أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - انتفاضة الحجارة :بين العفوية و القصدية















المزيد.....


انتفاضة الحجارة :بين العفوية و القصدية


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 04:52
المحور: القضية الفلسطينية
    


"انتفاضة 1987 من أعظم حالات التمرد ضد الاستعمار في العصر الحديث"-إدوارد سعيد
تعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى -عدا عن كونها فعل نضالي متصل- من اللحظات التاريخية المشهودة التي تحتفي بها الذاكرة الفلسطينية كمشترك تضامني يستعاد بمزيج من الألم والحنين والأمل. ففي الأيام الأولى من كانون أول 1987 وقع حادث سير في غزة تسبب فيه أحد الإسرائيليين بمقتل شبان فلسطينيين(1). وفي مثل هذه الحالات كان من الطبيعي أن يثير في نفوس ذوي الضحايا و القريبين منهم آلاماً مفهومة .لكن اضطرام المشاعر، وانفجارها أعطى الحدث أبعاداً وطنية, فاندفاع المواطنين للتظاهر الغاضب ضد الاحتلال أدى مباشرة إلى سلسلة من التظاهرات والمواجهات الدامية المتلاحقة. ويبدو بجلاء أنها كانت النقطة التي طفح بها الكأس، والانعطاف نحو مرحلة تاريخية جديدة من مراحل الكفاح الوطني للشعب الفلسطيني، وهو بطريقة ما كان كاشفاً للوقائع على الأرض أكثر منه مُنشأ لها. فما كان سائداً قبيل الانتفاضة(2) من ممارسات إسرائيلية من قبيل الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة والسيطرة العسكرية الكاملة وتقييد حركة السكان ومصادرة الأراضي، والاقتصاد الهش الذي يربط آلاف الفلسطينيين بسوق العمل الإسرائيلي في أوضاع غير إنسانية، ناهيك عن جوهر المشروع الصهيونية الذي يرمي إلى إفراغ الأربعاء من أهلها... كل هذا كان مدعاة للفلسطينيين للوصول إلى تصور عام لجهة سعي الاحتلال إلى تأبيد نفسه بتحوله إلى احتلال دائم.
فحتى العام 1978 كانت إسرائيل قد صادرت ما مجموعه نحو 40% من مساحة الضفة والقطاع لفائدة البنى الاستيطانية والمناطق العسكرية المغلقة، وبدا للبعض أن عشرين عاماً من الاحتلال في مرحلته الثانية الستينية قد روضت الشعب وقضت على روح المقاومة لديه. وكان الفلسطينيون في الضفة وغزة ، قبيل الانتفاضة بلحظة يقفون خلف حاجز الرهبة والوهم . الرهبة من المحتل، والوهم بمناخات تسويات سهلة قد تأتيهم من عاصمة عربية أو أجنبية، فجاءت الانتفاضة كدلالة وعي جديد تجسّد في إدراك الشعب لقدرته على التصدي للعدو ولو بأساليب بدائية، والمفاجئ هنا هو التوقيت؛ لكن الانتفاضة بحد ذاتها أتت كحتمية تتمخض من طبيعة الصراع، لذا إن كان توقعها يخلو من الغرابة فتوقيتها كان خارج كل التوقعات، وزعزعت الاعتقادات السائدة عن قدرة الحركات والمنظمة في الخارج على التحكم الكامل في الحراك الداخلي. وأظهرت في ذات الوقت محدودية الفصائل في قراءة واقع الأرض بعد نكبات سابقة، كما فضحت هشاشة القيادة السياسية المعزولة عن الداخل. (3). ولم يخلُ الأمر من محاولات فصائلية للالتحاق بالحدث أو استثماره(4) . رغم العفوية التي ميزت اندلاع الانتفاضة كتعبير عملي واعٍ وتصعيد جماهيري يمكن التكهن به على كل حال.
