أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - حين يتنفس الحزن من رئة الوجود














المزيد.....

حين يتنفس الحزن من رئة الوجود


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 23:35
المحور: الادب والفن
    


طالما راودتني حالات من ضيقٍ مباغتٍ غامضٍ ، وكآبةٍ لا ملامح لها , تتسلّل إلى صدري كلما أوشكت الشمس على الرحيل وحل الغروب ؛ لحظات الغروب كانت دائمًا تحمل لي شيئًا من الفقد، كأنّ النهار يجرّ معه ما تبقّى من دفء العالم، ويتركني وحيدًا أمام ليلٍ لا يجيب ... ؛ . لم أجد لذلك سببًا واضحًا، لا مأساة محددة، ولا ذكرى تستحق هذا الكم من الوجع، و لا جرح ظاهر، ولا حادثٍ يدعو للحزن، ومع ذلك كنت أختنق ببطء، كأنّ هناك يدًا خفية تضغط على روحي لا على صدري... ؛ فكلما أقبل المساء بوشاحه البنفسجي، تهاوت أنفاسي كأنّ الكون ضاق ذرعًا بي، أو كأنّ روحي تتذكّر فجأةً شيئًا نسيه الجسد منذ زمن بعيد.
تكرّر ذلك الشعور معي سنين طويلة، حتى صار الغروب موعدًا مؤجلًا للحزن، يطرق بابي دون استئذان... ؛ حاولت أن أبحث عن تفسيرٍ لهذه الحالة التي تلتهمني ببطءٍ كل مساء، فكما يقول الحكماء : معرفة الداء نصف الدواء... ؛ نعم سنوات وأنا أبحث عن تفسيرٍ لهذا الضيق الغريب الذي يزورني كل مساء، وبينما أنا أتتبّع خيوط هذا الإحساس الغامض، وقعت عيني على حديثٍ منسوبٍ إلى الإمام علي بن موسى الرضا ؛ مفاده : أنّ الأرواح واحدة، فإذا تألم مؤمنٌ في المشرق تأذّى له مؤمنٌ في المغرب ... ؛ لم أبحث في السند، فالمعنى وحده كان كافيًا ليوقظ فيّ شيئًا نائمًا: لعلّ ما نشعر به ليس لنا وحدنا، بل هو صدى لأنينٍ إنسانيٍّ واسعٍ يعبر الأثير، ويتسلّل إلى صدورنا من دون أن نعي مصدره... ؛ نعم وبغضّ النظر عن صحة السند ودلالة الحديث ، فإنّ في المعنى صدقًا يهزّ القلب... ؛ فلعلّ الأرواح ليست جزرًا منفصلة، بل محيطٌ واحدٌ تتداخل فيه الأمواج... ؛ وقد يكون ما نحسّه من ضيقٍ مفاجئٍ هو صدى لأنينٍ بعيد، يصلنا من روحٍ تئنّ في مكانٍ آخر من هذا العالم الكبير.
ولأنّني شديد الحساسية، أتألم لما يصيب الناس من أذى، وأحزن لحزنهم، فقد وجدت في هذا القول عزاءً مؤقتًا... ؛ لكنّ علم النفس لم يدع لي فرصةً للاحتماء بالغيب، فسرعان ما جاء ليقدّم تفسيرًا آخر: اضطراب في كيمياء الدماغ، اكتئاب موسمي، احتراق نفسي، أو خلل في المزاج الدوري , اضطراباتٍ عاطفيةٍ دفينة، أو تقلباتٍ مزاجيةٍ موسمية، أو إرهاقٍ عصبيٍّ لا يعلن عن نفسه إلا حين تسكن الأصوات من حولنا ... ؛ تفسيرات دقيقة، لكنها باردة، كأنها تحاول أن تُخضع الوجدان لمعادلاتٍ ميكانيكية لا تعرف الدموع.
أما المشتغلون بالروحانيات، فلكلٍّ منهم طريقته في تفسير هذا الشعور الداخلي: منهم من يردّه إلى الحسد، ومنهم من يعزوه إلى القرين أو السحر أو الطاقات الكونية المتضاربة... ؛ أو الطاقات السلبية العالقة بجسد الإنسان... .
وبين هذا وذاك، يظلّ الشعور نفسه: ثقل في القلب لا يُفسَّر، وحنين إلى شيءٍ لا اسم له، ووجعٌ يشبه ذاكرةً غاب عنها الزمان والمكان.
نعم قد تتعدد الأسباب، لكن الشعور واحد: ضيقٌ لا يُرى، ووجعٌ بلا جرح، وحزنٌ لا يعرف وجهته... ؛ وربما – من منظورٍ سرياليٍّ أعمق – ليست هذه الحالات والنوبات إلا رسائل من الوجود ذاته، تذكّرنا بأنّنا لسنا أبناء الصدفة , ولا نمت بأية صلة لهذا الكوكب الكئيب ، بل زوّارٌ مؤقتون في عالمٍ غريبٍ عن أرواحنا وجذورنا ... ؛ نعم ربما، في عمق هذا الضيق، يكمن سرّ الوجود الإنساني ذاته... ؛ فكما أنّ الجسد حين ترتفع حرارته يعلن عن خللٍ خفيٍّ في داخله، كذلك الروح حين تضيق وتكتئب بلا سبب، لعلّها تُذكّرنا بأننا لسنا من هنا تمامًا، بأننا نعيش على هامش كونٍ لا يخصّنا إلا مؤقتًا، وبأنّ جذورنا مغروسة في عالمٍ آخر أكثر نقاءً وأشدّ وحدة... ؛ فكما أنّ الحمى تُنذر بمرضٍ في الجسد، فإنّ هذا الضيق العابر قد يكون نداءً خفيًّا من العوالم التي جئنا منها، تذكيرًا بالمكان الذي سنعود إليه ذات مساءٍ آخر، عندما يكتمل الغروب الأخير.
فما أشبه لحظات الكآبة بلحظات الوعي الخالص، إذ لا يزورنا الحزن إلا حين نحسّ بحقيقة وجودنا المؤقت، وحين ندرك أنّ وراء هذا العالم المزدحم بالضجيج والضوء، ثمّة صمتٌ عظيم ينتظرنا جميعًا.
لقد قال نيتشه إنّ “الإنسان جسر لا غاية”، وكأنّ هذا الضيق الذي يعترينا هو رجفة العبور بين الضفتين: بين حياةٍ نحياها مجبرين، وموتٍ ينتظرنا بصبرٍ عميق. وقال كافكا إنّ "الحزن شكل من أشكال الدفاع عن النفس"، وربما كان هذا ما يحدث تمامًا؛ فكلما اقتربنا من الحقيقة، أوجعتنا أكثر، فاحتمينا بالحزن لنستطيع الاستمرار.
إنّ هذا الشعور العابر الذي يأتينا مع الغروب قد لا يكون مرضًا ولا لعنة، بل رسالة من الوجود نفسه: تذكيرٌ بأنّ الضوء إلى زوال، وأنّ الحياة – مهما بدت طويلة – ليست سوى ومضةٍ في ليلٍ سرمديّ... ؛ وربما لهذا، حين يحلّ المساء وتغيب الشمس، نشعر بأنّنا نحن من يغيب معها شيئًا فشيئًا، تاركين خلفنا في كلّ غروبٍ جزءًا منّا لا يعود.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاب العراقي… أحلامٌ تذبل في سوق العمل الموحش
- مراجعات ضرورية حول الضربة الإسرائيلية المرتقبة ضد العراق
- الخونة الذين يشبهوننا ولا ينتمون إلينا
- السذاجة السياسية وخطر الحاشية الجاهلة
- الشخصية العراقية بين التمرد والاستكانة: قراءة في جدلية السلط ...
- حركة الإسلام السياسي الشيعي في العراق من المقاومة إلى السلطة ...
- براغماتية الإيراني ومثالية العراقي – قضية أمير الموسوي أنموذ ...
- الخائن الدوني : جرح الأمة النازف وطعنة الظهر التي لا تندمل
- الصلاة كفعل حب… قراءة فلسفية في نص زوربا واستلهامه لبناء عال ...
- ظاهرة الوقاحة في العراق: جذور نفسية وتموجات اجتماعية
- ايام الزمن الاغبر / الحلقة السادسة / الفلافل بين حقيقة الجوع ...
- العوائل المعروفة والاسر المشهورة بين شرف الانتساب وأرث الماض ...
- الشيعة وإيران: بين الاستقواء السياسي والتحول الاجتماعي بعد ا ...
- بين العراق وتجارب الأمم الأخرى – لماذا انتصرت بعض الشعوب وفش ...
- الهند والعراق: تشابه ظاهري وتباين جوهري في إدارة التعددية وا ...
- قضية الصبي علي: دموع تهز الرأي العام وتكشف خلل النظام الإصلا ...
- التيه الوجودي: مقاربة نفسية واجتماعية لاستعادة البوصلة
- ثنائية الدين والوطن - الازدواجية المقدَّسة: تناقض الأصوليات ...
- الدعاية الانتخابية بين الفوضى والتبذير وعشوائية الرسالة وتنا ...
- الترابط المذهبي والاستلاب السياسي: تحليل ظاهرة التأثير الإير ...


المزيد.....




- بقي 3 أشهر على الإعلان عن القائمة النهائية.. من هم المرشحون ...
- فيديو.. مريضة تعزف الموسيقى أثناء خضوعها لجراحة في الدماغ
- بيت المدى يستذكر الشاعر القتيل محمود البريكان
- -سرقتُ منهم كل أسرارهم-.. كتاب يكشف خفايا 20 مخرجاً عالمياً ...
- الرئيس يستقبل رئيس مكتب الممثلية الكندية لدى فلسطين
- كتاب -عربية القرآن-: منهج جديد لتعليم اللغة العربية عبر النص ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
- الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - حين يتنفس الحزن من رئة الوجود