أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - رياض سعد - الإزاحة بدل الإعانة: قراءة نقدية في سياسة الهدم الحكومية دون ايجاد البدائل الانسانية















المزيد.....

الإزاحة بدل الإعانة: قراءة نقدية في سياسة الهدم الحكومية دون ايجاد البدائل الانسانية


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8419 - 2025 / 7 / 30 - 09:17
المحور: حقوق الانسان
    


في مشهد يتكرر عند كل استحقاق انتخابي أو لحظة ضغط شعبي أو حادثة سياسية خارجية ، تنطلق جرافات الدولة و( شفلات ) أمانة العاصمة و اليات بلديات المحافظات الوسطى والجنوبية، لا لتبني أو تطوّر أو تعمّر... ، لا تعود لتُصلح طريقاً متهالكاً، أو تُنشئ حديقة لأطفال، أو تُنظّم أحياءً سكنية، بل تعود بهمجية بيروقراطية لتقوم بدورها السنويّ المثير للجدل: إزالة "التجاوزات" على أملاك الدولة... ؛ تعود لتهدم البيوت الشعبية والمحال الصغيرة بذريعة "إزالة التجاوزات"... ؛ كما لو كانت تحمل رسالة مفادها: "نحن هنا... لكن ضدكم"... ؛ فتندفع الجرافات لهدم ما تبقّى من أحلام البسطاء، لا لمصلحة القانون أو تنفيذاً للتخطيط الحضري، بل تنفيذاً لنهج مزمن من الإهمال والتعسّف، وكأن الجرح الجنوبي لم يكفِ نزفًا، أو أن صبر الفراتيين لا يزال يحتمل مزيدًا من الطعن... ؛ وكأن هذا الوطن الذي يئنّ من الفقر والبطالة وانعدام السكن بحاجة إلى المزيد من الإذلال لا إلى حلول جذرية.
ويا للمصادفة! دائمًا ما تأتي هذه الحملات قبيل الانتخابات، وكأنّ يد الدولة لا تتحرك إلا حين تريد إثبات سلطتها على أضعف أبنائها... ؛ وكأن نكء الجرح الجنوبي، واستفزاز الفراتيين هو شكل من أشكال الدعاية الانتخابية أو بروفا للانضباط الوهمي...!!
*غياب الدولة حين تكون الجرافات بديلاً عن السياسة والخدمات
تُنفّذ هذه العمليات غالبًا بلا سابق إنذار، وبدون بدائل واقعية أو خطط إسكانية أو حلول انسانية ، ولا تسبقها دراسات اجتماعية أو اقتصادية، فتتحول الدولة من كيان راعٍ للمواطن إلى خصم له، تتفنّن في نكء جراحه، خصوصًا في الفرات الأوسط والجنوب وبغداد ... ؛ وبينما يُهدم بيت بسيط شُيّد بالكدّ والحرمان وتحت الشمس اللاهبة، تعلو صرخة المواطن المكروب التي باتت شعارًا مألوفًا في الأحياء الفقيرة: (( إحنا مو ضد الدولة ولا ضد القانون... بس وفّروا النه البديل... والله تعبنا )) .
عبارة المواطن المقهور، المتشبث بباب رزقه أو سقف داره البسيطة ؛ تختصر التاريخ العراقي الحديث منذ تأسيس الدولة عام 1921، ذلك التاريخ الذي لم يُعطِ المواطن بيتًا يسكنه، ولا عملاً يستقر به، ولا أمانًا يلوذ إليه... ؛ هذه العبارة، بمثابة ملخص للمسرحية العراقية المكررة والدراما الوطنية المتجددة ، حيث تعاني الأجيال المتعاقبة – من الأجداد إلى الآباء فالأبناء واظن انها سوف تلحق ولد الولد – من ذات الإقصاء والتهميش والافقار والاهمال ... ؛ لقد تأسست الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وما زالت سياسات الإيذاء والتوريط تمارس بحق المواطن الاصيل حتى اليوم ... ؛ اذ يُنظر إلى هذه الحملات، لا كإجراءات قانونية روتينية، بل كسياسات قصدية منكوسة تستهدف "نكأ الجراح" في المناطق الجنوبية والفراتية ومناطق الاغلبية في بغداد وغيرها ، مستغلةً حساسيات تاريخية عميقة... ؛ وبدلاً من معالجة جذور الأزمة، تقدم الحكومة حلولاً تزيد الطين بلة، ومعالجةً الأخطاء بأفدح منها.
