محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8532 - 2025 / 11 / 20 - 04:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قرأت هنا منذ مدة مادة تتحدث عن -واقتبس- "كيفية تحويل شحاتين الشوارع إلى جواسيس وإرهابيين على يد المخابرات الأمريكية للسيطرة العقلية على البشر (هكذا حرفياً) الذين لا يعتني أحد بغيابهم مثل شحاذي الشوارع .. برنامج اسمه مشروع الفراشة* Project MONARCH وهدفه تحويل الضحايا إلى جواسيس أو إرهابيين بطريقة أكثر غرابة من جميع تصوراتك" ..
انتهى الاقتباس
طبعا لا ينبغي قراء هذا النوع من القصص على أنه توثيق أو حقيقة. وإنما هو سرد يكشف عن الطرق التي تصاغ بها الأساطير الجديدة عن الخوف والقوة والسلطة ودهاليز الحكم وعقلية المؤامرة. من خلال حبك روايات رمزية عن السيطرة باستخدام الصدمات النفسية.
يركز النص** على "الرعب الشعبي"، وهي المساحة التي يتحرك فيها، بمعنى ترتيب أجواء استخباراتية غامضة وذات قوة مطلقة، تقوم بتجارب سرية على "المهمشين" لإنتاج برامج سيطرة على الوعي. على طريقة برنامج او تجربة MK-Ultra ***الفاشلة، ولكن بتركيب طبقات من الخيال تبعد القارىء عن الحقيقة. وقد بذل الكاتب جهداً أدبياً، يستحق الثناء، لوضعنا أمام إيقاع مشوق. لكنه -للأسف- إيقاع درامي خيالي تنتمي لعالم الفرضيات وليس لعالم الواقع، فإذا كانت تجربة MK-Ultra حقيقية فإن استعارتها لإغراء القارىء لمتابعة بناء تجربة تستند بشكل تام على الخيال إنما تكشف عن شغفنا بالأفكار السوداء الغامضة والكواليس المغلقة المتحكمة بالعالم والسراديب السرية تحت قصور الحكام. وهي تعبر، على الأرجح، عن حالة القلق الجمعي أكثر من تفسيره. ولهذا، ليس غريباً إيمان البعض، في لحظة ما، بوجود "بنية داخلية" قاتلة يمكن تشغيلها وإيقافها بكبسة زر. فالبشر أكثر تعقيداً وأقل قابلية للبرمجة مما تتصوره أجهزة الاستخبارات كما نراها في السينما. وأدمغننا ليست ليس شاشة تُعاد برمجتها بهذه الطريقة.
علماً أن الإدارة الأمريكية أقرت بوجود برنامج MK-Ultra بعد فضيحة كبرى في السبعينيات عن قصص الضحايا الذين أدركوا لاحقاً أنهم كانوا جزءً من تجارب قاسية، ولعل أشهرها وفاة العالم فرانك أولسون**** بعد تعاطيه LSD قسرًا أثناء أحد الاختبارات. وكشفت التحقيقات التي قادتها لجنة تشرش Church Committee في الكونغرس في العام 1975 أن الوكالة دمّرت أغلب الوثائق في العام 1973، لكن بقيت أوراق كافية لرسم صورة مخيفة عن برنامج ضخم ومفتوح بلا رقابة أخلاقية، نفّذه علماء نفس وأطباء وباحثون جامعيون تحت ستار "الدفاع القومي".
طيب... عملياً لا يوجد أي دليل على وجود مشروع باسم MONARCH. لا توجد أي وثيقة رسمية سواء كانت سرية مسربة أم علنية، كما لا توجد أي سجلات أرشيفية توثيقية عن هذا المشروع. وكل ما في الأمر عبارة عن أحاديث منتديات تعود للتسعينيات، وخلط بين ثقافة الـ New Age وبين قصص عن "الطقوس السرّية"
الأصل في القول إن "خلق شخصية ثانية داخل الشخص" ليس أكثر من خيال أدبي وتقنية سردية لشرح مسألة اضطراب تعدد الشخصيات، وليس تقنية علمية، فلا يوجد -على حد علمنا- تقنية تسمح بصناعة شخصية كاملة داخل شخص سليم. هذا غير ممكن بيولوجياً ولا نفسياً.
أما قصة "الشحاذين" فهي ثيمة تحمل تراكيب أسطورية، لا سيما عند الحديث عن شريحة من الناس "غير مرئية" وبالتالي لن يشكل غيابهم فرقاً. فيصبحون صيداً دسماً لنظرية المؤامرة.
إن الذاكرة البشرية قابلة للاختلاق بفعل الصدمة أو الإيحاء، وهناك حالات عدة يعتقد فيها أشخاص أنهم عاشوا تجارب تعذيب أو خطف دون أن يكون ذلك قد حدث، لأن الدماغ يعيد تشكيل القصص حين يعجز عن تفسير الألم.
ما يفتقده النص هو الإحالات المرجعية الموثوقة وبيئة الأبحاث والأرقام والميزانيات، وليس مجرد الحديث عن مجموعة أفراد معزولين في الشارع.
إن فكرة "مليونَي ضحية" تبدو مثيرة للاستغراب، إن لم نقل للضحك، فلو كان هناك هذا الرقم من البشر المصابين بتعدد الشخصيات المصنّع عمداً، لكانت السجلات الطبية العالمية امتلأت بظواهر غير مفهومة. الطب النفسي لا يعرف هذا النوع من الحالات على الإطلاق. ولكن الذي يجعل من قصتهم مشوقة، هو التعاطف الذي نحماه لهذه الشريحة من البشر، ودرجة المخاطر العالية التي يصورها كاتب المقالة وتصويرهم بمظهر الضحية السلبية.
