رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 00:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لطالما شنت أمانة بغداد والدوائر البلدية، وبمساندة القوى الأمنية المدججة بالسلاح والآليات، حملات شعواء لإزالة التجاوزات السكنية والتجارية وغيرهما في بغداد وبقية المحافظات... ؛ وغالباً ما يكون توقيت هذه الحملات قبيل موعد الانتخابات، ما جعلها محل شكوك وتساؤلات حول دوافعها، وهل هي محاولة لإظهار هيبة الدولة , أم ورقة سياسية لتلميع صورة الحكومة , أم وسيلة ضغط وتهييج للشعب ؟
اذ لم يكن هذا التوقيت بريئاً من الشبهات ؛ بل جعل الكثيرين يفسرونه في إطار المناورات والمؤامرات السياسية، حيث تسعى بعض الحكومات إلى إظهار نفسها بمظهر الحازم في فرض النظام والقانون ... ؛ وقد تفتعل تلك الحملات بعض الجهات لتأليب الرأي العام وتحريك الجماهير المتضررة ضد الحكومة او لا أقل عدم انتخابها مرة اخرى ... ؛ وإن كان الثمن هذه المخططات المساس بمعيشة آلاف العراقيين البسطاء والفقراء ...!!
#جذور الظاهرة ومقارنة مع الحكومات السابقة
حملات ازالة التجاوزات ليست وليدة عهد السوداني، بل هي نتاج تراكمات تاريخية... ؛ فقد تفاقمت في التسعينيات مع الحصار، حين لجأت آلاف الأسر الفقيرة إلى بناء مساكن عشوائية بسبب غياب الدولة وانهيار الاقتصاد ؛ فضلا عن انتشار ظاهرة البسطات والجنابر والاسواق العشوائية لاسيما في المناطق الشعبية ؛ وبعد عام 2003، انفجرت الظاهرة مع الفوضى الأمنية والنزوح الجماعي وانتشار البطالة، فتحولت العشوائيات إلى أمر واقع معقّد تتداخل فيه حاجات الناس مع مصالح الأحزاب والحركات , ومافيات الفساد في الحكومة , وعصابات بيع الاراضي الحكومية والعامة والمشاعة.
في عهد نوري المالكي : حاولت الحكومة إظهار الحزم في بعض المناطق، لكنها سرعان ما توقفت بعد أن اصطدمت بالرفض الشعبي والخشية من فقدان الأصوات الانتخابية... ؛ بل إن المالكي في بعض الأحيان استثمر ملف التجاوزات لكسب الولاءات عبر التساهل أو منح “وعود شرعنة” للتجمعات العشوائية.
وفي عهد حيدر العبادي : اتسمت المرحلة بالحرب ضد داعش، ما جعل ملف ازالة التجاوزات ثانوياً... ؛ ومع ذلك، حاولت بعض البلديات القيام بحملات محدودة، لكنها جوبهت باحتجاجات شعبية وإدانات إعلامية، فتراجعت بسرعة.
وفي عهد عادل عبد المهدي : تحركت اليات الامانة لتهديم بعض التجاوزات ؛ فتزامنت حملة ازالة التجاوزات مع بدء الحراك الشعبي وانطلاق التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية التي اسقطت حكومة عادل عبد المهدي فيما بعد .
وفي عهد مصطفى الكاظمي : حاولت الحكومة طرح فكرة "الحلول الوسط" مثل تعويضات مالية أو توزيع أراضٍ نظامية للمتجاوزين... ؛ إلا أن ضعف الدولة وغياب الموارد حالا دون تحقيق خطوات عملية، فانتهى الملف إلى التجميد.
أما في عهد السوداني : فإن الحملة الأخيرة جاءت أشد وأوسع، ما جعلها محط جدل. فالبعض يراها خطوة لإعادة هيبة الدولة، فيما يعتبرها آخرون “مغامرة سياسية” أو حتى “كميناً” نصبته قوى معادية للحكومة لدفعها إلى مواجهة مباشرة مع الشارع الفقير... ؛ وهذا ما حدث بالفعل فقد حصلت مناوشات مسلحة في سوق مريدي وسوق سهام وغيره في المنصور ... .
