفض أن يُقال له كيف يفكر.
وهذا يحدث لنا جميعاً، حين نناقش أمراً ما على أن معناه محسوم، ثم يأتي شخص ويرى ما لم نره. يحدث ذلك في السياسة وفي العلم وفي العلاقات وفي الاقتصاد. فالحل أو التغيير ليس بالضرورة أن يبدأ بفكرة عبقرية، بل بزحزحة صغيرة في طريقة النظر. وحين نعيد قراءة قصة سقراط نرى أنها تسهم في كشف حدود النموذج.
تصلح قصة سقراط لتكون مثالاً حياً على فكرة الباراديم لأنها تكشف اللحظة التي ينهار فيها “الإطار الجاهز للفهم” أمام زاوية نظر مختلفة تماماً. فالنموذج الذهني للأستاذ كان ببساطة الدعوة للاستيقاظ باكراً لأنه فضيلة. هذه قاعدة مقشرة وجاهزة تكاد تكون من “بداهات التربية”. وكان يتوقع أن يرى الطفل العالم من زاويته هو، وأن يستنتج المعنى الذي رُتّبت الحكاية لأجله. لكن سقراط، داخل القصة، لم يدخل من باب المعلم. فلم يتبنَّ النموذج الذهني الذي قُدّم له. وإنما تحرّك إلى نقطة أخرى في المشهد، نقطة لا يفكّر أحد عادةً في الوقوف عندها (وهي هنا الحشرة، الشبيه بالبرسيم في المثال السابق) فينقلب معنى الحكاية وتتحول فضيلة الأستاذ (حسب نموذجه الإدراكي) إلى خطر. ويصبح الاستيقاظ المبكر مخاطرة، والسبب لأن الطفل اختار أن يرى “الجزء المهمل من الصورة”.
هذا هو قلب الباراديم: ما نعدّه “معنى طبيعياً” لا يبدو طبيعياً إلا لأننا ننظر إليه من زاوية محدّدة. وحين تتبدّل الزاوية، يتغيّر معنى العالم كلّه. ف النموذج يجعلنا نرى شيئاً ونغفل آخر، أي أن النموذج يختار لنا ما هو “مهم لنا أو يهمنا”. فيقدم لنا سردية "معلّبة" عبر عملية إعادة إنتاج الفكرة أو الأفكار. وفي المقابل لا يحتاج كسر النموذج إلى قوة خارقة، كل ما يحتاجه سؤال واحد يحرك الضوء من زاوية إلى زاوية. ليتغير بعدها المعنى ومن ثم العالم بأسره.
يمكننا في حياتنا الفلسطينية أن نرى هذا المفهوم في صور متعددة، مثلًا، فعلى سبيل المثال، حين كان الخطاب الوطني الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات يرى التحرير فقط من خلال البندقية والفعل الفدائي، كان هذا تعبيراً عن باراديم نضالي محدد تشكل في لحظة تاريخية معينة. ومع الزمن، حين تغيرت الشروط الجيوسياسية وتبدلت موازين القوى، صار هذا الباراديم عاجزاً عن تفسير الواقع أو إنتاج فعل جديد، فظهر باراديم آخر، أي نموذج فكري جديد للخطاب يدور حول "الدولة والمفاوضات". لم يكن هذا التحول مجرد "تغيير في التكتيك"، كما يزعم بعض السطحيين، بل كان انقلاباً في "نظّارة" الوعي ذاتها؛ أي الانتقال من "رؤية" منطق الثورة إلى "رؤية" منطق الدولة. بكلام آخر، من الفعل إلى التمثيل.
غير أن الباراديم وبحكم تعريفه (لنتذكر مثال البرسيم والطفل سقراط) لا ينفك يخلق عماه الخاص. فالنظرة التي رأت الحل في اتفاق أوسلو مثلاً كانت أسيرة باراديم "السلام الممكن" الذي اعتقد أن الاعتراف المتبادل سينهي الاستعمار، بينما أغفلت هذه النظرة أن الاحتلال أعاد تعريف أدواته دون أن يتراجع جوهرياً عن مشروعه. في المقابل، بقي جزء من الحركة الفلسطينية عالقاً في باراديم المقاومة المسلحة كأن الزمن لم يتحرك، ففقدت اللغة الثورية فعاليتها لأنها لم تعد تُقرأ في العالم الجديد بالمعاني ذاتها.
