|
|
تونس الآن الآن ..
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 02:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تبدو تونس اليوم وكأنها تقف في منعطف تاريخي تتقاطع فيه كل الخطوط الحمراء التي رسمها الشعب بدمه وعرقه منذ عقود. فمنذ ذلك اليوم الذي خرج فيه الناس إلى الشوارع في ديسمبر 2010، محطمين جدار الخوف الذي سجن أجيالا كاملة في الصمت، لم تعرف البلاد لحظة هدوء حقيقية. كان انتقالها هشا، متعثر الخطوات، مثقلا بإرث الاستبداد ومآسي الفساد ومصالح اللوبيات وشبكات الدولة العميقة التي لم تغادر مواقعها. ولكن، ورغم هذا المسار المعقد، ظل شيء واحد ثابتا: إرادة الناس في التحرر، ورفضهم القاطع لكل محاولة لفرض حكم الفرد أو إحياء الدولة الأمنية أو إعادة تدوير منظومة الهيمنة. اليوم، بعد سنوات من الوعود الكبرى والخيبات الكبرى، تشهد تونس واحدة من أخطر مراحل تاريخها الحديث. مرحلة تُعاد فيها كتابة قواعد اللعبة خارج المؤسسات، ويُعاد فيها توزيع السلطة بالاعتماد على خطاب قائم على التخوين والاستعداء والتهديد، أكثر مما يقوم على الرؤية والبرنامج والمشروع الوطني. خطاب يختلط فيه الشعب بالدولة، والمعارضة بالخيانة، والنقد بالعمالة، والاختلاف بالتواطؤ. خطاب يعيد إلى الواجهة أشباح الماضي: تلك السلطة التي كانت تصنع "عدوا" في كل زاوية، وتبحث عن "مؤامرة" في كل خلاف، وتستخدم القانون كسيف مسلط لا كأداة لتحقيق العدالة. لقد بلغ منسوب التوتر مستويات غير مسبوقة، بعد سلسلة من الاعتقالات التي طالت معارضين من مختلف الاتجاهات، محامين، صحفيين، نقابيين، حقوقيين، ووجوها سياسية ، شباب مستقل ،لا يجمع بينها سوى شيء واحد: رفضها الاصطفاف خلف السلطة. اعتقالات جاءت تحت تبريرات جاهزة، وصيغ غامضة، وأدلة لا تقنع حتى من يعلنون ولاءهم للسلطة. وهو ما أعاد إلى الواجهة سؤالا ظل يطارد البلاد منذ عقود: هل نحن أمام دولة تطبق القانون؟ أم أمام قانون يصاغ ليتناسب مع إرادة الدولة؟ وفي قلب هذا المشهد، يظهر مرسوم 54 سيّء الذكر، ذلك السلاح التشريعي الذي تحول إلى آلة صامتة لتصفية الأصوات، خنق الفضاء العام، تجريم الرأي، وتشويه كل من يجرؤ على الكلام خارج ما ترسمه السلطة من حدود. صار المرسوم بمثابة "مقصلة رقمية" لا تحتاج إلى محاكمات حقيقية، تكتفي بتأويلات فضفاضة وتهم يمكن أن تطال كل مواطن ، من الصحفي إلى الطالب، من النقابي إلى العامل، من المعارض إلى المواطن العادي الذي كتب تعليقا في لحظة غضب على فيسبوك. وهكذا، تحوّل الخوف من جهاز الأمن إلى خوف من الجملة، من الكلمة، من الحرف. غير أن أخطر ما يحدث اليوم ليس فقط التضييق على الحريات، بل العودة التدريجية للدولة الأمنية كعقيدة حكم، وكأن الثورة لم تقم، وكأن آلاف المسيرات والاعتصامات والصمود الشعبي طيلة سنوات لم يكن سوى فصل عابر في قصة طويلة من الطغيان. دولة أمنية تعود في ثوب جديد: أقل صخبا من دولة بن علي، لكنها أكثر استعجالا، أكثر توترا، وأكثر اندفاعا نحو الصدام. تعود بآليات جديدة، بتكنولوجيا جديدة، بقوانين جديدة، لكنها تحتفظ بنفس العقلية القديمة: عقلية السيطرة، والضبط، والتحكم في المجتمع عبر الخوف لا عبر العدالة. وفي هذا السياق المحتقن، يكبر الشرخ بين السلطة والمجتمع. فالسلطة التي رهنت البلاد لمنطق "أنا أو الفوضى" أصبحت نفسها منتجة للفوضى. والسلطة التي رفعت شعار الحرب على الفساد أصبحت، من حيث لا تدري، تعيد تمكين شبكات الدولة العميقة نفسها التي صنعت الفساد. والسلطة التي أرادت تفكيك المنظومة الحزبية القديمة لإعادة صياغة المشهد السياسي على صورتها، وجدت نفسها تمنح خصومها قوة غير متوقعة: قوة المظلومية، قوة الاضطهاد، قوة السجون، تلك القوة التي تحوّل السيئين إلى رموز، والضعفاء إلى قادة، والمنسيين إلى أيقونات. لكن أخطر مفارقات اللحظة هو أن السلطة تعيد ، بوعي أو بغير وعي ، بناء نفس الجدار الذي أسقطه الشعب قبل خمسة عشر عاما. جدار الخوف. ذلك الجدار الذي زرع في النفوس لعقود، والذي تصدّع يوم خرج الفقراء والكادحون إلى الشوارع يهتفون: "الشعب يريد إسقاط النظام". واليوم، نفس أساليب الترهيب، نفس لغة التخويف، نفس الاتهامات الجاهزة، نفس النظرة الفوقية للمجتمع، تعود لتفرض إيقاعها من جديد. لكن السؤال الذي لا يبدو أن السلطة تفكر فيه هو: هل يمكن لجدار خرّبته ثورة أن يرمّم من جديد؟ هل يمكن لشعب كسر حاجز الخوف أن يعود إلى القفص؟ إن البلاد تدخل مرحلة خطيرة، لأن الخطاب الرسمي أصبح خطابا حربيا بامتياز، يزرع العنف في الوعي الجمعي، ويشرعن الغضب، ويعمّق الانقسام، ويحوّل الخلاف السياسي إلى صراع وجودي. ولما تشرعن الدولة العنف، يتحرك العنف في الشارع كقوة مستقلة، تخرج عن السيطرة، فتتولد الأزمات واحدة تلو الأخرى: غلاء، بطالة، قمع، انسداد، عنف، وانعدام ثقة شامل. والأخطر أن السلطة اليوم تبدو متجهة نحو حكم فرداني، تمجيد الذات، واعتبار الحاكم هو صاحب الحقيقة الوحيدة، وكأن البلاد لا تاريخ لها، وكأن الشعب لم يجرب حكم الفرد في عهد بورقيبة، ولم يقاومه، ولم يخرج عليه لاحقا في عهد بن علي. وكأن سقوط بن علي في 2011 لم يكن إلا حادثا صغيرا. كأن هذا الشعب، الذي قاوم ، وأسقط حكومات بعد الثورة، وهزم النهضة في الشارع، سيقبل اليوم بالخضوع بلا مقاومة. من هنا تبدأ ضرورة كتابة هذا النص: ليس مجرد نص سياسي، بل محاولة لالتقاط اللحظة في كل تناقضاتها، كشف الأخطاء المتراكمة، فضح الأوهام، تفكيك سردية السلطة، استعادة صوت الشعب، وإعادة التذكير بأن التاريخ لا يرحم، وأن الشعوب حين تحاصر، تبدع طريقها للخلاص، وأن تونس التي صنعت ثورة ذات شتاء ليست بلدا يقبر بسهولة تحت أنقاض الخوف. هذه المقدمة ليست فتحا للكلام، بل فتحا للجرح. جرح وطن بأكمله، يبحث عن طريق، يرفض الاستسلام، ويصرّ على أن الحرية قدر لا مهرب منه.
1. السياسة اليوم: آلة قمعية متكاملة وممنهجة.
