رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 09:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*مقدمة: أسس العقد والولاء الوطني
تظل قضية الولاء للوطن والانتماء إليه حجر الزاوية في استقرار أي مجتمع وسيادة أي دولة... ؛ إن العلاقة بين المواطن ووطنه، وما يترتب عليها من التزامات وحقوق، تشكل نسيجاً معقداً تتقاطع فيه المشاعر الفردية مع المصلحة الجماعية، والهوية الشخصية مع السيادة الوطنية.
مما لا شك فيه ان المواطن في أية دولة في العالم وتحت ظل اية حكومة مهما كانت نوعها وشكلها لا يجرؤ على التصريح علنا ببغض الوطن او كراهية المواطن الاخر الذي يعيش معه على نفس الأرض و يشاركه الهوية ذاتها ... ؛ وكذلك لا يعتز باي علم غير علم بلاده... ؛ وهو في كل احواله لا يستطيع الخروج من دائرة حكومته ورؤاها ومواقفها السياسية تجاه الآخرين والدول والشعوب الأخرى ... ؛ او لا يستطيع غض النظر عن مصالح بلده العليا والتي هي تمثل مصالحه الشخصية ومصالح اهله بطريقة غير مباشرة... الخ .
لذا تحرص الحكومات الوطنية على تربية المواطن على عشق الوطن ... ؛ وبغض الخيانة والعمالة , والتبعية للأجانب والغرباء فضلا عن الخصوم والاعداء ؛ بكافة اشكالها وصورها .
ففي الدول التي تحترم ذاتها، وفي المجتمعات التي تمتلك وعيًا سياسيًا حقيقيًا، لا يتجرأ المواطن على تمجيد أعلام الآخرين على حساب راية بلاده، فالوطن ليس مجرد جغرافيا، بل هو كرامة وهوية وذاكرة ومصير مشترك... ؛ أما حين يتحول الانتماء إلى مجرد خيار مصلحي أو نزوة مذهبية أو حنين عرقي، فإن أول ما يُدهس هو العَلم الوطني، وأول ما يُباع هو الولاء ... .
نعم في الدول السليمة، الانتماء الوطني يعلو فوق الخصوصيات الأيديولوجية والدينية والعرقية، ويُربى المواطن منذ نعومة أظفاره على أن الوطن ليس قابلاً للمساومة، وأن علم بلاده هو راية الشرف، وأن خيانة الوطن هي خيانة للأب، والأم، والدار، والخبز، واللغة، والقبور , والتاريخ , والسهول , والوديان , والانهار , والاشجار , والاحبة , والجيران , والعشيرة , والاقارب ... الخ .
فمن أبجديات الانتماء البشري أن يولد الإنسان وفي قلبه بذرة حب الأرض التي نشأ عليها، وتتشكل هويته الأولى من تراب وطنه، وملامح ناسه، ومزاج لغته، وخبز أمه... الخ ؛ وفي كل الدول، على اختلاف أنظمتها، لا يُجرؤ المواطن على المجاهرة بكراهية وطنه، ولا على تمجيد علمٍ آخر فوق راية بلاده كما اسلفنا ، إلا إذا كان قد فقد بوصلته الوطنية، أو باعها بثمنٍ بخسٍ لطائفةٍ أو عِرق أو دولار أو جهة خارجية ... الخ .
*جوهر الانتماء والولاء:
إن المواطنة ليست مجرد بطاقة هوية، بل علاقة عضوية بين الفرد والدولة، تقوم على الانتماء، والمشاركة، والولاء، واحترام السيادة، والتقيد بالحدود القانونية والسياسية التي ترسمها الحكومة الوطنية المنتخبة...؛ فالولاء للوطن ليس شعاراً مجرداً، بل عقداً وجودياً يربط المواطن بأرضه وهويته ومصيره... ؛ وهذه العلاقة تفرض على كل فرد أن ينظر إلى مصلحة بلاده كامتداد لمصلحته الذاتية، ومصلحة أهله وناسه ومجتمعه... ؛ فالدول الحية تصنع مواطنين أحرارًا، ولكن مخلصين ... ؛ نعم في الدول الوطنية الراقية ، لا تكتفي الأنظمة السياسية بإصدار القوانين، بل تسعى لتربية المواطن على حب الوطن، ونبذ الخيانة، ورفض التبعية للأجنبي، أيًّا كان شكله أو ادعاؤه أو لغته أو طائفته أو نسبه... ؛ فالسيادة الوطنية لا تُجزّأ، والانتماء لا يُقسم، ولا يمكن أن يجمع المرء في قلبه حب وطنه وخدمة خصومه او الاجانب والغرباء والغير في آن واحد...؛ كما اسلفنا .