وهذا أمر مألوف عند الحديث عن الانتفاضات الشعبية بوصفها "ظاهرة إنسانية عرفتها كل المجتمعات الإنسانية في كل العصور والأزمان والأمكنة طالما وجد الظلم والقهر والاستبداد و الاستعمار، تتحرك وفق دينامية تجسد نموذجاً إدراكياً ومعرفياً ذو مواصفات خاصة وفقاً لمكوناتها وعوامل نشأتها وسماتها ووظائفها وآلياتها وإنجازاتها... إلخ. مع مراعاة تفاعل نظامها العضوي مع البيئة المحيطة بها، داخلياً وخارجياً. فعندما يتهيأ شرط أو شروط الانفجار يكفي لحادث بسيط يأتي عفوياً، تفجير غضب الناس، وما يلي ذلك لن يكون -قطعاً- عفوياً، أي القدرة على الإمساك بأعنة الانتفاضة وقيادتها. وهذا يفتح باب السؤال أو الأسئلة على اتساعها حول طبيعة و معنى الانتفاضة، بصفتها فعلاً يومياً متصاعداً ومؤثراً، دون تخطيط مسبق، ويبقى صامداً في ذاكرة ووعي الناس الذين صنعوه(5).
لقد كانت المعضلة التي تواجهها القوى الثورية عموماً هي كيفية توجيه وقيادة ثورة أو انتفاضة شعبية تنفجر عفوياً وعلى نحو مفاجئ بالنسبة للجميع، بما في ذلك القوى الثورية.
إن حادثة غزة هي حادث عفوي أشعل فتيل الانتفاضة، وما يقال عن تخطيط مسبق منسوب لمنظمة أو فصيل لا يمكن أن يكون زعماً مقبولاً .في الوقت ذاته الذي لا يمكننا التقليل من أهمية الجهود المبذولة لأطياف الحركة الوطنية بمختلف مشتقاتها في بلورة وعي معاد للاحتلال .
لقد اعتادت بعض القوى الفلسطينية أن تنسب لنفسها كل عمل إيجابي ومشرف، بيد أن هذه المرة يختلف الأمر عما سبقه من مرات، فالأمر هنا لا يتعلق بعبوة ناسفة ولا بعملية استشهادية يشارك فيه بضعة رجال قادمين من خارج حدود الوطن المحتل . إن بعض القوى المندرجة في إطار م ت ف حاولت إلصاق طوابعها على صفحات الانتفاضة وبلغت البلاهة بالبعض إلى درجة الادعاء بتحديد تاريخ مسبق للانتفاضة أقروه هم بالذات، فعلاوة على إمكانية الدحض الجدلي لهذا الزعم فإن أقوال هذا الفريق أو ذاك من "قادة الصف الأول" لفصائل م ت ف كان يحمل من التناقضات ما يمكن وصفه بأنه يجمع بين ركاكة غايته وهزال مزاعمه، فضلاً عن أنه يشير إلى رغبتهم المرضية المستميتة بلعب دور القابلة للحدث، وإلى ذعرهم الشديد من بروز منافسين سياسيين لهم من الداخل حيث كان كانت القوى الإسلامية تعيش آنذاك حالة من التوسع و التنامي(6) .
وإذن، اندلعت الانتفاضة كرد فعل عفوي –لكنه-واعٍ وشامل ضد الاحتلال ،وهذه العفوية تستند إلى وعي عميق رافض لمبدا الاحتلال الذي بلغ حداً من التناقض مع مطامح الجماهير قاد إلى انفجار شامل، وإذا كان من غير الممكن القبول بعنصر المفاجئة، فذلك لا يعود في جوهره إلى عامل فلسطيني ذاتي فقط، بل إلى طبيعة عدو على شاكلة إسرائيل، التي تكاد تكون الوحيدة عبر التاريخ التي لا يمر عليها يوم دون عمل حربي، والتي تعامل مع الفلسطيني كمقلوب وجودي لها بمعان مختلفة، ويختلط في سلوكها هذا، الشعور بالقوة والزهو. فالعقل الصهيوني المحكوم بسرديات توراتية وتلمودية وأفكار استشراقية ومشروع استعماري استيطاني لن يقبل بمشاركة الأرض مع الآخرين. وعبر تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي لم يولد بعد لديهم من يؤمن بالسلام مع الفلسطينيين، ولن يقبل العقل الإسرائيلي بوجود الفلسطيني مهما كانت المسوغات والضغوطات.