السياسة اليوم في تونس ليست مجرد تبادل أفكار، بل أداة قمع متكاملة، تشمل كل المؤسسات: القضاء، الإعلام، النقابات، الجمعيات الحقوقية وحتى الحياة اليومية للمواطن. المواطن أصبح مشروعا دائما للمتابعة، المراقبة، والاعتقال، ليس لأنه ارتكب جرما، بل لأنه يطالب بحقوقه، أو يرفض سياسات السلطة الفردية، أو ينتقد الأداء الحكومي، أو ينتمي إلى أي تنظيم مستقل. السلطة الحالية لا تؤمن بالسياسة كحق طبيعي، بل كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة، وإخضاع المجتمع للفوضى المنظمة، وتحويل الشارع إلى ساحة ترهيب مستمرة، والقضاء إلى آلة تنفيذية مباشرة للأوامر السياسية، والمؤسسات النقابية والحقوقية إلى أهداف معلنة للقمع والتضييق. هذا التحول يظهر أن السلطة تعمل وفق مخطط متكامل يشمل: -القمع القانوني المنهجي: استخدام المحاكم والاعتقالات لإخضاع كل معارض، مع فرض إجراءات تعسفية، واستخدام مرسوم 54 سيء الذكر كأداة رسمية لتضييق الحرية على المنظمات والجمعيات والشخصيات الفاعلة في المجتمع المدني. مرسوم 54 يسمح للسلطة بتقييد التمويل الخارجي للجمعيات، مراقبة نشاطها، وتهديد استمرار عملها، ما يجعل المجتمع المدني تحت رحمة السلطة بالكامل، ويقيد أي فعل مستقل للضغط على السلطة. -التضييق الاجتماعي والاقتصادي: البطالة، الفقر، وغلاء المعيشة توظّف كأدوات قمع غير مباشرة، لخلق حالة من العزلة والخوف، وإضعاف قدرة الفئات الشعبية على التعبير والتحرك. -السيطرة على الإعلام والثقافة: إعلام خاضع، منصات اجتماعية مراقبة، وصحافة مقيدة، تحول كل نقد إلى تهديد، وكل احتجاج إلى تهمة، وكل موقف مستقل إلى خطر محتمل على الدولة. -ضرب مؤسسات المجتمع المدني والنقابات: كل نقابة، جمعية حقوقية، أو منظمة ثقافية مستقلة تتعرض للتضييق أو التشويه أو الإقصاء، بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل، الجمعيات ، وجمعيتي المحامين، و منظمة حقوق الانسان ، تحت منطق التخوين والتشكيك في الولاء الوطني. -خطاب حربي مستمر: خطاب عدائي مسلح بالعنف الرمزي واللفظي، يحوّل كل نقد إلى تهديد مباشر للسلطة، وكل احتجاج شعبي إلى خطر على الأمن القومي، ويبرر بذلك القمع والعنف المؤسسي. في هذا المناخ، المواطن يعيش حالة قمعية شاملة: مراقبة، تهديد، اعتقال، لكن أيضا مراقبة داخلية من المحيط الاجتماعي. كل فعل صغير أو كلمة يمكن أن تتحول إلى دليل على المعارضة أو التمرد. هذا الواقع ليس أزمة سياسية مؤقتة، بل تحول اجتماعي كامل، يهدف لإعادة إنتاج الفردانية والخوف كأيديولوجيا مركزية، مستندة إلى أدوات قانونية مثل مرسوم 54، والخوف من الاعتقال والملاحقة.
2. إعادة تشييد جدار الخوف: درس الثورة 2010-2011.
ما يحدث اليوم هو محاولة واضحة وصريحة لإعادة بناء جدار الخوف الذي أسقطه الشعب التونسي في ثورتي 2010 و2011. الثورة لم تسقط نظاما فحسب، بل أسقطت منطق الخوف المؤسسي، وفضحت الاستبداد، وأكدت قدرة الشعب على قلب الطاولات، وإجبار السلطة على الانسحاب أمام إرادته. الاعتقالات السياسية، التضييق على النقابات، تهديد الجمعيات الحقوقية، استهداف القضاة المستقلين، وكل إجراء من الإجراءات التعسفية، يهدف لإعادة فرض السيطرة على المجتمع، وإجبار المواطنين على الخضوع، وإفراغ الشارع من أي فعل جماعي مستقل. لكن التاريخ يعلمنا درسا صارخا: الشعب التونسي لن يبقى صامتا أمام الظلم والقمع. كل اعتقال سياسي، كل تضييق على الجمعيات أو النقابات، كل تهديد للقضاة، يعزز المعارضة في الشارع، ويخلق زخما جديدا، ويعيد إنتاج حركة احتجاجية أكثر صلابة ووعيا. المرسوم 54 سيء الذكر، باعتباره أداة رسمية لتقييد الجمعيات، أصبح جزء من هذه المعادلة: السلطة تظن أنها بذلك تحصر الفعل المدني، لكنها في الواقع تعزز من وضوح الصراع، وتكشف المواطن على طبيعة النظام القمعي، وتزيد من الضغط على كل فئات المعارضة، لتصبح أكثر وضوحًا وقوة في تحركها. إعادة بناء جدار الخوف لن تكسر إرادة الشعب، بل ستزيد من الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وتقوي المعارضة في الشارع، وتفتح الباب لتحالفات جديدة بين القوى المستقلة، وتعيد للمعتقلين رمزية المقاومة الشعبية، وتضع السلطة في مواجهة مباشرة مع إرادة الشعب.
3. الاعتقالات السياسية: تقوية المعارضين بدل إضعافهم.
في لحظة القمع الحاليّة، يبدو المشهد لأول وهلة وكأن السلطة تعتقل المعارضين لإضعافهم، لكنها في الواقع، تغذي قوتهم بشكل غير متوقع. الاعتقالات السياسية، التي استهدفت في السابق شخصيات بلا قاعدة جماهيرية واضحة، أصبحت اليوم تمنحهم رمزية وقوة في الشارع. الواقع يقول إن: الأمس كان معظم الأحزاب والشخصيات المسيسة ضعيفة، بلا حضور شعبي حقيقي، بينما اليوم، أصبح لهم وزن سياسي ومصداقية جماهيرية نتيجة ما تعرضوا له من تضييق. الإخوان المسلمون، بعد سنوات من الانشقاقات والاستقالات والصراعات الداخلية، عادوا بقوة غير مسبوقة، ليس لأنهم اكتسبوا قاعدة جديدة، بل لأن السلطة أعادت إنتاجهم من من جديد من خلال سياسة التضييق، والاعتقالات، وإتقانهم للعبة المظلومية، التي أصبحت اليوم من أشهر أدوات النفوذ الشعبي. سياسة السلطة الحالية فتحت القنوات بين العديد من التشكيلات السياسية، لتنشأ أرضية تقارب وتحالفات بين أطراف كانت في السابق متناحرة، مما أعاد رسم الخريطة السياسية بشكل غير متوقع، لصالح القوى التي ظنت السلطة أنها مستهدفة وضعيفة. إن ما يبدو ظاهريا كعملية قمعية تهدف لتفكيك المعارضة، يصبح على المدى المتوسط عملية إعادة بناء للمعارضة نفسها، ومنحها وزنا شعبيا وسياسيا. في المقابل، السلطة تعاني من ضعف مطرد، وفقدان جزء كبير من مسانديها التقليديين، وانكشافها أمام الرأي العام الوطني والدولي. هذا الدرس يوضح بجلاء: القمع المباشر للعقل السياسي والاجتماعي غالبا ما يقوي القوى المستهدفة، ويكشف محدودية قدرة السلطة على التحكم بالشارع والشخصيات السياسية. الاعتقالات، بدلا من سحق المعارضة، تصنعها، وتمنحها الشرعية الرمزية والشعبية التي كانت غائبة عنها، وتعيد إحياء الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي حاولت السلطة إخمادها منذ 2010.
4. خطاب السلطة الحربي والعنف المجتمعي المتصاعد.
