رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8546 - 2025 / 12 / 4 - 10:21
المحور:
الادب والفن
لم يكن زيد — مذ كان في فتوّة الصبا وارتجافة الوعي الأولى — ممّن تُغريهم الموائد العامرة أو تُدهشهم صحون اللذة المتخمة... , أو من أولئك الذين يتصالحون مع الأطباق الشهية أو يأنسون برائحة القدور اللذيذة حين تفور ... ؛ كان يرى في الطعام أثقالاً تسحب الروح نحو الأرض و ظلًّا مترامياً لأهواء الجسد ، ويرى في الشبع غيمة كثيفة تحجب القلب عن سماواته ... , ويعدّ البطون الممتلئة مراكب تثقل الروح وتغرقها في طين الأرض ... ؛ نشأ في بيئة تموج بطرائق التربية الروحية الصارمة وحكايات الروحانيات والآداب والقيم الاسلامية ؛ لقد نُشئَ على رُوحانيةٍ تتقزَّز من الجسد وترفض إلحاحه... ؛ منذ نعومة أظفاره، أدرك أن الجوع هو السلّم الذي يعتليه ليَقْرُب من سماء الإيمان. فَأَلِفَ الصيام، لا فرضه فحسب، بل ونوافله أيضًا، حتى صار الجوعُ لذَّته، والعطشُ ربيعَ قلبه ... ؛ واستأنس الجوع كأنّه صديق طفولته وأحب الصوم المستحب كما يحبّ الناس الشِّبع ... ، حتى غدا جزءاً من دمه، بل إنّ الأيام التي لا صيام فيها كانت تبدو له ناقصة، خاوية مثل الصفحة التي سقطت من كتاب القدر...!!
قرأ كل ما وقعت عليه يداه من كتب الزهد والأخلاق: روايات تحث المؤمن على الاقتصاد في المأكل والمشرب، وتحذّر من الإسراف، وتذمّ الشراهة وكثرة الأكل، وتجلد الدنيا بسياط الحكمة، وتلعن شهواتها وملذاتها... ؛ وكان يلتهم الروايات الأخلاقية والدينية كما لا يلتهم الطعام ؛ يقرؤها بلهفة جائع يسعى إلى الخلاص، فتزداد كراهته لسِمن الدنيا وبهارجها، ويزداد احتقاره لمن يتكالبون عليها كما تتكالب الذئاب على فريسة او جيفة ... ؛ وهكذا انطبعت في قلبه نفرة متجذّرة من الحياة الدنيا ومن كل من يتكالب عليها... ؛ كان يرى في بطون الناس قبورًا للضمير، وفي موائدهم شراكًا للروح...!!
ومع مرور الايام والشهور و السنين، مال زيد إلى جماعة من المتديّنين المتشدّدين و انجذب إلى مجموعة من المؤمنين المتعصبين ... ؛ وجوههم مطفأة بالخشونة - ومع ذلك ترتسم على محياهم البراءة واضواء النور الخافتة - ، وقلوبهم مثقلة باليقين المتحجر... ؛ وجد بينهم ما يشبه العائلة، أو ما يشبه السجن المريح ... ؛ يقتات معهم على القناعة الصارخة ويحيا معهم على هامش الحياة، كأنه كائن وُلد ليكون خارج الشهوات جميعها...!!
