أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - رياض سعد - آليات التفكير بين الإبداع والتسطيح: دراسة في أنماط التفكير ومعوقاته















المزيد.....


آليات التفكير بين الإبداع والتسطيح: دراسة في أنماط التفكير ومعوقاته


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 11:03
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


*مقدمة
إنّ التفكير ليس مجرّد عملية ذهنية ترفيهية نمارسها عند الفراغ، بل هو القاطرة التي تجرّ خلفها سلوكنا، قراراتنا، معتقداتنا، وحتى مصائرنا… ؛ وما يُدهش في أمر التفكير أنّ الجميع يدّعي امتلاكه، لكن القليل فقط من الناس يمارسونه بوعي ومنهج… . نعم : يعدّ التفكير حجر الأساس في البناء النفسي والاجتماعي والمعرفي للإنسان، إذ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجميع مجالات حياته، من اتخاذ القرار الفردي إلى رسم السياسات العامة… ؛ ومع أن الإنسان كائن مفكر بطبيعته، إلا أن أنماط التفكير تختلف من شخص إلى آخر، بل ومن ثقافة إلى أخرى… ؛ هذه الدراسة تسعى لفحص أبرز آليات التفكير وكيفية تشكيلها ، وتحليل المعوّقات النفسية والاجتماعية والمعرفية التي تقف عائقاً أمام التفكير المنتج والتي تحدّ من فاعلية التفكير النقدي والإبداعي ، كظاهرة التسطيح والتعميم والتفكير الارتغابي . كما تتعرض للفرق بين التفكير الواقعي والتفكير السطحي، وتبيّن كيف يرتبط التفكير العميق بالإبداع.

وتعتبر قدرات التفكير جوهر التميز الإنساني وأساس تطور الحضارات، إلا أن هذه القدرات لا تنمو تلقائياً، بل تحتاج إلى فهم وصقل. ففي عالم يزداد تعقيداً، يصبح امتلاك أدوات التفكير الفعال والإبداعي ليس رفاهيةً، بل ضرورةً للنجاح والفهم العميق للحياة… ؛ نعم : التفكير هو جوهر تميز الإنسان، وأداة بنائه الحضاري، لكنه ليس ملكةً فطريةً تعمل بكمال دائم… ؛ فكما يحتاج الجسد إلى تدريب، يحتاج العقل إلى فهم آلياته ومعوقاته. في زمن طغت فيه السرعة والسطحية، أصبح تطوير مهارات التفكير الفعال والإبداعي ضرورةً وجودية للفرد والمجتمع.

فهل كل تفكير هو تفكير سليم؟ وهل كثرة المعلومات تعني عمقًا؟ وما الفرق بين التفكير العميق والتفكير السطحي؟ وما علاقة كل هذا بالإبداع والتجديد؟

*أهمية الدراسة:

تُسلط الضوء على الحاجة الملحة لإعادة تربية العقل على التفكير المنهجي بعيداً عن الانفعالية واليقين الزائف والعواطف والقناعات النفسية ، في ظل ما يعانيه الواقع العراقي من أزمة فكرية ومعرفية واضحة.

وسنحاول في هذه المقالة الموجزة أن نخوض في مفاصل علم النفس المعرفي والتنمية الذاتية، مستعرضين أبرز الآليات الذهنية والمعوقات المعرفية التي تقف حجر عثرة في طريق الفكر النقدي والمنتج.

* الفصل الأول: الإطار النظري للتفكير وآلياته

1- مفهوم التفكير

يعرف جون ديوي التفكير بأنه “العملية التي بفضلها نُراجع معلوماتنا ونُعيد تنظيمها من أجل الوصول إلى نتائج جديدة”… ؛ أما جان بياجيه فيراه “تفاعلاً نشطاً بين الفرد والبيئة”.

