رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 08:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في رحلة الحياة التي تتقاطع فيها الطرق وتتشابك فيها المصالح وتتعاقب فيها الوجوه، هناك فئة نادرة من الأصدقاء لا تأتي صدفة، بل كأنها ملائكة مرسلة من عنايةٍ خفيةٍ تعرف متى ينهكك التعب ومتى يضيق بك الكون.
إنهم أولئك الذين لا يكثرون من الزيارات ولا يتكلفون الكلام، لكن حضورهم القليل يعادل ضجيج العالم كله... ؛ هم الدواء النفسي والاجتماعي الذي لا يُشترى، لأن قيمته ليست في الكمية بل في الفاعلية.
نعم في عالم العلاقات الإنسانية المليء بالضجيج والتقلبات، هناك نوع نادر من الأصدقاء لا يأتون كل يوم، ولا يطرقون بابك كل مساء، ولا يغرقونك بالرسائل والمجاملات اليومية، بل يأتونك في اللحظة التي تظن فيها أن العالم قد انطفأ، وأن لا أحد يسمع صوتك الداخلي... ؛ هؤلاء هم أصدقاء الجوهر، أصدقاء الوجع، أولئك الذين يشبهون الدواء الفعّال لا في طعمه، بل في أثره العميق.
إن هذا الصنف من الأصدقاء لا يقيس المودة بمدى التواصل، بل بعمق الفهم وصدق الشعور... ؛ إنهم يدركون أن قربهم لا يُقاس بعدد اللقاءات، بل بقدرتهم على تضميد روحك حين تئنّ... ؛ يأتونك حين تنكسر، لا ليسألوك ماذا حدث، بل لينهضوا بك... ؛ يمسحون عنك غبار الأيام الثقيلة، ثم يشاركونك الحمل وكأن الجرح جرحهم، والوجع وجعهم... ؛ يتعاملون مع آلامك كما يتعامل الطبيب الرحيم مع مريضه؛ بعلمٍ وصمتٍ وشعورٍ عميقٍ بالمسؤولية... ؛ وحين يزول الألم، لا يتحدثون عن فضلهم، كما لا يتحدث الدواء عن أثره بعد الشفاء.
إنهم لا يغضبون حين تضعهم في “الرفّ الآمن” من حياتك، كما توضع الأدوية المهمة في خزانة البيت، والتي لا تُفتح إلا عند الحاجة... ؛ لأنهم يدركون أن قيمتهم ليست في التكرار، بل في الحضور حين تتداعى قوتك... ؛ فهم يجيئون لا ليزاحموا الآخرين في صور المناسبات، بل ليكونوا سنداً في لحظات الانكسار، حين تشتدّ عليك الآلام وتضيق بك السبل.
إنهم لا يطالبونك بالردّ السريع، ولا بعدّ المكالمات، ولا بالزيارات الموسمية... ؛ لأنهم يعرفون أن العلاقات الحقيقية لا تُقاس بالوقت بل بالوزن، وأن الصداقة التي تصمد في الغياب أثقل من ألف لقاءٍ في حضورٍ زائف.
وكما يفعل الدواء حين يخفّف الوجع دون أن يمنّ عليك بالشفاء، كذلك هم، يقتربون منك بإنسانيةٍ صامتة، يلمسون وجعك دون أسئلة، ويجلسون قربك حتى يزول الألم، ثم ينسحبون بهدوء كما جاءوا، تاركين فيك طمأنينةً لا تُشترى.
هؤلاء الأصدقاء لا يرممونك بالكلام بل بالفعل، يحملون عنك همّك كما لو أنه همّهم، ويقفون بينك وبين الحياة حين تشتدّ، ليذكّروك أنك لست وحدك، وأن الخير لم ينقرض بعد.
إنهم الأصدقاء الذين يشبهون الدواء؛ لا يأتون كل يوم، لكن حين يأتون، ينقذونك... ؛فأحفظهم في خزانة قلبك كما تحفظ الدواء في بيتك، وافتح لهم الباب في ساعة الوجع، لا لأنك تحتاجهم فقط، بل لأنك تدرك أن وجودهم هو الشفاء نفسه.
نعم , هم يعرفون أنك لا تهملهم، بل تحفظهم بعناية، تدرك أن الحاجة إليهم ليست يومية، ولكنها مصيرية حين يشتدّ الوجع... ؛ إنهم يفهمونك دون أن تتكلم، يقرأون ملامحك كما يقرأ الطبيب النبض، ويعرفون ما بك حتى قبل أن تشرح... ؛ وحين تأتيهم مثقلاً بالهموم، لا يسألونك “ماذا حدث؟” بل يقولون “دعنا نحمل عنك ما تستطيع”... ؛ إنهم ينحنون عليك انحناءة الأب الحاني، ويمسحون دمعك كما تمسح الأمُّ وجه طفلها بعد بكاءٍ طويل... ؛ ويقوموا بالمهمات الصعبة نيابة عنك، ويحلّوا المشكلات المستعصية وكأنها مشاكلهم الشخصية لا مشاكلك أنت... ؛ ومع كل هذا العطاء، فهم كالدواء الناجع الذي لا يمنُّ عليك بعد الشفاء، ولا ينتظر منك جزاءً ولا شكورًا... ؛ فهم يجلسونك جانبًا ليواجهوا الحياة عنك مؤقتًا، يرممون ما تهدّم، ويعيدون ترتيب الفوضى فيك بصمتٍ يشبه الصلاة.