في الدول الراسخة، تُعد الهوية الوطنية مظلة كبرى تجمع المواطنين تحت راية واحدة، وتصوغ شعورهم بالانتماء إلى أرضهم وشعبهم وتاريخهم ومصالحهم العليا، مهما اختلفت مشاربهم الفكرية، أو تنوعت معتقداتهم، أو تعددت طوائفهم وأعراقهم... ؛ ومن المسلمات البديهية في سلوك المواطن السوي في أي دولة بالعالم، ألا يُجاهر بعداوة وطنه، ولا يمتهن علم بلاده، ولا يُبدي انحيازاً سافراً لأي دولة أجنبية على حساب انتمائه وولائه الوطني ... ؛ كما اسلفنا ... ؛ فالمواطن الحقيقي، سواء أكان يعيش في دولة ديمقراطية أم دكتاتورية، في زمن الرخاء أو زمن المحن ... ، يبقى محكوماً بضوابط الانتماء السياسي والقانوني والثقافي التي ترسمها له دولته، وتفرض عليه ألا يضع مصالح دولة أجنبية فوق مصالح بلاده... ؛ بل إن الحكومات الوطنية الحقيقية، تحرص على تربية المواطن على احترام الرموز الوطنية، ورفض الخيانة، ومواجهة التبعية والانبهار بالآخر، وتحصينه من الشعارات الدينية والطائفية والقومية المغلفة بالفتنة والمغشوشة بالمصالح الخارجية والمتلبسة بالمخططات الدولية الخفية .
*آليات تخريب الوعي السياسي و أساليب النيل من الولاء الوطني :
غير أن أعداء الأوطان يلجؤون إلى حيل ملتوية لتقويض هذه الروح الوطنية... ؛ فهم يسعون إلى تمجيد العمالة والخيانة، وترويج الجهل وانعدام الوعي السياسي والوطني، مستغلين بذلك شعارات برّاقة تلوّح بالدين تارةً، وبالقومية أو العرق تارةً أخرى، وبالطائفية أو المذهبية تارةً ثالثة، أو حتى بالدعاوى الإنسانية والسياسية المزيفة... ؛ وهذه الشعارات، رغم ظاهرها الجذاب، تحمل في باطنها سموم التفرقة والتدمير، وتتعارض جوهرياً مع مصالح الوطن والمواطن الحقيقية... ؛ إنها ضرب من "كلمة حق يُراد بها باطل"، كما وصفها الإمام علي بن أبي طالب ، بل قد تصل الخيانة والسذاجة ببعضهم إلى تلفيق "كلمة باطل يُراد بها باطل" على مرأى ومسمع من الجميع دون حياء...!!
ديدن هؤلاء الاعداء شن الحروب الخفية والمتعددة ضد العراق والاغلبية والامة العراقية ؛ عبر استغلال الثغرات المجتمعية والدينية والقومية والتاريخية والسياسية ... الخ : وذلك من خلال تزيين الخيانة ... ؛ بتحويل العمالة إلى "واجب ديني" أو "التزام قومي"... ؛ و الترويج للجهل والخرافة ... ؛ وذلك بإضعاف الوعي السياسي والانتماء الوطني عبر شعارات طائفية أو عرقية أو مذهبية... ؛ وعبر الخداع المزدوج ؛ ويتم ذلك بتقديم أفكار هدامة تحت غطاء "الإنسانية" أو "التضامن"، وهي في جوهرها تتعارض مع المصلحة الوطنية... ؛ و استبدال الرموز: عبر رفع أعلام دول أخرى وصور زعماء اجانب وغرباء في الأرض الوطنية، وكأن المواطن بلا هوية أو راية أو رموز ... ؛ فضلا عن الانفصام المصلحي: التمتع بخيرات الوطن مع بيع الولاء لجهات أجنبية قد تسرق ثروات الوطن وبوضح النهار وبمساعدة هؤلاء المرتزقة ...!!