فاليوم، حين تعود هذه الحملات بقوة، فهي لا تُقرأ فقط في إطار "فرض النظام"، بل في سياق أوسع: صراع على الشارع العراقي، ومحاولة كل طرف لتوجيه دفة الرأي العام لمصلحته، سواء عبر التنديد بالحكومة، أو عبر الظهور بمظهر الحريص على هيبة الدولة... ؛ وبين هذا وذاك يبقى المواطن العراقي البسيط هو الضحية، يُطرد من بيته أو تُزال "بسطته"، فيما تتحول معاناته إلى ورقة ضغط في لعبة سياسية أكبر منه بكثير.
لا تقتصر حملات إزالة التجاوزات على بعدها الأمني والعمراني والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل تغوص في أعماق المشهد السياسي العراقي المعقد، حيث تُسْتَخْدَم القضايا الاجتماعية والخدمية كأوراق ضغط بين الكتل السياسية المتنافسة... ؛ فالحكومة الحالية، برئاسة السوداني، تواجه تحدياً صعباً في تبرير توقيت هذه الحملات وحجمها المفاجئ، والذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه استهدافٌ لفئاتٍ اجتماعيةٍ محددةٍ ذات خلفياتٍ اقتصاديةٍ هشة، أو ذات انتماءاتٍ سياسيةٍ معارضة او غير ذلك .
والجهات التي قد تقف وراء هذه الحملات لا تُعَبِّر بالضرورة عن كتلة واحدة، بل هي خليط من قوى داخلية خاضعة لاستحقاقات المحاصصة، وأخرى خارجية تسعى لزعزعة الاستقرار... ؛ فمن جهة، قد تكون بعض الكتل المشاركة في الحكومة نفسها تدفع بهذا الملف إلى الواجهة لتحقيق مكاسب انتخابية آنية، أو لتحويل الأنظار عن فشلها في معالجة الملفات الخدمية الكبرى... ؛ ومن جهة أخرى، قد تكون قوى معارضة، داخل الحكومة و البرلمان أو خارجه، تستغل هذا الملف لتعبئة الشارع ضد الحكومة وتصويرها على أنها حكومة قمعية لا تتردد في تدمير أرزاق الناس.
الأمر الآخر هو الدور المحتمل للقضاء والإدارات المحلية، والتي قد تكون خاضعة لتأثيرات سياسية، مما يمنح هذه الحملات غطاءً قانونياً انتقائياً يفتقر إلى العدالة والتكافؤ في التطبيق.
والخطر الحقيقي يكمن في أن هذه الحملات، بغض النظر عن دوافعها، قد تفتح الباب أمام موجة عارمة من الغضب الشعبي الذي لم يعد يُفرّق بين سياسي وآخر، وقد يتحول إلى احتجاج عام على النظام السياسي بأكمله، مما يهدد الاستقرار الهش أصلاً في البلاد لاسيما في ظل هذه الاوضاع الاقليمية القلقة والتهديدات الدولية .
ومن الواضح أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وغيره من المسؤولين، قد يكون من مصلحتهم كسب الأصوات الانتخابية... ؛ ومن غير المعقول أن يُغامر رئيس الوزراء بإزالة كل هذه التجاوزات التي يتضرر منها عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من العوائل، باعتبار أن صاحب البسطَة أو (الجَنبر) أو المحل التجاري قد يعول عشرة أفراد، كما أن البيت الذي يتم تهديمه قد يأوي عائلةً كبيرة... ؛ وبالتالي، فلا أظن أن من مصلحة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني التضحية بهذه الأصوات الانتخابية، إلا إذا كان يراهن على أصوات المواطنين المتضررين من تلك التجاوزات أصلاً... ؛ لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر؛ فالكثير من هؤلاء المواطنين أنفسهم يرتبطون بروابط اجتماعية واقتصادية مع أصحاب التجاوزات، أو أنهم من الفئة الصامتة التي لا تُشارك في الانتخابات، أو من جمهور مسيّس محسوب أصلاً على أحزاب وحركات محددة، وبالتالي لا يمكن ضمان تحوّلهم إلى رصيد انتخابي مضمون.
