أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - الهجرة بوصفها فعلًا اجتماعيًّا معقّدًا: بين الاستبداد السياسي وضغوط البُنى الثقافية














المزيد.....

الهجرة بوصفها فعلًا اجتماعيًّا معقّدًا: بين الاستبداد السياسي وضغوط البُنى الثقافية


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 09:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تُعَدّ الهجرة اليوم ظاهرة متعددة الأبعاد، تتجاوز مفهوم الفرار من الاستبداد السياسي أو القمع السلطوي الذي شكّل، تاريخيًّا، المحرك الأبرز لنزوح الأفراد والجماعات... ؛ فإذا كان الناس في الماضي يتجهون نحو المنافي بحثًا عن الأمان من بطش السلطة، فإنّ كثيرًا منهم باتوا، في الزمن الحاضر، يفرّون من مجتمعاتهم ذاتها، من أعرافها القاسية، وبُناها التقليدية الضاغطة، ومن شبكات الرقابة الاجتماعية التي تحاصر الفرد أكثر مما تؤمّن له الاستقرار والانتماء.
لقد تبدّلت الأسباب وتنوّعت الدوافع؛ فلم يعد الظلم السياسي وحده هو الذي يُجبر الإنسان على خلع جذوره ومغادرة أرضه... ؛ فحتى لو سقط نظامٌ جائر أو انحسر تسلّط حاكم مستبد، يبقى سؤالٌ أكثر تعقيدًا مطروحًا بقوة: كيف يمكن للفرد أن يتحرر من الاستبداد المجتمعي، من الرقابة الجمعية ومن الأعراف التي تضيّق عليه خياراته وحدود ذاته؟
اذ تختصر معظم قصص اللجوء والهجرة اليوم مأساة الظلم المجتمعي... ؛ فسقوط النظام السياسي قد يكون ممكنًا، لكن كيف الخلاص من استبداد المجتمع؟
من ذلك الاستبداد الخفي الذي يتسلل إلى مسام الحياة اليومية، فيقيد الفرد بقوانين غير مكتوبة وأعراف متحجرة ورقابة جماعية لا ترحم... ؛ ففي العديد من البيئات المأزومة والمتكلّسة، يُثقل الإنسان بأحمال نفسية واجتماعية تُنهك قدرته على الاستمرار... ؛ فالمجتمعات التي تتفشّى فيها السلوكيات السلبية - من فضولٍ مُفرط في حياة الآخرين، وتطفّل، وتنمّر، واغتياب، وتشهير، ومحاكمات أخلاقية مستمرة- تصبح بيئات طاردة، لا يجد فيها الفرد مساحة للخصوصية ولا ملاذًا لحرّيته الداخلية... ؛ ومع تفاقم هذه الضغوط، يصبح الهروب خيارًا ملحًّا لا فقط لتحسين شروط العيش، بل للحفاظ على التوازن النفسي وصون الكرامة الإنسانية.
نعم , لم تعد الهجرة في العصر الحديث مجرد انتقال من مكان إلى آخر بحثًا عن الرزق أو هربًا من القيود السياسية، بل تحولت في كثير من الحالات إلى هروب وجودي من بنى اجتماعية خانقة... ؛ لقد شهدت دوافع الهجرة تحولاً جوهريًا؛ فبينما كان الناس في الماضي يفرون من جور السلطة الغاشمة وقمع الأنظمة الحاكمة، أصبح الفرد اليوم يفر من مجتمعه نفسه، من ذلك الكيان الذي يفترض أن يكون ملاذًا وأمانًا...!!
من منظور سوسيولوجي، تُظهر هذه الظاهرة ضعف العقد الاجتماعي وتآكل الثقة بين أفراد المجتمع... ؛ فحين تتحوّل الجماعة إلى عامل تهديد بدلًا من كونها مصدر حماية، يفقد الفرد شعوره بالانتماء، ويصبح الوطن نفسه فضاءً محاصرًا بأنماط سلوك متوتّرة ومختلّة... ؛ وهنا تتقاطع التحليلات النفسية مع السوسيولوجية؛ إذ يصبح الاغتراب الداخلي- ذلك الشعور العميق بعدم الانسجام مع المحيط - أحد أهم دوافع الهجرة.
لقد بات الفرد ينوء تحت عبء ثقيل في بعض المجتمعات "المريضة" والمتكلسة، التي تفتقر إلى التعددية والحرية و المرونة والتسامح وروح الاختلاف ... ؛ فلم يعد الهروب من الظلم السياسي هو المحرك الوحيد كما اسلفنا ، بل صار الدافع هو البحث عن مساحة للذات وسط زحام التقاليد البالية والعادات العتيقة والعلاقات المسمومة... ؛ إنه هروب من الفضول الذي لا يحترم الخصوصية، ومن التطفل الذي يخترق حرمة الحياة الفردية... ؛ كما هو هروب من آفات اجتماعية متجذرة كالغيبة والنميمة والتسقيط والتنمر، والتي تشكل في مجموعها بيئة موبوءة تشوه السمعة وتدمر الثقة وتقضي على أي أمل في حياة كريمة.
في هذه المجتمعات، حيث تنتشر الأمراض النفسية والعقد الاجتماعية، ويتكاثر الشاذون سلوكيًا والمجرمون فكريًا، يصبح الهروب ليس مجرد خيار، بل ضرورة حيوية للبقاء النفسي والمعنوي... ؛ فلا حياة ممكنة مع طغيان الجهل والتخلف، ولا استقرار مع سوء الخلق والفساد الأخلاقي، ولا أمان مع انعدام النظام وغياب سيادة القانون... ؛ ومن هنا، يختار الكثيرون الهجرة هربًا من ظواهر العشائرية المقيتة، والمحسوبية التي تقضي على مبدأ الجدارة، والتعصب الديني أو العرقي الذي يلغى الآخر، وثقافة الخيانة والفساد التي تستشري في النسيج الاجتماعي. إنهم يبحثون عن واحة تحقق لهم الحد الأدنى من الحرية والخصوصية، وتبعث فيهم الأمل، وتوفر لهم شيئًا من الراحة النفسية التي حُرموا منها في أوطانهم.
ولهذا تتسع موجة الهجرة من بيئات تكثر فيها المحسوبيّة والفساد، وتتعزز فيها الانقسامات الطائفية والعشائرية، وتُستغل فيها الروابط الاجتماعية كأدوات قمع بدل أن تكون أدوات تماسك... ؛ هناك يهرب الناس بحثًا عن فضاء يتيح لهم قدرًا من الحرية والخصوصية والاحترام، علّهم يجدون في مجتمعات أخرى حاضنة أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على احتواء اختلافاتهم وتطلّعاتهم.
ومن زاوية أنثروبولوجية، تكشف هذه الهجرة عن صراع بين الفردانيّة الحديثة التي تبحث عن حرية الذات، وبين البُنى التقليدية التي تستمرّ في فرض قيودها عبر العائلة والعشيرة والدين والعُرف... ؛ اذ إنّ الكثير من الأشخاص لا يهاجرون فقط بحثًا عن العمل أو الأمن، بل هربًا من منظومات القيم التي تحيط بهم وتكاد تُصادر إرادتهم وتشلّ حركتهم وتحدّ من خياراتهم في الحياة.
نعم , هذه الهجرة الجديدة هي، في جوهرها، رحلة بحث عن الذات في عالم يختنق فيه الفرد بثقل الجماعة... ؛ إنها صرخة احتجاج على مجتمعات أفقدت الفردَ هويته، وحولته إلى رقم في معادلة القطيع... ؛ وهي تشير إلى أزمة عميقة في العقد الاجتماعي، حيث لم يعد "البيت" يمثل الأمان، بل أصبح هو مصدر التهديد نفسه... ؛ وهكذا، تصبح الهجرة فعلًا وجوديًّا قبل أن تكون خطوة اقتصادية أو سياسية ؛ إنها سعيٌ نحو حياة يمكن للإنسان فيها أن يكون ذاته، دون خوف أو وصمة أو محاكمة دائمة... ؛ إنه بحث عن وطنٍ جديد لا تقتله فيه نظرات الآخرين، ولا تطارده شائعاتهم، ولا تُقمع فيه فرديّته باسم الجماعة... ؛ إنها محاولة لاستعادة الكرامة التي أرهقتها الأجواء المريضة، والبحث عن أملٍ يعيد للإنسان ثقته بذاته وبالعالم من حوله.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو تأسيس وعي وطني جديد: مقاربة فلسفية-سياسية في مفهوم الأمة ...
- جشع محطات الوقود الأهليّة… حين يتحوّل «القليل» إلى منظومة فس ...
- الضياع… حين تغترب النفس عن ذاتها وتصبح الحياة بلا بوصلة
- العوامل الصانعة للوعي الجمعي والثقافة العامة : بين القيادة و ...
- حين يتحول المجرم إلى وجيه .. والمجتمع إلى شريك في الجريمة..! ...
- ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله
- سرقات في ظلال القانون — حين تتخفّى اللصوصية بثياب الفضيلة
- مقاربة سياسية لما بعد الانتخابات العراقية 2025: بين توازن ال ...
- العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل الت ...
- سقوط القيم في الصراع السياسي والانتخابي : قراءة في التحلل ال ...
- جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان ...
- زعامة الفقاعات وساسة الاعلانات واللقاءات : حين يتحوّل الترشّ ...
- تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراط ...
- العراق وسوريا بعد سقوط دمشق: تشريح التوترات الأمنية والطائفي ...
- المسافة الآمنة: فنّ وضع الحدود في العلاقات الإنسانية
- مقولة وتعليق/ 62/ الحرية ثمرة العقل المستنير
- مقولة وتعليق / 61 / التعليم والذكاء: ثنائية الزيف والحقيقة ف ...
- دور الصداقة ومنازل القلوب
- بين المعرفة والوعي: اغتراب الذات في عصر المعلومات
- ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه ...


المزيد.....




- شهود عيان يتهمون مرتزقة من روسيا بارتكاب انتهاكات مروعة في م ...
- رئيس جنوب السودان يعيد مرة أخرى ترتيب وزارة النفط
- ارتفاع حصيلة ضحايا الحريق الهائل بهونغ كونغ والشرطة تعتقل 3 ...
- عاجل | مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية خلف الخط الأصفر شرقي م ...
- ترامب يعلن عن هوية المشتبه به في حادث إطلاق النار بواشنطن.. ...
- بعدما وصف مراسلة بـ-الخنزيرة-.. ترامب يشن هجومًا على صحفية ب ...
- -ضاع كل شيء-: صدمة في هونغ كونغ بعد مقتل العشرات ومئات المفق ...
- القضاء الفرنسي يطلب معطيات إضافية من تونس في ملف تسليم حليمة ...
- مصادر تكشف لـCNN ما توصل إليه FBI بشأن هوية المشتبه به في -إ ...
- مسيّرة تستهدف حقلا للغاز في كردستان العراق وتتسبب بقطع الإمد ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - الهجرة بوصفها فعلًا اجتماعيًّا معقّدًا: بين الاستبداد السياسي وضغوط البُنى الثقافية