أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان في زمن التشظي والجنون















المزيد.....

جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان في زمن التشظي والجنون


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 12:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


* تمهيد: الاستحالة الأنطولوجية
ليس الاتزان في مجتمع يفتقر إلى مقومات التوازن مجرد تحديٍ ، بل هو معضلة وجودية تكشف عن التناقض الجوهري بين فطرة الإنسان الساعية نحو الاستقرار، وطبيعة المجتمعات الحديثة المولعة بالتفتيت والتشظي والتشرذم والتلون والنفاق والتبدل السريع والانقلاب رأسا على عقب ... ؛ فالمطالبة بالاتزان النفسي في بيئة مضطربة أشبه بمطالبة إنسان بالطيران بعد نزع جناحيه... ؛ إنها معادلة تستحيل في شروطها، وتكشف عن خواء الخطاب السائد الذي يتحدث عن "قوة الإرادة" بينما يغفل عن هول الضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لا ترحم... ؛ فالهدوء لم يعد صفةً فطرية، بل مهارةً تُكتسب بشقّ الأنفس .
نعم , ان الاتزان في مجتمع مختلّ التوازن أشبه بمحاولة إشعال شمعة في إعصار... ؛ أو كمن يسير على حبل مشدود فوق هاوية من الفوضى... ؛ إنّ الإنسان المعاصر، في زمن ازدحام الصور وتنافر الأصوات وتكاثر الحقائق حتى التناقض، لم يعد كائنا بسيطا يبحث عن الراحة، بل صار مشروع مقاومة داخلية ضد الانجراف، وضد التفتت النفسي والمعرفي والروحي... ؛ فكيف يمكن للمرء أن يظلّ متماسكا وسط بيئة متصدعة من القيم، مسمومة بالمعلومة، ومغشّاة بضباب الادّعاءات؟!
فالاتزان عملية لا تقترب من المستحيلة فحسب، بل تتحول إلى فعل بطولي مقاوم لقوانين الفيزياء الاجتماعية السائدة ... ؛ فكيف للغريق المُلقى في لجّة المحيط أن يظلّ جافًّا؟
وكيف للسائر في وَحل القاذورات أن يتفادى الوسخ؟
وأي قدرة تكون للإنسان على تجنب المرض وهو يعيش في مستنقع من الفيروسات والسموم؟
هذه الاستحالات ليست مجرد استعارات، بل هي التشخيص الدقيق لوضعية الإنسان المعاصر الذي يُطلب منه أن ينتج اليقينَ في معمعة الشك، والصفاءَ والنقاء في خضم العكر والكدر ... ؛ لقد صار الاتزان ضرباً من البطولة الصامتة، لا يمارسه إلا أولئك الذين فهموا أن النجاة الحقيقية ليست في الهروب من العالم، بل في النجاة من اختلال العالم داخل نفوسهم وتأثيرات البيئة السلبية .
* الاستلاب البيئي: تشريح الآلية الاجتماعية/ الإنسان ابن بيئته، والبيئة مرآته
تتحول البيئة المحيطة من إطار حاضن إلى آلة ضاغطة ، تنتج نمطًا بشريًا يتوافق مع شروطها، سواء أكانت تلك الشروط صحية أم سامة ... ؛ فإن السعي نحو الاتزان أو الهدوء أو الطمأنينة في بيئة سلبية ومأزومة ومعادية لهو ضربٌ من الوهم... ؛ فكما أن البذرة تموت في الصحراء القاحلة، وكما يذبل الورد في التربة المالحة، فإن الروح الإنسانية تذوي في المحيط السلبي... ؛ وهذه ليست نظرة تشاؤمية، بل هي خلاصة دراسات سوسيولوجية عميقة , وتلك حقيقة أدركها الحكماء قديمًا بقولهم : "الإنسان ابن بيئته" ... ؛ فالنشأة في أحضان النقاء تورث النقاء، والتغذي بمرتع الفساد يولد الفساد.
البيئة ليست مجرد مكان نعيش فيه، بل هي الهواء الذي نتنفسه فكرا وسلوكا وشعورا... ؛ البيئة تخلق فينا مزاجنا، وتحدد إيقاع وعينا دون أن نشعر... ؛ ولذلك، كان الاتزان في مجتمع غير متوازن فعلا بطوليا، لا يقلّ صعوبة عن السباحة ضد تيار جارف.