وهكذا يكون الباراديم السياسي المتشكل في زمن سابق يرى في الشرعية (شرعيته في الواقع) مستمدة من "التاريخ"***، وليس من "القدرة على الفعل" وهو ما أثبتت التجربة الحالية (حرب غزة) عدم صوابه، فنتج عن ذلك "إدراكاً" مغايراً لفهم معنى الشرعية والتاريخ. إدراك يستند إلى تبني فهم جديد للسياسة والشرعية والمعنى. وحتى اللغة اليومية تحمل آثار الباراديم، فحين يصف البعض "الاحتلال" بأنه "واقع يجب التكيّف معه"، فهم لا يستخدمون تعبيراً بريئاً، بل ينتمون إلى باراديم إدراكي يسوق الاحتلال كمعطى طبيعي وليس كعنف دائم. بينما من يرى فيه بنية استعمارية ممتدة يرى العالم من خلال باراديم مغاير تماماً، حيث كل تفصيل يومي من يوميات الاحتلال هو جزء من مشروع استيطاني متكامل.
لهذا يمكن القول إن الاختلاف بين الفلسطينيين ليس فقط في المواقف، بل في الباراديمات التي تحكم رؤيتهم للعالم. فالفعل السياسي أو الثقافي أو الديني لا ينفصل عن الإطار الإدراكي الذي ينتجه. وما لم يجر تفكيك هذا الإطار، ستبقى التجارب تدور داخل الحلقة نفسها مهما تغيّرت الشعارات.
إن إعادة النظر في الباراديم لا تعبر عن ترف فكري أو استهلال أو تأمل فلسفي، وإنما هي في الحقيقة ضرورة وجودية. فلم تعد سرديات المقاومة والمأساة كإطار معرفي يوجه الوعي الجماعي، ويعيد بناء هويته، هي الإطار الجامع لمعنى أن نكون فلسطينيين. لقد ظهرت بالفعل أزمة أخرى في الفكر الفلسطيني. إذ صار الفعل السياسي مقيداً بالمعايير الدولية، وبالمقاييس البيروقراطية. فكل ثورة تبدأ بثورة في الإدراك قبل أن تبدأ في الشارع. ولعل أحد أسباب عجز المشروع الوطني اليوم هو أننا لا زلنا نفكر بأدوات قديمة في عالم تغير كلياً، ولم نجرؤ بعد على بناء باراديم جديد يعيد تعريف الفلسطيني (ليس الضحية فقط ولا المقاوم فقط) كفاعل تاريخي في بنية استعمار معقدة.
الباراديم لا يحدد فقط طريقة فهمنا للواقع، بل أيضاً الصورة التي نرى بها ذواتنا. في الحالة الفلسطينية، كل مرحلة تاريخية أعادت تشكيل الفلسطيني ضمن باراديم خاص، فجعلت هويته تتحرك بين صور متناقضة: المقاتل، اللاجئ، المواطن، الأسير، الضحية، المقاوم، الموظف، أو حتى “الإنسان العادي” الذي يبحث عن حياة ممكنة وسط المستحيل.
في باراديم المقاومة الكلاسيكية، الذي تبلور بعد النكبة واشتد بعد العام 1967، كان يجري تعريف الفلسطيني من خلال العمل الفدائي. كانت الهوية آنذاك مشروعاً ثورياً أكثر منها انتماءً اجتماعياً أو ثقافياً.
فالفلسطيني هو من يقاوم، حتى لو لم يولد في فلسطين. بهذا المعنى، كانت الهوية فعلاً أكثر منها بياناً أو رمزاً، وحلماً يتجاوز الجغرافيا. لقد كانت البنادق-أو صورها- في المخيمات، تعلق، على سبيل المجاز، إلى جوار مفاتيح البيوت القديمة، كرمزين متكاملين: ذاكرة الماضي وإرادة العودة.
منح هذا الباراديم الفلسطيني كرامة الوجود في عالم أراد نفيه، لكنه حصر، أو يمعنى أدق ضيّق، معنى الحياة إلى المقاومة وحدها، فصارت كل هوية لا تمر عبر البندقية مشكوكاً في صدقها. ثم جاء باراديم الدولة والمؤسسات في التسعينيات. ليتحوّل الفلسطيني من "ثائر بلا أرض" إلى "موظف في سلطة على أرض ناقصة". وليتغيّر خطاب الهوية من "تحرير الوطن" إلى "بناء الدولة". فلم تعد البطولة تتمثل في المواجهة، ولكن في القدرة على الإدارة البيروقراطية. وجرى -بسبب هذا التحول- إعادة تعريف الفلسطيني كـ"مواطن تحت احتلال"، وهي صيغة هجينة تجمع بين التابع والمستقل، أو بمعنى ما بين الحرّ والمقيد. وصار يقاس الفعل السياسي بمدى التزامه بـ«الواقعية» التي يفرضها النظام الدولي، حتى لو ابتعد هذا الالتزام عن الحلم الجمعي.
غير أن هذا الباراديم الجديد لم ينجح في تثبيت هوية مستقرة، لأنه حاول الجمع بين عالمين متناقضين: عالم الاستقلال وعالم التبعية.
ومع انكشاف وهم "السلام"، بدأت تظهر نماذج إدراكية فرعية، مثل "المجتمع المدني" و "المنظمات الدولية"، و "المقاومة الإسلامية"، و "الشتات الرقمي الشبكي" الذي يحول الفلسطيني إلى فاعل عابر للحدود. واليوم، يمكن القول إن الفلسطيني يعيش تشظّي هذه النماذج وينوس تحت وطأة خطاب يرى الخلاص في العودة إلى "أصالة المقاومة"، وآخر يرى الخلاص في "تحديث الإدارة"، وخطاب ثالث ليس في منزلة بين المنزلتين وإنما يحاول تجاوز الاثنين عبر بناء وعي ما بعد وطني يركّز على العدالة والحقوق بدلاً من السيادة التقليدية. وكلّ واحد من هذه الأطر لا ينتج مواقف مختلفة فقط، بل ينتج شخصيات مختلفة للفلسطيني نفسه: أحدهم ابن التاريخ، والآخر ابن الدولة، والثالث ابن المنفى الافتراضي.
لكن التحدي الأكبر اليوم هو في إعادة بناء باراديم فلسطيني جديد لا يقوم على الثنائية القديمة: مقاومة/تسوية، بل على وعي مركّب يرى في الفلسطيني كائن تاريخي يعيش في نظام استعمار استيطاني طويل الأمد، ويبحث عن أشكال مقاومة لا تُختزل في السلاح أو المفاوضة. باراديم يعترف بتعدد التجارب الفلسطينية ويحوّلها إلى طاقة معرفة مع الاعتراف بالتناقضات الداخلية.
بهذا المعنى، يمكن للهوية الفلسطينية أن تتجدد إذا تحررت من الباراديمات التي وُلدت في القرن العشرين، ابتداءً لتحرير من تحرير الوعي من أطره، ليس لأنها خاطئة، بل لأنها استهلكت حتى صارت تعيد إنتاج عجزها.
والفلسطيني القادم -أو الذي سيأتي إن جاز التعبير- سيكون ابن وعي جديد لا يرى نفسه فقط ضحية للاحتلال، بل صاحب سردية قادرة على إعادة تعريف العالم، عارمه، من موقع هذه السردية الأخلاقي والمعرفي.
....
* ظهرت كلمة باراديم Paradigm بمعناها الحالي منذ نهاية الستينيات للدلالة على نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة «الإبستيمولوجيا». وهذا التعريف الجديد للمصطلح صاغه "توماس كون" كأحد المفاهيم المحورية في فلسفة العلم، في كتابه الشهير بنية الثورات العلمية (The Structure of Scientific Revolutions) عام 1962. والباراديم عند "كون" يتخطى معنى “الطريقة في التفكير” أو “الرؤية الإدراكية”، ليقصد به الإطار الكلي الذي يحدد كيفية رؤية العالم، وكيفية طرح الأسئلة، وما يُعتبر إجابة صحيحة. فيصبح الباراديم، بهذا المعنى، يعبر عن شبكة من المسلّمات والمفاهيم والنماذج التي تنظّم البحث العلمي وتوجّه إدراكنا للواقع، ويعمل ضمن هذا الإطار الكلي العلماء ويفكرون ويفسرون الظواهر، حتى تتراكم الشذوذات (anomalies) أو الظواهر التي لا يستطيع الإطار تفسيرها، فينهار النموذج، في سياق عملية ديالكتيكية، وتبدأ ثورة علمية تنتج باراديماً جديداً.. وهكذا دواليك.
**في واقع الأمر لو كان سقراط قبل بجواب أستاذه، فسوف نكون أمام بنية لن نتج معنى، احتاج سقراط إلى طريقة تفكير خارج الباراديم ليتحرر من قيد المعنى الرسمي (فضيلة النهوض باكراً)، ولأن الإنسان في العموم لا يمكنه العيش خارج المعنى فقد احتاج سقراط إلى منظومة مفاهيمية ليفكر بها، وإذن عليه العمل على توسيع أو زحزحة باراديم المعلم، وإذن لا يعيش الإنسان خارج باراديم ما، سواء كان فرداً أو جماعة، لأن كل وعي هو نتاج سياق ثقافي وتاريخي ولغوي. غير أن الباراديم يمكن أن يتحول من أداة إدراك إلى قيد، حين يصبح مغلقاً على ذاته ويمنعنا من رؤية ما يتجاوز حدوده. بهذا المعنى، يمكن النظر إلى الباراديم كـ«خريطة الإدراك»، لكن الأهم من الخريطة هو أن نعي أنها ليست الأرض نفسها.