فالأعداء الدهاة لا يدخلون من الأبواب الواضحة، بل يسلكون الطرق الخلفية، وينفذون من الشقوق النفسية والاجتماعية والسياسية , ومن الكراهية المكبوتة، ومن الجهل، ومن الشعارات المزيفة المغلّفة بالدين تارة، وبالعرق والقومية تارة أخرى، وبالإنسانية الساذجة تارة ثالثة , كما اسلفنا ... الخ ، فيروّجون الخيانة بمسوح الدين، ويدعمون الانقسام بشعارات القومية، ويصوغون الانبطاح بمفردات الإنسانية والتعاطف الزائف... ؛ فلا شيء أكثر خداعًا من شعارٍ "نبيل ٍ" ظاهره النصرة، وباطنه تفتيت الوطن وسلب قراره ومحو رايته... ؛ ومن خلال هذه الادوات الشيطانية والاساليب الخفية الماكرة ؛ يُدجّن المواطن فكريًا، ويُنزَع من وعيه الوطني، ويُعاد تدويره ليصبح مطية لولاءات خارجية لا تمتّ بصلة لمصلحة وطنه العليا...؛ بل إنما تستهدف أمنه واقتصاده وتعليمه وحياته وخدماته وارضه وقراه ومدنه وشبابه واطفاله ومستقبل اجياله ...الخ ؛ وتؤدي إلى إلحاق افدح الأضرار المادية والمعنوية به وبالوطن...!!
*المواطن الساذج... الجندي المجاني في جيوش الأعداء
إن المواطن الساذج حين ينساق خلف الخطب المذهبية، أو الأناشيد القومية العنصرية، أو الدعوات الأممية الوردية، يظن أنه يجاهد ويناضل ويكافح من اجل الوطن او الحق ، بينما هو يهدم بيته بيديه... ؛ ولو كان خبيرا و يعي النتائج السياسية والوقائع والاحداث التاريخية ... ؛ لما قبل أن يُستدرج إلى هذا المسار الاعوج والفكر المنكوس ؛ فهذه الدعوات ظاهرها التضامن، وباطنها التفتيت؛ ظاهرها الحنان، وباطنها الخراب ؛ ظاهرها الوطنية وباطنها التبعية ... .
لو عَلِم هذا المواطن الساذج والبسيط الذي يسير خلف هذه الدعوات والشعارات والمخططات المنكوسة والعابرة للحدود، أن ما يرفعه من لافتات ورايات يَصُبّ في مصلحة من يسرق قوت أطفاله، ويخرب نظامه، ويفكك نسيجه الاجتماعي، ويطمس هويته الوطنية العريقة ، لما استجاب، ولما صدّق، ولما سار خلف تلك الرايات المنكوسة التي تُسمّى ظلمًا “أخوة” أو “نصرة”... الخ ؛ فكم من عراقيّ رفع راية دولة أجنبية وغريبة وخارجية باسم “التضامن او الاخوة في الدين او المذهب او العرق والقومية ”، ثم عاد إلى بيته ليجد راتبه مقطوعًا، أو ماؤه ملوثًا، أو مستشفاه مغلقًا، أو حدوده مُخترقة من قبل من يرفعون رايتهم ... !
وهكذا يتحول المواطن الساذج إلى أداة بيد الخارج من حيث لا يدري، فإذا به يروج لشعارات طائفية تُمزق وطنه، أو يدافع عن دول أخرى على حساب مصالح بلده، أو يرفع أعلاماً أجنبية ويهين راية بلاده الوطنية.
لو علم هذا المواطن حجم الضرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي تلحقه هذه السلوكيات بالوطن، لما انساق خلفها، ولما دعم القائمين عليها من زعماء طوائف وأحزاب وكتاب وإعلاميين ورجال دين... ؛ فهذه الشعارات ليست إلا وجهاً ناعماً لمشاريع التبعية والانقسام وطمس الهوية ... كما اسلفنا .
