أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه الخفي















المزيد.....

ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه الخفي


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 21:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من النادر أن تجد في فضاءنا الاجتماعي منشورات أو أحاديث تتناول الجوانب الإيجابية في العراق، رغم أنها كثيرة ومتنوعة وتمتد من المبادرات الفردية البسيطة إلى الإنجازات الوطنية الكبرى... ؛ إلا أنّ ما يهيمن على المشهد الإعلامي والشعبي هو التركيز المفرط على السلبيات، والعنف، والفشل، والفساد، وكأنّ الوعي الجمعي بات أسيراً لصورةٍ سوداوية لا يرى من خلالها سوى العتمة.
هذه الظاهرة ليست مجرد مصادفة، بل تعكس أزمةً مركّبة تتداخل فيها العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية... ؛ نعم هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي تراكمٌ تاريخيٌّ طويل لجملةٍ من العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي كوّنت لدى الفرد العراقي نظرةً متوجسة تجاه ذاته ومجتمعه ودولته... ؛ فمنذ بداية القرن العشرين - هذا فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر فحسب - ؛ عاش العراق تقلباتٍ حادّة بين صعودٍ وهبوط، بين نهضاتٍ فكرية وحروبٍ متتالية، بين مشاريع تحديثٍ وانقلاباتٍ مفاجئة، حتى أصبحت الذاكرة الجمعية مثقلةً بالخوف والخذلان والانتكاسات وفقدان الثقة بالاستقرار والشعور بالأمان ... ؛ وفي ظلّ هذا الإرث الثقيل، ترسّخت في الوعي العام عادةُ النظر إلى الواقع من زاوية الألم، وكأنّ السلبية أصبحت أسلوبًا دفاعيًا يجنّب الفرد صدمة الأمل المجهض... ؛ مما ولّد لدى المواطن العراقي ميلاً لتفريغ الغضب والاحتقان عبر تضخيم السلبيات وتسليط الضوء عليها.
إنّ الحديث عن الفساد والفشل والظلم أصبح نوعًا من "التنفيس الجمعي" الذي يمنح الناس شعورًا زائفًا بالمشاركة والتعبير، لكنه في الواقع يعمّق الشعور بالعجز واليأس.
فمن الناحية النفسية، يمكن القول إنّ المجتمع العراقي يعيش حالة "تعبٍ وجدانيٍ جمعي"، حيث فقدت المشاعر الإيجابية فاعليتها في مقابل تراكم الإحباطات. فكل محاولةٍ للتفاؤل تقابلها ذاكرةٌ مثقلة بالخيبات، وكل إنجازٍ يُقابَل بتشكيكٍ مسبق... ؛ لذا يلجأ كثيرون إلى تضخيم السلبيات بوصفها تعبيرًا عن الوعي والنضج السياسي، بينما يُنظر إلى الحديث عن الإيجابيات على أنه سذاجة أو مجاملة أو تجاهلٌ للواقع... ؛ وهنا تكمن المعضلة النفسية الكبرى: اختلاط الوعي بالنقمة، والصدق بالسوداوية.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد أسهمت وسائل التواصل الحديثة في تضخيم الظاهرة ... ؛ وقد تشكّلت بيئة إعلامية وثقافية تغذّي هذا النمط من التفكير , و لم تعد الأخبار السلبية مجرد انعكاسٍ للواقع، بل تحوّلت إلى محتوى تسويقيٍّ مقصود يعتمد على الإثارة والتفاعل ... ؛ اذ تتسابق وسائل التواصل والإعلام في إبراز المآسي والفضائح والمشاهد المثيرة للغضب، لأنّها تحظى بمزيد من التفاعل والانتشار... ؛ وهكذا، باتت السلبية سلعةً رائجة في سوق الوعي، تُباع وتُشترى بمقاييس "الإعجابات" والمشاركات... ؛ فالصورة التي تثير الغضب تنتشر أسرع من الصورة التي تثير الأمل، والحدث السيئ يُعاد تداوله آلاف المرات، بينما يُهمَل النجاح الصغير ولا يجد من يحتفي به... ؛ وهكذا، تشكّل نظامٌ إعلاميٌّ موازٍ لا يخضع لمعايير الموضوعية أو التوازن، بل يغذّي نفسيةً جماعيةً تقوم على التوتر والخوف من المستقبل.
ومن زاويةٍ سياسية، لا يمكن إغفال أنّ تضخيم السلبيات وتجاهل الإيجابيات قد يخدم جهاتٍ معينة تسعى إلى تثبيت صورة الانهيار الدائم، لتبقى الجماهير في حالة شكّ دائم بالمؤسسات، وانقسامٍ مستمرٍّ في ما بينها، وضعفٍ في الثقة الوطنية الجامعة... ؛ فالإحباط الجماعي بيئة خصبة لتمرير الخطط، وتسهيل السيطرة، وإضعاف أي حراكٍ وطنيٍ إيجابي... ؛ نعم لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن طبيعة الصراع على الوعي الجمعي... ؛ فالمبالغة في نقل السلبيات وغضّ الطرف عن الإيجابيات تخدم، في كثير من الأحيان، مصالح قوى محلية عميلة أو خارجية معادية تسعى إلى تثبيت صورةٍ قاتمة عن العراق، لتبقى الجماهير في حالة فقدانٍ للثقة بالنظام والدولة، ولتتحول فكرة الإصلاح إلى مجرد وهم... ؛ فالشعب المحبط لا يطالب، والمجتمع الذي يرى نفسه فاشلًا لا ينهض، والوعي الذي يقتنع بالعجز يُدار لا يُقرّر... ؛ ومن هنا، يصبح نشر السلبية أداةَ حكمٍ ناعمة، لا تقلّ خطورة عن أدوات القمع الصلبة.
تاريخيًا، يمكن القول إنّ العراق عرف فتراتٍ ازدهارٍ فكري وثقافي لم تحظَ بالاحتفاء الكافي... ؛ فذاكرته الجمعية اختزنت صور الخراب أكثر مما حفظت صور البناء... ؛ من الدولة العباسية إلى النهضة الحديثة، كانت لحظات الإبداع والإنجاز تُطوى سريعًا في صفحات التاريخ، بينما تبقى الحروب والدمار مادة الحكايات والموروث الشعبي... ؛ هذا الانتقاء التاريخي في الذاكرة جعل الثقافة العراقية تميل، على نحوٍ لا واعٍ، إلى سرد الألم بدلًا من سرد النهوض.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنّ المجتمع العراقي يحمل طاقاتٍ إيجابية هائلة، تتجلّى في مبادراتٍ فردية وجماعية في ميادين العلم والفن والإغاثة والوعي المدني... ؛ إلا أنّ غياب منظومة إعلامية تربط بين هذه الطاقات وتحوّلها إلى سردية وطنية جامعة جعلها متناثرة، لا تشكّل صورة متماسكة في الوعي العام. فالخير موجود، لكنه غير مرئي؛ والإنجاز قائم، لكنه بلا صوت.
يبقى السؤال: هل نحن ضحايا خطةٍ مدروسةٍ لزرع اليأس فينا، أم أننا بأنفسنا نغذّي هذه الثقافة دون وعي؟
الجواب ربّما يكمن في مزيجٍ من الاثنين... ؛ فالقوة التي يمتلكها "الوعي الجمعي" العراقي كفيلةٌ بتغيير الصورة، متى ما قرّر أن يرى النور كما يرى العتمة. فكما نملك الجرأة على النقد، علينا أن نملك الشجاعة على الاعتراف بالخير، وتقدير الإيجابيات، وإبراز ما يُصلح لا ما يُفسد.
إنّ استعادة التوازن في نظرتنا إلى أنفسنا ومجتمعنا ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء وعيٍ صحيٍّ قادرٍ على النهوض من ركام السلبية... ؛ فالمجتمعات لا تُبنى بالنقمة، بل بالإيمان بالقدرة على التغيير، وبالإصرار على رؤية ما يستحق الحياة في وطنٍ يستحق أن يُرى بعيون الأمل لا بعين الشكوى الدائمة.
إنّ مواجهة ثقافة السلبية لا تعني تجاهل الواقع أو التجميل الزائف، بل تعني استعادة التوازن في النظرة إلى الذات... ؛ فالنقد البنّاء لا يكتمل إلا حين يُقابله إيمانٌ بالقدرة على الإصلاح، والتشخيص لا يكون نافعًا ما لم يُقترن بالحلّ والأمل... ؛ فالأمم التي تنهض لا تفعل ذلك لأنها خالية من السلبيات، بل لأنها تملك الشجاعة في مواجهة عيوبها دون أن تفقد ثقتها بذاتها.
إنّ المجتمع العراقي اليوم بحاجةٍ إلى إعادة بناء خطابه الجمعي، ليكون أكثر إنصافًا وعدلًا في رؤيته للواقع. فالوعي الإيجابي ليس وهماً أو خيالًا، بل فعل مقاومةٍ ضد ثقافة التيئيس ... ؛ علينا أن نعيد تعريف "الوعي" لا بوصفه قدرة على النقد فقط، بل بوصفه أيضًا قدرة على الإيمان بجدوى الحياة والإصلاح... ؛ فالوطن لا ينهض باللعن، بل بالفعل، ولا يتطهر بالشكوى، بل بالإصرار على رؤية ما يُنقذ لا ما يُنهك.
فربّما آن الأوان أن نكسر حلقة السلبية، وأن نعيد إلى وعينا الجمعي ميزانه الطبيعي، لنرى العراق كما هو: بلدٌ يتألم، نعم، لكنه أيضًا بلدٌ ينهض، ويُبدع، ويستحق أن نرويه كما نعيشه — لا كما خُطط أن نراه.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس الإيمان: سيرة ذاتية في عشق المجهول
- بغداد تُستباح بهدوء... العمالة الأجنبية كحصان طروادة جديد
- أطفال داعش المنسيون: تداعيات جهاد النكاح والمستقبل المجهول
- الصديق الذي يشبه الدواء... حين يصبح الإنسان علاجًا للإنسان
- الإنسان المرهق... حين يمشي العالم محمولًا على أكتاف الأرواح ...
- تشريح البيئة الملوثة بالسموم الاجتماعية والامراض والعقد النف ...
- تجنيس الغرباء في العراق: أزمة هوية وطنية أم فوضى إنسانية مقن ...
- فلسفة اللحظة الضائعة: حين يبتلع الزمن ملامحنا
- الجنوب العراقي بين مطرقة السادية وسندان المازوخية : قراءة سو ...
- الخيانة كمرضٍ نفسيّ وعقدةٍ اجتماعية
- عندما يتحول الفضاء الرقمي والاعلام إلى ميدان صراع و حين يتكل ...
- المسرحية السياسية في العراق: وجوه تتبدل... والمأساة واحدة
- حين يتكرر المشهد: تكالب الأقليات السياسية على الأغلبية العرا ...
- حين تُغتال الحقيقة: اغتيال صفاء المشهداني وفضيحة الخطاب الطا ...
- حين يتنفس الحزن من رئة الوجود
- الشاب العراقي… أحلامٌ تذبل في سوق العمل الموحش
- مراجعات ضرورية حول الضربة الإسرائيلية المرتقبة ضد العراق
- الخونة الذين يشبهوننا ولا ينتمون إلينا
- السذاجة السياسية وخطر الحاشية الجاهلة
- الشخصية العراقية بين التمرد والاستكانة: قراءة في جدلية السلط ...


المزيد.....




- مصادر تكشف لـCNN هوية الدولة التي ستنضم الليلة إلى الاتفاقيا ...
- -أصبح متطرفا حديثا-.. وزير الداخلية الفرنسي يكشف معطيات جديد ...
- أنباء عن انضمام كازاخستان إلى -اتفاقات أبراهام- مع إسرائيل
- بشبة العلاقة بحماس.. ضبط أسلحة في النمسا وتوقيفات في لندن وب ...
- غارات إسرائيلية على جنوب لبنان وحزب الله يرفض التفاوض ويؤكد ...
- لماذا أسقطت واشنطن عقوباتها عن أحد أبرز حلفاء موسكو في أوروب ...
- تطورات لبنان ورسائل حزب الله
- الملل الزوجي.. حين يصمت الود ولا يرحل
- ما رسائل حزب الله وإسرائيل بعد يوم سياسي وميداني حافل؟
- فوضى في قطاع الطيران الأميركي بسبب الإغلاق الحكومي


المزيد.....

- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه الخفي