المواطن الفقير في هذه البلاد لا يبني قصرًا ولا فندقًا، بل يضع طابوقة فوق طابوقة، ودرهمًا فوق درهم، ويجمع الفتات من عمله الشاق ليوفر لأسرته مأوى، حتى وإن كان من الطين أو "الچينكو" أو البلوك ... ؛ ثم تأتي الدولة، لا لتُسعفه، بل لتهدم عليه تعب السنين، متذرعةً بعبارة: "إزالة التجاوزات."... ؛ نعم إنهم اشتروا أرضهم من جهات حزبية وفصائلية نافذة، وبنوا بيوتهم بعرق جباههم، دينارًا بدينار، وحلمًا فوق حلم... ؛ ثم بعد سنين من التعب والتقشف والعمل الجماعي، تأتـي الحكومة لتفاجئهم بقرار الهدم، وكأنها تقتصّ من الفقير لا من حيتان الفساد واصحاب القرار والمتنفذين ...؟!
*التاريخ يكرر نفسه... ولكن بمآسٍ متراكمة
فمنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 لم تكن فكرة "المواطَنة المتساوية" جزءاً من العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم... ؛ والمواطن العراقي كان ولا زال يعاني من سياسة إقصائية وتوزيع غير عادل للثروات والفرص والوظائف ... ؛ لم يملك البيت، ولا الأرض، ولا الأمان الاقتصادي... ؛ و يُخيّر دائمًا بين العيش في الإيجار أو في بيوت طينية أو من صفيح وخشب، رغم شساعة الأراضي وثراء البلد بالموارد والخيرات ... ؛ وفي المقابل، منحت الأنظمة السياسية المتعاقبة الأراضي والمزارع والامتيازات إلى "الطفيليين والمرتزقة والمنكوسين ": من موظفي الاستعمار، وإلى الوافدين من الخارج، وإلى الموالين للأنظمة السياسية العميلة ... ؛ فمنذ البداية، توزّعت الأراضي الواسعة والمروج الخضراء على أتباع الاستعمار والمترفين والغرباء، فيما بقي العراقي الأصيل يتنقّل من بيت إيجار إلى آخر، حالمًا بقطعة أرض تؤويه... ؛ وحين حصل على تلك الأرض أخيرًا، كانت نتاج صفقة بينه وبين الأحزاب والتيارات والمكاتب الاقتصادية، لا صفقة بينه وبين دولة ترعاه...!
العراقي "الأصيل" ظلّ يترنّح بين الإيجارات والانتقالات، في ظل وفرة أراضٍ شاسعة كان الأولى أن تكون من حقه، لكنها مُنحت مجانًا لطبقات هجينة: لمرتزقة الاحتلال، وموظفي الاستعمار، وعملاء الحكومات، والوافدين من كل صوب وحدب... كما اسلفنا ؛ وعلى امتداد القرن المنصرم والحالي ، تكررت المعادلة نفسها: الغريب والدخيل والهجين يُكرّم، والمواطن الأصيل يُعاقب ويقصى ويهمش .
إن كثيرًا من العراقيين اليوم لا يحلمون بثروة أو رفاه، بل بمكان صغير يلتجئون إليه من حرّ الصيف وبرد الشتاء... ؛ وما أن يحصلوا عليه بعد سنوات من الكدّ، حتى تأتيهم الدولة لتقول: "أنت متجاوز... وعليك أن تُزاح...؟!"