ومن هنا نفهم القول القديم: "الإنسان ابن بيئته"... ؛ فالمجتمع هو رحم ثانٍ يولد فيه الإنسان نفسياً وثقافياً، فإذا امتلأ هذا الرحم بالضجيج والتلوث الفكري والروحي، خرج الفرد إلى العالم مثقلاً بالاضطراب، عاجزاً عن الإصغاء لصوته الداخلي.
إن المجتمع، بوصفه كائنًا ضخمًا، يمتلك أدوات ضغط جبارة – ثقافية ونفسية واقتصادية وسياسية ودينية – تجعل من السباحة عكس التيار مجازفة قد تصل إلى حد الانتحار الاجتماعي ... ؛ ومن هنا، نرى الأغلبية الساحقة من الأفراد تذوب في القالب الجمعي، وتتماهى مع المنظومة الحاكمة، ليس جهلاً بالضرورة، بل خوفًا من العزلة أو انهيارًا تحت وطأة الإرهاب الناعم الذي تمارسه الآلة الاجتماعية ... ؛ فالمجتمع يمتلك ترسانة من أدوات التشكيل - من التنشئة الاجتماعية إلى وسائل الإعلام، ومن الخطاب السائد إلى الممارسات اليومية - تجعل من المقاومة عملاً بطوليًا يستنزف طاقة الفرد... ؛ إن ما نسميه "التيار" ليس مجرد توجه عابر، بل هو نظام معقد من القيم والمعايير والعقوبات والمكافآت التي تصوغ الوعي الجمعي، وتجعل الخروج عنها أشبه بالخروج من الجاذبية.
نعم , ليس الإنسان كائناً منفصلاً عن محيطه كما يُخيَّل إليه؛ فالمكان يسكننا كما نسكنه، والمجتمع يصوغ ملامح وعينا كما يصوغ المعلّم شكل الحروف... ؛ فمن عاش في بيئة فاسدة يصعب أن يبقى نقياً، ومن تربّى بين الصدق والضمير يندر أن يُغريه الزيف كما اسلفنا ... ؛ البيئة، إذن، ليست إطاراً خارجياً، بل هي رحمٌ يولد فيه الوعي، ومرآةٌ تعكس ما خفي من داخل الإنسان.
ولهذا فإنّ الاتزان في بيئةٍ مختلّة هو نوع من المقاومة الهادئة، مقاومة ضدّ الانسياق، وضدّ التماهي مع التيار... ؛ فالتيار لا يغرق إلا من ترك نفسه له، أما من سبح بعقله، فربما نجا ولو شقّ صدره الموج.
*فقدان البوصلة وسط التدفق والانفجار المعلوماتي وتضخم وتعدد الخيارات
إذا كانت البيئة الاجتماعية تخنق الفرد ، فإن البيئة المعلوماتية تقوم بتفكيكه من الداخل... ؛ اذ يتعمق المأزق حين ننتقل من ضغط البيئة إلى فوضى المعرفة , لقد تحولنا من عالم الندرة المعرفية إلى عالم الفائض او الانفجار المعلوماتي، حيث لم يعد التحدي في الوصول إلى المعلومة، بل في فرزها... ؛ هذه "الوفرة السامة" تنتج ما يسمى في علم النفس "شلل التحليل"، حيث تؤدي كثرة الخيارات إلى شلّ القدرة على الاختيار... ؛ تشبيهًا: كمن يدخل إلى سوق فيه ألف باب، فيقف حائرًا أمام الأبواب حتى يغادر من حيث أتى من دون ولوج احدها ... ؛ هذه الظاهرة تتجلى بوضوح في انهيار المرجعيات، وانزياح الحدود بين الحقيقة والزيف، وتحول المعرفة إلى سلعة استهلاكية سريعة... ؛ اذ لم نعد نعرف من يخدعنا، ولماذا يخدعنا، وكيف نكتشف الخداع...!!
اذ كيف يميز المرء بين الحق والباطل وهو محاط بمئات الدعاوى، كل منها يزعم احتكار الحقيقة، وبعضها يدعي الحياد وهو أبعد ما يكون عنه؟!
لقد أثبتت دراسات علم النفس أن الإنسان، إذا وُضع أمام خيارين محددين، استطاع أن يختار بثبات نسبي... ؛ أما إذا وُضع أمام تسعة وتسعين خيارًا، فإن إرادته تشلّ، وقدرته على التمييز تتبخر... ؛ فكثرة الخيارات لا تعني الحرية، بل تعني شكلاً جديدًا من العبودية لـ "عبء الاختيار"...
نعم , كلما ازدادت الأصوات، تلاشت الحقيقة... ؛ وكلما تضاعفت الخيارات، ضعفت القدرة على الاختيار... ؛ فالإنسان، كما تؤكد الدراسات النفسية، يستطيع أن يميّز بين خيارين أو ثلاثة، لكنّه يضيع حين تفتح أمامه تسعة وتسعون باباً، لكلّ باب حجّته ومغرياته كما اسلفنا .
وهذا هو ما يحدث في عصرنا الرقمي؛ حيث تتداخل الحقائق بالأكاذيب، ويصبح الصدق مجرد احتمال من بين آلاف الاحتمالات... ؛ فيصبح المرء عاجزاً عن التمييز بين الجميل والقبيح، بين الصواب والزيف ؛ لم يعد الإنسان يبحث عن الحقيقة، بل عن ملاذ مؤقت من التشويش.
*الاغتراب الحسي: تفكك التجربة الإنسانية
لقد أدت السرعة الرقمية إلى تشويه البنية الحسية للإنسان ... ؛ فالحواس الخمس، التي تطورت عبر آلاف السنين لاستقبال محفزات محدودة ومتناسبة، تُقصف اليوم بكم هائل من المنبهات غير المترابطة... ؛ فالعين التي اعتادت التأمل في لوحة واحدة، أصبحت تلتقط مئات الصور في الدقيقة... ؛ و الأذن التي كانت تستمتع بنغمة واحدة، أصبحت تستقبل عشرات الأصوات المتضاربة... ؛ هذا القصف الحسي لا ينتج وعيًا موسوعيًا، بل ينتج ذهنا مشتتًا، سطحياً، عاجزًا عن التعمق والتأمل والفرز ... ؛ إنه يولد ما يمكن تسميته "الاغتراب الحسي"، حيث يفقد الإنسان صلته العضوية بما يرى ويسمع ويلمس.
نعم , هذه الظاهرة تتجلى في حواسنا قبل عقولنا: فبوسع ذائقتك أن تحكم على طبق واحد، ولكن إذا قدمت لك مائة طبق لتتذوقها دفعة واحدة، فستصاب بـ "فقدان الذوق"... ؛ وبوسع حاسة الشمّ أن تميز عطرًا واحدًا، لكنها تتحول إلى فوضى أمام مئات العطور... ؛ والأمر نفسه ينطبق على البصر: يمكنك التأمل في لوحة فنية واحدة واستيعاب جمالها، لكنك إذا شاهدت مئات الصور متلاحقةً سريعةً على شاشة الهاتف أو التلفاز، فإن إدراكك يتحول إلى شظايا، وتفقد القدرة على التمعن والربط، ليصبح وعيك مجرد شاشة تعرض صورًا متلاحقة بلا معنى... .
إنّ العقل، حين يُقصف يومياً بمئات الرسائل، والصور، والمشاهد، يفقد قدرته على التمييز، كما تفقد الحاسة ذائقتها إن هي أُغرقت بالمثيرات الكثيرة والمتعددة ... ؛ من يشاهد مئات اللوحات في دقيقة واحدة، لا يرى شيئاً منها حقاً... ؛ ومن يسمع كلّ الأصوات، لا يسمع أيّ صوت على الإطلاق... , كما اسلفنا .
في عالمٍ تتزاحم فيه الأصوات، تضيع الحقيقة وسط الضجيج... ؛ فالعقل حين يُقصف بعشرات الرؤى والاتجاهات المتناقضة، يفقد قدرته على التركيز، كما تفقد العين توازنها إذا واجهت ألف لونٍ في آنٍ واحد.
وكما أن الشمّ يفقد حسّه إن واجه ألف عطرