|
أشباح الإمبراطورية : المخابرات البريطانية في العراق من الظل إلى السلطة
رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 11:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*ملخص: تتناول هذه الدراسة الأثر العميق والدائم الذي خلّفته المخابرات البريطانية في الشأن العراقي، منذ أيام الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس ؛ وحتى ما بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003... ؛ كما تستعرض استراتيجيات النفوذ البريطانية، وتحالفاتها المحلية، وآلياتها في تفكيك البنية الوطنية العراقية، وتحويل البلاد إلى منطقة نفوذ استخباري طويل الأمد. *مقدمة في الأزقة القديمة لبغداد، وعلى ضفاف دجلة التي شهدت ولادة إمبراطوريات وموت أخرى، لم يكن الغريب دوماً جنديًا بوجهٍ سافر، بل كان في كثيرٍ من الأحيان رجلاً أنيقاً بربطة عنق أنيقة وملفٍ أسود يخبئ بين صفحاته مصير أمة. فقد شكل العراق أحد أهم مفاتيح الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، بسبب موقعه الجيو-استراتيجي وثرواته الطبيعية... ؛ لذلك لم يكن غريباً أن تسعى الإمبراطورية البريطانية إلى بسط نفوذها عليه منذ القرن التاسع عشر، مستخدمةً أدوات استخبارية متعددة، من أبرزها شركة الهند الشرقية، والعملاء المحليين، والسيطرة على النخب السياسية والعسكرية والدينية والاجتماعية العراقية. لعبت المخابرات البريطانية، ولا تزال، الدور الأخطر والأعمق في تشكيل الجغرافيا السياسية للعراق الحديث... ؛ فمنذ القرن التاسع عشر، حين كانت "شركة الهند الشرقية" بمثابة الذراع الاستخبارية للإمبراطورية البريطانية في الشرق...؛ بدأت بريطانيا تخطط للسيطرة على العراق كـ"عقدة جغرافية-حضارية" و"مفتاح استراتيجي" يربط فارس بالهند، والشام بالخليج. ففي بدايات القرن العشرين، لم يكن العراق مجرّد بقعة جغرافية تنوء بثقل التاريخ والحضارات، بل كان ساحة مفتوحة لصراع استخباري مركّب ... ؛ تصدّرته بريطانيا بواجهتها الإمبريالية وأذرعها المخابراتية، التي لم تخرج منه حتى عندما أعلنت انسحابها الرسمي... ؛ فالعراق، منذ لحظة اكتشافه النفطي وتحديد موقعه الجيوسياسي، تحوّل إلى ما يشبه "بستان أبي ناجي"، العبارة الشعبية الشهيرة التي تعكس سخريّة العراقيين من النفوذ البريطاني الذي نخر البلاد لعقود طويلة ... ؛ بل وسلخ منها اجزاء مهمة واراضي شاسعة وغنية بالثروات كالكويت وعبادان والمحمرة وغيرهما . # شركة الهند الشرقية: الطلائع الاستخبارية لم تبدأ القصة مع الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، بل تعود إلى نشاط شركة الهند الشرقية، وهي ذراع استعمارية تجارية كانت في حقيقتها أداة مخابراتية متقدمة... ؛ فبعيدًا عن التجارة، نشرت هذه الشركة جواسيسها وعملاءها في البصرة وبغداد وكربلاء والنجف، متخفّين بهيئة تجار ورحالة ومستشرقين، كانوا يسجّلون الخرائط، ويتابعون الحركات الاجتماعية، ويقيمون شبكات تواصل مع زعامات محلية، ويثيرون النعرات الطائفية حينًا، ويزرعون الفتن أحيانًا... ؛ فمنذ بدايات القرن العشرين، لم يكن العراق مجرد مساحة جغرافية على هامش الإمبراطوريات، بل كان رقعة استراتيجية تقاطع فيها النفط والدين والسياسة والجغرافيا والتاريخ كما اسلفنا ... ؛ ومن بين أكثر الفاعلين حضورًا في تشكيل الدولة العراقية الحديثة، كانت المخابرات البريطانية التي نسجت خيوطها الناعمة والخشنة على امتداد الأرض والهوية والقرار والمصير . فقد دخلت بريطانيا إلى العراق من بوابة "شركة الهند الشرقية" أولاً، ثم عبر الجيوش الاستعمارية التي رفعت شعارات "التحرير من العثمانيين"، بينما كانت في حقيقتها تمهد الأرض لاحتلال طويل الأمد... ؛ و المندوبون السياسيون البريطانيون لم يكونوا مجرد دبلوماسيين، بل ضباط استخبارات مقنّعين... ؛ وسرعان ما أضحت بغداد "بستانًا لأبي ناجي"- الذي كان يسرح ويمرح في البلاد دون حسيب أو رقيب - . فقد استُخدمت شركة الهند الشرقية كواجهة اقتصادية-تجارية لاختراق المجتمعات الإسلامية في الخليج والعراق... ؛ ومهدت الشركة لتأسيس قواعد استخبارية في البصرة وبغداد وغيرهما كما مر عليكم انفا ، و ساهمت لاحقاً في عمليات الاحتلال العسكري. نعم لم تكن سيطرة بريطانيا على العراق مجرد حدث عسكري عابر، بل كانت ثمرةً لتمهيد استخباري طويلٍ ومُمنهج، حوَّل المنطقة إلى رقعة شطرنج كبرى في حرب الظلال الإمبراطورية... ؛ لقد بدأ المشروع البريطاني مبكرًا عبر "شركة الهند الشرقية" التي كانت غطاءً للاستخبارات والتجسس الاقتصادي كما اسلفنا ؛ حيث رسَّخت شبكةً من العملاء والمخبرين في مدن العراق الرئيسية منذ القرن التاسع عشر، مُستغِلَّةً الصراعات العثمانية-الفارسية وتردي الأوضاع الداخلية وتشرذم الجماعات والفئات العراقية . وحين أسفرت اللعبة الكبرى عن أفول نجم الدولة العثمانية، انقضّت بريطانيا على "ولاية البصرة ثم بغداد ثم الموصل وقبلها الكويت وعبادان " بذرائع محاربة العثمانيين، لكنها في الحقيقة كانت تكتب أولى صفحات “البستان”، حيث أصبحت بلاد الرافدين حديقة خلفية تُدار من مكاتب المخابرات البريطانية في البصرة وبغداد و"المقر السري" في الهند... ؛ و لم يكن احتلال العراق عام 1917 حدثاً عسكرياً منعزلاً، بل كان تتويجاً لعملية استخباراتية معقدة بدأت قبل قرن من الزمن... ؛ لقد حوّلت بريطانيا العراق إلى "مختبر جيوسياسي" تُجرّب فيه أدوات الهيمنة الحديثة، مستخدمةً ثلاث ركائز: شركة الهند الشرقية، وشبكة العملاء، وآلة الدعاية... ؛ فالعراق لم يُحتَل عام 1917، بل وُلد محتلاً... ؛ و المخابرات البريطانية كانت قابلة هذا المولود المشوّه والمشلول ... . *اليات السيطرة الناعمة للمخابرات البريطانية قبل الاحتلال : 1. شركة الهند الشرقية كذراع تجسس: - منذ 1765، أنشأت الشركة مراكز تجارية في البصرة وبغداد تحت غطاء التجارة. 2- ضمان السيطرة على منابع النفط بعد اكتشاف أهميته الاستراتيجية، خصوصًا في منطقة كركوك والجنوب العراقي الذي اقتطعت منه عبادان والمحمرة والكويت ... ؛ حيث عملت الشركات البريطانية في التنقيب عن النفط واستخراجه . 3- - خرائط الأنهار والطرق التي رسمها جواسيسها (مثل الكابتن تشيزني 1836) شكّلت الأساس العسكري للغزو لاحقاً... ؛ اذ جاب البريطانيون بلاد الرافدين طولا وعرضا وعرفوا كل شيء عنها ... ؛ فقد درّبت "المخبرين المحليين" على جمع المعلومات تحت غطاء البعثات الأثرية (كما فعلت جيرترود بيل 1909). 4- - تقارير عملائها عن أوضاع الجيش العثماني (ضعف الإمدادات، تمرد القبائل) والتي على ضوئها قررت بريطانيا توقيت الغزو... ؛ فقد كانت القنصلية البريطانية وكرا للجواسيس الذين يراقبون نشاطات واوضاع الدولة العثمانية المريضة ... ؛ اذ لم تكن معركة "الشعيبة" (1915) سوى تتويجًا لعمل استخباري مُكثف... ؛ فلولا تقارير الجواسيس البريطانيين عن تحركات الجيش العثماني وخرائط الأنهار والطرق ... ؛ لما تمكَّنت قوات بريطانيا من اجتياح البصرة وبغداد. 5-. صناعة العملاء والاصدقاء من الداخل: اذ استقطبت الزعامات الدينية والعشائرية والسياسية والتجارية عبر الرشاوى والوعود... ؛ لاسيما مع رجال العهد العثماني كالمدعو عبد الرحمن النقيب في بغداد ومن لف لفه ... ؛ فقد عملت بريطانيا على انشاء طبقة سياسية هجينة عميلة تدين لها بالولاء ... ؛ وبدأت بصورة جلية من تأسيس المملكة العراقية سنة 1921 وتنصيب الملك الغريب فيصل الأول، وانتهاءً بترسيخ شرذمة من بقايا العثمنة الدخلاء ورعايا الانكليز الغرباء مرتبطة بالمصالح البريطانية... ؛ اذ لم تكن اللعبة البريطانية قائمة فقط على السيطرة الصلبة، بل قامت على تأسيس نظام من الولاءات الثقافية والتعليمية والأمنية والدينية والعشائرية والمناطقية ، من خلال بعثات التبادل، والتعليم على النمط الإنجليزي، واختراق البيروقراطية العراقية. 6- حرب المعلومات في الحرب العالمية: فقد نسّقت MI6 مع العميل ت.إ. لورانس لتحريض القبائل ضد العثمانيين... ؛ كما خططت لـ"ثورة النجف" 1918 بتمويل مباشر لإسقاط الحكم التركي... ؛ وكانت "حماية الممرات البحرية إلى الهند" - ؛ هي الذريعة الأولى - إلى احتلالٍ شامل بغطاء "تحرير العراق من الأتراك". * من الاحتلال إلى الانتداب – الاستخبارات في زمن الكولونيالية المباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، وُضع العراق تحت الانتداب البريطاني رسميًا (1920)... ؛ وقد أسهمت شخصيات بريطانية استخبارية كـ بيرسي كوكس وگرترود بيل في تشكيل النظام السياسي الملكي... ؛ اذ قامت بريطانيا بصناعة الملكية الهاشمية الهجينة في العراق ... ؛ فبعد إسقاط العثمانيين، حوَّلت المخابرات البريطانية العراق إلى "بستان أبي ناجي" (كما وصفه العراقيون بسخرية مريرة) حيث سيّرت مصيره عبر دمية سياسية غريبة هي الملك فيصل الأول الحجازي ... ؛ بينما كان الضابط البريطاني "بيرسي كوكس" (المعتمد السامي) هو الحاكم الفعلي، وأشرفت "المس بيل" (المعروفة بأم العراق) على هندسة التركيبة الطائفية والعشائرية خدمةً للمصالح البريطانية... ؛ وكانت تكن العداء للأغلبية العراقية الاصيلة . لقد أدركت لندن أن الاحتلال المباشر والدائم مكلف للغاية لاسيما في المستنقع العراقي الخطير ، لذلك صنعت أدواتها: أنشأت جيشًا من العملاء المحليين، واستثمرت في "النخب المدجنة والهجينة "، ومهّدت الطريق أمام تولي فيصل الأول العرش، ليكون ملكًا بغطاء وطني لكنه في الواقع خاضع لتوجيهات السير بيرسي كوكس والمقيم السياسي البريطاني ... ؛ ثم كانت "المعاهدة البريطانية-العراقية" لعام 1930 وهي التجلي الأوضح لسيطرة المخابرات البريطانية على القرار السيادي ... ؛ إذ نصت على بقاء قواعد عسكرية بريطانية وعلى أن يكون للعراق سياسة خارجية تتناغم مع “المصالح البريطانية”...؛ فرغم إعلان استقلال العراق (1932)، استمرت بريطانيا في استخدام معاهدة 1930 كأداة للوصاية... ؛ وقد حافظت الاستخبارات البريطانية على علاقات وثيقة مع شخصيات عسكرية عراقية نافذة ... ؛ ولم يغب جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6) عن المشهد حتى بعد الاستقلال الشكلي، بل تجذّر أكثر، خاصة في العهد الملكي، حيث لعب دورًا في قمع الحركات الوطنية والشيوعية... ؛ بل هناك مؤشرات قوية على ضلوعه في الإعداد أو التواطؤ مع انقلاب 1941 المناهض للوصاية البريطانية، الذي استُخدم لاحقًا كذريعة للغزو البريطاني الثاني للعراق وإعادة احتلاله... ؛ ووثائق الحرب العالمية الثانية تكشف تجسسًا بريطانيا واسعًا على النخب الوطنية واليسارية... ؛ بالإضافة الى سيطرتها على عقود النفط الاحتكارية لشركة BP...؛ و تأثير المخابرات في الانقلابات العسكرية حتى ثورة 1958 بل وبعدها ايضا . * التنافس الدولي في ساحة العراق لكن المشهد لم يبقَ أحادي القطبية... ؛ فمع اشتداد المنافسة العالمية، دخلت المخابرات الألمانية في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم الأمريكية والسوفييتية لاحقًا، لينقلب العراق إلى ساحة صراع استخباراتي متعدد الجنسيات... ؛ و كل قوة كانت تغرس جواسيسها في مفاصل الدولة، وتحرك الأحزاب، وتغذي الانقلابات والاضطرابات والازمات ... ؛ فرغم الهيمنة البريطانية، لم تكن الساحة خالية من المنافسين ... ؛فالمخابرات السوفييتية (NKVD): تسللت عبر الحزب الشيوعي العراقي منذ الثلاثينيات ودورها في إضرابات النفط 1927 ... ؛و المخابرات الألمانية: وجدت موطئ قدمٍ خلال ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941... ؛ والمخابرات الأمريكية (CIA): دخلت اللعبة بقوة بعد اكتشاف النفط، وبلغت ذروتها في انقلاب 1963 الذي أطاح بعبد الكريم قاسم بدعم مشترك مع MI6...؛ وعلاقاتها بالبعثيين . ولم تنتهِ قصة المخابرات البريطانية بخروج آخر جندي بريطاني من العراق ... ؛ لقد زرعت بريطانيا بنية كاملة من التأثير الاستخباري طويل الأمد : شبكات إعلامية، صلات تجارية، واجهات ثقافية ودينية واجتماعية ، عملاء في مواقع القرار، ونظام تربوي ينقل القيم واللغة والتفكير البريطاني... ؛ هكذا أصبح العراق خزانًا دائمًا للصراع بين مشاريع محلية هجينة ومخططات خارجية ناعمة، تبدو "مساعدة" لكنها تنفذ أجندات السيطرة وتفكيك السيادة وبين الروح الوطنية والدعوات العراقية الاصيلة . مع صعود عبد الكريم قاسم عام 1958 وسقوط النظام الملكي ، بدأت مرحلة صراع أكثر تعقيدًا. فبريطانيا، ومعها حلفاؤها الأمريكان، رأت في حكمه تهديدًا لمصالحها النفطية والجيوسياسية، مما أدى إلى استهدافه بمحاولات اغتيال وتحريض داخلي، بعضها تم بتمويل وتخطيط مشترك بين المخابرات البريطانية والأمريكية، كما ظهر لاحقًا في وثائق مسرّبة... ؛ فالمخابرات البريطانية لم تغادر، بل أعادت تموضعها عبر واجهات جديدة: شركات نفط ... ، منظمات غير حكومية ... ، دبلوماسيات ناعمة... ، وحتى عبر الإعلام والنخب الثقافية والسياسية والدينية وغيرها . وفي العقود التالية، كان لبريطانيا دور خفي في تفاعلات كثيرة ومنها : انقلاب 1963 الذي مهد لصعود حزب البعث الدموي ... ؛ وفي الصمت البريطاني عن جرائم نظام السفاح صدام ما دام يخدم التوازن الإقليمي... ؛ ثم، في مرحلة ما بعد 2003، حيث عادت المخابرات البريطانية، ولكن هذه المرة تحت غطاء "الحرب على الإرهاب ونزع اسلحة الدمار الشامل "، لتشارك في هندسة النظام الجديد وإعادة توزيع القوى بين مكونات العراق على أساس طائفي وعرقي كعادتها ... ؛ نعم عادت بريطانيا كقوة مشاركة في غزو العراق عام 2003، لتغلق بذلك دائرة امتدت من الاحتلال إلى الغزو، ومن المبشرين إلى العملاء، ومن السكة الحديد إلى كاميرات الأقمار الصناعية... ؛ ولم يكن توني بلير سوى صورة أخرى عن السير بيرسي كوكس، ولكن بربطة عنق حديثة وملف مغاير العنوان... وإن تشابه المحتوى. * الإرث المدمّر : رسمت حدود العراق الحالية لضمان استمرار ضعفه واستنزافه لقد زرعت بريطانيا بذور الدولة العراقية الحديثة، لكنها صمَّمتها لتصبح "دولة هشة ضعيفة مستنزفة " ... ؛ وهذا التشوُّه البنيوي كان الوقود الذي أشعل كل الثورات والانتفاضات والاحتجاجات الداخلية , و حروب العراق الخارجية ؛ من العهد الملكي والى هذه اللحظة ؛ بل سوف يستمر تأثيره السلبي حتى في المستقبل ... ؛ اذ قامت بما يلي : * حدود مصطنعة : لا تمثل العراق التاريخي والحقيقي المعروف ؛ فقد سلخت منه المياه الواسعة والاراضي الشاسعة ؛ واضافتها الى دول الجوار , وانشأت كيانات سياسية لا وجود لها تاريخيا ؛ كالكويت ؛ ولن يستقر الوضع الا بإرجاع تلك الحدود الى العراق . *الخلطة الهجينة : جمعت أعراقًا وطوائف متنافرة ؛ ولا تربطها بالعراق والاغلبية والامة العراقية أية صلة ؛ في بوتقة واحدة دون هوية وطنية جامعة ؛ اذ شجعت النصارى الاثوريين والارمن وغيرهما الى الهجرة الى العراق تحت ذريعة الهروب من الاضطهاد العثماني ؛ وكذلك شجعت بقايا العثمنة بالبقاء في العراق وقامت بتجنيس الاقوام والشخصيات القوقازية والاجنبية , وكذلك شجعت عملاءها ومرتزقتها في الجزيرة العربية وبقية البلدان والهنود بالهجرة الى العراق , والتجنس والانخراط في الحكومة السنية الهجينة ؛ وغضت الطرف عن هجرات الاكراد من ايران وتركيا الى شمال العراق . *أنشئت نظامٌ ملكيٌ هجين تابعٌ يفتقر للشرعية الشعبية والتأييد الجماهيري ؛ لأنه يرتكز على الجاليات الاجنبية والعوائل والشخصيات ذات الاصول غير العراقية . * انشئت اقتصادٌ عرافي مُنهوبٌ لصالح الشركات الأجنبية... ؛ اذ منحت امتياز نفط العراق لـشركة BP بنسبة 95% لصالح بريطانيا. *انشئت جيش محلي عميل وضعيف ويأتمر بأوامر الضباط الاجانب من بقايا العثمنة وابناء الفئة الهجينة ؛ ويعمل لصالح الاستعمار وقوى الاحتلال والاستكبار ؛ فقد درّبته بريطانيا لقمع الثورات والانتفاضات الشعبية العراقية ؛ وحماية الحكومات العميلة والمصالح الغربية في العراق ؛ مما رسّخ ثقافة القمع والعنف والظلم والجور في المجتمع العراقي . *رسخت الطائفية في العراق : اذ انشئت نظاما سياسيا طائفيا ؛ تتحكم فيه الاقلية السنية والمدعومة من الخارج ؛ بحيث اضطهدت هذه الاقلية الاغلبية العراقية الاصيلة ومن ثم بقية مكونات الامة العراقية ؛ مما أشعل صراعاً دامياً بين مكونات الامة العراقية . *الخاتمة: العراق ساحة معركة دائمة العراق الذي صنعته بريطانيا لم يكن دولةً بل "كياناً وظيفياً" لخدمة مصالحها. لقد غادرت القوات البريطانية رسمياً عام 1932، لكن مخابراتها ظلّت "اللاعب الخفي" في كل منعطف ؛ فقد دعمت انقلاب بكر صدقي 1936... ؛ وشجعت على مذبحة اليهود (الفرهود) 1941... ؛ و شاركت في الإطاحة بعبد الكريم قاسم 1963... الخ . نعم لم تكن بريطانيا محتلةً عابرةً للعراق، بل كانت "مهندس دولة" بمخالب استخباراتية... ؛ لقد صنعت كيانًا سياسيًا لخدمة مصالحها، لكنها خلَّفت وراءها "قنبلة موقوتة" من التناقضات الداخلية التي انفجرت – ولا تزال – بوجه كل من حاول السيطرة على هذا البلد الذي ظل إلى اليوم ساحة حرب المخابرات العالمية والاقليمية . لقد كان دور المخابرات البريطانية في العراق شبيهًا بعمل الجراح في غرفة معتمة، يفتح الجسد تحت وعود الشفاء، لكنه يتركه ينزف نزفًا لا يُحتمل وبلا تخدير...!! وهي لم تكن وحدها، لكنها كانت الأسبق، والأدهى، والأكثر احترافًا في استثمار هشاشة الهوية العراقية وتناقضات المجتمع... ؛ والسؤال الجوهري:هل خرجت بريطانيا فعلاً من العراق؟ أم أنها غيّرت أدواتها، من العملاء الصرحاء إلى "الوطنيين" المبرمجين على اللغة الإنجليزية و المجنسين ؟هل ما زالت هناك "بساتين لأبي ناجي"، لكنها اليوم محمية بالديمقراطية وحقوق الإنسان؟ إن ما يُحسب للمخابرات البريطانية أنها لم تكن عنيفة فحسب، بل كانت "ذكية" ؛ قهي تفكك الخصم من الداخل، تجعل أبناء الوطن هم السكاكين، وتجعل الخصم لا يميز بين المحتل والمُحرِّر، وبين الدخيل والاصيل، وبين العدو والحليف , وبين الوطني والخائن... . واليوم، بينما تتدخل المخابرات الأمريكية والغربية ومخابرات دول الجوار والمنطقة في العراق، فإنها تمشي على "طريق معبّد" وضعته المخابرات البريطانية... ؛ فالفوضى التي نراها ليست غياب تصميم، بل هي التصميم نفسه الذي أرادته الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس: دولة ضعيفة سهلة الاختراق، غنية بالموارد، فقيرة بالاستقرار والاستثمار .
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قطع أرزاق العراقيين: بين عبث البلديات وعجز الدولة عن ايجاد ب
...
-
وادي حوران محتل كالجولان من قبل الامريكان (6)
-
وادي حوران محتل كالجولان من قبل الامريكان (5) وادي حوران في
...
-
السياحة الدينية في العراق: بين الفرص المهدورة والموارد المنه
...
-
ثمن اغتصاب السلطة وثمن الخضوع لها: قراءة تاريخية في إرث الدو
...
-
الأمة العراقية : من متاهة الانتماءات المضللة إلى فضاء المواط
...
-
الدوافع السياسية والأمنية وراء إصرار الولايات المتحدة وحلفائ
...
-
الدوني العائد من خرائب الشام : التهديد السوري والخذلان العرا
...
-
السلطات الحكومية والشخصيات السياسية العراقية بين الاقنعة وال
...
-
الساكن في الغرفة السابعة و الاخيرة
-
من يطارد الفقراء؟ دولة بلا بدائل و-شفل- بلا رحمة
-
عقدة اللااتفاق العراقي: بين شتات الهوية العراقية وبوصلة الوط
...
-
عقدة الدونية في الوعي الجمعي الشيعي العراقي: تحليل نفسي- اجت
...
-
الإزاحة بدل الإعانة: قراءة نقدية في سياسة الهدم الحكومية دون
...
-
مرآة الله المكسورة : ياسر بين الشهوة المتفجرة والتوبة المتكر
...
-
الولاء الوطني: بين الانتماء الجوهري والانسلاخ المشبوه
-
الاحتلال الناعم والهيمنة الغربية في العراق : من الاستعمار ال
...
-
الاحتلال البريطاني وتأسيس منظومة النفوذ
-
سائقٌ بالصدفة... ورفيقُ الغبن
-
إزالة التجاوزات... حين تتقن الدولة قهر شعبها !
المزيد.....
-
-حوض الانتحار-.. فوران جليدي وموجة مياه متدفقة تهدد بفيضانات
...
-
أهرامات البجراوية في السودان في خطر
-
مواجهة بين السلاح و-العصي المقدسة- في كولومبيا.. -الحرس- يُل
...
-
قصف لا يهدأ وجوع مستفحل.. مقتل وإصابة العشرات بينهم أطفال في
...
-
زيلينسكي وقادة أوروبيون يتحدثون إلى ترامب قبل لقائه مع بوتين
...
-
بن غفير يطالب بهدم قبر عز الدين القسام في حيفا
-
مظاهرات أمام مبنى صحيفة نيويورك تايمز للتنديد باغتيال صحفيي
...
-
اجتماع أردني سوري أميركي في عمّان لبحث الأوضاع في سوريا
-
اشتباكات بين الجيش و-قسد- شرق حلب بعد محاولة تسلل
-
لبنان بين دعم حصر السلاح وتحديات الميدان
المزيد.....
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|