2- أنماط التفكير

*التفكير المنهجي : قائم على خطوات منطقية… ؛ فالمنهجية بوصلـة التفكير الضرورية ؛ اذ يحتاج التفكير الجاد إلى منهج واضح يسير عليه وفق خطوات مدروسة ومحكمة… ؛ نعم التفكيرُ المنهجي يحتاج إلى منهجٍ واضحٍ، كخريطةٍ تسيرُ عليها السفينةُ عبر محيط الأفكار… ؛ تشبيهه بالسفينة التي لا تسير بسلام إلا ببوصلة دقيقة، هو تشبيهٌ دقيق… ؛ فالسفينة بلا بوصلة تتخبط في مسيرها وتتقاذفها الأمواج ، وكذلك العقل بلا منهج : يجهد كثيراً دون أن يصل إلى محصلة مفيدة… ؛ تغيير الأسلوب والمنهج في التفكير هو مفتاح تغيير الواقع… ؛ فمن أراد تحسين واقعه المتخلف أو البائس، فعليه أولاً أن يغير طريقة تفكيره وتعاطيه مع الأمور ومعالجة الأشياء… ؛ فالمنهج يحول الفوضى إلى نظام، والجهود المبعثرة إلى نتائج ملموسة… ؛ نعم : التفكير هو المفتاحُ الحقيقيُّ لتغيير الواقع… ؛ فمَنْ أرادَ تغييرَ واقعِه البائس أو المتخلِّف، فعليه البدءُ بتغيير أسلوبِ ومنهجِ تفكيره، وطريقةِ تعامله مع الأمورِ وتعامله مع الأشياء. المنهجُ يحوِّلُ الفوضى إلى نظام، والجهدَ الضائعَ إلى إنجازٍ ملموس ؛ كما اسلفنا .

فالتفكير الناجح لا يُختزل في كثرة القراءة أو تعدد الآراء، بل في كيفية الربط بين المعطيات، وتحليل الوقائع، وتكوين فرضيات قابلة للفحص… ؛ فوظيفة العقل ليست حفظ المعلومات بل توليد المعنى منها… ؛ والتفكير العلمي هو انتقال من المعلوم إلى المجهول عبر مقدمات مترابطة تؤدي إلى نتائج يمكن اختبارها.

*التفكير الإبداعي: يقوم على إنتاج الجديد والمختلف… ؛ فالتفكير الإبداعي يعني القدرة على توليد أفكار جديدة ومبتكرة، والنظر إلى المشكلات من منظور مختلف، وإيجاد حلول غير تقليدية … ؛ إنه مهارة حيوية في جميع المجالات، وليس فقط في العلوم او الفنون، حيث يشمل القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة والبحث عن حلول مبتكرة… ؛ فالتّفكير الإبداعي هو النّظر إلى شيء ما بطريقة مختلفة وجديدة، وهو ما يُعرف بالتّفكير خارج الصّندوق، حيث يشتمل على التّفكير الجانبيّ أو القدرة على إدراك الأنماط غير الواضحة في أمر ما، كما يمتلك الأشخاص المبدعون القدرة على ابتكار وسائل جديدة لحلّ المشكلات ومواجهة التّحديات … ؛ هو نشاط فكري يتجلّى في القُدرة على إنتاج أفكار جديدة وغير تقليدية، بعيدًا عن الطرق المعتادة أو المألوفة للتفكير… ؛ اذ يتضمّن هذا النوع من التفكير الخروج عن القيود والحدود المفروضة، والتفكير في حلول ومقترحات تكون مبتكرة وفريدة من نوعها… ؛ وينطوي التفكير الإبداعي على القدرة على رؤية الأمور من زوايا مختلفة، وتحليلها بطرق مبتكرة وغير تقليدية… ؛ كما يتضمّن أيضًا القدرة على توظيف الموارد المتاحة بطرق مبتكرة لتحقيق الأهداف المرجوة ؛ كما اسلفنا .



*التفكير الارتغابي: موجه بالرغبات والأهواء لا الوقائع… ؛ فالتفكير الارتغابي (التمني): هو تفكيرٌ توجهه رغباتنا النفسية وأمنياتنا الشخصية ، لا الوقائع والحقائق الموضوعية… ؛ فهو نقيض التفكير الواقعي، ويؤدي إلى استنتاجات واهية وخيالية لا أساس لها في الواقع … ؛ تعكس ما نتمناه لا ما هو كائن.

*التفكير السطحي: لا يتجاوز الظواهر ولا ينفذ إلى الجوهر… ؛ فالتفكير السطحي الآني: هو تفكيرٌ يغرق في تفاصيل الحياة اليومية وتوافه الأمور، كأن يصبح الفرد كالطفل، اذ تكون ردود أفعاله مجرد استجابات مباشرة للمؤثرات دون تأمل… ؛ و هذا النمط من التفكير يعجز عن التعميم (استخلاص القواعد العامة من الجزئيات) والتجريد (فصل الفكرة عن مثالها المحدد) والتنظير الدقيق، كما يعجز عن استشراف المستقبل أو فهم الأسباب الجذرية… ؛ وللأسف، قليلون هم الذين يفكرون ملياً قبل العمل، بينما كثيرون هم الذين يعملون أولاً ثم يحاولون التفكير لاحقاً – غالباً بعد فوات الأوان… .

3- التفكير والوعي الذاتي

الوعي بالذات من أهم شروط التفكير المنتج، إذ أن الجهل بالذات يؤدي إلى يقين زائف ومواقف متشنجة… ؛ فالتفكير والوعي الذاتي هما عمليتان عقليتان متصلتان، حيث يشير التفكير إلى عملية معالجة المعلومات واتخاذ القرارات، بينما يشير الوعي الذاتي إلى القدرة على فهم الذات وملاحظة أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا… ؛ فالتفكير: هو عملية عقلية تتضمن معالجة المعلومات، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات. يمكن أن يكون التفكير إما تفكيرًا منطقيًا تحليليًا، أو تفكيرًا إبداعيًا… ؛ بينما الوعي الذاتي: هو القدرة على فهم أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا، وكيفية تأثيرها على أنفسنا وعلى الآخرين. هو القدرة على مراقبة الذات من الداخل، وفهم دوافعنا وسلوكياتنا وردود أفعالنا… ,كما اسلفنا .

*الفصل الثاني: معوقات التفكير الفاعل

يسعى الجميع بحق إلى امتلاك تفكير ذكي وحكيم، وهذا السعي نابع من إدراك واقعي: تفكير أغلب الناس – للأسف – غير منتج، إن لم يكن سيئاً أحياناً… ؛ فالاعتياد على السطحية والاستنتاجات المتسرعة، والانجراف وراء العواطف أو الأفكار المسبقة، يحول دون بلوغ الفهم العميق أو الحلول الفعالة… ؛ اذ يمتلك الإنسانُ قدرةً فريدةً تميِّزه عن سائر الكائنات: استخدامُ العقلِ في تحصيل المعارف لسدِّ حاجاته المادية والروحية. فهو يتأمَّل، ويحلِّل، ويستدلُّ، متَّبعاً المناهجَ العلميةَ والمنطقيةَ لتحقيق أهدافه. إلا أنَّ هذا المسارَ العقليَّ محفوفٌ بتحدٍّ جوهريٍّ: تأثيرُ العواطفِ والاحتياجات النفسية… ؛ فالعاطفةُ، رغم أهميتها الإنسانية، قد تشوِّش الرؤيةَ الموضوعية… ؛ وللإصابةِ في التفكير (أي الدقة والموضوعية)، لا بدَّ من السعي لتحييد تأثير العواطف والاحتياجات الذاتية قدر الإمكان، لضمان نقاء المسار المنطقي… ؛ وللتفكير المنتج عدة معوقات , ومنها :



1- العاطفة كحاجز معرفي

تشير دراسات علم النفس المعرفي إلى أن التحيّز العاطفي قد يؤثر سلبًا على الأحكام العقلية ويقود إلى تفكير منحاز … ؛ اذ يمتلك الإنسان قدرة فريدة تميزه عن سائر المخلوقات: استخدام العقل في تحصيل المعارف لسد حاجاته المادية والروحية… ؛ فهو يتأمل ويحلل، متبعاً سبل الاستدلال والمناهج العلمية لتحقيق أهدافه. غير أن هذا المسار العقلي محفوفٌ بتحدٍ جوهري: تأثير العواطف والاحتياجات النفسية. فلكي يحقق الفرد الدقة في تفكيره، عليه أن يسعى جاهداً لتحييد تأثير المشاعر والرغبات الذاتية قدر الإمكان، لضمان موضوعية النتائج… ؛ فالتفكير الواضح هو تفكيرٌ منضبط… , كما اسلفنا .

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يكتفي بردّ الفعل الغريزي، بل يستخدم عقله لتفسير العالم وتوجيه سلوكه… ؛ لكن هذا “التفكير” ليس دوما منتجًا أو فعالًا، بل قد يكون في أحيان كثيرة أداة لتبرير الجهل، وتزييف الواقع، وتعزيز الأوهام…؛ فالفرق الجوهري بين الإنسان المفكر والإنسان المردد هو أن الأول يطرح الأسئلة، ويعيد النظر، ويتحرى الدليل، أما الثاني فيكتفي بإعادة تدوير المسلمات والتقاليد… .

إن التفكير السليم لا يتحقق إلا حين يفلت العقل من أسر العاطفة، ويتحرر من ضغط الاحتياجات النفسية التي تحرّف الإدراك… ؛ فكما أن السفينة لا تمخر عباب البحر دون بوصلة، كذلك العقل لا ينتج معرفة صالحة دون منهج واضح.

2- التعميم والتسطيح

العقل الكسول ميّال إلى إنتاج أنماط فكرية نمطية اختزالية، كما يرى إدوارد دي بونو. وهذه الظواهر تنعكس في وسائل الإعلام وفي الخطاب الديني والسياسي… ؛ والمقصود من التعميم هنا هو عملية استخلاص استنتاجات عامة من حالات فردية أو شاذة أو محددة ؛ كأن يرى اوربيا يرتكب جريمة ما ؛ فيصف الاوربيون كلهم بالإجرام ، والتعميم الساذج هو آفة التفكير المعاصر؛ فالعقل الكسول ميال دائمًا إلى إصدار أحكام شاملة بناءً على عينة صغيرة أو تجربة عاطفية واحدة… ؛ و من هنا تُولد الأحكام المسبقة، ويتفشى التفكير النمطي… ؛ بينما السطحية هي عدم التعمق في التفاصيل والاكتفاء بالمعلومات الظاهرة أو السطحية فقط…

3- وهم اليقين والجهل المركب

تشير الأبحاث إلى أن من يملكون أقل قدر من المعرفة هم عادة الأكثر يقيناً بمعتقداتهم، وهي ما يُعرف بظاهرة “تأثير دنينغ-كروجر” (Kruger & Dunning, 1999)… ؛ فاليقين المطلق والجزمية الجامدة (التشبث الراسخ بفكرة دون النظر في أدلة معارضة) هما سبب رئيسي للكثير من الأخطاء المعرفية الفادحة. فاليقين الواقعي الموضوعي من أصعب النتائج التي يمكن أن يصل إليها الإنسان… ؛ أما اليقين الذاتي، فهو شعور داخلي يجعل الفرد متأكداً من صحة شيء ما، لكن هذا الشعور قد يناقض اليقين الواقعي؛ إذ غالباً ما يستند إلى الميول والعواطف والاتجاهات الذاتية. والمفارقة تكمن في أن اليقين الذاتي يزداد مع قلة العلم أو سيطرة الرغبات النفسية؛ لذا نجد أن أكثر الناس يقيناً هم غالباً البسطاء أو ذوو الثقافة المحدودة، فيصدقون كل خبر أو حلم دون تمحيص… ؛ وقد يترافق هذا مع نوع من “اليقين الزائف” مع التفكير الارتغابي احيانا ، حيث يظن الإنسان أنه بلغ الحقيقة المطلقة لمجرد شعوره الداخلي بذلك… ؛ على النقيض، كلما ازداد الإنسان علماً، تضاءل يقينه المُطلق تجاه كثير من الأمور، وازداد استخدامه لعبارات مثل: “من المحتمل”، “من المرجح”، “غالب الظن”… ؛ بل إنَّ بعضَ العلماءِ البارزين قد لا تجدهم يجزمون جزمًا قاطعًا في كتاباتهم؛ لأن خبرتهم العميقة في الحياة علمتهم أن ما يصلون إليه من حقائق ما هو إلا قطرةٌ في بحر المجهول المتلاطم… ؛ هذه “الجهالة المعلَمة” هي قمة النضج الفكري.

4- التفكير الارتغابي وقد مر عليكم تعريفه انفا … ؛ و هو نمط ذهني توجهه الرغبات النفسية لا الحقائق… ؛ فالعقل، حين يكون أسيرًا لرغبة ما، يبرمج نفسه على تصديق ما يريد لا ما هو واقع… ؛ وهذا ما يجعل الإنسان يؤمن بما يحب لا بما هو صحيح، بل ويحول الحلم أو الإشاعة إلى “حقيقة” يبني عليها مواقفه.

5- التفكير السطحي وقد مر عليكم تعريفه انفا … ؛ والتفكير السطحي لا يشتبك مع البنى العميقة للظواهر، بل ينشغل بالقشور وردود الأفعال… ؛ وهو تفكير آنٍ، انفعالي، لا يُعنى بالتجريد أو الاستبصار أو الاستشراف… ؛ وغالبًا ما يتحول إلى ضجيج على شكل آراء جاهزة أو مواقف انفعالية… ؛ فالتفكير السطحي يرفض التعقيد، ويسعى إلى تبسيط العالم حتى حدود التسطيح… ؛ وهو ما نراه بوضوح في الإعلام الموجَّه، والمجتمعات التي تغرق في نظرية المؤامرة، وتُفسر كل شيء بتفسيرات جاهزة ومريحة نفسيًا، لكنها بعيدة عن الواقع… , كما اسلفنا .

6- قداسة الخطأ وتراكمه: إعاقة للمسيرة الفكرية

من أخطر معوقات الفكر ترسيخ الأخطاء بمرور الزمن حتى تتخذ صفة القداسة أو الصحة المُطلقة، مما يجعل تصحيحها شبه مستحيل… ؛ فالعقل إذا اعتاد على الأخطاء وامتلأت الذاكرة بها، يصبح استنتاج المعلومات الصحيحة واستنباطها عملية شاقة. الأخطاء المتراكمة تولد أخطاءً جديدة، وهكذا تدور الدائرة المفرغة، مما يحول التفكير إلى عمليةٍ سلبيةٍ ومعيقةٍ للتقدم والاكتشاف.

7-الجمود الفكري (Mental Rigidity): يعني التمسكُ بطرق التفكير البالية والرؤى القديمة دون تجديدٍ أو مراجعة، وهو قتلٌ للإبداع والإنتاج العقلي الخلاق… ؛ و سبب هذا الثبات غالباً هو الهروبُ من مسؤولية التجديد ومن عناء التفكير الجاد الذي يتطلب جهداً ذهنياً وعقلياً لا يستعدُّ الكثيرون لبذله… ؛ فالإنسانُ بطبيعته يألفُ القديمَ المعروف، ويخافُ من المجهول الذي يمثِّله الجديد، فيفضل البقاءَ في منطقة الراحة الفكرية.

*الفصل الثالث: التفكير والإبداع

1- التجديد الفكري والمرونة المعرفية

العقل المبدع لا يرضى بالمسلمات، بل يطرح الأسئلة ويبحث عن بدائل. حسب غيلفورد، فالإبداع يرتبط بالتفكير التباعدي (Divergent Thinking).

2- الجمود الذهني والمعرفي كعدو للإبداع

يشير أدب التنمية الذاتية إلى أن الثبات على أنماط تفكير قديمة يُعد نوعاً من الراحة النفسية التي تعيق المخاطرة العقلية المطلوبة للإبداع… ؛ فالإبداع لا يتولد من فراغ، بل هو ثمرة التفكير المتجدد والانفتاح على البدائل والاحتمالات… ؛ أما العقول الجامدة فتخشى الجديد، وتستأنس بما ألفته، وتُفضل تكرار ما تعرفه بدل مواجهة المجهول… ؛ لهذا فإن الجمود العقلي لا يقتل الإبداع فحسب، بل يعيق التقدم ويحول التفكير إلى طقوس ميتة… ؛والمجتمعات التي تُقدّس الموروث وتُدين السؤال، وتُحاصر الاختلاف، تعاني من فقر في الخيال، وشحّ في الابتكار، ونمطية في كل شيء؛ من السياسة إلى الفن، ومن التعليم إلى الإعلام.

3- بيئات التفكير الإبداعي

الثقافات التي تحتضن التساؤل والاختلاف تنتج مبدعين ومجددين، بعكس المجتمعات التي تؤسس لمنظومة فكرية مغلقة… ؛ وتشمل بيئات التفكير الإبداعي تلك التي تشجع على توليد الأفكار الجديدة، والتعاون، والتجريب، والتعلم من الأخطاء… ؛ كما أن البيئات التي توفر مساحة آمنة للتعبير عن الأفكار، وتقدير المبادرات الفردية، وتعزيز الثقة بالنفس، تلعب دورًا هامًا في تعزيز الإبداع… ؛ فهي بيئة آمنة للتجريب والتعلم من الأخطاء ؛ فعندما يشعر الأفراد بالأمان في طرح الأفكار وطرح الأسئلة، وتجربة حلول جديدة دون خوف من الفشل، فإن ذلك يشجع على الإبداع… ؛ اذ يجب أن تكون الأخطاء فرصًا للتعلم وليست سببًا للعقاب.

4- الانفتاح الفكري: محرّك الإبداع وتوسيع الآفاق

الانفتاح على مختلف الآراء والنظريات لا يقتصرُ أثره على كسر قيود التعصُّب والتحيُّز فحسب، بل هو يُولِّدُ ذهنيةً مرنةً ومنفتحة… ؛ و هذه الذهنية تمتلك القدرةَ على استكشاف زوايا متعددة للمشكلة الواحدة، وتوليد بدائلَ إبداعيةٍ وحلولٍ غيرِ تقليدية… ؛ و هذا التوسيع لمجال الرؤية الفكرية هو التربة الخصبة التي ينبت فيها الإبداع الحقيقي، ويُعزِّزُ القدرةَ على التعامل مع التعقيدات… ؛ ف الإبداع الحقيقي غالباً ما ينبع من هذا التلاقح بين الأفكار المتباينة.

5- وظيفة المعرفة والبحث عن الموضوعية

جوهر المعرفة يكمن في الانتقال من المعلوم إلى المجهول عبر سلسلة من المقدمات المترابطة منطقياً… ؛ وعند اكتمال هذه المقدمات المعرفية بصورة سليمة، نصل إلى نتائج علمية يقينية – شريطة أن تطابق الواقع الموضوعي … ؛ وتجدر الإشارة إلى أن موضوعية التفكير وموثوقيته تزداد كلما ابتعد عن تأثير الظروف الخارجية والمصالح الشخصية والعواطف الجياشة… ؛ فالموضوعية هي حجر الزاوية في بناء المعرفة الصحيحة والابداع .



*الفصل الرابع : نحو عقلية متطورة

إن ما يشكل حياتنا وجودة وجودنا هو، بدرجة كبيرة، نوعية التفكير الذي نتبناه… ؛ فالاعتراف بأن ليس كل ما نملكه من معلومات يقينياً، وحتى اليقينية منها قد لا تطابق الواقع دائماً، هو بداية الحكمة… ؛ و مواجهة تحديات التفكير الارتغابي، والتغلب على الجمود الفكري، ومقاومة إغراء السطحية … ؛ تتطلب وعياً ذاتياً والتزاماً بمنهجية عقلانية، وشجاعة لتحدي المألوف وتقبل المجهول… ؛ فالاستثمار في تطوير آليات تفكيرنا هو أعظم استثمار في مستقبلنا الفردي والجماعي، وهو الطريق من سجن السطحية والجمود إلى رحابة الإبداع والفهم العميق… ؛ انه الرحلة الأبدية للعقل من ظلمات التسطيح والتعصُّب إلى أنوار الإبداع والفهم العميق… ؛ فالتفكير ليس عملية عشوائية، بل ممارسة معرفية تستلزم منهجية وشجاعة ومرونة… ؛ ومعوقات التفكير تتنوع بين داخلية (نفسية وعاطفية) وخارجية (اجتماعية وثقافية)… ؛ ولا يمكن للإبداع أن يولد في ظل الجمود العقلي واليقين المغلق… ؛ والمطلوب هو إعادة تشكيل الذهنية العراقية المعاصرة عبر تعميم أدوات التفكير النقدي في المدارس والإعلام والخطاب الديني… .

نحن لا نولد مفكرين، بل نتعلم أن نفكر… ؛ وبين التفكير الغريزي والتفكير النقدي مسافات من الجهد، والتأمل، والانفتاح، والمراجعة… ؛ ومجتمعاتنا لا تحتاج إلى مزيد من المعلومات فقط ، بل إلى ترقية آليات التفكير نفسها… ؛ نحتاج إلى أن نُربي في الأطفال حب السؤال، وفي الكبار فضيلة الشك، وفي الجميع شجاعة تغيير الرؤية متى ما تغيرت المعطيات… ؛ في النهاية، ليس المهم أن نفكر، بل أن نُحسن التفكير.

* كيف نبني تفكيرًا منتجًا؟

الوعي بالتحيّزات النفسية: علينا أن ندرك كيف تؤثر رغباتنا ومخاوفنا في تفكيرنا.

تعلم التفكير المنهجي: سواء عبر المنطق، أو المنهج العلمي، أو أدوات التحليل الفلسفي.

تشجيع السؤال لا التلقين : السؤال هو مفتاح كل تطور، ولا إبداع بلا تساؤل دائم.

احترام الشك الإيجابي: لا كفر بالحقائق، بل حذر من الوقوع في يقينيات وهمية.

الانفتاح على الآخر والمختلف : فالأفكار لا تنضج في الانغلاق، بل عبر الحوار والتصادم السلمي بين الرؤى.

* توصيات

إدخال مناهج تعليمية خاصة بـ”التفكير النقدي” في مراحل التعليم الأولى.

فتح نقاشات اجتماعية عامة حول أخطاء التفكير الشائعة.

تدريب الأفراد على أدوات التحليل المنطقي واكتشاف المغالطات.

…………………………………………………………………..

المراجع

عبد الكريم بكار، فهم التفكير، دار وجوه، 2012.

حامد زهير، التفكير العلمي، دار المعارف، 2003.

Kahneman, D. (2011). Thinking, Fast and Slow. Farrar, Straus and Giroux.

Kruger, J., & Dunning, D. (1999). Unskilled and unaware of it. J. Pers. Soc. Psychol.

Edward de Bono, Teach Your Child How to Think, Penguin Books, 1994.

جودت عزت، أسس التفكير الإبداعي ونظرياته، مكتبة الفلاح، 2008.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق يفتح الأبواب… بينما تغلقها الدول الكبرى والانظمة الاق ...
- بين دقة الاغتيال ووحشية الإبادة.. لماذا تختار القوى الكبرى ا ...
- رفع الأعلام الأجنبية بين السيادة الوطنية والرمزية الدينية: ج ...
- حين يربح الضبع وتُهزم الغزالة
- الزيارة الدينية التي تُقصي أهلها: حين يصبح العراقي غريباً في ...
- البروكرستية العراقية: حين تُقصّ الأرواح لتناسب سرير السلطة
- الهيمنة الناعمة: كيف تبني إيران نفوذها في وسط وجنوب العراق د ...
- السياحة بين العراق وإيران: تبادل غير متكافئ أم استغلال اقتصا ...
- أشباح الإمبراطورية : المخابرات البريطانية في العراق من الظل ...
- قطع أرزاق العراقيين: بين عبث البلديات وعجز الدولة عن ايجاد ب ...
- وادي حوران محتل كالجولان من قبل الامريكان (6)
- وادي حوران محتل كالجولان من قبل الامريكان (5) وادي حوران في ...
- السياحة الدينية في العراق: بين الفرص المهدورة والموارد المنه ...
- ثمن اغتصاب السلطة وثمن الخضوع لها: قراءة تاريخية في إرث الدو ...
- الأمة العراقية : من متاهة الانتماءات المضللة إلى فضاء المواط ...
- الدوافع السياسية والأمنية وراء إصرار الولايات المتحدة وحلفائ ...
- الدوني العائد من خرائب الشام : التهديد السوري والخذلان العرا ...
- السلطات الحكومية والشخصيات السياسية العراقية بين الاقنعة وال ...
- الساكن في الغرفة السابعة و الاخيرة
- من يطارد الفقراء؟ دولة بلا بدائل و-شفل- بلا رحمة


المزيد.....




- 5 صحفيين جدد ينضمون لضحايا الغارات الإسرائيلية في غزة..ونتني ...
- طبيبة أمريكية: ضرب مستشفى ناصر -جريمة متعمدة- ومنع الأطباء م ...
- ترامب يقيل عضو الاحتياطي الفدرالي ليزا كوك والأخيرة تحتج قائ ...
- العراق: مربو الجواميس في الأهوار يشكون عواقب الجفاف الذي يضر ...
- ردود فعل دولية واسعة إثر مقتل 5 صحافيين بغارات إسرائيلية على ...
- أستراليا تطرد السفير الإيراني على خلفية اتهام طهران بالضلوع ...
- ترامب يقيل عضوة من مجلس حكام الاحتياطي الفدرالي والأخيرة ترف ...
- الشارع الإسرائيلي يضغط على الحكومة لإبرام صفقة مع حماس للإفر ...
- استئناف المفاوضات النووية بين طهران والترويكا ومخاوف إيرانية ...
- حكومة بايرو مهددة بالسقوط، فعل يؤدي ذلك إلى حل الجمعية الوطن ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - رياض سعد - آليات التفكير بين الإبداع والتسطيح: دراسة في أنماط التفكير ومعوقاته