السلطة اليوم تعتمد خطابا حربيا عنيفا، ليس في مجرد الكلمات فقط، بل في سياساتها وأفعالها العملية، ما يؤدي إلى تصاعد العنف داخل المجتمع نفسه. هذا الخطاب يقوم على: -تعبئة الشعب ضد المعارضين، عبر وسائل الإعلام، وتصوير أي احتجاج كتهديد للأمن القومي. -استخدام التخوين كأداة أساسية، بدل منطق النقاش والحوار، ليصبح أي طرف مستقل أو نقابي أو حقوقي خائنا أو عدوا للوطن. هذا المنطق أعاد إنتاج أساليب تكفير الإخوان المسلمين، ولكنه اليوم يمتد ليشمل النقابات، الجمعيات الحقوقية، المحامين، وحتى فئات من المجتمع المدني. -التوظيف المباشر للعنف الاجتماعي والرمزي: الشارع يزداد حدة، ويتصاعد فيه العنف اليومي كنتيجة مباشرة لخطاب السلطة العدائي، الذي يجعل العنف مشروعا، ويقنع المواطن أن اللجوء إلى القوة مبرر بسبب الوضع السياسي. هذا المناخ، الذي يخلقه الخطاب الحربي، ينتج دائرة عنف مستمرة: -كل خطوة قمعية من السلطة تُقابل برد فعل شعبي، ما يولد تصعيدا في الاحتجاجات، وحتى في التعامل اليومي بين المواطنين أنفسهم. -العنف الرمزي والقمعي ينعكس على الفضاء العام: المواطن يخاف من التعبير، الشارع يزداد توترا، العلاقات الاجتماعية تنكسر، وكل فعل جماعي يواجه تهديدا مزدوجا: من السلطة، ومن المجتمع ذاته المشحون بالغضب والخوف. هذه الدائرة تضع السلطة في مواجهة مستمرة مع المجتمع، ما يجعل أي مشروع قمعي طويل الأمد محفوفا بالمخاطر الاجتماعية والسياسية، ويؤكد مرة أخرى درس الثورة: الشعب لن يبقى صامتا أمام الظلم، ولن يسمح بإعادة إنتاج جدار الخوف دون مقاومة مستمرة وواسعة. كما أن مرسوم 54 سيء الذكر يضيف بعدا آخر لهذا الخطاب الحربي: السلطة تستعمله لتقييد تمويل الجمعيات، ومراقبة نشاطها، وإخضاعها قانونيًا، بينما تصف الخطاب الاجتماعي والسياسي بالتهديد. الجمعيات والنقابات الحقوقية تصبح على قائمة الملاحقة الدائمة، ما يزيد من شعور المواطنين بعدم الأمان، ويرفع من حدة الاستقطاب بين السلطة والمجتمع المدني. كل استخدام لهذا المرسوم يعيد إنتاج منطق الخوف، لكنه في الوقت نفسه يكشف محدودية قدرة السلطة على كسر إرادة المواطنين، ويعزز شرعية المعارضة الرمزية والسياسية في الشارع. بالتالي، النقطة الأساسية التي تظهر بوضوح هي أن خطاب السلطة الحربي، الممزوج بالقمع القانوني والاجتماعي، يزيد من العنف في الشارع، ويعيد إنتاج المعارضة، ويضع السلطة نفسها في مواجهة دائمة مع إرادة الشعب الحر.
5. مواجهة المجتمع المدني والنقابات: حرب على كل مؤسسات الاستقلال.
إحدى أكثر السمات وضوحا للسياسة الحالية للسلطة هي هجومها المتواصل على المجتمع المدني والنقابات المستقلة، بما فيها الاتحاد العام التونسي للشغل، الجمعيات الحقوقية، جمعيات المحامين، وحتى المؤسسات الثقافية والفنية. هذه الهجمة ليست مجرد إجراء انتقامي، بل استراتيجية مدروسة لإضعاف كل حائط صد أمام إرادة السلطة، وتجريد المجتمع من أي قدرة على التنظيم والتأثير السياسي المستقل. السلطة تستخدم الاعتقالات كأداة لتخويف القادة النقابيين والحقوقيين، ما يخلق شعورا عاما بالتهديد داخل هذه المؤسسات ويعطل قدرتها على العمل بحرية. مرسوم 54 سيء الذكر: هذا المرسوم أصبح أداة مركزية لتقييد نشاط الجمعيات، من خلال السيطرة على التمويل، وإخضاع نشاطها للمراقبة، وفرض قيود إدارية صارمة، ما يجعل المؤسسات الحقوقية في حالة ترقب دائم، وخوف مستمر من المساءلة القانونية، والشلل التنظيمي. خطاب السلطة العدائي: السلطة تلجأ إلى منطق التخوين، حيث يصبح أي نشاط حقوقي أو نقابي خيانة للوطن، أو خدمة لأجندات خارجية، وهو خطاب مشابه لمنطق التكفير الذي استعمله الإخوان المسلمون، لكنه اليوم موجه لكل المجتمع المدني والطبقة النقابية. تأثير على الطبقات الشعبية: هذا التضييق يرسل رسالة إلى المواطنين بأن أي محاولة للتعبير الجماعي أو الدفاع عن الحقوق ستواجه القمع والملاحقة، مما يزيد من إحساس الخوف الفردي ويحد من القدرة على التحرك الجماعي. الهجوم على المجتمع المدني والنقابات لا يبقى داخل حدود المؤسسات فقط، بل ينعكس على الفعل الشعبي في الشارع. المواطن يشعر بأن كل احتجاج أو تنظيم جماعي مهدد بالقمع المباشر أو القانوني، ما يخلق حلقة من الخوف المستمر، لكنها في الوقت نفسه تولد شعورًا بالاحتقان والإحباط الاجتماعي والسياسي. الدرس التاريخي واضح: كل محاولة لتقييد المجتمع المدني تعيد إنتاج المعارضة نفسها بطريقة أكثر وضوحا وجرأة. الاعتقالات، التضييق القانوني، والخطاب العدائي، جميعها تولد زخما شعبيا، وتجعل النقابات والمجتمع المدني أكثر تماسا مع المواطنين، ويعزز قدرتها على خلق حراك شعبي متجدد.
6. المعارضة في الشارع: تقوية بدلاً من الإضعاف.
إحدى المفارقات الأساسية التي كشفتها تجربة السلطة الحالية هي أن القمع المباشر للمعارضة يؤدي إلى تقويتها، لا إلى إضعافها. الاعتقالات السياسية، التضييق على الجمعيات الحقوقية، وتحويل أي نشاط سياسي مستقل إلى تهديد، خلق قاعدة جماهيرية للمعارضة كانت ضعيفة سابقًا، وأعاد إشراك المواطنين في الحياة السياسية بطريقة غير مباشرة. الأمس كان معظم الأحزاب والشخصيات ضعيفة، بلا حضور شعبي حقيقي، أما اليوم، فكل اعتقال سياسي يمنح رمزية للمعارضين ويزيد من وزنهم في الشارع. الإخوان المسلمون، الذين عانوا من الانشقاقات الداخلية والصراعات الحادة، عادوا بقوة مفاجئة بفضل سياسة التضييق والاعتقالات، إذ أصبح لهم حضور شعبي حقيقي، مستفيدين من منطق المظلومية الذي استغلتهم السلطة في إنتاجه. سياسة السلطة الحالية فتحت أبواب التقارب والتحالف بين التشكيلات السياسية المستقلة، التي كانت متنافرة أو متحاربة في السابق، ما أعاد رسم المشهد السياسي بشكل غير متوقع لصالح المعارضة التي ظنت السلطة أنها ضعيفة. خطاب السلطة الحربي، الذي يبرر القمع والعنف ضد المعارضين، ينتج عنفا متبادلا في الشارع. كل خطوة قمعية تواجه برد فعل شعبي، فتتصاعد الاحتجاجات، وتزداد حدة التوتر الاجتماعي، مما يولد حلقة من العنف المستمر، بين السلطة والمجتمع، وبين المواطنين أنفسهم. العنف الرمزي والمادي في الشارع هو انعكاس مباشر لسياسات السلطة، التي تجعل الاحتجاج مشروعا للتهديد، وتحوّل التعبير السياسي إلى فعل محفوف بالخطر. مرسوم 54 سيء الذكر يعمّق الأزمة، إذ يقيّد نشاط الجمعيات التي كانت الوسيلة القانونية لتنظيم الفعل الشعبي، ويزيد من الاحتقان الاجتماعي والسياسي، ما يجعل المعارضة أكثر تماسًا مع الشعب وأكثر قوة في الشارع. التجربة تثبت أن السلطة فشلت في احتواء المعارضة عبر القمع المباشر. كل محاولة لتقييد الشخصيات السياسية المستقلة والجمعيات النقابية أدت إلى زيادة وضوح المعارضة، وإعطائها قوة رمزية وشعبية لم تكن موجودة سابقا. في المقابل، السلطة فقدت الكثير من قاعدة مسانديها التقليدية، وانكشفت أمام الرأي العام، ما يضعف موقعها السياسي والاجتماعي. الدرس الأهم: القمع لا يقتل المعارضة، بل يقويها، ويكشف محدودية قدرة السلطة على التحكم بالشارع، ويعيد إنتاج المجتمع المدني والفعل الجماعي بطريقة أكثر وضوحا وجرأة.
7. إعادة تشييد جدار الخوف: عودة المنظومة التي أسقطها الشعب.
من أخطر ما يحدث اليوم في تونس، وأكثره دلالة على اتجاه المسار السياسي، هو إعادة تشييد جدار الخوف الذي دكّه الشعب التونسي في 2010 و2011 بدمه وعرقه وجرأته. فالتجربة التونسية أثبتت تاريخيا أن الشعب، حين تقوده الضرورة التاريخية، قادر على تفكيك أكثر الآلات البوليسية صلابة، وأكثر الأنظمة تسلّطًا… لكن ما يفعله الحكم اليوم هو محاولة إحياء دولة الخوف: خوف المواطن من السلطة، وخوف السلطة من المواطن، خوف الناشط من قلمه، وخوف الصحفي من لغته، وخوف النقابي من إضرابه، وخوف المثقف من رأيه، بل حتى خوف المواطن من المواطن. العودة إلى تقنيات حكم قديمة السلطة تعيد إنتاج نفس الأدوات التي حكم بها بورقيبة وجهاز الأمن السياسي لبن علي: الإيحاء بأن “السلطة تعرف كل شيء”، وأن “كل خطوة مرصودة”، وأن “أي كلمة قد تحمّلك مسؤولية جنائية”. هذه ليست إجراءات تقنية، بل هي هندسة جديدة للسلوك الاجتماعي تجعل المواطن يراقب نفسه ويكمّم فمه قبل أن تكمّمه السلطة. الخطاب السياسي اليوم لا يدعو الناس إلى المشاركة، بل يدعوهم إلى الحذر، وإلى النظر إلى بعضهم بعين الشك: “من معك؟ من ضدك؟ من يحرض؟ من يموّل؟ من يشوّه؟” هكذا يتحول المجال العام إلى ساحة شكّ عمومية، تعيد إنتاج “المخبر” كعنصر طبيعي في الحياة اليومية. العقاب الجماعي كسياسة السلطة لا تستهدف الأفراد فقط، بل تستهدف البيئة التي تخلقهم: الإعلام يخنق، القضاء يطوّع، النقابات تهدَّد، الجمعيات تراقب، والجامعات تحاصر إداريا وأمنيا… هذه ليست حملة متناثرة، بل هندسة كاملة لإعادة مجتمعات الخوف. مرسوم 54 كالسور الحديدي مرسوم 54 ، سيء الذكر ، هو تاج منظومة الخوف الجديدة: مرسوم يجعل من كل رأي جريمة، ومن كل نقد تهديدا، ومن كل كلمة اعتداء على “أمن الدولة”، ومن كل منشور على الفايسبوك مادة قابلة للجرجرة والمحاكمة والسجن. إنه ليس قانونا، بل سياجا فولاذيا يطوّق حرية التعبير ويعيدها إلى ما قبل 2011 بكثير. السلطة تعيد بناء جدار الخوف لكنها تنسى أن الشعب نفسه هو الذي أسقطه سابقا. الشعب الذي واجه دولة بن علي البوليسية ، الأقوى أمنيا وتنظيميا ، وأسقطها في أقل من شهر، لن يقبل بسهولة إعادة نفس الجدار، ولا تجديد نفس السجن الرمزي. صحيح أن الخوف يتراكم، لكن الغضب أيضا يتراكم، وحين تغلق كل القنوات يتبقى الشارع، والشارع وحده.
8. خطاب السلطة الحربي: كيف يولّد العنفُ عنفًا؟ وكيف يعيد تشكيل الشارع؟.
خطر السلطة اليوم لا يكمن فقط في سياساتها، بل في خطابها العنيف، الحربي، التعبوي، الذي يجعل من كل اختلاف “معركة”، ومن كل معارض “عدوا”، ومن كل نقد “مؤامرة”. هذا الخطاب ، الذي يلبس لباس البطولة واليقين والاحتكار الأخلاقي ، ليس مجرد لغة؛ إنه آلة لإنتاج العنف المجتمعي. خطاب السلطة اليوم لا يكتفي باتهام المعارضين بالخيانة، بل يذهب إلى حدّ تصويرهم كتهديد وجودي للوطن، كأدوات أجنبية، كجماعات هدّامة… هذه اللغة تلغي شرعية الاختلاف من جذورها، وتحوّل السياسة من مجال للنقاش والصراع الديمقراطي إلى ميدان معركة مفتوحة. والتحريض تحريض عمودي وأفقي: -عموديا: من السلطة إلى الشعب ، عبر إعلامها الرسمي وأنصارها ، لتعبئة الناس ضد المعارضة. -أفقيا: بين المواطنين أنفسهم ، حتى يتحول كل اختلاف إلى خصومة، وكل موقف إلى اشتباك، وكل اختلاف سياسي إلى نزاع اجتماعي. وهكذا يتولد عنف جديد، ليس بين المواطن والسلطة فقط، بل بين المواطنين أنفسهم. خلق بيئة اجتماعية عصبية حين تستعمل السلطة لغة حربية، فإنها تخلق “نَفَسا عاما” مشحونا بالعصبية والتوتر، يشبه الظرف الاستثنائي الدائم. الأسواق تتوتر، المقاهي تتحول إلى ساحات نقاش عصبي، الجامعات يصبح فيها النقاش مشحونا، الشارع يتوتر… هكذا يصبح العنف جزء من المناخ الاجتماعي. العنف لا يبقى فوقيا ، بل ينزل إلى تحت: فيتزايد العنف اللفظي بين الناس. -انتشار الاعتداءات في الشوارع والمدارس والمستشفيات. -ارتفاع التشنج في النقاشات العامة. -ازدياد التوتر داخل العائلات نفسها. كل هذا ليس “صدفة اجتماعية”، بل انعكاس مباشر لخطاب السلطة. حين تعتبر السلطة خصومها “طابورا خامسا”، يعتبر المواطنون خصومهم “أعداء” أيضا. و السياسة تتحول من إدارة الاختلاف إلى إدارة الحرب. التحالفات تتفكك، الوسط السياسي ينهار، المعارضة تتوزع بين السجون والملاحقات، والمجتمع يدخل في حالة “عنف عام”. الخطاب العنيف، مهما بدا قويا، لا يصنع استقرارا، بل يصنع احتقانا. ومع كل خطاب جديد، ومع كل تهديد جديد، يقترب الشارع خطوة من الانفجار، ويقترب النظام خطوة من فقدان السيطرة. العنف الذي تنتجه السلطة يعود إليها ، هذه هي القاعدة الحديدية للتاريخ.
9. الفردانية السلطوية ومنطق "أنا ربّكم الأعلى": فشل بنيوي يتكرّر.
من أخطر ما يميّز مسار السلطة الحالية أنّها تؤسس حكمها على الفردانية المطلقة، على منطق “رئيس واحد، رؤية واحدة، قرار واحد، عقل واحد”، وعلى تصور متضخّم يماثل ذهنية الفرعون في قصص التاريخ: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. هذا ليس مجرد أسلوب شخصي، بل بنية ذهنية كاملة، تقوم على إلغاء المؤسسات، تهميش الجماعة السياسية، وإحلال الإرادة الفردية محل التعاقد الاجتماعي. فالفردامية في تونس اليوم ،فردانية بلا مشروع الفردانية قد تكون أحيانا نتاج قائد تاريخي واسع الرؤية، لكن في الحالة التونسية هي فردانية بلا برنامج اقتصادي، بلا رؤية اجتماعية، بلا مشروع طبقي. إنها فردانية تعويضية، تستخدم لتغطية غياب المشروع، ولتقديم القرار الوحيد كدليل “قيادة”، بينما هو في الحقيقة تعبير عن فراغ مخيف في التصورات. إلغاء الدولة لصالح الفرد حين يختزل القرار في شخص واحد، تتحول الدولة إلى ظلّ باهت لرغبات الحاكم. تتوقف ديناميكية المؤسسات. تصير الوزارات دمى، والبرلمان صدى باهتا، والحكومة مجرّد ختم إداري. هكذا تفقد الدولة وظيفتها التاريخية كمؤسسة عامة وتحلّ محلها “دولة الشخص الواحد”. تونس جرّبت هذا سابقا: مع بورقيبة الذي بنى “دولة الأب”، ومع بن علي الذي شيّد “دولة الأمن”. وفي كلتا الحالتين انتهت الفردانية إلى انهيار جماهيري: بورقيبة أُسقط من داخل نظامه، وبن علي هرب تحت ضغط الشارع. لم يتعلم الحاكم اليوم من هذا التاريخ شيئا: يعيد الخطأ نفسه، بالمنطق نفسه، وبالنتائج نفسها المحتملة، وربما بسرعة أكبر، لأنّ المجتمع اليوم أكثر وعيا، أقل صبرا، وأكثر حساسية تجاه السلطوية الفردية. تاريخيا، الشعب التونسي شعب حرية وليس شعب طاعة. حتى في أقسى لحظات الاستبداد كان الشعب يجد ثغرات للتمرّد، ويعيد تشكيل شبكات مقاومته، من أغاني السجن إلى النقابات، ومن الصحافة السرية إلى أشكال التعبير الشعبي. لذلك فإنّ محاولة فرض الفردانية اليوم بمنطق “أنا الدولة والدولة أنا” تتناقض تماما مع البنية الذهنية والثقافية للشعب. الفردانية السلطوية تقوّض نفسها بنفسها لأنها تقصي الجميع، فهي تفقد الجميع. ولأنها تهاجم كل المؤسسات، فهي تفقد كل الغطاء. ولأنها تسيطر على القرار، فهي تتحمل كل المسؤولية. وهكذا تتحول إلى فردانية معزولة، ضعيفة، مستنزَفة. هذه الفردانية لا تنتج إلا مزيدا من الأخطاء، مزيدا من القمع، ومزيدا من الفوضى.
