|
|
من الديانات الإبراهيمية ،،،
حسن مدبولى
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 17:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تُعدّ البهائية من أبرز الظواهر الدينية الحديثة التي نشأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، في سياق اجتماعي وسياسي اتسم باضطراب عميق وتداخل مذهبي كثيف في إيران والشرق الإسلامي عمومًا. وقد وُلدت هذه العقيدة الجديدة محمّلة منذ بدايتها بقدرٍ كبير من الجدل والتأويل، سواء من جهة مصادرها الفكرية أو مسارها التاريخي أو موقعها في الخرائط الدينية والسياسية للمنطقة.
بدأت جذور الحركة مع إعلان علي محمد الشيرازي، المعروف بالباب، عام 1844 دعوته الإصلاحية داخل الإطار الشيعي الاثني عشري. وقد قدم الشيرازى رؤية تقوم على إعادة تفسير النصوص وإحياء الروح الدينية بطرق اعتُبرت خروجًا على التقليد السائد، كما عرّف نفسه باعتباره “بابًا” لمرحلة إلهية جديدة. وقد أثارت دعوته تلك معارضة شديدة من الدولة الرسمية والمؤسسة الدينية، وانتهى الأمر بإعدامه سنة 1850. إلا أن نهاية الرجل لم تُنهِ الفكرة، إذ تحولت تعاليمه إلى نواة لعقيدة جديدة تبناها وأعاد صياغتها حسين علي النوري، الذي عُرف لاحقًا باسم بهاء الله.
تعرّض بهاء الله منذ البداية إلى سلسلة من النفي والتنقل بين إيران والعراق ثم إسطنبول وإدرنة، قبل أن يُستقر به المقام في عكا عام 1868 بقرار عثماني، حيث عاش في منفى شبه دائم حتى وفاته سنة 1892. ومع دفنه في المنطقة تحولت حيفا – عكا إلى مركز روحي وتشريعي للحركة البهائية، وظهر مفهوم “المركز العالمي” الذي ارتبط جغرافيًا بهذه البقعة منذ ذلك الحين. وقد نصّ بهاء الله في كتاباته على ضرورة إقامة “بيت العدل” العالمي، لكنه لم يُنشأ قبل وفاته.
في عهد عبد البهاء (1892–1921) تشكّل الإطار الدستوري والتنظيمي للحركة من خلال “الوصايا والعهود”، التي أسست لقيام المحافل الروحانية المحلية ثم الوطنية، باعتبارها اللبنات الإدارية الأساسية تمهيدًا لبيت العدل العالمي. ومع تولي شوقي أفندي (1921–1957) تطور البناء المؤسسي بصورة أوضح، فجرى توسيع المحافل الوطنية حول العالم وإنشاء هيئة انتقالية عُرفت باسم “أيادي أمر الله”. وبعد وفاته، أدارت هذه الهيئة شؤون الجماعة وحافظت على وحدتها حتى انعقدت أول انتخابات عالمية سنة 1963 بمشاركة 56 محفلًا وطنيًا، وهو الحدث الذي أفضى لأول مرة إلى قيام المحفل البهائي العالمي بهيئته المنتخبة، ومقرّه الدائم في هضبة الكرمل بحيفا، حيث يمارس سلطته التشريعية والإدارية ويُعاد انتخابه كل خمس سنوات.
ترتكز العقيدة البهائية على مفهوم “توالي المظاهر الإلهية”، وهو تصور يمنح التاريخ الديني طابعًا متصلًا لا انقطاع فيه، عبر سلسلة من الرسل والأنبياء تشمل إبراهيم وموسى وزرادشت وبوذا والمسيح ومحمد، وصولًا إلى الباب وبهاء الله. وتُقدم هذه الفكرة باعتبارها امتدادًا لا نقضًا للتقاليد السابقة، وترتكز على رؤية ترى الوحي حركة تكاملية تهدف إلى تجاوز الانقسامات القومية والدينية. وفي إطار هذا التصور تقدّم البهائية تفسيرًا رمزيًا لفكرة “خاتم النبيين”، لا يتضمن نهاية النبوّة بل يمنحها معنى تكريميًا أو تصنيفيًا. ويُعد كتاب "الأقدس" نصّها التشريعي الأعلى، إلى جانب كتابات الباب وبهاء الله الأخرى المعروفة بالألواح والرسائل، فضلًا عن الشروح اللاحقة لعبد البهاء وشوقي أفندي التي أسست للهيكل الإداري الحديث للجماعة.