لقد تحوّلت الانتفاضة، في الأسابيع الأولى، إلى ما يشبه التخفف الرمزي للجماعة، لكنه لا يدل على ضعف بل على التخلص من أي حمولات زائدة راكمها الفلسطيني عبر سنوات من الخطاب الموجه إليه من الخارج، سواء من سلطة الاحتلال أو من مؤسسات القيادة المنفية. بدا المشهد كمن يتخلص مما هو زائد ليتحرك بخفة أكثر لمواجهة قوة تفوقه عدة وعدداً. كان هذا التحول إشارة مرور من صورة الفلسطيني كـ"موضوع" يدار، إلى صورة الفلسطيني كـ"ذات" تتصرف، ذات مقاومة، لا تحتاج إلى وسيط يشرح لها معنى وجودها.
هنا بالضبط حدث التحول الأكبر.
ونعم... غيرت الانتفاضة علاقة الفلسطيني بالأرض، وبدلت شكل المكان ذاته أيضاً الذي لم يعد مجرد منطقة عسكرية، بل مسرحاً للتفاوض على الوجود، كان على الفلسطيني التصرف مع واقع الاحتلال بتجسيد خرائط أخرى ومسارات أخرى تعيد للشارع صداه. هذا ما يجعل التحوّل الذي أحدثته الانتفاضة أعمق بكثير مما تقيسه الأدبيات السياسية: لقد غيّرت طبيعة الإدراك نفسه، وهو الشرط الداخلي" الذاتي" الذي ينصهر فيه الفعل الجماعي ويتشكل، والطريقة التي يفهم بها الناس سلطة الاحتلال وحدودها.
ما كان ينقص السرديات التقليدية هو الإمساك بهذه النقطة الضائعة بين السطور: الانتفاضة لم تكن مواجهة مع محتل وحسب، وإنما عملية إعادة تشكيل ذات جماعية كانت مقيدة بين خطابين؛ خطاب الاحتلال الذي يريدها جسداً مُداراً، وخطاب القيادة الذي يريدها رقماً في حسابات السياسة.
وهنا أتت الانتفاضة لتفجر هذه الفجوة، وتخلق مساحة ثالثة يتحرك فيها الفلسطيني من دون إذن من أحد، ويعيد تعريف نفسه عبر فعله المباشر.
هذا هو التحول الفعلي، أي انتقال الفلسطيني إلى حالة المعنى... معنى يصنعه بنفسه.

لا شك أن الانتفاضة فاجئت الجميع -وهذا أمر منطقي- كما أن هذا الاستنتاج لا ينبغي فهمه كاتهام يمكن توجيهه ضد أحد أو ضد الذات [انظر الهامش (5)]. وهي أيضا ليست-كما صورتها الصحف الغربية-حالة عصابية لمجموعة من اللاجئين سكان المخيمات .
وإذا كان التوصيف الدقيق للانتفاضة يكمن في عفويتها فإن اتجاهات أخرى لم تستطع أن تتجاوز في فهمها للانتفاضة الأبعاد الاجتماعية القاصرة عبر ربط حركة الجماهير بمجرد صعوبات أمنية واقتصادية واجتماعية، وبهذا فالانتفاضة في رأي هؤلاء صرخات احتجاج على قمع "بوليسي"، وإذا كان أمن المواطنين وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية ومطامحهم الوطنية كلها تواجه يومياً إرادة الاحتلال وعدوانيته.
وإذن، لا يمكن اختزال نقمة شعب ونضاله بزاوية نفسية ضيقة، وثمة أكثر من مثال يبين أن الانتفاضة يمكن أن تندلع على نحو مفاجئ ولا يمكن أن تكون مفتعلة ومصطنعة لأنها فعل جماهيري جماعي لعموم الشعب ينبثق كنتاج حتمي لتراكمات بطيئة تنتج في لحظة معينة متميزة ونوعية. لأن الانتفاضة فاجأت العدو قبل الصديق .كان هناك خليط من اللامبالاة والتعالي وعدم الاهتمام من قبل الإسرائيليين في تعالمهم مع الفلسطينيين، ففي نيسان 1987 سئل "شموئيل غورن" منسق الشؤون الخاصة في وزارة الدفاع الإسرائيلية، إن كان يتوقع حدوث تمرد في "المناطق" [ يقصد الصحفي الصفة الغربية وقطاع غزة]؟ فأجاب "غورن" بلهجة واثقة: لن يكون هنالك تمرد أبداً، فسأله الصحفي من جديد: هل أنت واثق مما تقول؟ أجابه: أتراهن؟
ومن المسلم به استحالة قبول الاحتلال كإطار لتطور علاقات إنتاجية، ولذلك لا يمكن إنكار أهمية العامل الاقتصادي الشديد التداخل بعوامل أخرى في إيصال الوضع العام إلى النضج، وهذا يبين أن إسرائيل هي الطرف المستفيد الاول من العجز الذي تعانيه تجارة المناطق المحتلة .ويظهر هذا الأمر أحد منافع الاحتلال بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي المنهك ،وإذا كان العجز يؤثر سلباً على تجارة المناطق المحتلة فإنه يؤثر بالدرجة الأولى على بسطاء المواطنين مما يوجد سبباً مباشراً للتأذي اليومي من الاحتلال. ويتجاوز الأمر الواردات ليطال مجال قوة العمل التي تضخها هذه المناطق باتجاه سوق العمل الإسرائيلي. فمن بين مليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال، قبيل اندلاع الانتفاضة، كان أكثر من ألف منهم يعملون يومياً في إسرائيل –أغلبهم من الشباب- و غالباً في المهن التي يستنكف الإسرائيليون عن القيام بها، ومن المؤكد أن هؤلاء الشبان يعملون وفق شروط لاإنسانية فهم محرومون تماماً من أي حقوق نقابية أو اجتماعية، و عليهم العمل يومياً ليتمكنوا من البقاء أحياء. وهنا يتضح بعد آخر هو مدعاة للتشبث الإسرائيلي بهذه المناطق فهي مستودع بشري لا ينضب يضخ عمالة رخيصة ما زالت دون مستوى تشكيل تهديد جذري للاقتصاد الإسرائيلي نظرا لعدم انتظامها في حركة عمالية واعية بسبب من انقسام الطبقة العاملة في فلسطين ككل ناتج عن تشتت هذه الطبقة وتبعثرها ،ويبرز الاستيطان كأخطر ممارسة احتلالية.
كانت الخطة الإسرائيلية –كما يبدو-تقضي بجعل الفلسطينيين القيام بتغيير المفهوم الهُوياتي لجغرافيتهم دون أن يتكلف الإسرائيليون أنفسهم عناء الامر ذاته . وستكتفي إسرائيل لاحقاً بإدارة الأزمة، وليس حلها، وبالاستخدام المفرط للقوة ولفرق القوة بينها وبين الفلسطينيين كأسلوب ردع تأديبي كلاسيكي ولن تجدي الضغوطات الخجولة من هنا وهناك ولا مسوغات الشرط الإنساني للحياة على ثني إسرائيل عن سياستها.
إن العنف الجوهري للمشروع الاستعماري مزق مراراً وتكراراً المشهد المكاني لفلسطين والذي مثل عملية متعاقبة على مدى قرن من الزمن أدت إلى فتق غلالة الحياة اليومية وتشققها مكانياً وهو لا يمثل اعتداء على الحياة الفلسطينية المؤهلة سياسياً ضمن دولة محتملة فحسب، بل أيضاً اعتداء على "الحياة المجردة"، ومن خلال سلسلة من التقطيعات الخرائطية تم منذ البداية تأصيلها بفضل هندسة القوة ودفعت بفلسطين نحو حافة التاريخ واليأس وتحول هذه الهندسة إلى طوبولوجيا القوة التي قمطت الأرض الفلسطينية بأقمطة استيطانية عنصرية محكومة بمقولات توراتية وحولت هذه الطوبولوجية حياة الفلسطيين إلى نوع "لا يطاق" كما يحلو لبعض الغلاة الإسرائيليين القول بين الحين و الآخر بلغة تتلذذ بتعذيب الآخرين.