10. صدام السلطة مع النقابات والمنظمات: منطق التخوين بديلاً عن منطق التكفير.
إذا أردنا فهم لحظة تونس اليوم، فلا بد من تفكيك الصدام المتصاعد بين السلطة من جهة، وبين أهم مكونات المجتمع المدني والنقابي من جهة أخرى: الاتحاد العام التونسي للشغل، الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، هيئة المحامين، جمعية القضاة، المنظمات الطلابية، الجمعيات الاجتماعية و الثقافية و الانسانية، وحتى جمعيات البيئة والتنمية المحلية. كل هذه البُنى ، التي شكّلت تاريخيا رئة المجتمع ، أصبحت اليوم هدفا مباشرا للسلطة. لماذا؟ لأن السلطة الحالية ترفض الوساطة الاجتماعية، وترفض أي قوة قادرة على التأثير خارج مركز القرار الفردي. -الاتحاد العام التونسي للشغل: العدوّ التاريخي لكل استبداد منذ تأسيسه، كان الاتحاد شوكة في حلق كل سلطة تريد الحكم بلا ضوابط. واجه بورقيبة في الخمسينات والسبعينات، وواجه بن علي في التسعينات، وكان حاسما في ثورة 2011. ولذلك ترى فيه السلطة اليوم تهديدا وجوديا، لأنه الوحيد القادر على “تحريك الشارع” فورا وبزخم شعبي واسع. الصدام مع الاتحاد ليس استثناء، بل جزء من استراتيجية تقوم على إخضاع كل الكيانات المستقلة. -الرابطة التونسية لحقوق الإنسان: شاهد مزعج الرابطة ، أقدم جمعية حقوقية عربية ، عاشت تحت القمع مع بن علي، وقدّمت تقارير كشفت التعذيب والملاحقات. وجودها اليوم يزعج السلطة لأنها تكشف المستور: الاعتقالات، المحاكمات السياسية، مرسوم 54، تلفيق الملفات، غياب المحاكمات العادلة… لذلك تستهدفها السلطة بخطاب التخوين: “تخدم أجندات”، “تموّلها جهات أجنبية”… نفس الخطاب الذي استخدمه بن علي، ونفس الخطاب الذي استخدمته النهضة ضد خصومها. -هيئة المحامين: صوت القضاء حين يصمت القضاء المحاماة في تونس ليست حرفة، بل تقليد نضالي. المحامون يحمون السجناء السياسيين، يكشفون التجاوزات، ويمثلون الضمير القانوني للمجتمع. لهذا ترى السلطة في موقفهم خطرا وجوديا لأنها تريد قضاء صامتا مطيعا، ومحامين بلا صوت. فمنطق التخوين: البديل الجديد لمنطق التكفير، زمن النهضة، كل اختلاف كان يواجه بمنطق “الكافر” و”المعادي للإسلام”. اليوم يستبدل ذلك بمنطق “الخائن”، “العميل”، “المتآمر”، “المندس”، “المموّل”. الفكرة هي نفسها: نزع الشرعية الأخلاقية والوطنية عن الخصم. التكفير كان يجرد الخصم من دينه؛ التخوين اليوم يجرده من وطنيته. والنتيجة واحدة: فتح الطريق للقمع، والتشويه، والاعتقال. لماذا تعادي السلطة الجميع؟ لأن السلطة التي تبني شرعيتها على الفردانية ، كما في النقطة السابقة ، ترى في كل قوة مستقلة تهديدا مباشرا. وهي تحتاج إلى مجتمع ضعيف، مبعثر، منزوع الوساطة، غير قادر على تنظيم مقاومة. ولذلك تدخل صدامًا شاملًا مع كل القوى التي تمتلك قاعدة اجتماعية أو شرعية تاريخية. والنتيجة ، الصدام مع كل هذه القوى لا يضعفها، بل يقوّيها. كما حدث مع المعارضة السياسية: كلما هاجمتها السلطة، ازدادت وزنا. وكلما خوّنتها، ازدادت شرعية. وكلما سجنت رموزها، ازدادت شعبيتها. هكذا تعيد السلطة ، دون أن تدرك ، تجميع كل القوى من يمينها الى "يسارها" ضد نفسها، في لحظة تاريخية قد تعيد رسم المشهد السياسي كاملا.
11. إعادة الدولة الأمنية: خطأ استراتيجي يجرّ السلطة إلى الانحدار.
إحدى أكثر الأخطاء الجوهرية التي ترتكبها السلطة اليوم هي محاولة إعادة بناء الدولة الأمنية على أسس سلطوية مطلقة، دولة تسودها المراقبة الشاملة، الملاحقة القانونية الموجهة، الاعتقالات السياسية، التجسس على المواطنين، وتقييد المجتمع المدني، كل ذلك تحت شعار “الأمن أولا” و”الاستقرار قبل كل شيء”. هذا الخطأ ليس مجرّد قرار إداري أو قانوني، بل إعادة إنتاج لنموذج سياسي فشل تاريخيًا في تونس، وفتح الطريق أمام انهيار السلطة ذاتها. السلطة اليوم تعمل على مراقبة كل فعل سياسي، ثقافي، اقتصادي، ونقابي. الإعلام مراقب، الجمعيات الحقوقية مراقبة، النقابات مراقبة، الجامعات مراقبة، المواطن مراقب، وحتى الفضاء الرقمي أصبح ساحة للرقابة الدائمة. كل هذه المراقبة ليست لضبط القانون، بل لإخضاع المجتمع بالكامل لإرادة الحاكم الفردي. نتيجة هذا النموذج: مواطنون في حالة رعب مستمر، وحركة سياسية مشلولة، وتناقض داخلي متصاعد في المجتمع نفسه. الدولة الأمنية الجديدة ترتكز على اعتقالات استباقية، على ملفات مفبركة، على محاكمات لا تراعي الحد الأدنى من العدالة، وعلى مرسوم 54 الذي يعمّق الطوق حول أي نشاط مستقل. القضاء، الذي من المفترض أن يكون مستقلاً، يُستنزف تحت الضغط، وتتحول مؤسساته إلى أدوات تنفيذية للسلطة، ما يُعيدنا إلى زمن الدولة البوليسية التي سقطت في 2011. في عهد بورقيبة: المراقبة، الاعتقالات السياسية، التضييق على النقابات والشباب. في عهد بن علي: الأمن فوق كل شيء، الشارع تحت السيطرة، الصحافة مقيدة، المجتمع المدني مكبّل. في كلا الحالتين، انتهت الدولة الأمنية إلى الانفجار الشعبي، والثورة التي أسقطت النظام. السلطة الحالية تعيد تجربة نموذج محكوم بالفشل مسبقا، متجاهلة الدرس التاريخي البسيط: الدولة الأمنية تصنع الاستياء، وتغذي المعارضة، وتفتح الباب للفوضى الاجتماعية والسياسية. الدولة الأمنية لا يمكنها سوى ان تولّد عنفا مزدوجا: -من الأعلى إلى الأسفل: القمع، الاعتقالات، المضايقات، التجسس، الخطاب التخويني، مرسوم 54، التحكم بالفضاء العام. -من الأسفل إلى الأعلى: الاحتجاجات، المواجهات في الشوارع، العنف الرمزي، الهجمات على رموز السلطة، تزايد العصبية الاجتماعية، الانقسام الشعبي. النتيجة: دائرة عنف مستمرة، لا يربح فيها أحد، إلا القوى التي تريد تدمير المجتمع المدني، وتحويل الدولة إلى مجرد آلية قمع. الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية تزيد الطين بلّة الدولة الأمنية لا تعمل بمعزل عن المجتمع، بل تتفاعل معه. كل اعتقال سياسي، كل قمع لنقابة، كل تضييق على جمعية، يعني ارتفاع الاحتقان الاجتماعي، تصاعد البطالة، ضعف الاقتصاد المحلي، تراجع الاستثمار، وزيادة الغلاء. الشارع يصبح ساحة صراع بين المواطن الذي يبحث عن حريته ولقمة عيشه، وبين سلطة ترى في الأمن أداة لإخفاء فشلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. إعادة الدولة الأمنية اليوم ليست فقط إعادة إنتاج لنموذج سياسي فاشل تاريخيا، بل هي خطأ استراتيجي يضع السلطة في مواجهة مستمرة مع المجتمع المدني، النقابات، المعارضة، والشعب نفسه. هذه الدولة الأمنية تعيد إنتاج العنف، تصنع الاحتقان، وتزيد من قوة المعارضة بدلًا من إضعافها. الدرس التاريخي واضح: الدولة الأمنية في تونس تصنع الانفجار الاجتماعي والسياسي، ولا تحمي السلطة، بل تدفعها إلى الانحدار، وتعيد إنتاج الثورة على شكل جديد.