لكنّ القدر — كما لو كان يحبّ العبث باليقين — وضع في طريقه امرأة ماهرة في فنون الطبخ ؛ امرأة تستطيع أن تُلين الحصى في قدرها، وأن تصنع من البخار رائحة تشبه الرجاء... ؛ بل ساحرة تُقيم مأدبة من الضوء ... ؛ اذ كانت تطهو كما لو أنها تحاور النار وتربّيها، وتشكّل من الدخان أغنيةً، ومن العطر نافذةً... ؛ تزوجها وهو في العشرين بعد أن أنهكه فقر الدم والضعف العام بسبب سوء التغذية ؛ مضطرًّا بسبب الحاح والده ... ؛ إلا أنّ الطعام بدأ يتسلل إلى حياته ببطء، لا بوصفه شهية، بل بوصفه ضرورة تُبقيه على قيد الصيام القادم... ؛ فقد جعلت من مطبخها معرضًا لألوان الطيب... ؛ كانت تخلق من اللحم والبهار سيمفونيات... ؛ غير أنّ ما كان يشتهي في سرّه ليس طعام زوجته، بل جوعاً أليفاً ظلّ يرافقه منذ صباه كظلٍّ رقيق يعرف طريقه إلى روحه دائماً ... ؛ رغم أن والدته أيضاً كانت طباخة ماهرة ... ؛ وكذلك بيتهم لم يخلُ يوماً من الخيرات والفواكه والاطعمة ... ؛ اذ كان الطعام محيطاً به من كل صوب، ولكن الجوع وحده كان يغريه... ؛ فلم تغره بحبوبة العيش ولا الموائد العامرة بقدر ما أغرته لذّة العطش، وسكينة الجوع، وصوت المعدة حين تحتج كأنها دفتر أسراره... .
وفي أشدّ سنوات الحصار الاقتصادي على العراق في تسعينيات القرن الماضي وأحلكها ، حين كان الناس يقتاتون على الخبز الأسود كالليل البهيم ، و يلتقطون رغيف الخبز الأسمر كما يلتقط الغريق خشبة النجاة ... ؛ ؛ كان مطبخ عائلة زيد عامراً بالخبز الأبيض واللحوم والأسماك… ؛ كجزيرة من الضوء معزولة وسط بحرٍ من الظلام والفقر المدقع ... ؛ ومع ذلك، ظل زيد زاهداً متربصاً، يرى في كثرة الطعام امتحاناً لا ينبغي النجاح فيه... ؛ وكأن الطعام نعمة لا تخصّ روحه، بل تدور خارجه فقط ...!!
وذات يوم، زار أحد أقاربه من الفقراء المعدمين ، فقدم له قرصاً من الخبز الأسمر، أسود يميل إلى الحصى أكثر ممّا يميل إلى الدقيق ... ؛ فقد كان ممتلئاً بالنخالة والشوائب ، قاسياً حتى إنّ أصابعه كانت تحتاج إلى عزيمة لكسر أطرافه... ؛ كان القرص أشبه بحجر ... ؛ أكل زيد لقيماته كما لو كان يبتلع حجارةً صغيرة، ولم تكن تلك الأقراص تنزل في جوفه إلا بقدح ماء يتبعه قدح آخر، حتى انتهى من القرص مع عشرة أكواب كاملة... !!
ثم عاد إلى بيته مثقلاً بقرقرة المعدة وتقلّصاتها ... ؛ كأنها موسيقى منزوعة الرحمة أو كأنه صوت اشبه بقرع طبول الحروب البدائية ، ولم ينم ؛ فقد كانت معدته تتلوّى كمركب مهجور تتلاعب به أمواج ليل بهيم عديم النجوم... ؛ لا يدري أن تلك الزيارة ستُفتح منها أبواب أخرى، لا تُشبه الجوع بل تشبه الهاوية ... .
وفي الليلة ذاتها، داهمت عصابة أمن صدام منزله ؛ رجال غلاظ شداد كأنهم زبانية الجحيم ، وجوههم كقطعة من الصخر الملوث بالدم ، وأعينهم شرارات غضب لا تعرف الرحمة... ؛ اقتادوه إلى دهاليز الرعب - مديرية أمن صدام سيئة الصيت والسمعة - ، إلى حيث تنطفئ إنسانية البشر وتظلّ الأجساد وحدها تصرخ... ؛ وهناك، ذاق الجوع الحقيقي ؛ الجوع الذي لا يملك أي ظلّ من الروحانية، بل هو جوع يقطع من الجسد شرائح خفية... ؛ كانوا يقدمون له نصف صمونة يابسة مصنوعة من النخالة السوداء ونوى التمور ... ؛ وكوباً صغيراً من التمن المخلوط ببقايا الحبوب ونوى التمر وأشياء لا تصلح لطعام الدواب ولا تُشبه الطعام في شيء ... ؛ كانت لقيماته كطعام الزقوم؛ يهرب من الجوع فلا يجد إلا صحراء أكثر قسوة، ويشرب من ماء البحر فلا يزيده إلا عطشاً حارقاً ... ؛ نعم هذه حصته اليومية من الطعام .
كان يهرب من الجوع فيجد نفسه في جوع أعمق، كأنّه يشرب من البحر كلما عطش… ؛ فلا يزيده إلا عطشاً... ؛ كانت لقمة السجن مثل حنظل، مرّة حتى الألم، وتذكّره بلقمة خبز قريبه، وكأنها كانت بشيراً مريراً لما راه لاحقا .
ومع ذلك، صمد زيد ؛ لم يعترف بما لم يفعل، رغم أن كثيراً من الأبرياء كانوا يعترفون تحت سياط التعذيب بأشياء لم يسمعوا بها من قبل... ؛ وبعد شهرين ثقيلين كدهر، تبيّن للجلادين أن التقارير كيدية، فأطلقوا سراحه... ؛ خرج زيد منهكاً، ولكنه خرج بطناً جائعة وروحاً تقاوم الموت بصعوبة.
نعم , مرّ شهران، خرج بعدهما كمن خرج من بطن ظلام سحيق، بعدما ثبت لجلاديه أن التقارير التي كتبت عنه لم تكن سوى مكيدة رخيصة... ؛ ولولا صلابته في التحقيق لضاع كما ضاع كثيرون لم يعترفوا إلا تحت سياط الليل.
وحين عاد إلى بيته، اكتشف معنى آخر للطعام ... ؛ اكتشف أن الطعام — الذي طالما ازدراه — صار له قيمة أخرى؛ قيمة النجاة ... ؛ اشتاق إلى خبز زوجته الحار ورائحة طبخها النظيف ... , بل صار يشتهي خبز زوجته الحار كما يشتهي العائد من الصحراء ظلّ شجرة... ؛ اشتاق لرائحة المطبخ، للنظافة، للأمان... ؛ لكن القدر , الذي بدا وكأنه يصرّ على إبقاء زيد معلّقاً بين الجوع والشِّبع، ابتلاه بمرض القولون العصبي ... ؛ فصار كل طعام لذيذ يتحوّل في جوفه إلى سكاكين تُمزّق أحشاءه ... ؛ وكل لقمة دسمة إلى نار تستعر، وكل محاولة للمصالحة مع الطعام إلى معركة خاسرة... ؛ نعم , وكلما اقترب من لذةٍ هربت منه، وكلما أراد أن يتصالح مع الطعام انقلب عليه ليل معدته ناراً ولهيباً ... ؛ كان الطعام بالنسبة إليه قطاً يطارد فأراً، وكلما اقترب أحدهما من الآخر هرب الثاني، وهكذا بقيت العلاقة بينهما مطاردة دائرية لا بداية لها ولا نهاية.
وبمرور الأيام، أصبح يتقيأ كثيراً من الأطعمة، وصار يتحسس من أصناف شتى وأطعمة كثيرة ... ؛ وحين يشتهي شيئاً دسمًا ويقترب منه، يتحول الليل إلى محرقة: يتقلب على فراشه، يشعر كأن جبلاً وُضع على صدره، وكأن شعلة من النار اشتعلت في أمعائه... ؛ صارت شهيته كفأر صغير، وطعامه كقط يتربّص عند باب الجحر؛ كلما خرج الأول انقضّ الثاني، وهكذا ظلّت العلاقة بينهما مطاردة لا تنتهي...!!