*حين تصبح أعلام الغير فوق الأوطان: خيانة وليست فجرد قضية تضامن انسانية او دعوة دينية وقومية ومذهبية :
إن أكثر مظاهر الانحطاط الوطني والانفصام الهوياتي شناعة ؛ هو حين يرفع المواطن علم دولة أجنبية او غريبة في بلاده، ويشتم بلاده، وشعبها , ومكوناتها , واقوامها ، وتاريخها، بحجج مذهبية أو عرقية أو عاطفية... ؛ فهذا السلوك لم يُشرّعه دين، ولم تُجِزه مروءة، ولم تُقِره الاعراف الانسانية والسيرة العقلائية قط ... ؛ وكأنه سفير للعدو أو مندوب خارجي متنكر بلباس شعبي... .
نعم من المظاهر المزرية للتبعية والارتزاق والخيانة ، أن ترى مواطنين عراقيين مثلاً يرفعون أعلام دول أخرى في المناسبات والفعاليات، بينما يُهملون علم بلادهم ويجاهرون بعداوته... ؛ فهل يُعقل أن ترى في فرنسا أو روسيا أو الصين مواطناً يرفع علم دولة أخرى في شوارع بلاده بدعوى الحب أو التقارب أو المذهب أو العرق والقومية ؟
بالتأكيد لا، لأن هذه الشعوب تحترم نفسها، وتدرك أن كرامة الأوطان لا تُمس، وأن الاعتزاز بالهوية الدينية او القومية ليس نزعة شوفينية عابرة للحدود والقارات بل جذور وانتماء ، وأرث وطني و وعي سياسي .
ومن أبرز تجليات هذا الانسلاخ عن الهوية والتبعية المذمومة أن نجد مواطناً يبذل الغالي والنفيس في تمجيد دول وشعوب واقوام أخرى، بينما يصب جام غضبه وحقده على وطنه وشعبه ... ؛ كما اسلفنا ؛ فما الدافع وراء هذا السلوك المتناقض؟
وما معنى أن يرفع عراقي علم دولة إقليمية أو غربية وهو يعيش تحت سقف العراق؟!
وما معنى أن يملأ الشوارع بصور زعماء أجانب وغرباء بحجة الدين والمذهب والعرق والقومية بينما يتنكر لدماء شهدائه ورايته الوطنية ؟
أليس ذلك يعد شكلًا من أشكال الانفصال الرمزي، والنكوص الهوياتي، والانحطاط السياسي؟
فمن يرفع علم غير بلاده في ساحات بلاده، ومن يمجّد زعيمًا غير زعيم وطنه، ومن يُنكر رموز بلده ويرفع أعلام الآخرين، فقد تنكر لأبسط أصول المواطنة، وخان دماء الشهداء، وتطاول على كرامة أهله ومواطنيه ... .
*الدفاع عن هذه المظاهر السلبية والسلوكيات المنكوسة :
ومن يدافع عن هذه السلوكيات المنكوسة مدعياً أن دافعه إنساني أو عقائدي أو قومي أو ديني أو مذهبي ، فهو إما مخدوع أو مرتزق أو ساذج أو عميل ... ؛ فإن كان يفعل ذلك لأجل المال، فقد باع وطنه بثمن بخس ؛ وهو مجرد اجير مرتزق ، وإن فعله بدافع مذهبي أو عرقي، فقد خان روح الدين والأخلاق، لأن لا دين ولا قومية تبرر احتقار وطنك، ولا شرع أو عرف يسمح لك بأن ترفع رايات الغير فوق راية بلدك وعلى ارضك ... ؛ فهو خائن لهويةٍ جامعةٍ تنوء بالتمزق... , نعم هي خيانة عمياء تُحطم المشترك الوطني وتستبدله بهويات متشظية قاتلة ... ؛ فهذه الانتماءات الفرعية، مهما عظمت، لا تبرر إهانة علم الوطن أو التنكر له، لأنها لا تلغي الهوية الوطنية الجامعة ولا تتعارض معها بالضرورة... ؛ فهؤلاء يريدون اختزال الهوية في مذهب أو عرق أو قومية أو جماعة ، متناسياً أنها لا تلغي الانتماء الوطني الكبير ولا تتعارض معه ؛ والدليل القاطع أن مواطني الدول الأخرى لن يقبلوا أبداً برفع علم بلد آخر على أراضيهم بدعوى الدين أو القومية، وسيستشهدون بدورهم بالقيم الدينية والأعراف التي تحض على حب الوطن والاعتزاز به... ؛ وإن كان متذرعًا بـ"الإنسانية" والكرم، فليعلم أن كرمًا على حساب الأهل ذُلٌّ وتبعيةٌ وخداعٌ للنفس... ؛ فهي رومانسية بلهاء لا يفهمها إلا من نسي أو أنكر أن السيادة لا تُوزع مثل الخبز على الأرصفة... .
