|
|
أربعة مبدعين ،،،
حسن مدبولى
الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 00:23
المحور:
الادب والفن
الموهبة — حتى فى أرقى تجلياتها — لا تضمن لصاحبها حقيقة، ولا تمنحه مناعة أمام الهوى، ولا تعطيه صلابة فى وجه المنافع حين تلمع. وكثيرًا ما رأينا شعراءً أخضعت اللغةُ نفسها لهم، وانحنت الكلماتُ لمواهبهم، ومع ذلك خارت عزائمهم ساعة الاختبار، وضاعت البوصلة، فكانوا — رغم العبقرية — معاول هدم لا معالم هداية.
ومصر التى أنجبت شعراءً حملوا للناس الوعى والأمل والثورة، أنجبت أيضًا شعراء تغنّوا بالمجد فى النهار، ثم هانوا أمام السلطان عند الغروب. والكارثة لا تبدأ بالسطحى الجاهل… بل بالموهوب الذى يتخلى عن موهبته لصالح المغانم. فماذا يحدث حين يهتزُّ الموهوب، ويصمت الجسور، ويتصدر المشهد "الرويبضة"؟
لنفهم ذلك، يكفى أن نتأمل — بلا أحكام جاهزة — رحلة أربعة من أهم شعراء مصر الثوريين: جاهين، الأبنودى، نجم، وحداد. أربعة طرق، وأربع نهايات، وأربع حقائق تكشف وجه مصر حين تُمتحَن.
---
يبدأ المشهد بصلاح جاهين، الفنان الذى كان ملء السمع والبصر، وصاحب الرباعيات التى ما زالت تنبض فى ذاكرة الناس. لمع نجمه فى الستينيات مع اتساع حلم الثورة؛ وكتب أغانيٍ وردية تُبشر بعصر جديد. كانت قصيدته "المسئولية" — التى غناها عبد الحليم — نموذجًا لتلك الحالة:
صناعة كبرى، ملاعب خضرا، (تماثيل) رخام ع الترعة وأوبرا !! دي ماهيش أمانى، وكلام أغانى، ده بَرّ تاني قصادنا، قريب.،،،
كان جاهين يرى الحلم قريبًا… قبل أن يأتى صيف 67 ويهدم كل شىء. تهشّمت الأغنية، وانهارت الوعود، وتحوّلت "التماثيل" إلى مراثٍ. لم يتردد الأبنودى لحظتها فى الرد عليه عبر "عدّى النهار"، قائلاً:
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جانا نهار… معرفش يدفع مهرها !!
ثم عاد يلمز جاهين مرة أخرى وهو يخاطب عبد الناصر:
إنت السبب، إنت السبب عالجتنى فى الجلد وتركت العصب أنظر !! لا (تمثال) اتنصب! ولا بهية الحرة لبست القصب!
وحين مات عبد الناصر… مات معه جاهين. انطفأ. انزوى. ثم عاد فى عصر السادات مُحمولًا على أكتاف الميديا والانفتاح، يكتب للمسلسلات والفوازير، ويستسلم لمرحلة كانت تُبدل المعانى بالملذات، وتلون الظلمة بالـ"بمبى بمبى بمبى". حتى إنه بعد اغتيال السادات وصف عصره كله — فى لحظة صحوة متأخرة — بأنه كان "دعارة". شهادة موجعة جاءت من قلب المسرح الذى احتضنه.
---
ويأتى الابنودى، الثائر ضد جاهين فى الستينيات، والرافض لخرافة التماثيل والأوبرا. دخل عصر السادات بحذر، لكنه فوجئ بأن جاهين سبقه إلى "حضرة الرئيس" كما سبقه إلى "حضرة الزعيم". فاختار الأبنودى المواجهة لا المداراة هذه المرة ، وكتب فى "المد والجزر" :
وكام ذليل يا نيل وصبحك عِشا وكام بليد الحسّ يا ملطشة لزق القفا وركل الجزم أدمنت طاطيت واستسلمت للحاكم الصدفة، الحاكم الجيفة !!
لكن حتى هذا الغضب لم يُرض الجميع. كتب أحمد فؤاد نجم قصيدة مُرّة، رأى البعض أنها موجهة للأبنودى أو لجاهين أو لكليهما أو لشخص آخر ، يقول فيها:
مجاول وشاعر وبياع ملوحة وتاجر غناوي وسمسار بنات نعيمة وزكية (وعطيات) وتوحة ومخبر مودك على التجريرات حضر من بلدهم بمقطف ملوحة جبر واشتراله تلات تاكسيهات.
ومع مرور السنوات الأولى من حكم مبارك، بدا الأبنودى أكثر هدوءًا… وأكثر استعدادًا للتعايش. ظهر فى الفضائيات، وانشغل بالأغانى العاطفية. ثم جاءت حرب الخليج الأولى، فوقف مع الغزو الأمريكى للكويت ضد العراق، وكتب ديوان "الاستعمار العربى" مدافعًا عن الحرب، غير عابئ بالملايين التى تذبح. ولما سقطت بغداد سنة 2003، لم يكتب كلمة.