13. الدولة العميقة: صانعة التعفن وصانعة البدائل الخفية.
الدولة العميقة اليوم ليست مجرد قوة خفية تتآمر ضد السلطة، بل هي العقل المدبر وراء كل الفوضى المركّبة في تونس. هي من تدفع الرئيس للغوص في مستنقعات التعفن السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي والإعلامي، وتخلق حالة تجعل أي فشل يُحمّل للرئيس وحده، بينما تبقى الدولة العميقة غير مرئية، صامتة، وفاعلة على كل المستويات.
-1- صراع السلطة الداخلي والخارجي تحت قيادة الدولة العميقة: السلطة الحالية ترغم على اتخاذ قرارات تعسفية أو قصيرة الأمد تحت ضغط شبكات النفوذ المخفية. الدولة العميقة لا تكتفي بالضغط على الرئيس، بل تحرّك دوائر المعارضة الانتهازية، فتمنحها موارد صامتة، دعم خارجي غير معلن، وشرعية رمزية، بهدف توسيع الشرخ بين السلطة والشعب. كل تحركات الرئيس تبدو أمام المجتمع كأزمة فردية، بينما الواقع يقول إن هناك يدا خفية توجه اللعبة السياسية من الظل، فتضمن استمرار الفوضى والسيطرة على نتائجها.
-2- الاقتصاد كأداة ضغط وصناعة التعفن: الدولة العميقة تتحكم في الاقتصاد: التمويل، المشاريع الكبرى، الأسواق الحيوية، ما يجعل كل سياسة اقتصادية تصدر من السلطة مرهونة بتوافقها مع مصالح هذه الشبكات. البطالة، التضخم، الفساد، صارت أدوات ضغط مقصودة، لا مجرد فشل إداري. فهي تسهم في استنزاف السلطة، وإخراجها من صلب المجتمع، وتغذية الاحتقان الشعبي.
-3-الإعلام والمجتمع: خلق مساحة فوضى معرفية: الدولة العميقة تتحكم جزئيا في وسائل الإعلام، فتخلق حالة ضبابية معرفية لدى المواطنين: من الذي يحكم فعلاً؟ من المسؤول عن الأزمات؟ من يُمثل النضال؟ كل هذه الوسائل تستخدم لتشويه صورة السلطة، وفي الوقت نفسه لرفع رموز بديلة مسبقة، وبناء أيقونات نضال وصور بطولية لمعارضة مزيفة.
-4-صناعة البدائل: أيقونات النضال المستقبلية: الدولة العميقة تدرك جيدا أن السلطة الحالية تصنع أدواتها الخاصة بلا وعي: أيقونات السجن، رموز المعارضة التي لم تُبنى تاريخيا على قاعدة شعبية قوية، تعرض كبدائل جاهزة. هذه الشخصيات، بدعم صامت وفاعل من الداخل والخارج، تصبح نقطة محورية في إعادة ترتيب السلطة مستقبليًا. الدولة العميقة بذلك تحافظ على امتداد نفوذها ما قبل 2011، مستخدمة فشل السلطة الحالية لتثبيت شبكاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
-5-المحصلة الكبرى: السلطة تُستنزف في صراعات صامتة وخفية، بينما الدولة العميقة تسيطر على مسار التعفن، وتصنع بدائلها الخاصة. كل تحركات المعارضة الانتهازية، كل فشل اقتصادي أو اجتماعي، كل تلاعب إعلامي، خاضع ليد هذه الدولة غير المرئية. الرئيس الحالي يصبح في النهاية الطرف الوحيد المسؤول أمام الشعب، بينما الدولة العميقة تخرج من كل أزمة أقوى، وأعقد، وأكثر قدرة على إعادة ترتيب المشهد لمصلحتها.
14. تفكك الحاضنة الاجتماعية للسلطة: حين تخسر السلطة من كانوا سندها الطبيعي.
ما يقع اليوم في تونس لا يمكن فهمه فقط من زاوية الاعتقالات، أو مرسوم 54، أو خطاب السلطة العنيف، أو استعادة أدوات الدولة الأمنية، أو حتى تصاعد الدولة العميقة. فهناك بعد آخر بالغ الخطورة يتمثل في التفكك المتسارع للحاضنة الاجتماعية والسياسية التي كانت السلطة تتكئ عليها في السنوات الأولى. هذا التفكك لا يحدث صدفة، بل هو نتاج تراكمي لسياسات إقصائية، فردانية، عمودية، ولخطاب عدائي يخوّن كل مختلف، ويصنع عدوًا جديدًا كل يوم.
-أ-الحاضنة الاجتماعية التي بدأت تتبخر: حين صعدت السلطة الحالية، كانت تمتلك ، ولو مؤقتا ، رافعة اجتماعية حقيقية: فئات من الطبقة الوسطى، جزء من فقراء المدن، شرائح واسعة من الشباب الذين كانوا يبحثون عن “دولة قوية تنهي الفساد”، وكتلة من الشعب ضاقت ذرعًا بفوضى السنوات السابقة. لكن هذه الحاضنة لم تكن صلبة ، كانت نتيجة غضب، وليست نتيجة مشروع اجتماعي أو اقتصادي واضح. واليوم، بعد سنوات من الوعود غير المنجزة، والعنف الرمزي، وغلق الفضاء العام، ومرسوم 54، وارتفاع الأسعار، وانهيار القدرة الشرائية، أصبح جزء كبير من هذه الحاضنة: -يشعر بالخديعة، -أو بالصمت القاتل، -أو بالابتعاد التدريجي، -أو بالتحول إلى المعارضة المفتوحة. المفارقة أن السلطة التي رفعت شعار “الشعب يريد” أصبحت اليوم في تناقض مع قسم متزايد من هذا الشعب نفسه.
-ب-توسّع قاعدة المستائين: انتقال من الاحتجاج الاقتصادي إلى الاحتجاج السياسي: القضية لم تعد اجتماعية فقط. فالمستاؤون اليوم لم يعودوا يشتكون من ارتفاع الأسعار أو انهيار الدينار أو البطالة أو ندرة الدواء فقط، بل أصبحوا يرددون: -“وين ماشين ؟” -“علاش البلاد الكل تحولت لمحكمة كبيرة؟” -“علاش أي واحد يحكي يتحلّ عليه ملف؟” هكذا تحوّل الغضب المعيشي إلى غضب سياسي مباشر. وحين يتحول الوجع الاجتماعي إلى وعي سياسي، فإن السلطة تصبح في مواجهة وعي طبقي جديد، أكثر خطورة من أي معارضة حزبية تقليدية.
-ت-النقابات والمنظمات: من الصمت الحذر إلى التوتر المفتوح: السلطة اليوم دخلت في صدام مباشر مع: الاتحاد العام التونسي للشغل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان هيئة المحامين جمعية القضاة منظمة الصحفيين وجزء من المجتمع المدني المستقل الى آخره ، و القائمة طويلة . صدام اتخذ شكل التخوين، التشويه، الاتهام بالعمالة، وفتح الملفات… هذه الأساليب جعلت السلطة تخسر ما تبقى من الفضاء الوسيط بين الدولة والمجتمع. وهذا أخطر خسارة يمكن لسلطة أن تواجهها، لأن هذه المنظمات هي: -صمّام الأمان الاجتماعي -جهاز الإنذار المبكر -القناة التي تعبّر من خلالها الطبقات عن مطالبها -الجسر الذي يحول الاحتقان إلى تفاوض ومع ضرب هذه القنوات، أصبح الاحتقان خاما، مباشرا، بلا وساطة، وبالتالي أكثر انفجارا.
-ج-حين تخسر السلطة وسطها الطبيعي، من يساندها؟: مع تفكك الحاضنة الاجتماعية، ومع خسارة الفضاء الوسيط، تجد السلطة نفسها اليوم محاطة بـ: -دائرة صغيرة من الموالين العقائديين. -بيروقراطية إدارية مرتبكة. -جزء من أجهزة الأمن. -بقايا لوبيات مالية تتحين الفرصة. -وخطاب إعلامي رسمي معزول. أما المجتمع الأوسع، فهو إمّا غاضب، أو صامت، أو منتظر. والصمت في زمن الأزمات ليس علامة رضا، بل علامة تحوّل عميق قبل انفجار محتوم.
-ح-كيف تترجم هذه الخسارة على الأرض؟: -توسع الاحتجاجات -عودة التحركات الفئوية -تنامي النقاشات السياسية في المقاهي والجامعات -اتساع دائرة التضامن مع المعتقلين -تشكل محاور جديدة بين أحزاب كانت متنافرة -تصاعد الوعي بأن “الخطر لم يعد فقط سياسيا… بل وجوديا” وهنا تظهر المفارقة الكبرى: السلطة بقمعها صنعت معارضة أقوى، ومعاداتها للمنظمات صنعت تضامنا أوسع، وفردانيتها صنعت وحدة بين أطراف كانت متناحرة لسنوات.
-خ-النهاية المنطقية لهذا المسار: عندما تفقد السلطة حاضنتها الاجتماعية، وتخسر المنظمات الوسيطة، وتواجه شارعا يغلي، وتعيد فتح بوابات الدولة الأمنية، وتستعيد خطاب التخوين، وتتمادى في الفردانية… فإنها تخلق بيدها ظروف الأزمة الشاملة التي ستقود إلى نهايتها. وهنا تتحرك الدولة العميقة بكل هدوء، لتقدّم بديلا جاهزا، صنع بعناية، روّج له بهدوء، واشتغل عليه بالمال والعلاقات والدعاية، في انتظار لحظة سقوط السلطة الحالية.
15. الاقتصاد المتهاوي كحقل صراع طبقي مفتوح: حين يتحول الانهيار الاقتصادي إلى وقود مباشر للغضب الشعبي.
لا يمكن قراءة المشهد السياسي في تونس بمعزل عن الانهيار الاقتصادي الذي لم يعد مجرد أزمة ظرفية، بل أصبح بنية دائمة تعيد تشكيل المجتمع من جذوره. الاقتصاد اليوم ليس مجرد رقم أحمر على مؤشر مالي، بل هو المسرح المباشر للصراع الطبقي، والمرآة التي تعكس فشل الخيارات السياسية، واختناق الحريات، وعودة الدولة الأمنية، واستفحال الفردانية الحاكمة، وصعود منطق التخوين. إنّ سلطة اليوم، برفضها الاعتراف بعمق الأزمة، وبنزعتها العنيفة التي ترى الاقتصاد مجرد أداة للضبط والسيطرة، وبانفصالها شبه الكامل عن الواقع الاجتماعي، تغذي بأيديها التناقض الرئيسي الذي يمكن أن يعصف بها في أي لحظة: التناقض بين الطبقات الشعبية التي تُسحق يوميًا، وبين دولة تُصرّ على إنكار مسؤوليتها، وتحمّل “الآخرين” ، سواء كانوا معارضة، نقابات، أو مؤسسات مالية ، كل خطاياها.
1. الاقتصاد كآلة سحق طبقي: الطبقات الفقيرة والمتوسطة لم تعد تعاني فقط من ارتفاع الأسعار أو ندرة المواد الأساسية، بل من تحطّم كامل لنموذج العيش: -الرواتب لم تعد تكفي لأسبوع. -المواد الأساسية تفقد بشكل دوري ومقصود. -الفلاحون يبيعون بثمن لا يغطي التكلفة. -المهن الصغرى تموت تباعا. -القطاع الصحي ينهار. -القطاع التعليمي يتحول إلى امتياز طبقي. -الديون الخارجية تتحول إلى أداة إذلال. إنها ليست أزمة اقتصادية فقط، بل هندسة إعادة ترتيب المجتمع على أسس طبقية جديدة: أقلية صغيرة تحتكر الثروة، وجمهور واسع يعود إلى شكل جديد من الفقر البنيوي.
2. السلطة لا تملك مشروعا اقتصاديا… لذلك تلجأ إلى القمع: في غياب أي نموذج اقتصادي، وفي ظل غياب برنامج واضح لإعادة توزيع الثروة، تعتمد السلطة على: -مرسوم 54 لضرب الأصوات الناقدة. -خطاب التخوين لإسكات النقابات. -الاعتقالات لتعويض غياب الحلول. -معاداة الاتحاد العام التونسي للشغل. -معاداة منظمات حقوق الإنسان. -ضرب كل وسيط اجتماعي. وهكذا يصبح القمع خيارا اقتصاديا قبل أن يكون خيارا سياسيا؛ لأن السلطة تعتبر أن “الاستقرار” يتحقق بإخضاع المجتمع لا بإصلاح الاقتصاد.
3. لكن الاقتصاد حين ينهار لا يمكن إخضاع الناس… بل يفلتون من السيطرة: التاريخ في تونس يقول إن الشارع هو الحكم الأخير: -الشارع أسقط بن علي. -الشارع أسقط حكومات ما بعد 2011. -الشارع أسقط النهضة في جولات متعددة. -الشارع اليوم يتململ بصمت… لكنه لن يصمت طويلا. وحين يجتمع انهيار اقتصادي مع قمع سياسي، تنشأ لحظة واحدة تسمى عادة: لحظة الانفجار الاجتماعي.
4. انفلات الأسعار: عنف اقتصادي يعادل عنف السلطة: العنف ليس فقط في الخطاب الحربي للسلطة، بل في الأسعار التي ترتفع بلا سقف. هذا العنف الاقتصادي اليوم أشد قسوة من أي ممارسة أمنية. فالأسعار التي تزداد دون توقف تعني: -موت القدرة الشرائية. -سحق الأسر ذات الدخل الضعيف. -توسع دائرة الجوع الخفي. -انهيار الطبقة المتوسطة. -انفجار ديون العائلات. كل هذا يعمّق الشعور الجمعي بأن “الدولة ليست موجودة”، وأن السلطة انشغلت بصراعاتها، وتركت المجتمع لمصيره.
5. منطق الدولة الأمنية يكسر الاقتصاد: حين تعاد الدولة الأمنية، ويصبح القمع هو اللغة الرسمية، فإن الاقتصاد يخسر تلقائيا: -المستثمرون يهربون. -المؤسسات المحلية تغلق. -الثقة في السوق تختفي. -الاقتصاد الموازي يتوسع. -الجريمة المنظمة تجد بيئة خصبة -الفساد يستعيد شبكاته. فالاستبداد ليس فقط خصما للحريات، بل عدوا مباشرا للاقتصاد.
6. الاقتصاد كحاضنة للغضب السياسي: كل الأزمات التي تبدو “اقتصادية” تتسرب إلى السياسة: -ندرة الدواء تتحول إلى تنديد بالنظام. -البطالة تتحول إلى احتجاجات. -الفقر إلى صراع طبقي. -انهيار الخدمات إلى نقمة على السلطة. -الغلاء إلى رفض المنظومة الحاكمة. وهكذا يصبح الاقتصاد ساحة معركة سياسية يومية.
7. الدولة العميقة تستثمر في الأزمة الاقتصادية: الدولة العميقة ، بقضائها، وإدارتها، ولوبياتها، ومحاور الإعلام التي تتحرك في العتمة ، تدرك أن الانهيار الاقتصادي فرصة ذهبية لتفكيك السلطة وإعادة تركيب المشهد. كيف؟ -تدفع السلطة نحو مزيد من القمع. -تدفع المعارضة الانتهازية نحو مزيد من التصعيد الشعبوي. -تترك الاقتصاد ينهار لأنها تعلم أن الانهيار يخلق حاجة “لمخلّص جديد”. -تعيد إنتاج نفس الوجوه التي حكمت قبل 2011، أو وجوها تشبهها.
8. النتيجة: السلطة تعزل نفسها… والاقتصاد يفتح الباب للثورة: مع كل يوم يمر دون إصلاح، تتآكل شرعية السلطة، ويتسع الشق بين الحاكم والمحكوم. ومع انهيار الاقتصاد، يصبح الشارع وحده الفاعل التاريخي الممكن، ويصبح الغضب الاقتصادي وقودًا لوعي طبقي ثوري يفتح الباب لتحولات اجتماعية وسياسية غير قابلة للعودة.
في نهاية هذا المسار الطويل من الانهيارات والتصدّعات، يبدو المشهد التونسي اليوم كأنه يقف على حافة مرآة تتشقق تحت وقع كل خطوة خاطئة، وكل قرار متعجل، وكل خطاب مشحون بالعنف الرمزي والمادي. لقد تكوّنت طبقات كثيفة من الخوف، وارتفعت جدران صامتة من الهلع الجماعي، وأُعيد تشغيل ماكينات السلطة القديمة التي اعتقد الناس أنها تعطّلت إلى الأبد. لكن، وبرغم هذا المشهد القاتم، فإن التاريخ أثبت أن الشعوب التي يكتب وعيها بعرق أجيال كاملة، لا تهزم بسجن المعارضين، ولا بترهيب الصحفيين، ولا بإحياء ممارسات أمنية يفترض أنها دفنت في مقبرة استبداد ما قبل الثورة. لقد دخلنا مرحلة تتصارع فيها سرديّتان: سردية سلطة تحاول إعادة صياغة المجتمع على مقاس إرادتها الفردانية، وسردية شعب يصرّ على أن الحرية ليست هِبة تمنح ثم تسترد، بل حقّ اكتسب بالصعود على أكتاف شهداء ومفقودين ومهجّرين. وفي هذا الاشتباك، تتولد مفارقة تاريخية مرعبة: فالسلطة التي تسعى إلى إخماد المعارضة تقوّيها، والسلطة التي تظن أنها تضعف خصومها تمنحهم شرعية جديدة، والسلطة التي تحاول محو التعددية السياسية تعيد تشكيلها بطرق لم تكن تتوقعها. إنّ تونس اليوم ليست مجرد بلد يدار بالخطابات النارية والقرارات الزجرية؛ إنها مختبر لخطأ تاريخي يتكرر: الرهان على الدولة الأمنية، الفردانية المطلقة، وتخوين كل من يرفض الانحناء. لكن هذا النهج، وإن بدا قويا في لحظته الأولى، ينهار حين يصطدم بالذاكرة الجماعية للشعب، تلك الذاكرة التي تعرف جيدا أن الطغيان لا يعيش طويلا، وأن الاستبداد الذي ينهض من رماده لا يملك إلا أن يعيد إنتاج هزيمته. لقد أظهرت التجارب القريبة والبعيدة أن الشارع ليس رقما ثانويا في المعادلة، بل هو العقل الحيّ للبلاد، قلبها النابض، ميزانها الذي لا يخطئ حين تشتدّ العتمة. هذا الشارع الذي أسقط بن علي، وأسقط حكومات ما بعد 2011، وأجبر النهضة نفسها على الانكماش ثم السقوط، هو نفسه الذي سيعيد اليوم ترتيب المشهد حين تبلغ الأزمة ذروتها. فالناس قد يصمتون قليلا، لكن صمتهم ليس قبولا بل تراكم غضب. لقد أعادت الاعتقالات الأخيرة رسم جغرافيا سياسية جديدة تماما، حيث صارت المعارضة ، بكل تناقضاتها ، تمتلك وزنا لم تكن تمتلكه قبل أشهر فقط. قوة لم تأت من برامج أو رؤية أو عمل قاعدي، بل من فشل السلطة نفسها، من اندفاعها غير المدروس إلى الزجر، من خطابها الحربي الذي فتح نوافذ جديدة للتحالفات، ومن ملاحقتها لكل المختلفين حتى صنعت منهم "رموزا" لم يكونوا يحلمون بأن يصبحوا كذلك. وفي خلفية كل ذلك، تقف الدولة العميقة، ذلك الوحش الهادئ، الذي لا يرفع صوته أبدا لكنه يحرك الخيوط. هي التي تدفع نحو تعفين المشهد، نحو تسريع المواجهات، نحو إرباك الرئيس ودفعه إلى مربعات لا يمكن العودة منها. وهي التي تجهز لنفسها بديلها الخاص، تصنع له هالة نضالية، تمنحه رصيد "المظلومية"، وتتركه يكبر في الظل، مسنودا بدعم خارجي صامت لكنه فعّال، لتعيد إنتاج نفس المنظومة التي ثار عليها الشعب في 2011. وهكذا، تكون السلطة، من دون أن تدري، تبني سلطة أخرى ستحل محلّها، وتعِد بإعادة تشغيل نفس آليات الهيمنة التي دمّرت البلاد لعقود. وفي قلب هذا المسار، تتفكك الدولة من داخلها: استقلال القضاء يتهاوى، الحقوق تتراجع، المؤسسات تفرغ من معناها، والسلطة التنفيذية تتضخم حتى تكاد تبتلع كل شيء. وكلما ضاقت دائرة القرار، تضاعفت الأخطاء، وتعاظم الإحساس بأن البلاد تقاد بمنطق "أنا ربكم الأعلى"، وهو المنطق ذاته الذي أثبت التاريخ التونسي أنه ينتهي دوما بالهزيمة، لأن شعب تونس، رغم محنه الطويلة، شعب يطوق للحرية بطبعه، ويعرف جيدا كيف يطيح بالحاكم حين يتجاوز حدود المعقول. إن الخطاب الحربي الذي تتبناه السلطة لا ينتج إلا العنف، والعنف لا يؤدي إلا إلى المزيد من انهيار الثقة، والمزيد من احتقان الشارع، والمزيد من الانفجارات غير المتوقعة. وكلما تحول المواطن إلى "متهم محتمل"، تحولت الدولة إلى خصم للمجتمع، وخسر الجميع. وفي النهاية، لا يمكن لأي مشروع سياسي ، مهما بلغت شعاراته ، أن ينجح إذا كان معزولا عن الناس، إذا كان يراهن على القمع بدل الإقناع، على التخوين بدل الحوار، على بناء جدار خوف بدل بناء حلم جماعي. والاستمرار في هذا الطريق لن يؤدي إلا إلى شيء واحد: نسخة جديدة من الاستبداد، لا تختلف عن النسخ التي أسقطها الشعب وأرسل أصحابها إما إلى المنفى و إلى مزبلة التاريخ. إن تونس اليوم أمام لحظة حاسمة ، لحظة غير متوقعة التحرّك. والتاريخ، كما نعرف، لا يرحم من يصرّ على تكرار الأخطاء التي دفعت بلدا كاملا إلى الثورة قبل خمسة عشر عاما.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فنزويلا في قلب الصراع العالمي
-
الحرية والمواطنة في مواجهة آلة القمع وبناء جدار الخوف... قرا
...
-
قراءة في أحزاب اليسار الكلاسيكية، واليسار الثوري الحديث، وال
...
-
أمريكا اللاتينية: المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل بين ا
...
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
-
بعد غزة… الضفة الغربية على صفيح النار: التهجير القسري والاست
...
-
الدّولة البوليسية المعاصرة
-
من مانهاتن إلى القصبة: حين تتكلم الأزمات بلغتين
-
السّرياليّة والسّرياليّة الثوريّة. من الحلم إلى التمرّد: في
...
-
النضال البيئي بين العفوية والتنظّم في تونس: الواقع والآفاق.
-
بين تاريخ الوصاية وإغراءات «الإعمار»: ما يقترَح اليوم ليس مج
...
-
مشروع قانون المالية لسنة 2026: بين الوهم الاجتماعي وتكريس ال
...
-
الديني و الماركسي في خندق المقاومة وحدود الالتقاء: من طهران
...
-
اتفاق شرم الشيخ: عودة الانتداب بثوب أمريكي – قراءة في مشروع
...
-
غزة والمقاومة: غنيمة التّاريخ وبوصلة الأحرار
-
من -الشعب يريد- إلى -النهضة تقرر- إلى -الرئيس يقرر
-
الأفقية والقاعدية: تفكيك مفاهيمي وتحليل تطبيقي.
-
البناء القاعدي والتسيير الذاتي: بين النظرية، التجارب، والتحو
...
-
السلاح ، المخدرات و الادوية ، اسلحة للثراء و اخضاع الشعوب.
-
تحليل مقتضب للنرجسية الفردية و السّلطة والشعبوية.
المزيد.....
-
بوتين يطلق مزحة عند سؤاله عن اجتماعه مع مبعوثي ترامب
-
مع تعثر فرص الاتفاق بين الجانبين… ما سرّ الـ200 مليون دولار
...
-
كأس العرب.. الوطن والمنتخب مقابل جواز السفر
-
بعد هجمات بالمسيرات في البحر الأسود.. تركيا تستدعي سفيري روس
...
-
واشنطن: تعاون بين شرق ليبيا وغربها للتحضير لمناورات -فلينتلو
...
-
أكسيوس يكشف الموعد المرتقب لبدء المرحلة الثانية من اتفاق غزة
...
-
حماس: أبو شباب خان شعبه ووطنه ولقي مصيره الحتمي
-
غزة مباشر.. لقاء مرتقب بين ترامب ونتنياهو وحماس تطالب بفتح م
...
-
لماذا تواصل أوروبا دعم قيس سعيد رغم انتقادها المتزايد له؟
-
غارات إسرائيلية على لبنان بعد يوم من مفاوضات نادرة
المزيد.....
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
المزيد.....
|