*المعادلة الغاشمة وغياب التعامل بالمثل والاحترام المتبادل :
ولنسأل سؤالًا بسيطًا: هل يقبل أي مواطن في أي دولة أخرى أن نرفع علم العراق في شوارع بلاده على حساب علمهم , فضلا عن صور الشخصيات العراقية والجنوبية والفراتية الاصيلة والرموز الوطنية والدينية والسياسية ؟
الجواب معروف: لا... ؛ بل سيُوبّخنا باسم الوطنية , وسيُقابل بالرفض، والاحتقار، وربما يُتَّهم بالإساءة لكرامة الشعوب الأخرى ، ويستشهد بالنصوص الدينية والتقاليد القومية التي تحرّم المساس بالراية والهوية الوطنية لبلده ... ؛ فكيف نقبل ما لا يقبله غيرنا؟!
والأدهى من ذلك، أن هذا المواطن العراقي المنكوس – حين يُطلب منه رفع علم بلاده في تلك الدول الأجنبية التي يعشقها – يرفض بحجة عظمة تلك البلاد وسيادتها ... ؛ بينما هو يُوزّع كرامة وطنه وسيادته بالمجان في الشوارع والميادين... ؛ وإذا لم تحترم علمك وسيادة وطنك ... ؛ فلا تطلب احترامًا من أحد ... .
*الحدود بين التعاطف ضمن الأطر الوطنية والانسانية والدينية والقومية وبين الخيانة والتبعية والولاءات الخارجية :
ليس المطلوب أن نُغلق قلوبنا عن الشعوب الأخرى... ؛ نعم قد نتعاطف مع المظلومين... ؛ وقد تجمعنا أواصر الدين واللغة والقربى والتاريخ مع كثير من الشعوب والامم والدول , ومصالح مشتركة تربطنا بهم ... ؛ وعليه لا مانع من التضامن مع الشعوب المظلومة، أو التعاطف مع ضحايا الحروب والمجاعات , أو التعاطف مع قضاياهم الانسانية أو ان نتأثر بأحداثهم السياسية احيانا ، ولكن ضمن الأطر الوطنية والقانونية وحدود المعقول والمسموح ؛ وعلى ان يعني هذا التعاطف المشروع مطلقاً القيام بأي نشاط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي يلحق ضرراً بالوطن أو المواطن، أو يتعارض مع الهوية الوطنية والمصالح العليا للدولة، أو يخالف سياسة الحكومة الوطنية المنتخبة في شؤونها الخارجية... ؛ لا عبر مسخ الهوية وتفتيت الدولة... ؛ فلا يعني الانفتاح على العالم ودول الجوار والاقليم أن نفتح حدودنا لكل من هب ودب، ولا أن نتنازل عن مياهنا وأراضينا بحجة الكرم أو المروءة، كما يروج بعض دعاة “الإنسانوية الطوباوية” ممن لا يُدركون أن هذا الوطن إن لم ندافع عنه جميعاً، فسوف يُباع في مزاد الخيانة قطعةً بعد قطعة... ؛ فيشترط في التعاطف ان يكون ضمن الدائرة الوطنية الضيقة ... ؛ لا أن نملأ شوارعنا بأعلام أجنبية أو صور زعماء غرباء ومن دول أخرى، أو نغض الطرف عن انتهاكات واعتداءات تلك الدول والانظمة بحجة الشعارات الدينية والطائفية او بذريعة الدعاوى والافكار والأيدولوجيات القومية او غيرهما من الذرائع السياسية الواهية ... ؛ فالتعاطف المشروع لا يعني أن نُهدر مصالحنا الوطنية، أو نُسخّر مواردنا لخدمة الآخرين، أو نُنكر فضل بلادنا علينا... ؛ إن من يدعو إلى فتح الحدود باسم الكرم، أو التنازل عن المياه والأراضي بدعوى الأخوة، أو التساهل في السيادة بدعوى “النصرة”، هو في حقيقته إما مغرر به أو خائن أو ساذج حد البلاهة، لأنه يفرّط بأقدس ما تملك الدول: استقلالها وسيادتها ... ؛ بل يجب أن نُبقي الوطن هو نقطة البدء والانطلاق، لا نقطة الانسحاق والخنوع... ؛ فالتعاطف ممكن، والاهتمام ممكن، والمساندة الأخلاقية ممكنة... ؛ لكن لا يجوز أن تتحول هذه المشاعر إلى أدوات خرق للسيادة، أو شعارات تبرر التخلي عن الأرض والمصالح والسياسات الوطنية.
*المواطن بين الوطنية والتبعية الخارجية :
لقد بلغ الانحدار ببعضهم أن يدعو إلى فتح الحدود لكل من هب ودب باسم الكرم، أو التنازل عن السيادة والمياه والأراضي بحجة المساعدة... ؛ هذه ليست إنسانية، بل عبودية فكرية، وانتحار سياسي، وتمهيد للخراب العام... ؛ كما اسلفنا ؛ فلا يعقل أن يمارس المواطن العادي دور وزارة الخارجية، فيمد جسوراً مع أجهزة مخابرات أجنبية، أو يرفع أعلام دول معينة، أو يشجب أنظمة بحسب أهوائه الشخصية أو مصالحه الضيقة أو ارتباطاته الطائفية أو العرقية... , او ان يجتمع بالأجانب والغرباء في السفارات الاجنبية ؛ فالسماح بمثل هذه الممارسات الفردية الفوضوية سيفضي حتماً إلى انهيار مفهوم الدولة وسيادتها، ويحول المجتمع إلى فوضى عارمة بلا معايير وطنية أو ضوابط قانونية وسلوكية... ؛ فالتعاطف لا يعني أبدًا أن نسمح لأنفسنا بأن نمارس دور وزارة الخارجية أو المخابرات العامة، فنتبنى قضايا خارجية ونضحي بأمننا واستقرارنا وسيادتنا بدعوى "النخوة" أو "الغيرة" أو "الانتماء المذهبي"... كما اسلفنا ؛ إن فكرة أن يصبح كل مواطن "حكومة" و"دولة" و"علماً" لنفسه ليست إلا ضرباً من الخيال السقيم الذي لا يعشعش إلا في عقول السذج ومخططات العملاء.
*الخيار الواضح :
من يحب دولة أخرى أكثر من بلاده , ويعشق علمها حد التنكر لوطنه ولشعبه، ومن كان يرى أن ولاءه لدولة أخرى هو “رسالة مقدسة وعقيدة لا يمكن الانفكاك عنها ” ... ؛ فالحل الأمثل أمامه هو التنازل عن جنسيته والهجرة للعيش تحت ظل تلك الدولة وحكومتها وان يصبح احد رعاياها ... ؛ أما أن يأكل من خيرات العراق ويشتمه، ويشرب من مائه ويسقي به خصومه و قلبه وولاؤه لدولة أخرى ، ويهتف لرايات غير عراقية، ويخون قضايا وطنه تحت أي ذريعة، فهذه ليست حرية او سلوكيات انسانية مشروعة ، بل خيانة موصوفة بل عين الخيانة والنذالة والانحطاط الأخلاقي، المستنكر بكل المعايير والقيم الإنسانية والوطنية... ؛ ولعل هذه المهازل لا تجد لها مثيلا في اكثر شعوب العالم تخلفا وجهلا وسذاجة ...!!
*الخاتمة:
حبّ الوطن ليس شعارًا نرفعه حين نغضب أو نرضى، بل هو عقيدةٌ في الضمير، والتزامٌ بالهوية، وخطٌّ أحمر لا يُمتهن تحت راية أحد او بذريعة الدعوات الخارجية المغلفة بالشعارات الدينية والمذهبية والعرقية والقومية وغيرها ؛ فالدول لا تنهار بسبب الجيوش فقط، بل تنهار حين يتخلى أبناؤها عنها باسم الآخرين، ويتحولون إلى مواطنين بلا وطن، ورايات بلا هوية، وولاءات ممزقة... ؛ فلا كرامة لوطن لا تُحترم رايته، ولا قيمة لمواطن يجهل قدر وطنه... ؛ والذين يظنون أن الوطنية "ترف" أو "موضة قديمة"، هم أنفسهم الذين يسقطون عند أول اختبار حقيقي للولاء، ويبيعون بلادهم مقابل صورة أو راية أو شعار... ؛ فلنحذر أن نصبح أدوات في مشروع تمزيق بلادنا، فنحن في لحظة حاسمة... ؛ إما أن نرتقي إلى مستوى الوطن، أو نسقط إلى قاع التبعية والخيانة ... ؛ فالأوطان تُبنى بالوعي، لا بالشعارات... ؛ وتُصان بالعقل، لا بالعواطف الزائفة... ؛ وكل من لا يحترم علم بلده وسيادته واستقلاله ومصالحه ، لا يستحق جنسيته الوطنية، ولا ينبغي أن يُؤتمن على مستقبل أمة... .
إن التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمعات الوطنية اليوم هو الحفاظ على التوازن الدقيق بين الانفتاح الإيجابي على العالم والتعاطف المشروع ، والحفاظ على الهوية والولاء الوطنيين... ؛ إن خطاب الكراهية للذات الوطنية، والانسلاخ وراء شعارات طائفية أو عرقية أو "إنسانية" منقوصة (كالدعوات الساذجة لفتح الحدود دون ضوابط، أو التنازل عن الأراضي والمياه الوطنية بحجة مساعدة الآخرين)، يمثل خيانة للعقل والوطن معاً... ؛ إن قوة الأمم تكمن في وحدتها الداخلية ووعي مواطنيها، وتمسكهم بهويتهم المشتركة ومصالحهم العليا، دون تنكر للأواصر الإنسانية، ولكن أيضاً دون ذوبان في الآخر أو استلاب له... ؛ فالوطنية الرشيدة هي درع الحماية الحقيقية لمصالح الشعب ومستقبل أجياله... ؛ فقد أصبحت بعض الدعوات – تحت شعارات براقة – تمثل خطراً وجودياً , ومنها على سبيل المثال وليس الحصر : الدعوة لفتح الحدود دون ضوابط بحجة الزيارات الدينية او غيرها , أو المطالبة بالتنازل عن الثروات الوطنية (كمياه العراق) او غض الطرف عن تجاوزات دول الجوار بدعوى "مساعدة الجيران الاشقاء "... ؛ او فتح الابواب مشرعة امام استقبال الاجانب والغرباء والعمالة الوافدة بل وتجنسيهم بسرعة البرق ... كما اسلفنا ؛ فهذه المهازل لا تقبلها أمة واعية، وتستدعي يقظةً وطنيةً تحمي الهوية والمصير... ؛ فالوطنية الحقة هي التزامٌ بالهوية الجامعة، وصونٌ للسيادة، ورفضٌ لأي شكل من أشكال الاستلاب الفكري أو السياسي تحت أي غطاء... ؛ وليكن في علم البعض ؛ انه عندما يرفع اعلام البلدان الاخرى او يصرح لصالحها او ينصر قضاياها الخاصة ؛ انما يستهدف نشر التعاطف معها على اوسع نطاق داخل العراق ... ؛ فهو واهمٌ إن ظن أن رفع العلم الأجنبي سيولد تعاطفاً، بل على العكس، فإنه يثير حفيظة الوطنيين ويؤجج الصراعات ويمزق النسيج الاجتماعي ويضعه في دائرة الخيانة والتبعية والسذاجة .
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