ملحق: بين الانتفاضة الأولى وغزة ــ الفجوة الزمنية ومعنى المقاومة اليوم
الزمن الذي يفصل بين الانتفاضة الأولى وما يقع الآن في غزة من إبادة وتهجير وتدمير ليس مجرد ثلاثين عاماً أو تزيد. لقد جرى ماء كثير في النهر ما بين زمن الانتفاضة والواقع الفلسطيني اليوم، إذ تغير البناء المادي والسياسي للحياة الفلسطينية جذرياً.
في الانتفاضة الأولى ظهر شكل جديد من الفعل الشعبي: لجان محلية، تنظيم اجتماعي أفقي، اعتماد على الموارد المحدودة، وقدرة على إرباك منظومة الاحتلال عبر تحركات جماعية واسعة. صحيح أن ميزان القوة كان مختلاً، لكنه لم يكن ساحقاً كما هو الآن. وكانت البنية الاستعمارية أقل كثافة من حيث السيطرة التقنية والعسكرية والاستيطانية.
أما بعد ذلك، وبالأخص بعد اتفاق أوسلو وما تبعه من إعادة هيكلة شاملة للحيز الفلسطيني، تحوّل المشهد. ظهر الجدار، والحصار، والاستيطان الممنهج الذي عمل على تقطيع الجغرافيا، إلى جانب تراجع القدرة الاقتصادية للمواطنين، وانتقال الاحتلال من السيطرة المباشرة إلى إدارة دقيقة للحياة اليومية. هذه جميعها كانت عوامل صنعت مرحلة جديدة أدت إلى انكماش المجال الشعبي الذي وُلدت فيه الانتفاضة، وصعود نموذج مختلف للمقاومة في غزة بسبب الحصار الكامل، والعزل السياسي، وخيارات محدودة لا تسمح بعودة تجربة شبيهة بما حدث في 1987.
فما نراه اليوم (لا سيما في قطاع غزة) لا يشبه أو وضع أو مرحلة سابقة. سواء من حيث حجم القوات الاستعمارية العدوانية العاملة على الأرض أو لطبيعة عمل هذه القوات المستخدمة التي أسهمت وبشكل مفرط في انهيار أشكال الحياة المادية هناك، مما جعل السؤال الأساسي للناس يدور حول وجودهم الشخصي ولا شيء آخر.
صار البقاء فعلاً مقاوماً بحد ذاته، وليس توصيفاً معنوياً.
وفي هذا السياق يصبح الحديث عن “المقاومة” مرتبطاً فعلاً بتفادي الفناء أكثر من كونه جزءً من استراتيجية سياسية. فالقصف الشامل، وانهيار الخدمات، وغياب الممرات الآمنة، وانتزاع شروط الحياة الأساسية من السكان، دفعت المجتمع إلى حالة دفاع وجودي لا تتوافر فيها مساحة للمناورات السياسية أو لمبادرات شعبية واسعة.
وهذا ما يجعل المقارنة بين الانتفاضة وغزة مفيدة لفهم التحول: فقد حدثت الأولى في حاضنة مجتمعية نمتلك قدرة على الحركة والعمل الجماعي رغم القيود. أما ما يجري اليوم في غزة (والضفة أيضاً) ليس أقل من تفكيك للبنية الاجتماعية، أي للحاضنة، وتحويل السكان إلى هدف عسكري دائم.
ومع ذلك، ورغم اختلاف الظروف، بقي القاسم المشترك هو أن الفلسطينيين لا يزالون يعيدون إنتاج أدوات مقاومة تحت شروط تتغير باستمرار، لأن البديل الوحيد هو القبول بالإلغاء والاختفاء التدريجي من التاريخ العالمي.