وتقوم الشعائر الدينية البهائية على بنية بسيطة نسبيًا، فالصلوات تُمارس فرديًا بثلاث صيغ يختار منها الفرد صيغة واحدة يوميًا، ولا توجد دور عبادة طقسية على نحو مماثل للمساجد أو الكنائس، إذ تُؤدى العبادة غالبًا في المنازل بوصفها علاقة مباشرة بين الإنسان والخالق. ويصوم البهائيون تسعة عشر يومًا من الثاني إلى الحادي والعشرين من مارس، من الفجر إلى الغروب، باعتباره صومًا رمزيًا للتجرد الروحي. أما الحج فيتخذ شكلين: أحدهما إلى قبر الباب في شيراز، والآخر إلى مقام بهاء الله قرب عكا، وهو حج مشروط بالاستطاعة ومقيد في كثير من الأحيان بسبب الظروف السياسية في إيران والشرق الأوسط. أما بالنسبة للوراثة، فيفضل وجود وصية من المتوفى تنفذ دون أية اعتبارات أخرى، لكن فى حال عدم وجود وصية وكان هناك عدة أبناء وبنات فتقسم الثروة بينهم بالتساوى بصرف النظر عن الذكر والانثى، وفى حال وجود ذكر واحد أكبر أشقائه، وترك لهم الأب مسكنا فانه يؤول للأبن الأكبر،الا اذا اوصى الاب بعكس ذلك،
أما على مستوى الانتشار، فتشير التقديرات البحثية الحديثة إلى أن عدد البهائيين عالميًا يتراوح بين خمسة وستة ملايين شخص موزعين على أكثر من 230 دولة وإقليم، ما يجعلها إحدى أكثر الحركات الدينية الحديثة انتشارًا. وتُعد الهند أكبر موطن لهم بما يفوق المليون، تليها الولايات المتحدة بنحو ثلاثمائة ألف، إلى جانب انتشار ملحوظ في أمريكا اللاتينية وشرق إفريقيا. ورغم القمع الواسع، لا تزال إيران، مهد الحركة، تضم تجمعات بهائية كبيرة تعمل سرًا. كما يوجد انتشار أقل حجمًا في آسيا الوسطى والصين وكندا وأستراليا.
وفي العالم العربي ظل الحضور البهائي متفاوتًا، لكنه ارتبط تاريخيًا بمصر التي شهدت في مطلع القرن العشرين تأسيس المحفل الروحاني المركزي، وتمتع البهائيون خلالها بفترة من الاعتراف الرسمي حتى صدر قرار الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960 بحلّ المحافل البهائية والماسونية. ورغم ذلك استمر الوجود البهائي من خلال روابط اجتماعية وثقافية، وبرزت شخصيات عديدة ساهمت في توثيق تاريخهم . ومن السمات اللافتة أن الأسماء التى تطلق على مواليد البهائيين ذكورا وإناثا لا تختلف عن الأسماء العربية الشائعة، ما يجعل اندماجهم الاجتماعي والسياسى والثقافى والوظيفى ممكنًا دون لفت الأنظار ، خاصة مع عدم الاعتراف الرسمي بالديانة في الوثائق المدنية في مصر، حيث تُسجل خانة الديانة “مسلم” أو تُترك فارغة، و من الجدير بالذكر أن المرأة البهائية لاترتدى الحجاب الإسلامى بأى شكل من الأشكال ،
تمثل البهائية، في ضوء مسارها التاريخي وتعاليمها وحدود حضورها العالمي، نموذجًا مهمًا لدراسة تفاعل الدين مع السياسة والهوية في الشرق الأوسط. كما تتيح فهمًا معمقًا لكيفية تشكّل الأديان الحديثة وانتقالها من حركة محلية مضطهدة إلى ديانة عالمية ذات بنية مؤسسية واضحة ونصوص تشريعية محددة. وتبقى الجماعة محاطة بتعقيدات دينية وسياسية، فضلًا عن بيئة دولية توفر لها دعمًا واضحًا، سواء من القوى الغربية أو من الدولة الصهيونية التي تستضيف مركزها العالمي، في سياق يعكس التحولات العميقة التي أعادت رسم علاقة الدين بالسلطة والمجتمع في المنطقة خلال القرنين الأخيرين.
#حسن_مدبولى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المقاومة والزمالك ،،
-
إزدواجية معايير الدعم الإنسانى !!
-
المدارس متعددة، والمعزوفة واحدة!!
-
إنتخبوا الرجل الشيك !؟
-
الإستنارة الإنتقائية !!
-
التحول الذى يثير الحزن !؟
-
التصنيف وفقا للرغبة أو الطلب،،
-
إنتهاك براءة الطفولة( مأساة جان جينيه)
-
كيف نجت بعض الملفات من المحاسبة عقب ثورة 25 يناير 2011
-
شر البلية !!
-
بوصلة الأهلى والزمالك !!
-
تصريحات إستهلاكية !!
-
الدعم المؤلم المرير،،
-
للقذارة لون واحد !
-
تصويت الجزائر !!
-
خطاب إدانة ،،،
-
الأهلى ومستقبل وطن، المسرحية واحدة
-
رمز تنويرى مصرى
-
ممدانى بين الفخر، والتقريع !!
-
الإنفصام العجيب !!
المزيد.....
-
تقرير فلسطيني: عدد مقتحمي المسجد الأقصى في نوفمبر يتجاوز 410
...
-
قائد الثورة الإسلامية: المرأة ليست ربة بيت بل مديرته ورئيسته
...
-
رغم الدمار.. الجامعة الإسلامية بغزة تستأنف التعليم حضوريا
-
وثيقة إسرائيلية: نتنياهو يدعم بناء البؤر الاستيطانية التي يد
...
-
مكتب نتنياهو: الرفات المسلمة من -حماس- لا تعود لأي من المحتج
...
-
ما بعد حظر الإخوان: تحديات -حماس- في مواجهة شيطنة الإسلام وإ
...
-
إيران والإخوان.. تحالف الضرورة يفرض نفسه على أجندة الطرفين
-
الاحتلال يوزع منشورات تهديدية في بلدة الزاوية غرب سلفيت
-
القناة الإخبارية السورية: عصابات الهجري تقتل رجل دين ثان بال
...
-
بابا الفاتيكان: الكنيسة تقترح على حزب الله ترك السلاح
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|