ثم جاءت ثورة يناير فأيقظت فيه "الأبنودى القديم" الذى كان يصرخ ضد الظلم. فكتب مخاطبًا الضابط:
إن قتلتنى… مش هتعيد دولتك تانى!
لكن حين تغيّر الهواء السياسى، وعادت امتيازات "الحظيرة" إلى الانقطاع، إذا بالأبنودى نفسه يُحرض ذلك الضابط على قتل مصريين آخرين، قائلاً:
قاعدين فى (رابعة). مين بقى اللى اتشطر وزقهم سنتى عن الميدان؟ فاللى يهاجم الجيش وبيقول: "عسكر" بيدى مصر هدية للإخوان!!
هكذا تهاوت الكلمات كما يتهاوى السيف حين يُستعمل ضد الضعفاء.
---
ثم نصل إلى أحمد فؤاد نجم… النموذج الذى كان يرى فى الأبنودى وجاهين رخاوة قاتلة أمام السلطة. شاعر السجون، ورفيق الشيخ إمام، وصاحب التاريخ الذى كلفه عمرًا من المطاردة والاعتقال. والذى واجه مسببات نكسة يونيه عام 67 بصدر عار، وشجاعة لا حدود لها كلفته حكمًا بالسجن مدى الحياة عندما انتقد مسببى الهزيمة وابطالها بشكل مباشر قائلاً:
الحمد لله خبطنا تحت باططنا، يامحلا رجعة ظباطنا من خط النار، يا أهل مصر المحمية بالحرامية، الفول كتير والطعمية والبر عمار، والعيشة معدن وآهي ماشية آخر آشيه، مادام جنابه والحاشيه بكروش وكتار، ح تقوللي سينا وماسيناشي ما تدويشناشي، ما ستميت أتوبيس ماشي شاحنين أنفار، إيه يعني لما يموت مليون، أو كل الكون، العمر أصلا مش مضمون والناس أعمار، إيه يعني في العقبة جرينا ولاّ في سينا، هيّ الهزيمة تنسّينا إننا أحرار؟ إيه يعني شعب ف ليل ذلّه ضايع كلّه ده كفاية بس لما تقول له احنا الثوّار. وكفاية أسيادنا البُعدا عايشين سُعدا بفضل ناس تملا المعدة وتقول أشعار، أشعار تمجّد وتماين حتى الخاين، وان شاالله يخربها مداين "عبد الجبار!".
هذه القصيدة وحدها كانت كفيلة بأن تصنّفه العدو الأخطر لسلطةٍ لم تقبل أن تُرى في مرآتها. لكن نجم لم يتوقف عند ناصر… بل واجه السادات بعنف أكبر، وبسخرية أكثر مرارة، حين رأى البلد تُباع باسم الانفتاح، وتُدار بالحظوة والمحسوبية والأثرياء الجدد.
فكتب قصيدته الشهيرة “الفول واللحمة” — هجاءً مباشرًا لسياسات السادات الاقتصادية، ولخطابه الشعبوي الذى كان يطلب من المصريين أكل الفول بينما تُفتح أبواب الثروات للمنتفعين ،والتى مطلعها : عن موضوع الفول واللحمة ، صرح مصدر آل مسئول ....
لكن قصيدته الأروع من وجهة نظرى كانت بمناسبة بدء الانبطاح للامريكان ، واستقبال رئيس امريكا ريتشارد نيكسون: وهى قصيدة "نيكسون بابا" التى قال فيها:
"شرفت يا نيكسون بابا.. يا بتاع الووتر جيت.. عملولك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت.. فرشولك أوسع سكة.. من رأس التين على مكة.. هناك تنزل على عكا.. ويقولوا عليك حجيت». وكذلك قصيدة فاليرى جيسكار ديستان، والست بتاعه كمان ، هيجيبو الديب من ديله ، ويأكلوا كل جعان وهى الأعمال التى تسببت فى سجنه،
و كان السادات لا يكتفي بسجن «أحمد فؤاد نجم»؛ بل دائمًا ما يعتقل زوجته صافيناز كاظم، وقد قال «نجم» عن ذلك؛ «كان السادات كل ما يحطنى فى دماغه يجرنى على السجن أنا وصافيناز»،
وبعكس جمال عبد الناصر، لم يكتب «نجم» في «السادات» رثاء بعد اغتياله
لكن للأسف — فى منتصف عصر مبارك — غادر موقعه القديم، وظهر فى القنوات، يحكى ذكريات الثورة كأنها فقرات تسلية فى برامج المليارديرات. تحول نجم من رمز مقاوم إلى راوٍ للحكايات، حتى ثارت البلاد فى يناير، فعاد إلى ثوريته. لكنه لم يلبث أن انقلب — مثل الأبنودى — وأدار غضبه هذه المرة نحو من لا حول لهم، وفتح بيته للسلطان الجديد باعتزاز لا يليق برجل دفع أعمارًا فى مقارعة السلطة نفسها.