فالصديق الحقيقي يشبه الجرعة الدوائية الناجعة في حياتنا كما اسلفنا ... ؛ فثمة أصدقاء نبلاء، مشهود لهم بالأخلاق الرفيعة والوفاء والإخلاص، لا يعاتبونك حين تضعهم في خانة خاصة، أشبه بتلك الأدوية الثمينة التي تحفظ في (صيدلية) المنزل، لا تلجأ إليها إلا حين تداهمك علّة صحية شديدة... ؛ وهكذا هؤلاء الأصدقاء، فإنك لا تلتجئ إليهم إلا عندما تحيق بك المخاطر وتثقلك الهموم وتفاجئك الآلام... ؛ وهذا التجاهل الظاهري لا يعني إطلاقًا أنك لا تُقدر وجودهم، أو أنهم أصدقاء من الدرجة الثانية، بل لأنك تدرك في أعماقك أنهم يفهمون ظروفك، ولا يهتمون لمظاهر المجاملة الاجتماعية الزائفة، ولا للأشكال البرّاقة للعلاقات السطحية... ؛ إنهم يبحثون عن الجوهر لا المظهر، ويقدّرون الصفاء لا الاصطناع... ؛ لذلك، أنت تعرف قيمتهم الحقيقية، وهم بدورهم يعرفون حقيقة نفسك... ؛ نعم , الصديق الحقيقي لا يُشعرك بالحرج من ضعفك، بل يراك في هشاشتك دون أن يحكم عليك... ؛ يتعامل مع أوجاعك كما يتعامل الطبيب مع مريضه: بإصغاءٍ هادئٍ وتعاطفٍ عميقٍ دون ادّعاء.
*من الناحية النفسية، وجود هذا النوع من الأصدقاء هو عامل توازن داخلي... ؛ فهم يمثلون «منطقة الأمان العاطفي» التي يعود إليها الفرد حين تتكسر فيه عناصر الثقة بالعالم الخارجي... ؛ ووجودهم يمنحك الشعور بأنك مفهوم دون شرح، ومقبول دون تبرير.
*وفي علم النفس الاجتماعي، هؤلاء يمثلون الدعم النفسي الصامت الذي لا يتدخل إلا ليُعيد النظام إلى فوضى الحياة... ؛ فهؤلاء الأصدقاء يفضحون زيف العلاقات السطحية التي تملأ العالم، تلك التي تُبنى على المظاهر والمصالح والتكرار الفارغ... ؛ فهم لا يتسابقون لإثبات حضورهم أمام الآخرين، بل يثبتون قيمتهم في لحظة غياب الجميع... ؛ إنهم يعلّموننا أن الصداقة ليست مسرحًا للمجاملات، بل جسرٌ بين روحين تعرفان الصدق دون توقيع.
يشكّل هؤلاء الأصدقاء ما يُعرف في علم النفس الحديث بـ«الدعم العاطفي المستقر»، أي ذلك الحضور الهادئ الذي يرمم التوازن الداخلي للإنسان في لحظات ضعفه... ؛ فهم لا يطلبون دور البطولة في حياتك، بل يقفون بصمتٍ في خلفية المشهد، ينتظرون اللحظة التي تحتاج فيها إلى من يمدّك بالقوة دون أن يحرجك بالشفقة... ؛ وجودهم وحده كافٍ ليبعث الطمأنينة في نفسك، وكأن أرواحهم تعمل عمل المسكنات الخفية التي تُعيد للنفس استقرارها.
إنهم لا يقدّمون الحلول بالضرورة، بل يمنحونك شعور الأمان الذي يسمح لك بأن تتنفس وتفكر من جديد... ؛ وهذا هو العلاج النفسي الأعمق: أن تشعر بأنك مفهومٌ دون شرح، وأن هناك من يحتضن صمتك كما يحتضن الألم دواءه دون مقاومة.
*واجتماعيا : هم يقفون على النقيض من ظاهرة العلاقات السطحية التي تسود المجتمعات الحديثة، تلك التي تُبنى على تبادل المنفعة أو الخوف من العزلة... ؛ إنهم لا يحتاجون إلى جمهورٍ ليُثبتوا إخلاصهم، ولا إلى مناسبةٍ ليتذكروا من يحبون... ؛ إنهم يعيشون الصداقة كقيمةٍ أخلاقية وإنسانية، لا كاتفاقٍ ضمني على تبادل المظاهر... ؛ وفي عالمٍ يتكاثر فيه الزيف، يصبح وجودهم ضرورة أخلاقية تشبه وجود الهواء في رئةٍ تختنق... ؛ نعم , يُعدّ هذا النوع من الأصدقاء نادرًا في بيئةٍ طغت عليها العلاقات النفعية والمجاملات الشكلية... ؛ ففي زمنٍ تُقاس فيه الصداقة بعدد الصور والمنشورات، يظهر أولئك الذين يقدّسون الجوهر على حساب المظهر، يبتعدون عن الاستعراض الاجتماعي، ولا يقيسون القرب بالمسافات الجغرافية بل بالمشاعر الإنسانية... ؛ وهؤلاء الأصدقاء لا يطالبونك بأن تكون حاضرًا في كل المناسبات، بل حاضرًا في المواقف التي تحتاج فيها إلى من يفهمك... ؛ لانهم يملكون وعيًا اجتماعيًا يجعلهم يدركون أن العلاقات التي تُبنى على المظاهر هشّة، وأن الصداقة الحقيقية هي رابطة دعمٍ واحتواءٍ إنساني، لا عرضًا من عروض الحياة الاجتماعية... ؛ إنهم يعيدون للإنسان ثقته بالمجتمع بعد أن تزعزعها الخيبات، فيصبح وجودهم أشبه بعملية إنقاذٍ أخلاقية في زمنٍ يعلو فيه صوت المصلحة على صوت المروءة... ؛ نعم , وجودهم يذكّرنا بأن الصداقة ليست «طقسًا اجتماعيًا»، بل قيمة أخلاقية تحفظ للإنسان توازنه في مجتمعٍ يرهقه الزيف.
*أما فلسفيًا، فهم تجسيدٌ لمفهوم «الدواء الوجودي»؛ إذ يعالجون فيك ما لا يراه الطبيب ولا يبلغه التحليل، يعيدون ترتيبك من الداخل، ويذكّرونك بأن الإنسانية ما زالت ممكنة... ؛ إنهم يرممون جزءًا من الإيمان بالحياة حين تُصاب بخيبةٍ في الناس، ويعيدون إليك ثقتك بالحبّ الإنساني غير المشروط... ؛ هؤلاء الأصدقاء لا يأتون ليأخذوا، بل ليُعيدوا التوازن بين الأخذ والعطاء... ؛ وجودهم وحده يكفي ليشعرك بأنك بخير، حتى وإن لم يتحدثوا... ؛ فكما أن الدواء ينجح في صمته داخل الجسد، ينجح هؤلاء في صمتهم داخل الروح... ؛ فأحفظهم كما تحفظ الدواء الثمين: لا تستعملهم عبثًا، ولا تنسَ مكانهم حين تحتاجهم... ؛ فهم ليسوا مجرد أصدقاء... إنهم العلاج الإنساني لأوجاع الروح , انهم رسل السماء وملائكة الرحمة .
إنهم يشبهون «المعنى» وسط «الفوضى»، يذكّرونك بأن وجود الخير في الإنسان ليس وهماً، وأن المساندة ليست ضعفاً بل نوع من القوة النقية... ؛ وهم دليلٌ على أن الإنسان يمكن أن يكون دواءً لإنسان آخر، كما تكون الكلمة الطيبة بلسمًا للجراح غير المرئية... ؛ وحين يرحلون مؤقتًا، لا تشعر بالفراغ بل بالامتلاء؛ لأن أثرهم يبقى يعمل فيك كما يعمل الدواء بعد انتهاء الجرعة.
فالصداقة هنا تتحول إلى تجربة وجودية، حيث يصبح الآخر امتدادًا لذاتك في شكلٍ مختلف... ؛ فالصديق الذي يشبه الدواء لا يُشفي الجسد فقط، بل يُرمم الجانب الإنساني فيك... ؛ وجوده يذكّرك بأن الوجع لا يُعالج بالهرب، بل بالمشاركة، وأن الشفاء لا يتحقق إلا حين يراك أحدهم كما أنت دون أقنعة... ؛ وهؤلاء الأصدقاء لا يأتون ليكونوا جزءًا من يومك، بل جزءًا من معناك... ؛ يمنحونك القدرة على احتمال الحياة، لأنهم يُعيدونك إلى جذورك الأولى: إلى إنسانيتك التي أتعبها العالم.
الصديق الحقّيقي يُذكّرك بمعناك حين تبهت هويتك، ويعيدك إلى إنسانيتك حين تُثقلها الحياة... ؛ وصدق الفيلسوف الإغريقي أرسطو عندما قال: ((الصداقة روحٌ تسكن جسدين )) وكذلك نستذكر هنا قول الامام علي : (( الصديق نسيب الروح )) .
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