وفي يومٍ كان اليأس فيه قد نضج تماماً ... ؛ و بدا فيه الصبر خيطاً خفيفاً آيلاً للانقطاع، قرر زيد أن يتمرد على جسده المريض وقوانينه الصارمة وروحه المثقلة بالهموم والرغبات المكبوتة ؛ وعلى حميته الطويلة ... ؛ فقد دخل مطعم باجة كبيراً، وطلب صينية كاملة فيها رأس باجة ضخم، ومقبلات وبصل، وأكل وكأنه ينتقم من الأيام ومن السجن ومن الصوم ومن الجوع ومن المرض ؛ وكأنه يثأر من الأوجاع التي طاردته بلا رحمة ... ؛ ملأ بطنه حتى أنه لم يترك مكاناً للماء أو الهواء، وعاد إلى البيت مترنحاً، يحاول شرب الشاي لتخفيف الألم، لكن الألم لم يكتفِ بأن يكون ألماً… بل تحول إلى انهيار كامل... ؛ فقد استيقظ بكامل ضراوته ... ؛ نعم , عاد إلى بيته، بطنه ككرة أرضية من الألم، وخطواته ثقيلة كخطوات المُدان... ؛ حاول أن يغسل جريمته بالشاي، فازداد الأمر سوءًا... ؛ أُصيب بالإعياء، ثم الإغماء...!!
أُغمي عليه... ؛ نُقل إلى المستشفى بالتزامن مع ذروة انتشار وباء كورونا... ؛ وُضع في غرفة مكتظة , امتزج فيها الهواء بأنين المرضى ، الهواء فيها خليط من سعال وخوف، والوجوه فيها مشتعلة بالحمّى وبانتظار الموت... ؛ لم تمر ليلة حتى اختلطت روحه بأرواح ضحايا الجائحة، كأنه كان ينتظر هذه النهاية منذ زمن، كأن الجوع كان يقوده إليها خطوة بعد خطوة.
مات زيد كما عاش: بين جوعٍ يطارده وشِبعٍ يطارده... ؛ وكأنّ القدر لم يكن يريد له علاقة سليمة مع الطعام قط ؛ كان يريد أن يبقيه معلقاً بين الشهوة والزهد، بين الحضور والغياب، بين الحياة والموت… ؛ حتى تذوّب روحه أخيراً في وليمة لا جوع فيها ولا شِبع... ؛ ولعلّ آخر ما أحسّه حين أغمض عينيه تلك الليلة، كان طعماً غريباً…؛ طعم يشبه العدالة المؤجلة، أو يشبه — ربما — أول لقمة حقيقية في حياته...!!
نعم , مات زيد على حافة المفارقة التي صنعت حياته: جائعاً وهو وسط موائد ... ؛ وشبعاناً حين لا يجوز الشبع ... ؛ وزاهداً حين يفيض الطعام ... ؛ ومتألماً حين يحنّ إلى لقمة ...!!
رحل وكأنّه ظلّ إنسان، لا يريده الجوع ولا يريده الطعام، لا يألف لذة ولا يملك القوة على رفضها... ؛ لعلّ القدر أراد له أن يعيش معلقاً بين قوتين: قوة تُصعده إلى الروح، وأخرى تهوي به إلى الجسد… ؛ حتى سلّم روحه أخيراً في تلك الليلة، وكأنه—بعد عمر طويل من الحرمان—وجد أخيراً طعاماً لا يوجع، وجوعاً لا يعذب، وسكينة لا تتطلب صوماً ولا شِبعاً... ؛ وكأن اللحظة الأخيرة كانت لقمةً حقيقية… ؛ بل لعلها أول لقمة لم تتبعها نار، ولم يطاردها ألم، ولم تنقطع بعدها أنفاسه...!!
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