قد تنصلت كافة الحكومات المتعاقبة البائدة والحالية من واجبها الأساسي في توفير السكن اللائق عبر مجمعات سكنية أو توزيع أراضٍ منظمة وبتكاليف معقولة للمواطنين او مجانية للمواطنين لاسيما الفقراء والمساكين منهم باستثناء حكومة الزعيم عبد الكريم ؛ وان كانت هنالك اكثر من علامة استفهام حول الية التوزيع وكيفيته وتفاصيله ... .
ولعل سائل يسأل : ما الذي فعلته الحكومات المنتخبة بعد عام 2003 لأبنائها المكدودين والمنكوبين والفقراء والمضحين والمساكين و(المكاريد) ؛ وما الذي قدمته لأغلب عوائل الاغلبية وضحايا النظام البعثي المجرم والانظمة الطائفية البائدة ؟
لا شيء سوى مزيد من الهدم، ومزيد من القسوة، ومزيد من الفقر والتهميش والتجهيل والاهمال , ومزيد من تحميل المواطن البسيط تبعات غياب الدولة نفسها...!!
فوظيفة هذه الحكومات تختزل في ما يلي : تُهدم الأسواق، تُغلق المحلات، تُسوّى البيوت بالأرض، رغم أن أصحابها لم يحصلوا على قطعة أرض من الدولة، ولم يستفيدوا من إسكانٍ منخفض التكلفة، ولم يُعرض عليهم حتى خيار التقسيط , ولم توفر لهم الحكومات الوظائف او المشاريع او الاعمال اللائقة أو الاعانات والمنح بصورة شاملة وعادلة ... !
*مفارقات معيشية تُفقد الوطن معناه ... اقتصاد هشّ... وإرادة معدومة
في الوقت الذي كان من المفترض أن تكون الدولة العراقية قد طوّرت القطاع الخاص، وشجعت الصناعة الوطنية ،و احتوت البطالة، ونظّمت أسواق العمل...؛ واذا بها فتحت الأبواب على مصاريعها أمام الاستيراد العشوائي، ودمرت المهن والحرف، وأدمنت على استيراد العمالة الأجنبية، فيما أبناؤها يتكدسون على الأرصفة أو داخل المقاهي...!!
حين يعمل الشاب العراقي وبصفة عقد في دائرة المرور في شمس تموز الحارقة ، مقابل راتب لا يتجاوز 400 ألف دينار، بينما يتقاضى العامل الأجنبي آلاف الدولارات، تكون هذه ليست مشكلة "سياسة"، بل كارثة "عدالة"... ؛ وحين تفتح الحدود أمام البضائع الرديئة، ويتم قتل الصناعة المحلية، ثم يُلام المواطن على فقره وبطالته، فالمشكلة ليست في الاقتصاد، بل في من يُديره.
حتى العمل اللائق ، ذلك الحق البديهي للمواطن ، صار للعراقي حلمًا صعب المنال... ؛ فالشاب العراقي الذي يحمل شهادته ويطرق أبواب الوزارات يُعيّن في وظيفة مرهقة براتب لا يسد الرمق، في حين تُفتح أبواب الاستثمار للعمالة الأجنبية، التي تحظى بالامتيازات والرواتب العالية، في مفارقة لا تُصدّق إلا في العراق : حيث تُفضَّل يد الأجنبي على ابن البلد...؛ فالعمل الشاق والمردود الهزيل كان حظ العراقي، بينما تُمنح الامتيازات، والإقامات، وفرص العمل المربحة للوافدين واللاجئين والمستثمرين الأجانب... ؛ و ما زالت هذه "القسمة الضيزى" والمعادلة الغاشمة قائمة الى هذه اللحظة ، حيث يُستقدم عشرات الآلاف من الأجانب سنوياً بحجج الاستثمار والعمالة، بينما تُهمش الكفاءات والطاقات العراقية، وتُدفع نحو البطالة والإدمان على وسائل التخدير المختلفة.
عدالة مقلوبة... تبيع الأرض ثم تهدم ما بُني عليها
في واقع مروّع، لا يكتفي النظام السياسي بهدم بيت المواطن البسيط، بل يكون قد ساهم من قبل، بشكل مباشر أو غير مباشر، في بيع الأرض له عن طريق سماسرة الأحزاب والفصائل والحركات والشخصيات السياسية والمتنفذة ... ؛ فالمواطن يشتري الأرض بسعر مرتفع ، ثم يبني بيته تدريجيًا بجهده وجهود افراد عائلته احيانا ، ويدفع من دمه أثمان أعمدة الكهرباء وأنابيب الماء والمواد الأولية وتبليط الشوارع ... الخ ، ثم... تهدم الدولة كل ذلك بجرة قرار... ؛ وهذه المصيبة ليست مأساة فحسب، بل سرقة مزدوجة: من الدولة ومن وكلائها في السوق السوداء...!!
الخسارة المزدوجة... ونهج العقوبة الجماعية
الفضيحة الأكبر تكمن في أن الدولة نفسها - أو المتنفذين المنتمين إليها - قد باعت هذه الأراضي لمواطنين يبحثون عن مأوى، ثم عادت لتعاقبهم على ما اقترفته هي عبر وكلائها.
لقد دفع العراقي المكرود ثمن الأرض، وثمن أعمدة الكهرباء، وثمن الحصى والطابوق والإسمنت، ثم جاءته الجرافة فمزقت كل شيء، بلا إنذار، بلا محكمة، بلا بديل.
هذه ليست مجرد إزالة "تجاوز"، بل عملية سطو مزدوجة: على جيب المواطن، وعلى كرامته.
إنها سياسة تعذيب جماعي بلا رصاصة واحدة.
نعم انه الاستغلال المزدوج : اذ تتحكم الأحزاب والتيارات السياسية والفصائل المسلحة والشخصيات النافذة في أراضي الدولة... ؛ اذ يشتري المواطن المغلوب على أمره قطعة أرض منهم بأسعار باهظة، ثم يبدأ رحلة عذاب أخرى من ادخار وبناء ذاتي، غالباً دون خدمات أساسية... وبعد أن يبني مسكنه البسيط بدم قلبه ومعاناة أسرته، تأتي آليات الهدم الحكومية لتدمر هذا المسكن وتلقي به وعائلته في العراء، بلا اكتراث لوجود مرضى أو معاقين أو أطفال ... ، إنها كارثة إنسانية وأخلاقية بكل المقاييس...!!
والأدهى من ذلك، أن هذه البيوت التي تُهدم أحيانًا تعود لعوائل شهداء ضحّوا بأنفسهم من أجل الوطن، وكأن التكريم يتم عبر تشريد الأطفال والأمهات وإلقائهم في العراء تحت الشمس اللاهبة... أيّ نُكرانٍ أكثر من هذا؟!
أو فقراء لا يملكون مأوى غيرها...؛ اذ تُزال بيوت شهداء، تُغلق محلات رزق، تُهدَم أكواخ بناها الناس بعرقهم ودموعهم، في مشهد يُشبه تهديم ما تبقّى من الثقة بين المواطن والسلطة... ؛ فهل هذا هو شكل التكريم الذي تُنتهجه الدولة؟
أن تردّ دم الشهيد بتهديم بيت أهله؟
أي وطن هذا الذي يجعل من مواطنيه "سائبين"، لا مأوى لهم، في عزّ القيظ، وكأنهم حيوانات ضالة؟!
*الخسائر المتراكمة والفرص الضائعة:
* خسائر المواطن: يفقد المواطن الأرض التي دفع ثمنها غالياً، ومواد البناء، والجهد والوقت الذي استثمره، ليصبح بلا مأوى ومصدر رزقه مدمراً، مضافاً إلى جيش العاطلين.
* خسائر الدولة: تهدر الدولة أموالاً طائلة في عمليات الهدم نفسها، بينما تضيع عليها إيرادات ضخمة كان يمكن جنيها لو تم تنظيم بيع هذه الأراضي بشكل قانوني وشفاف لذات المواطنين منذ البداية، مع فرض رسوم وضرائب على الخدمات المقدمة لهم، مما يدعم الخزينة العامة.
* فقدان الشرعية: تزيد هذه السياسات من اتساع الهوة بين الدولة والمواطن، وتقوض أي شعور بالعدالة أو الانتماء، وتغذي السخط والغضب الاجتماعي.

*مفارقات عجيبة
أليس من المفارقة أن الدولة التي تتقاعس عن بناء مجمعات سكنية أو توزيع الأراضي بشكل عادل، تسارع فقط في إصدار أوامر الهدم؟!
أليس من العبث أن تبيع الأحزاب الأرض للمواطن، ثم تهدمها الدولة ذاتها؟!
أليس من الظلم أن تشتري العائلة أعمدة الكهرباء ومستلزمات البناء، وتدفع الرشى - لهذه الدائرة وتلك الجهة الحكومية - والرسوم، ثم تُرمى في العراء؟!
*الدولة الغائبة... والحلول الموءودة
ماذا لو كانت الدولة قد منعت بيع الأراضي غير القانونية من البداية؟
ماذا لو وضعت آلية لتوزيع السكن بمقابل رمزي، وربطته بشبكات خدمات ومدارس ومستشفيات ... الخ ؟
ماذا لو اعتبرت المواطن شريكًا لا متجاوزًا، وقررت أن تُنظّم لا أن تهدم؟
في كل دول العالم، تُبنى العشوائيات حين تغيب الدولة، لا حين تكون حاضرة... ؛ والعراق لا يفتقر للأرض ولا للمال، بل يفتقر للإرادة والعدالة والحكومة الخدمية والمهنية والنزيهة والوطنية .
أما الأموال التي خسرها المواطنون بسبب الهدم، فهي مليارات طارت مع الغبار، لم تُسجّل في دفاتر الدولة، ولم تُعوّض بها عائلة، بل أصبحت مجرد أرقام في جداول الخسارة الجماعية المتكررة والمستمرة .
متى تعقل الحكومة قبل أن تُبتر أوصال المجتمع؟
إنَّ إدارة الأزمات عبر القمع بدل الحلول، والهدم بدل التخطيط، تفضي إلى ما هو أخطر من الفقر: إلى انعدام الثقة بالوطن ذاته... ؛ بل حقد المواطن على الحكومة والوطن معا ... .
من قال إن القانون لا يرحم؟ بل إن من يطبقه دون عدالة هو من لا يرحم.
ومن قال إن المواطن يُحبّ التجاوز؟ بل يُجبر عليه حين يُسحب البساط من تحته.
نعم، لكل داء دواء، ولكل تجاوز حل... لكن لا دواء في دولة تُعاقب الفقير لأنه فقير، ولا حل في منظومة ترى في المواطن عبئًا وعدوا لا شريكًا ومواطنا .
*البديل موجود... ولكن لا إرادة للحل
إن الكارثة لا تكمن في التجاوز نفسه بقدر ما تكمن في غياب البدائل... ؛ فلو كانت الدولة جادة في التنظيم الحضري والإصلاح، لأعدّت مشاريع إسكانية مخططة، وقدّمت قروضًا سكنية حقيقية، ووزعت أراضي بطريقة عادلة وشفافة... ؛ لكنها لا تفعل ذلك... ؛ بل تفتح الحدود أمام البضائع الرديئة، وتدمّر الصناعة الوطنية، وتحوّل شبابها إلى عاطلين يدمنون المقاهي والمخدرات، ثم تأتي لتجردهم حتى من "كشك رزق" أو سقف يأويهم!
إن الحلول البديلة ليست معقدة... ؛ اذ يمكن ببساطة تنظيم آلية لبيع الأراضي للمواطنين بسعر رمزي، على أن تُزود بالخدمات ويُحصَّل منها رسوم تنفع الخزينة... ؛ و بذلك تربح الدولة مرتين: مالياً واجتماعياً... ؛ كما يمكن منع بيع أراضي الدولة من قبل المتنفذين، وبذلك تُغلق أبواب الاحتيال، وتُحمى الأموال والجهود.
إلى متى تستمر الدولة بإدارة الأزمة بهذه الطريقة الكارثية؟
هل يعي المسؤول العراقي أن أموال الفقراء هذه، التي تذهب هباءً بسبب الهدم، تقدّر بمليارات الدولارات سنويًا؟
هل يشعر بشيء من الحرج أو الخجل أمام حجم الخسائر والدموع والعرق الذي يُهدر دون رحمة؟
ومتى نتعلم أن لكل داء دواء، ولكل "تجاوز" بديل لائق؟
ومتى تُدار الأزمات من منطلقات وطنية وإنسانية وليس انتقامية أو نفعية أو اعتباطية وارتجالية ؟
إنّ الوطن لا يُبنى بهدم بيوت ومحلات واكشاك الفقراء، بل بخدمتهم... ؛ ولا يزدهر بهدم أكواخهم، بل بحمايتهم من الحاجة والظلم... ؛ وفي النهاية، فإن الفقر ليس جريمة... أما تجاهله، فهو الجريمة الكبرى.
*أسئلة مشروعة بلا إجابات
ماذا لو أن الدولة منعت الفاسدين من بيع أراضي الدولة منذ البداية؟
ماذا لو نظّمت حملات وطنية للإسكان الشعبي المدعوم؟
ماذا لو بُنيت ضواحٍ متكاملة بمساعدة المصارف الحكومية ومؤسسات الإعمار؟
ماذا لو كانت هناك إرادة لتوزيع الأرض مع الخدمات؟
ومتى يدرك الحاكم أن إزالة التجاوز بلا بديل ليس حلًا... بل جريمة؟
الخلاصة:
السؤال المحوري: لماذا لا يكون هناك بديل؟
يتكرر السؤال المُلِحّ: لماذا لا توجد حلول بديلة عن الهدم؟ لماذا لا تمنع الدولة التجاوز من جذره بمنع بيع أراضي الدولة بشكل غير قانوني من قبل "حيتان الفساد" أولاً؟ لماذا لا تعالج الأزمة السكنية قبل استفحالها؟ لماذا لا توفر بدائل سكنية أو تمويلية للمتجاوزين قبل شن الحملات؟ "من المعروف ان لكل داء دواء... لماذا لا يكون في العراق لكل إزالة تجاوز بديل؟"
إن حلقة الإقصاء العمراني في العراق ليست مجرد إخفاق إداري، بل هي نتاج لسياسات تمييزية تاريخية، وفشل ذريع في الحوكمة، وفساد مستشري يستغل حاجة المواطن... ؛ الحملات التدميرية المتكررة، خاصة قبيل الاستحقاقات الانتخابية، تعكس استمرار النهج القائم على القمع بدلاً من الحل، وعلى استهداف الضعفاء بدلاً من محاربة الفاسدين.
إن معالجة هذه الأزمة المزمنة تتطلب إرادة سياسية حقيقية لتفكيك شبكات الفساد المسيطرة على الأراضي، ووضع سياسات سكنية واقتصادية عادلة تضع المواطن العراقي وحقه في السكن الكريم والعمل اللائق في صدارة أولوياتها، وتوفر البدائل الواقعية قبل اللجوء إلى آليات الهدم المدمرة... ؛ دون ذلك، ستستمر "المهزلة العراقية" والمأساة الإنسانية لأجيال قادمة.
*الوطن لا يُبنى بالهدم
إنّ الأوطان لا تُبنى بالشفلات، ولا تترسّخ السلطات بالبطش... ؛ بل تبنى بالعدالة، وبالبدائل الواقعية، وبالسياسات التي ترى في المواطن شريكًا لا خصمًا.
وكلما ظلّت الدولة تعالج الأخطاء بأخطاء أفدح، وتُكرّر ممارساتها الإقصائية تحت شعارات كاذبة، فإنها تحفر خندقًا أعمق بينها وبين مجتمعها.
فهل من سامع؟
هل من سياسيّ شريف يضع السؤال الأهم على الطاولة:
"لماذا لا يكون لكل إزالة تجاوز... بديل كريم؟"



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرآة الله المكسورة : ياسر بين الشهوة المتفجرة والتوبة المتكر ...
- الولاء الوطني: بين الانتماء الجوهري والانسلاخ المشبوه
- الاحتلال الناعم والهيمنة الغربية في العراق : من الاستعمار ال ...
- الاحتلال البريطاني وتأسيس منظومة النفوذ
- سائقٌ بالصدفة... ورفيقُ الغبن
- إزالة التجاوزات... حين تتقن الدولة قهر شعبها !
- فلول الطائفية والدونية والبعث: خيانةٌ متجددة ومواجهةٌ لا بدّ ...
- الضفاف لا تُغوي... لكن السفن لا تُقاوم
- النكبة المستدامة : التغول التكفيري و الطائفية السنيّة كأداة ...
- مقولة وتعليق / 60 / علة الحب و نبض القلب
- أطياف اللقاء في مملكة الظل
- دوافعُ الانسلاخ عن الهوية والذات الجمعية... من الطمع إلى الج ...
- الفلول الارهابية والعصابات الاجنبية على الأبواب: مخاطر الزحف ...
- دونية الاغلبية العراقية: خيانة الذات وتغذية مشاريع الأعداء
- الكتابة الملتزمة: بين ضريبة الكلمة والجهر بالحق وبناء الهوية ...
- الاحتلال الناعم ونهب الثروات بواجهات محلية .. العراق نموذجًا
- صرخة العقل العراقي : بين وجع الهوية والضياع وشرف المكاشفة وا ...
- تموز الحارق والكهرباء الغائبة: العراقي بين لهيب الصيف وغياب ...
- أحمد الجولاني: الوجه المحلّي لمشروع تكفيري اقليمي
- -الدوني... وين وجهك؟!- .. وجهك في قعر الخيانة، وذيلك في كف ا ...


المزيد.....




- اعتقال نجم كرة السلة السابق أريناس بتهمة القمار
- بلجيكا تحيل على الجنائية الدولية اتهامات بجرائم حرب ضد إسرائ ...
- ويتكوف يلتقي نتنياهو وعائلات الأسرى تدعو لمظاهرة
- المجاعة في غزة توسع الشرخ بين -ماغا- الداعمة لترامب وإسرائيل ...
- مستشفيات غزة تسجل حالتي وفاة بسبب المجاعة وسوء التغذية خلال ...
- -الأونروا-: جيل كامل في غزة مهدد صحيا ونفسيا بسبب سوء التغذي ...
- البرتغال تعلن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة خ ...
- أوكرانيا تعيد استقلالية هيئات مكافحة الفساد
- بين ضجيج الادعاءات وموت الجوعى: المجاعة تتوسع في قطاع غزة رغ ...
- تزامناً مع لقاء نتنياهو وويتكوف.. أهالي الأسرى لدى حماس يتظا ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - رياض سعد - الإزاحة بدل الإعانة: قراءة نقدية في سياسة الهدم الحكومية دون ايجاد البدائل الانسانية