....
* الشائع أن "مشروع Monarch" هو فرع غير رسمي من برنامج MKUltra، الذي كان برنامجاً حقيقياً أجرته وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لاختبار تقنيات التحكم بالعقل باستخدام المخدرات والتنويم المغناطيسي. ووفقاً لنظريات المؤامرة، استخدم مشروع Monarch أساليب صادمة نفسياً مثل التعذيب والانفصال الذهني (dissociation) لإنشاء "عبيد مبرمجين" أو "فراشات Monarch"، يجري التحكم بهم ذهنياً لأغراض استخباراتية أو جنسية. من خلال "تحولهم" إلى شخصيات جديدة، ولعل هذه السمة الأخيرة هي السبب وراء اختيار الاسم المستوحى من فراشة المونارش "Monarch" التي تمر بعملية تحول (metamorphosis)، يما يحيل إلى "تحول الضحية" بعد التعرض للبرمجة الذهنية.
لا توجد وثائق رسمية أو أدلة مثبتة تؤكد وجود مشروع Monarch كبرنامج مستقل. ومعظم المعلومات المتداولة تأتي من شهادات شخصية غير موثقة أو من كتابات في ثقافة المؤامرة، وغالباً ما تُربط بأساطير عن التحكم العقلي النازي أو طقوس شيطانية.
ويمكن التعرف بالتفصيل على بعض المواقع التي تتحدق عن المشروع بصفتها برنامجاً حقيقياً وهنا بعضها:
https://johndenugent.com/the-mind-controlled-americans-among-us-who-went-through-mk-ultra-and-project-monarch/
https://www.maier-files.com/project-monarch-remains-classified/?utm_source.com
https://www.moltenbrain.com/conspiracies/project-monarch?utm_source.com
https://www.yumpu.com/en/document/view/14378014/origins-and-techniques-of-monarch-mind-control-origins
** انظر هنا https://www.facebook.com/share/p/1CqHiWFedm/
*** بدأ البرنامج في 1953 داخل دوائر وكالة الاستخبارات الأمريكية، في ذروة الهوس الأمريكي بفكرة "السيطرة على العقول" بعد الحرب الكورية. إذ كان الاعتقاد السائد أن الاتحاد السوفييتي والصين يستخدمان أساليب تغيير السلوك وانتزاع الاعترافات. وقد هذا الافتراض خوفاً داخل المؤسسات الأمنية مما دفع وكالة الاستخبارات لتجريب كل شيء تقريباً: مواد مخدرة ومنوّمات وحرمان حسي وتعذيب نفسي وتجارب طبية على سجناء ومرضى، وحتى على مواطنين عاديين دون علمهم.
لم ينجح برنامج MK-Ultra وجميع الوثائق التي رُفعت عنها السرية تشير إلى فوضى علمية وتجارب بدائية واعتماد مفرط على LSD باعتباره "مفتاحاً سحرياً" للوعي. كما أنه ترك خلفه انتهاكات أخلاقية، إذ لم ينجحوا في السيطرة على عقل أحد. ويوثق كتاب "The Search for the Manchurian Candidate" (1979) للكاتب جون ماركس John Marks الكثير من التفاصيل عن برنامج MK-Ultra ويستند الكاتب إلى حوالي 16,000 صفحة من وثائق رفعت عنها السرية. ليستنتج من خلالها كيف حاولت الـ CIA تطوير تقنيات للتحكم بالعقل. ويعيد تركيب صورة البرنامج ويشرح البنية المؤسسية التي جعلت التحكم العقلي هوساً داخل الوكالة، ويسجّل كيف كانت التجارب تُدار، ومن شارك فيها، وما النتائج التي حصلوا عليها. كما يتطرق إلى النسخ الفرعية من البرنامج مثل MK-Search .. وحسب مراجعات الكتاب على يقدم ماركس صورة مخيفة لكنها واقعية عن البرنامج: مزيج من العلماء، ضباط استخبارات، ميزانيات مفتوحة، وهوس بفكرة "التحكم بالعقل" التي فشلت من الناحية العملية فشلاً تاماً، لكنها نجحت في تدمير حياة عدد من الناس. تكمن قوة الكتاب في أنه لا ينجرف وراء الخيال، بل يبقى عند حدود الوثيقة بعيداً عن الأساطير التي تأسست لاحقاً. للمزيد انظر هنا:
https://en.wikipedia.org/wiki/MKUltra?utm_source.com
https://archive.org/details/DOC_0000146248
https://archive.org/details/DOC_0000017384
****فرانك أولسون، باحث في الجيش الأمريكي كان يعمل مع برامج الأسلحة البيولوجية. تعرّض لجرعة LSD قسرية في أحد اجتماعات MK-Ultra في العام 1953. انتهت القصة بسقوطه من نافذة فندق في نيويورك. الرواية الرسمية قالت إنه انتحر بعد "اضطراب نفسي"، في حين تشير قرائن أخرى إلى احتمال تعرضه لعمل إجرامي أو تمت تصفيته بسبب معرفته بأسرار حساسة. تحول هذا الحدث المأساوي إلى شرارة لخيال جمعي صنع الأساطير حول التحكم العقلي (كل هذا في سياق الحرب الباردة).
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