وعليه، فإن حسابات رئيس الوزراء تبدو غير صائبة إذا كانت تهدف إلى كسب التأييد من خلال هذه الحملات... ؛ لذا، ذهب البعض إلى التكهن بأن الجهات التي تقف خلف حملات إزالة التجاوزات هي جهات سياسية معادية لحكومة السوداني، تهدف إلى إسقاطها أو منع إعادة انتخابها، من خلال تحريض الرأي العام ضدها... ؛ كما قد تهدف هذه الجهات إلى إلحاق الضرر بالمواطنين المتجاوزين وغيرهم ،ودفعهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر إلى الخروج على الحكومة، وإعلان التمرد ،وخوض التظاهرات والاحتجاجات التي قد تُؤجج نار الفوضى وتحرق الأخضر واليابس فيما بعد .
من هنا يذهب عدد من المراقبين إلى أن حملات إزالة التجاوزات لا تُدار بالضرورة من داخل الحكومة، بل قد تقف وراءها قوى سياسية معارضة، أو حتى أطراف نافذة داخل الدولة نفسها، تسعى لإحراج حكومة السوداني وإظهارها بمظهر المعادي للفقراء كما اسلفنا ... ؛ الهدف، بحسب هؤلاء، هو إضعاف رصيد الحكومة الشعبي، ودفع الرأي العام إلى تحميلها المسؤولية عن تهجير الأسر وقطع أرزاق البسطاء، وبالتالي تحفيز موجة من التذمر والاحتجاجات قد تنفلت لتصل حدّ التمرد وإشعال الشارع العراقي.
نعم يذهب بعض المراقبين إلى أن السوداني ربما لم يكن صاحب القرار المباشر في هذه الحملات، أو أن حكومته وقعت في فخ سياسي أُعدّ لها سلفاً... ؛ إذ يرى هؤلاء أن وراء تصعيد ملف إزالة التجاوزات جهات سياسية معارضة أو منافسة، هدفها ضرب رصيد الحكومة الشعبي، وإظهارها بمظهر المعادي للفقراء والكادحين، ودفع الرأي العام إلى التمرد والتظاهر كما اسلفنا ... ؛ فهذه الحملات، مهما كانت مبرراتها القانونية، تفتح الباب أمام احتجاجات قد تمتدّ بسرعة، وتحوّل الشارع إلى ساحة غضب تهدد الاستقرار
إذن، ما يبدو في ظاهره مجرد "إزالة للتجاوزات" قد يخفي وراءه صراعاً أعقد بين القوى السياسية المتنافسة، حيث تُستغل معاناة المواطنين أداةً في لعبة تكسير العظام، بين حكومة تسعى لإثبات هيبتها وقوى أخرى تريد تقويضها... ؛ وبين هذا وذاك يبقى المواطن العراقي البسيط هو الخاسر الأكبر: بيته يُهدم، مصدر رزقه يُقطع، ومستقبله يُرهن لحسابات انتخابية وصراعات حزبية لا تنتهي.
#الخلاصة
إزالة التجاوزات في العراق ليست مجرد قضية خدمية أو قانونية، بل ملف سياسي بامتياز، يُستَخدم كورقة ضغط ومساومة... ؛ فالحكومات المتعاقبة بين التردد والتساهل كانت تدرك أن أي خطوة حاسمة في هذا الملف ستقابلها موجة غضب شعبي قد تتحول إلى وقود انتخابي ضدها... ؛ واليوم، يجد السوداني نفسه في قلب هذه المعادلة الصعبة: إن مضى في الحملة خسر أصوات المتضررين، وإن تراجع ظهر بمظهر الضعيف أمام القانون والرأي العام... ؛ وبين ضغط الداخل وصراع القوى المتربصة، يبقى المواطن العراقي – بين بيت مهدوم وبسطة مرفوعة – الخاسر الأكبر.
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