---
وبعد هذه التراجعات ، يظهر النموذج الرابع… المختلف جذريًا. فؤاد حداد.
الشاعر الذى لم تحده شاشة، ولم تُغوه ملايين، ولم تغره المخصصات، ولم يُبدل موقفه مقابل فتات. رجلُ انتماءٍ صلب، وثقافةٍ تُصهر فيها المسيحية مع الإسلام مع المصرية فى بوتقة واحدة؛ ثقافةٌ صنعت شعرًا يشبه الفجر على جبهة مقاتل.
وبينما كان الآخرون يقبضون من الانفتاح، كان حداد يرى فيه أم الكوارث. بينما كانوا يميلون للسلام البارد، كان هو يرى التطبيع خنجرًا. ومن روائع كلماته فى أغنية الأرض بتتكلم عربى:
الأرض بتتكلم عربى وقول الله !! إن الفجر لمن صلاه، ما تطولش معاك الآه، الأرض… الأرض… الأرض، الأرض بتتكلم عربى.
أول دواوينه كان يحمل اسمًا لا يشبه عصره: "أفرجوا عن المسجونين السياسيين". اعتُقل بسببه عام 1953 حتى 1956. ثم اعتُقل مرة ثانية خمس سنوات كاملة. لكنه خرج من السجن أصلب، لا أكثر تعبًا. وفى السبعينيات ضُيق عليه، وحورب رزقه، لا لشىء إلا لأنه رفض كامب ديفيد والانفتاح.
ومن يناير 1980 حتى وفاته 1985 كتب ثلثى إنتاجه. خمس سنوات من الإبداع النقى، المتصلب، الذى لم يتلوث.
ومع ذلك… لا يزال النكران يلاحقه. حيًا وميتًا.
ويكفى أن نُنهى بهذه الجوهرة التى كتبها:
دخلت دار بعد دار والكل بيحيّى، أنا اللى حي وشهيد فى الجنة وف حَيّى! الله أكبر، كإن الشمس من ضيّى، على رمل سينا فى نار المعركة والصهد أنا والتراب المنور انتصرنا لبعض وكنت صايم ملكت من السما للأرض وكنت عطشان، محدش ارتوى زَيّى!!
ثم يقول:
يا مصرى يا سيد! وأبوك درويش، النيل بيجرى ولا ما بيجريش؟ النيل بيجرى، والعجل بيدور، والفجر طالع بالصنايعية، ومصر لازم تبقى مصرية!! وكل كلمة تقولها… أغنية!!
---
هذه ليست مجرد سيرة أربعة شعراء… بل سيرة مصر نفسها حين تختبر أبناءها: من يهتزّ؟ من يصمت؟ من ينقلب؟ ومن يبقى واقفًا — منفردًا — يحمِل كلمته كجمر لا يضعه ولا يسقط منه؟
#حسن_مدبولى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أربعة شعراء،انحنوا جميعا،إلا واحد!؟
-
دولة التلاوة، وضياع الهوية !؟
-
من الديانات الإبراهيمية ،،،
-
المقاومة والزمالك ،،
-
إزدواجية معايير الدعم الإنسانى !!
-
المدارس متعددة، والمعزوفة واحدة!!
-
إنتخبوا الرجل الشيك !؟
-
الإستنارة الإنتقائية !!
-
التحول الذى يثير الحزن !؟
-
التصنيف وفقا للرغبة أو الطلب،،
-
إنتهاك براءة الطفولة( مأساة جان جينيه)
-
كيف نجت بعض الملفات من المحاسبة عقب ثورة 25 يناير 2011
-
شر البلية !!
-
بوصلة الأهلى والزمالك !!
-
تصريحات إستهلاكية !!
-
الدعم المؤلم المرير،،
-
للقذارة لون واحد !
-
تصويت الجزائر !!
-
خطاب إدانة ،،،
-
الأهلى ومستقبل وطن، المسرحية واحدة
المزيد.....
-
عام فني استثنائي.. 5 أفلام عربية هزت المهرجانات العالمية في
...
-
صناع فيلم -الست- يشاركون رد فعل الجمهور بعد عرضه الأول بالمغ
...
-
تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة
-
مصطفى محمد غريب: تجليات الحلم في الملامة
-
سكان غزة يسابقون الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار
...
-
مهرجان الكويت المسرحي يحتفل بيوبيله الفضي
-
معرض العراق الدولي للكتاب يحتفي بالنساء في دورته السادسة
-
أرشفة غزة في الحاضر: توثيق مشهد وهو يختفي
-
الفنان التركي آيتاش دوغان يبهر الجمهور التونسي بمعزوفات ساحر
...
-
جودي فوستر: السينما العربية غائبة في أمريكا
المزيد.....
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|