وهذا ما لا يمكن أن يحدث
.....
1. في 8 كانون أول 1987، اصطدمت حاملة دباباتٍ إسرائيلية بعددٍ من السيارات الفلسطينية عند "معبر إيرتز" على مدخل بيت حانون شمال قطاع غزّة مما أودى بحياة 4 فلسطينيين هم: طالب أبو زيد، عصام حمودة، كمال حمودة وشعبان نبهان، وجُرِح 7 آخرين. ويسجل التاريخ أن زياد عاشور، "حكواتي المخيم"، كما لقّبه الكاتب شفيق التلولي. أول من حوّل جنازة الشهداء إلى مظاهرة، تصدح بالغضب في وجه جنود الاحتلال، معلناً انطلاق انتفاضة الحجارة من أزقة المخيم. وكان هو من سجل بصوته كلمات البيان الأول للانتفاضة، مبتدئاً بنداء قرع به جدران الخزان: "نداء... نداء... نداء... يا جماهير شعبنا العظيم... أنتم تصنعون المستقبل". سجّله بصوته باستخدام جهاز تسجيل "سانيو"، وطاف به شوارع المخيم، ينثر النداء كأنّه نار تُلهب القلوب. رحل زياد عاشور في 20 أيار 2019. ويشاع أيضاً أن محمد اللبدي الناشط في صفوف الجبهة الديمقراطية كان من صاغ أول بيان للانتفاضة الذي حمل الشعار الشهير "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة" وذلك بعد وجيزة من اندلاع المواجهات في الضفة و غزة، وهو ما دفع حركة فتح لإعداد بيان مشابه لبيان اللبدي. تشكلت القيادة السرية للانتفاضة، والتي عُرفت لاحقاً باسم "القيادة الوطنية الموحدة". وبقي أسماء أعضائها ومن يكتب بياناتها بحالة سرية مطلقة، حتى أن إسرائيل -رغم كل ما تملكه من خبرة في هذا المجال- لم تستطع أن تتعرف أو تكشف هوية هذه القيادة إلا بحلول نيسان من العام 1988 . فقامت بإبعادهم، ومن بينهم حسام خضر الذي نفي إلى الخارج حيث التقى بأبي جهاد الوزير في تونس ويقول بالحرف الواحد " الفساد كان مُستشري في مؤسسات منظمة التحرير وبالتالي إحنا كان يصلنا من موازنات اللي كان من شأنها إنها يعني تنقُلنا نقلة نوعية باتجاه مُقاومة شعبية ومُسلحة كان يصلنا الفُتات وكُله يعني يتقصقص على الطريق في جيوب المسؤولين، وهذا حقيقة وضعتها أنا والأخ مروان أمام الأخ أبو جهاد في اجتماع تقريباً استغرق 4 ساعات في 12/4/1988 في بيته يعني 4 أيام قبل استشهاده." للمزيد انظر موقع قناة الجزيرة نت برنامج فلسطين تحت المجهر 7-12-2014, مرجع سابق
حسام خضر/القيادة الموحدة للانتفاضة (1987-1993): أصبحت الأرض المُحتلة هي الساحة الوحيدة اللي مُمكن لهذه القيادة أن تلعب بها وتُحافظ يعني على شرعيتها ووجودها، للأسف الشديد أنا بقول لكِ بالسنة الثانية للانتفاضة أصبحت تونس تتدخل بشكل سلبي لأنهم في واد والناس في واد، وبدئوا يتدخلوا في صياغة الشباب هُنا مضطرين أن يبعثوا البيان بيان القيادة الوطنية الموحد رقم 10 ولا 20 ولا 30 من باب العلاقة ومن أجل أنه أولئك يعني يبعثوا شوية مصاري.