*** من جديد أبسط طريقة لفهم الباراديم هي أن نتخيل أنفسنا داخل غرفة مغلقة النوافذ. الضوء الذي يدخل من فتحة صغيرة يرينا زاوية محددة فقط. فنظن أن هذا هو شكل العالم، وحتى يأتي من يفتح نافذة أخرى. فهو في الحقيقة لا يخلق عالماً جديداً، وإنما يكشف لنا ما كان موجوداً أصلاً ولم مكن قادرين على رؤيته. يذكر أفلاطون في الفصل السابع من "الجمهورية" حكاية متخيلة عن مجموعة أشخاص يعيشون داخل كهف مظلم، مقيدون لا يستطيعون الحركة أو الهروب ولا يرون أمامهم إلا جداراً. ومن خلفهم نار تشتعل، يتسر ي ضوؤها على الجدار فلا يرون إلا ما يعكسه ضوء النار من ظلال على الجدار. فيظن هؤلاء أن هذه الظلال هي الحقيقة، لأنهم لا يعرفون أي شيء آخر في "عالمهم"، فيكبرون وهم يتجادلون حول شكلها وأصواتها ومعانيها، لكن لا أحد منهم يتخيل أن خلف هذه الظلال عالماً حقيقياً مضاءً بالشمس.
ثم يهرب أحدهم من الكهف، ويخرج إلى النور، فيصاب بالعمى أولًا لأن عينيه لم تعتادا الضوء. ومع الوقت، يرى الأشجار، والسماء، والناس. يدرك أن كل ما كان يراه في الكهف لم يكن سوى انعكاسات زائفة. يعود إلى الكهف ليخبر الآخرين عن الأشياء الملونة خارج الكهف، لكنهم يسخرون منه، وربما يهاجمونه لأن كلامه يهزّ يقينهم الذي عاشوا عليه. باختصار، الباراديم هو ما جعلهم يرفضون فكرة رفيقهم عن العالم الخارجي "الملون"، وهو أيضاً ما يمنعنهم من الرؤية. لأن كل لحظة وعي حقيقية هي لحظة نزع النظارة القديمة وتجريب أخرى، لأن الهدف النهائي، كما يرمي إليه مثال أفلاطون، هو تغيير معنى العالم وليس تغيير المشهد وحسب.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف يصبح الخوف مصنعاً لحكايات -الغولة-
- أنطولوجيا الخوف في ظل الدولة الأسدية
- من -الكيانية- إلى -الفلسطينيزم-: تحولات الوعي الفلسطيني بين ...
- المثقف السمسار والمستعمِر: التبعية والهيمنة
- ما بعد إيران: صعود نموذج -القوة الوظيفية- وانحسار استراتيجية ...
- رائحة الحياة الأولى: حكاية الجيوسمين
- إيران في عمق التداعيات والتحولات الجيوسياسية: هامش تحليلي
- حدود السلطة على النص
- العقوبات الاقتصادية على إيران: هندسة جديدة للشرق الأوسط
- ما بعد الطوفان : تفكك -الهلال الشيعي- والنظام الإقليمي الجدي ...
- من بلفور إلى ترامب: الدلائل الجوهرية
- الحصار الأخلاقي: عن عسكرة التفوق اليهودي في إسرائيل
- عن الطوفان وأشياء أخرى (47)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (46)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (45)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (44)
- The Company You Keep حلم ثورة لم تأتِ
- عن الطوفان وأشياء أخرى (43)
- ثمة مدزرة هنا :الصورة التي نزفت معناها
- عن الطوفان وأشياء أخرى(42)


المزيد.....




- كيف غيّرت وحدة سرية روسية مشهد حرب الطائرات المسيرة في أوكرا ...
- لماذا قاطعت واشنطن قمة مجموعة العشرين
- ماكرون يرغب في -بناء علاقة هادئة- مع الجزائر
- نتنياهو يواصل الحرب وترامب يبحث عن الاستثمار.. هل يتهاوى اتف ...
- واشنطن والوسطاء.. من يستطيع وقف التصعيد الإسرائيلي بغزة ولبن ...
- -مسار الأحداث- يناقش موقف واشنطن من انتهاك إسرائيل لاتفاق غز ...
- ترامب: اقتراحي لإنهاء الحرب في أوكرانيا ليس عرضا نهائيا
- إسرائيل تعلن تصفية قياديين في حزب الله جنوب لبنان
- فيروز في عيد ميلادها الـ91.. -الأم الحزينة- باتت أيقونة للصل ...
- مقتل 20 شخصًا في غارات على غزة بعد مزاعم ??الجيش الإسرائيلي ...


المزيد.....

- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي ... / غازي الصوراني
- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى