رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 09:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
*تمهيد
ليس كل من نشأ في بيت علم أصبح عالِمًا ... ؛ ولا كل من ترعرع في بيئة دينية صار متدينا ورعا , فقد يخالف المرء أباه , ويسلك طريقا مغايرا لسيرة أسلافه ... ؛ لذا قيل : يخرج الخبيث من الطيب ... .
وفي مجتمعنا ومنذ القدم برزت ظاهرة الانتساب الى العوائل الدينية والهاشمية والاسر العلمية والادبية والتجارية والسياسية والمشيخات القبلية والزعامات العشائرية ... الخ ؛ والافتخار بها على العالمين ؛ بل واعتبارها ميزة شرف تميز ابناءها عن بقية المواطنين حتى وان كانوا خاملين وفاشلين ومنحرفين وفاسدين ...!!
*التحليل التاريخي: جذور الظاهرة وتطورها
ترجع ظاهرة العوائل العلمية والأدبية والسياسية والتجارية والمشيخات القبلية والزعامات العشائرية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية ومنها المجتمع العراقي إلى مراحل تاريخية مبكرة، حيث شكلت هذه الأسر والعوائل مراكز إشعاع فكري وحضاري وديني وثقافي ونشاط تجاري واجتماعي وسياسي ... الخ ؛ و لم تكن هذه المكانة والوجاهة الاجتماعية نتيجة للانتساب البيولوجي بقدر ما كانت ثمرة لبيئات علمية حقيقية وحراك اجتماعي وثقافي وسياسي كبير ومؤثر ... ؛ حيث كانت المكتبات تزدهر، وحلقات العلم تعقد، والمناقشات الفكرية تثري الحياة الثقافية , والنزاعات الاجتماعية والقبلية تعالج باقل الخسائر ... الخ ؛ في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن يبرز أفراد يتمتعون بالكفاءة الحقيقية، سواء من داخل هذه الأسر أو خارجها.
لكن التحول بدأ يحدث مع تدهور الاوضاع السياسية والاقتصادية في العديد من المجتمعات الإسلامية ومنها العراق ، حيث تراجعت المؤسسات العلمية والدينية والثقافية الرسمية، وأصبحت الأسر هي الحاضنة الأساسية للمعرفة والعوائل هي المرجع للناس ... ؛ و هذا التحول أدى إلى تحول تدريجي من "وراثة البيئة العلمية الحقيقية " إلى "وراثة اللقب والمنصب فحسب "، مما مهّد لظاهرة الانزياح عن الجوهر الحقيقي للعلم والمعرفة والوجاهة والشرف .
*أولاد الظلّ وأوهام المجد الموروث
ليس من المعقول أن يسهر إنسان الليالي، ويكابد مشقّات الأيام، ويناضل في ميادين الحياة حتى يبلغ هدفه ويحقق مبتغاه، ثم يُشار إليه بالبَنان عالمًا أو أديبًا أو مفكرًا أو تاجرًا أو شيخًا أو سياسيًا أو زعيمًا ... الخ ؛ ليأتي من بعده خلفٌ عاجز، وفاشلٌ خامل، فيرث اسمه من غير أن يرث جهده، ويتباهى ويتكبر على الناس لمجرّد أنّه ينتسب إلى ذلك العظيم والناجح والمميز ...!
إنّ هذه الظاهرة ـ ظاهرة "المجد بالوراثة" ـ من أخطر ما يفتك بالمجتمع؛ فهي تصنع جيلاً من المتواكلين المتعجرفين الذين يظنّون أن قيمة الإنسان تُقاس بشجرة العائلة لا بثمرتها، وبأسماء الأجداد لا بأفعال الأحفاد... ؛ ولهذا كان حكماء الأمم، قبل الفقهاء والمفكرين، يعيبون على من يفاخر بنسبه ويعجز عن صناعته، حتى قيل فيهم كما نسب للإمام علي بن ابي طالب :
كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً *** يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ
فَلَيسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَهُ *** بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ
إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا *** لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي
*الواقع المعاصر: آليات الانزياح وانزياح الآليات
في واقعنا العراقي المعاصر، تتجلى هذه الظاهرة في استمرار هيمنة هذه العوائل على مواقع النفوذ الديني والثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ... الخ ؛ حتى مع فقدانها للكفاءة الحقيقية... ؛ بل ان الطامة الكبرى ان جذور بعض تلك العوائل اجنبية واصول بعض الاسر غريبة ولا تمت للعراق والهوية الوطنية بصلة ... ؛ لقد تحولت الألقاب العلمية والدينية والسياسية والاجتماعية من دلالة على الجدارة إلى مجرد وسام وراثي يمنح امتيازات اجتماعية وسياسية دون مسؤوليات معرفية حقيقية واخلاقية ومؤهلات واقعية .
المجتمعات الحيّة لا تقيم للألقاب العائلية والقبلية مكانة إن لم ينهض صاحبها بمسؤولية اللقب، ولا تعترف بالاسم إن لم يضف صاحبه معنى جديدًا إلى الحياة... ؛ فالكرامة تُنتزع بالعمل، والشرف يُحفظ بالفعل، والسمعة الطيبة تُبنى بالعرق لا بالورق، وبالإنجاز لا بمجرد الانتماء.
نعم برزت أسرٌ علمية ودينية وادبية وسياسية وقبلية ... الخ ؛ لا لأنها عملت في مجال جدها الاعلى الذي تنتسب اليه ؛ وحققت انجازات عظيمة ونجاحات مشهودة في ذلك التخصص ؛ فقط لأنها انتسبت اليه ... ؛ فكثيرون يدّعون العلم والادب والفكر والتدين والبلاغة و( الفراضة العشائرية ) ... الخ ؛ كذبًا وزورًا وتدليسا لمجرد انتسابهم إلى فلان العالم او الاديب او السياسي او الشيخ ... الخ ؛ فنتج عن ذلك تحنيط للنخبة وتأليه للطبقية الزائفة ، وتجميد للطاقات البشرية ومحاصرة لإبداعات المواطنين ونجاحات الاخرين ... ؛ وهذا طبيعي، فالمجتمعات التي تعتمد على الوراثة المجردة دون كفاءة، تختنق داخليًا مهما كان ماضيها عريقًا... ؛ والفرق كبير بين توارث بالكفاءة وتوارث بالمحاباة؛ فالأول يُثمر، والثاني يُفسد.
إنّ ظاهرة الانتساب إلى العوائل العلمية أو الأدبية أو الدينية او السياسية ... الخ – وبغضّ النظر عن واقع الفرد ومستواه الفكري أو الخُلقي – باتت من أبرز الظواهر الاجتماعية التي تشوّه مفهوم العلم والفضيلة والشرف ... ؛ فمجرد حمل اللقب أو الانتماء إلى تلك الأسر صار يُعطي بعض الأشخاص صكًّا بالوجاهة والقداسة الاجتماعية، حتى وإن كانوا خواءً من أي مضمون معرفي أو أخلاقي... ؛ وهذه الظاهرة ليست جديدة؛ فقد عرفها التاريخ الإسلامي منذ القرون الأولى حين بدأ "أبناء العلماء" يطالبون بمكانة آبائهم بلا جهد شخصي، فتحوّلت بعض البيوتات العلمية إلى مجرّد واجهات اجتماعية تبيع سمعة السلف لتغطية عجز الخلف.
نعم هذه الظاهرة تتحول مع مرور الزمن إلى عنوان وجاهة لا إلى بيئة إنتاج علمي وفكري واجتماعي وثقافي وسياسي واخلاقي وقيمي ... ؛ فالكثير من أبناء هذه البيوتات يكتفون بظلّ الألقاب العائلية دون أن يحملوا من العلم إلا اسمه، أو من الأدب إلا سمعته ومن الدين الا شكله ورسمه ... ؛ بل الأسوأ أن بعضهم، على الرغم من خوائه العلمي والديني والفكري والاخلاقي ، يطالب المجتمع بإجلاله فقط لأنه يحمل لقب الأسرة أو عمامة الجد... ؛ وهنا تبدأ المأساة: عندما يتحول النسب إلى سلعة اجتماعية، واللقب إلى صك شرف يتوارثه الأبناء كما يتوارثون الأملاك، ولو كانوا مفلسين من المعنى والمحتوى...!
بلى كانت هنالك بيوتات علمية ودينية وغيرهما قبلة للطلاب والمريدين والمحبين والاتباع ؛ الا انها تحوّلت مع الزمن إلى هياكل خاوية، يتصدرها أحفاد لا يعرفون من فكر وعمل واخلاق الأجداد سوى أسمائهم، ويستثمرون في رصيدهم الرمزي لابتزاز المجتمع، وكسب المناصب، وتكريس الجمود... ؛ وهذا ما يجعلنا نتساءل: ما قيمة عائلة علمية او دينية او مشيخة عشائرية ؛ إذا لم تعد تنتج العلم والشرف والانجاز ؟ وما جدوى بيت أدب إذا لم يعد يخرج الأدباء؟
والظاهرة الأخطر كما اسلفنا أن بعض هؤلاء المنتسبين – وهم جهلة أو بسطاء او مرضى وبلهاء – يسيئون إلى سمعة الأسرة نفسها بمواقفهم الفجة وسلوكياتهم المنحرفة، فيحوّلون إرثًا كان مصدر فخر إلى عبء ثقيل على التاريخ... ؛ و هذه ليست مجرد مشكلة أخلاقية، بل أزمة اجتماعية كبرى، إذ إن استمرار تقديسهم يكرّس ثقافة الاستحقاق الوراثي على حساب ثقافة الكفاءة، ويقتل الطاقات الحقيقية التي يمكن أن تنهض بالمجتمع... ؛ نعم هناك أسرٌ اندثرت سمعتها لأن الخلف لم يكن على قدر السلف، مثل بعض بيوتات الأندلس التي أُهملت وانشغلت بالمظاهر حتى فقدت تأثيرها العلمي قبل سقوط الأندلس ذاتها ... ؛ وكم من حفيد لعالم جليل كبير صار عنوانًا للفضائح الأخلاقية أو الفشل الاجتماعي، وأصبح اسمه يُذكر على سبيل الشماتة لا التقدير. .
المجتمع الذي يكتفي بتقديس الألقاب لا يفرّق بين العلماء الحقيقيين والمتطفلين، فيمنح كليهما الاحترام ذاته، فيغدو العالم الحقّ ضائعًا في زحمة المُدّعين، وتُقتل الكفاءات الصاعدة لأن ميزان التقييم لم يعد الكفاءة، بل شجرة النسب... .
لقد بيّن علم الاجتماع أن المجتمعات التي تعتمد على الوراثة في إنتاج نخبها، بدلاً من الإبداع والجدارة، تتحول إلى مجتمعات راكدة مغلقة، ويُصاب نظامها الثقافي بالتكلّس... ؛ وهذا ما نراه اليوم في العديد من البيئات التي تحكمها عقلية "الألقاب الموروثة"؛ فهي تصنع هالة كاذبة حول أسماء كبيرة بينما تهمل العقول الجديدة والطاقات الإبداعية.
*آليات استدامة الظاهرة:
1. الرأسمال الرمزي: تستفيد هذه الأسر من "الرأسمال الرمزي" المتراكم عبر الأجيال، حيث يخلق الانتساب إلى عالم مشهور هالة من المصداقية المسبقة، حتى مع انعدام الكفاءة الفعلية.
2. التحالفات الاجتماعية: تشكل هذه العوائل شبكات مصاهرة وتحالفات مع النخب الأخرى، مما يعزز موقعها الاجتماعي ويحميها من النقد.
3. الخطاب التبريري: تروج هذه الأسر لخطاب يؤكد على "خصوصية العلم الوراثي" و"تميز السلالة"، مستخدمةً مقولات دينية وتراثية خارج سياقها.
4. الاستغلال السياسي: غالباً ما تتعاون السلطات مع هذه الظاهرة، حيث تفضل التعامل مع "نخب" يمكن السيطرة عليها عبر الامتيازات، بدلاً من مواجهة كفاءات حقيقية قد تشكل تحدياً للنظام القائم.
*التداعيات والآثار: من التجميد الحضاري إلى الانهيار الأخلاقي
تؤدي هذه الظاهرة إلى تداعيات خطيرة على المستويات كافة:
• على المستوى العلمي والثقافي والادبي والسياسي : يتم تجميد الحراك العلمي والادبي والثقافي والسياسي الحقيقي، حيث يُستبعد الكفاءات من خارج هذه العوائل، بينما يُكرس من هم داخل هذه الأسر حتى مع انعدام كفاءتهم.
• على المستوى الاجتماعي: ينتج عن ذلك شرخ طبقي جديد قائم على "النسب القبلي والعائلي والعشائري" الوهمي، مما يقوض مبدأ تكافؤ الفرص ويعمق الفوارق الاجتماعية.
• على المستوى الأخلاقي والديني : يؤدي هذا الانزياح إلى أزمة أخلاقية حقيقية ودينية ، حيث يتحول العلم والمعرفة الدينية من قيمة إنسانية ودينية سامية إلى مجرد وسيلة للوجاهة الاجتماعية والامتيازات المادية.
• على المستوى الحضاري: تتحول المجتمعات التي تعاني من هذه الظاهرة إلى مجتمعات "متحفية"، تعيش على أمجاد الماضي دون قدرة على الإبداع المعاصر، مما يؤدي إلى ترهل حضاري شامل.
*نحو رؤية إصلاحية عملية شاملة
*إعادة تعريف مفهوم العائلة العلمية والدينية وغيرهما وبيان حقيقة الشرف الاجتماعي :
ينبغي للمؤسسات الدينية والثقافية والفكرية أن تعيد صياغة مفهوم "العائلة العلمية او الدينية وغيرهما " بحيث لا يُربط فقط بالنسب، بل بالاستمرار في الإنتاج العلمي والأدبي... ؛ أي أن يُقاس شرف البيت بقدرته على إنجاب علماء ومفكرين في كل جيل... ؛ بل يعامل كل مرء بما يمتلكه من كفاءات ومؤهلات لا بما ينتسب اليه ؛ فلا فرق بين عراقي وعراقي الا بالكفاءة والنزاهة والخبرة والمعرفة .
*ربط المكانة الاجتماعية بالكفاءة والخبرة والمعرفة لا باللقب والجهة :
يجب على المجتمع المدني ووسائل الإعلام أن توقف منح الامتيازات للألقاب الوراثية، وأن تكرّم الشخصيات بناءً على إنجازاتها الشخصية، لا على أسمائها العائلية وألقابهم العشائرية والقبلية وانتماءاتهم المناطقية والعرقية والحزبية .
*تعزيز التعليم النقدي والتاريخي:
على المدارس والجامعات والمنتديات الثقافية والمنصات الاعلامية أن تعلّم الطلاب والجماهير ؛ كيف يميزون بين "إرث العائلة" و"إرث الفرد"، وبين ما هو حق مكتسب بالجهد وما هو لقب بلا مضمون... ؛ فلابد من مكافحة الطبقية والتمييز الاجتماعي بكافة اشكاله وصوره ؛ فالكل سواسية امام القانون .
*تشجيع المنافسة العادلة:
ينبغي فتح المجال أمام الكفاءات الجديدة كي تثبت جدارتها، وعدم حصر المناصب الدينية أو الثقافية او السياسية او غيرها في سلالات محددة وعوائل معينة ... ؛ فهذا يعيد التوازن الاجتماعي ويضمن تجدد النخب ويقضي على الطبقية والعنصرية والتمييز الباطل .
*محاسبة المنتسبين المسيئين:
عندما يسيء أحد أبناء هذه العوائل إلى سمعة الأسرة بسلوكياته، يجب أن تكون هناك آليات اجتماعية ومؤسسية لمحاسبته وعدم السماح له باستغلال لقب الأسرة كدرع حصانة او طريقة للابتزاز والاستغلال والضحك على الذقون .
إنّ إصلاح هذه الظاهرة ليس مهمة سهلة، لكنه شرط أساسي لكل نهضة فكرية واجتماعية وثقافية ودينية وسياسية حقيقية ... ؛ فالأمم التي تقدّس الأسماء دون أن تسائل أصحابها عن عطائهم محكوم عليها بالجمود والانحطاط، أما الأمم التي تزن الناس بميزان الكفاءة فهي القادرة على إنتاج مستقبل أفضل من ماضيها.
نعم إن إصلاح هذه الظاهرة يبدأ بإعادة تعريف الشرف والوجاهة الاجتماعية على أساس الكفاءة والعطاء والنزاهة والوطنية ، لا على أساس النسب أو الذاكرة العائلية أو التاريخ القبلي والعشائري ... ؛ فالعائلة العلمية او الدينية او الادبية او السياسية الحقيقية ليست تلك التي تعيش على إرثها القديم، بل تلك التي تُنجب علماء وأدباء وساسة ومفكرين في كل جيل، وتبقى نارها متقدة لا رمادها المتراكم.
*الخلاصة: نحو تفكيك الوراثة الزائفة وإعادة الاعتبار للكفاءة
إن ظاهرة انتساب غير الأكفاء إلى العوائل العلمية والأدبية والاسر الدينية والسياسية وغيرها تمثل نموذجاً صارخاً لانفصال القيمة الاجتماعية عن القيمة الحقيقية... ؛ إنها تعكس أزمة عميقة في بنية المجتمعات التقليدية، حيث يتحول الرمز إلى غاية في ذاته، بعد أن كان وسيلة لغاية سامية.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب جرأة نقدية غير مسبوقة، وقدرة على التمييز بين الاحترام الواجب لإرث الأجداد، وبين النقد الضروري لواقع الأحفاد... ؛ كما تتطلب إعادة هيكلة للمؤسسات الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية ، بحيث تعتمد معايير الشفافية والكفاءة والنزاهة والمعرفة والوطنية بدلاً من الاعتماد على الأنساب والألقاب.
إن المجتمعات الحية لا تعيش على الماضي، بل تجدد حاضرها باستمرار... ؛ والعدالة الاجتماعية والفكرية تقتضي أن يكون معيار التقدير هو الكفاءة لا النسب، والإبداع لا الاسم... ؛ و العوائل العلمية او الادبية او الدينية او السياسية الحقيقية هي تلك التي تبقى قادرة على تجديد نفسها جيلاً بعد جيل، لا تلك التي تحنّط نفسها في رصيد تاريخي ثم تطالب بالحصانة الاجتماعية على أساسه... ؛ الا ان إصلاح هذه الظاهرة لا يبدأ بمحاربة الألقاب بل بإعادة تعريفها وربطها بالعطاء لا بالوراثة، وبفتح الباب أمام الأجيال الجديدة لإثبات جدارتها بعيدًا عن سطوة الأسماء الكبيرة كما اسلفنا .
وفي الواقع الاسلامي والعربي والعراقي الحديث نجد عوائل سياسية ودينية وغيرهما لا تزال تعيش على رصيد أجدادها منذ القرن الماضي، وتطالب المجتمع بالتبجيل وكأنها منحت شهادة حسن السلوك إلى الأبد... ؛ علما ان البعض من "أبناء المراجع ورجال الدين " و"أبناء الأدباء والعلماء " في العراق أو الشام أو مصر صاروا واجهات إعلامية أو تجارية، يستثمرون الاسم العائلي للتربح أو للوجاهة، بينما يفتقرون لأي إنتاج فكري أو مشروع إصلاحي او كفاءات شخصية ... ؛ وهذا ليس عدلاً لا بحق العائلة نفسها ولا بحق المجتمع الذي يحتاج قدوات حقيقية لا تماثيل من الشمع.
إنّ المجتمعات التي تكرّس هذه العقلية – عقلية تقديس اللقب الموروث – تدفع ثمنًا باهظًا من طاقاتها الإبداعية، لأن ميزان التقييم ينحرف من الكفاءة إلى النسب، ومن العمل إلى الشجرة العائلية... ؛ فالنتيجة الحتمية هي ركود فكري واجتماعي وسياسي وتعصب وانغلاق ديني وقبلي ، واحتكار للرمزية الثقافية والدينية والسياسية وغيرها بيد قلة لا تملك ما تقدمه سوى أسماء على الجدران.
نعم الحل لا يكمن في محاربة العوائل العلمية ولا في إسقاط هيبتها، بل في إعادة تعريف معنى "العائلة العلمية او الدينية او غيرهما " بحيث تبقى حية منتجة لا متحجرة... , كما اسلفنا ؛ كما ان معيار الشرف يجب أن يكون العطاء والتجديد والكفاءة والمعرفة والانسانية والوطنية لا مجرد الانتساب والالقاب ، ووجاهة العائلة ينبغي أن تقاس بقدرتها على تقديم علماء وأدباء ومصلحين في كل جيل، لا بقدرتها على حفظ صور الأجداد وتعليقها على الجدران.
لقد آن الأوان أن ننزع عن ظهورنا عباءة الأجداد الثقيلة، وأن نتحمّل مسؤولية الحاضر والمستقبل بأيدينا لا بأسماء من سبقونا. فالمجد الشخصي لا يُشترى ولا يُستعار، بل يُصنع صنعًا.
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