2. سنشير بكلمة "انتفاضة" معرفة و-أو نكرة للتعبير عن انتفاضة الحجارة أو الانتفاضة الأولى ما لم يذكر غير ذلك. وقد استعمل تعبير "الانتفاضة" أول مرة لوصف الاحتجاجات التي اندلعت إثر حادثة معبر بيت حانون في أول بيان صدر لحركة حماس جرى توزيعه في غزة يوم 14 كانون أول1987،يقول: "جاءت انتفاضة شعبنا المرابط في الأرض المحتلة، رفضاً لكل الاحتلال وضغوطاته، ولتوقظ ضمائر اللاهثين وراء السلام الهزيل، ووراء المؤتمرات الدولية الفارغة". ( للمزيد : انظر https://www.palestine-studies.org/ar/resources/special-focus ودخل المصطلح إلى الصحافة العربية والغربية كما هو بلفظه العربي، كما استخدمه المحللون والصحفيون الإسرائيليون [ كتب كل من زئيف شيف و إيهود يعاري كتاباً باللغة العبرية عن تلك المرحلة أسمياه ( الانتفاضة)]
3. يقول بسام أبو شريف [المستشار السابق للرئيس عرفات]: "حتى تلك اللحظة [ يقصد لحظة اندلاع الانتفاضة] لم يكن هنالك بالذهن انتفاضة، كان بالذهن إسناد الشعب في الداخل، رصد موازنات للجامعات للمدارس للمستشفيات كنوع من الدعم لنتائج هذه المُظاهرات الكبيرة لأنه كانت إسرائيل تفرض حصاراً شديداً على الأموال وعلى المساعدات وعلى المتطوعين وإلخ، كانت وجهة نظر أبو عمار أنه قد لا يتحمل شعبنا الاستمرارية لمثل هذه الانتفاضة." للمزيد : أنظر حلقة "فلسطين تحت المجهر | ثمن أوسلو (ج2)" على قناة الجزيرة، في الدقائق الأولى(ما بين 1:10 و 1:40) من بداية الفيديو، وذلك ضمن الجزء الأول من الحلقة الذي يناقش "ثمن أوسلو.. ودور مؤسسة فافو في تمهيد الطريق
أنظر موقع قناة الجزيرة نت برنامج فلسطين تحت المجهر 7-12-2014 https://www.aljazeera.net/programs/palestineunderthemicroscope/2014/12/7
4. للمزيد انظر النظام الانتفاضي : نظرة في الواقع العربي و الإنساني: د. بشير أبو القرايا: مكتبة حسن العصرية. بيروت لبنان 2013
5. يؤكد موقع وكالة الأنباء و المعلومات الفلسطينية "وفا" في نص له بعنوان أسلحة المقاومة [دون تاريخ] أن "الانتفاضة الجماهيرية العارمة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة لم بشكل عفوي أو آني، ولم يكن حادث معبر بيت حانون "إيرتز سابقاً " حادثاً قدرياً لعبت الصدفة ملعبها في أحداثه" و للتدليل على عدم عفوي الانتفاضة يتطرق النص إلى ما قاله الرئيس عرفات عن العام 1988 بأنه عام البشرى فـ"هذه الانتفاضة الكبيرة بشهدائها وجرحاها ومعتقليها هم رسل هذه البشرى، وهي الخطوة الأولى على طريق إنهاء الاحتلال وطرده وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف". للمزيد، انظر، http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3475 . .بل أكثر من ذلك، فثمة من يزعم-دون دليل واضح- أن الشهيد أبو جهاد خليل الوزير كان "يرغب في تصعيد الانتفاضة، بل في نقلها إلى فلسطينيي الخط الأخضر؛ وتوقع حدوث عصيان مُسلح عام، وكان طموحه الشخصي أن يدخل الأراضي المحتلة لقيادة العصيان". انظر أيضا : يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949 - 1993 . مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، بيروت، 2002 ، ص 864 .
6. بدأ منذ بداية الثمانينيات تبلور نشاط سياسي فلسطيني ذو طابع إسلامي واضح، و بدأت حركات سياسية تتشكل على غرار حركة الجهاد الإسلامي .ويقول القيادي في الحركة نافذ عزام إن تلك السنوات كانت صعبة بالنسبة للفلسطينيين، لأن الأمور كانت تتجه نحو المفاوضات والتسويات( انظر موقع قناة الجزيرة نت برنامج فلسطين تحت المجهر 7-12-2014, مرجع سابق) [ ينبغي التأكيد هنا أن حركة الجهاد الإسلامي لم تكن جزءً من القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة]. ثم جاء تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد استشهاد الناشطين في حركة الإخوان المسلمين صائب ذهب وجود سلمية في كانون الأول 1986 برصاص الجيش الإسرائيلي في بير زيت. تم الإعلان عن الحركة رسمياً مع بدء الانتفاضة في منتصف كانون الأول 1987 حين وزعت بيانها التأسيسي في الجامعة الإسلامية في غزّة.[ في الحوارات الشخصية مع بعض الأصدقاء من حركة حماس كان البعض يطالب الشهيد أحمد ياسين باتباع نهج الكفاح المسلح بدل من العمل السياسي ( طبعا قبل اندلاع الانتفاضة)، بينما لم يكن الشيخ أحمد ياسين يرغب في أي مواجهة عسكرية مع الإسرائيليين، بل كان يمنع من القيام بمثل هذه الأعمال التي سوف تستفز بدورها الجيش الإسرائيلي للقيام بأعمال انتقامية ضد المدنيين، و لكن اندلاع الانتفاضة دفعت بالشيخ ياسين إلى تبديل موقفه بصورة كاملة بعد عدة أسابيع].



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا اليوم... نحو لغة سياسية جديدة
- زمن الضفادع: مجازات الطغيان في التجربة السورية
- جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان
- دونالد ترامب وعصر ما بعد الحقيقة في الخطاب السياسي
- عن الطوفان وأشياء أخرى (50)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (48)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (49)
- قراءات في كتاب عصور الرأسمالية الأمريكية : تاريخ الولايات ال ...
- في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى
- كيف يصبح الخوف مصنعاً لحكايات -الغولة-
- أنطولوجيا الخوف في ظل الدولة الأسدية
- من -الكيانية- إلى -الفلسطينيزم-: تحولات الوعي الفلسطيني بين ...
- المثقف السمسار والمستعمِر: التبعية والهيمنة
- ما بعد إيران: صعود نموذج -القوة الوظيفية- وانحسار استراتيجية ...
- رائحة الحياة الأولى: حكاية الجيوسمين
- إيران في عمق التداعيات والتحولات الجيوسياسية: هامش تحليلي
- حدود السلطة على النص
- العقوبات الاقتصادية على إيران: هندسة جديدة للشرق الأوسط
- ما بعد الطوفان : تفكك -الهلال الشيعي- والنظام الإقليمي الجدي ...
- من بلفور إلى ترامب: الدلائل الجوهرية


المزيد.....




- ترامب يمازح الحضور في تجمع جماهيري: -لو قرأت المكتوب في جهاز ...
- الأول من نوعه عالميا.. أستراليا تبدأ حظر استخدام الأطفال لوس ...
- النواب الفرنسيون يقرون بفارق ضئيل ميزانية -الضمان الاجتماعي- ...
- زيلينسكي مستعد لإجراء انتخابات وتقديم -وثائق منقحة- بشأن إنه ...
- من 20 نقطة.. أوكرانيا تستعد لتقديم -مقترح منقح- لوقف الحرب
- تقرير عن -صفقة 2019- للعفو عن نتنياهو.. وهرتسوغ يرد
- ترامب يكذّب زعيما أوروبيا بعد -تصريح العشرين مليار دولار-
- عقوبات أميركية على شبكة تجنّد كولومبيين في قوات الدعم السريع ...
- -أقرب تهديد-.. مقاتلتان أميركيتان تحلقان فوق خليج فنزويلا
- إنفانتينو أمام شكوى لدى محققي أخلاقيات -الفيفا- بسبب جائزة ا ...


المزيد.....

- قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة / معتصم حمادة
- مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني / غازي الصوراني
- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي ... / غازي الصوراني
- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - انتفاضة الحجارة :بين العفوية و القصدية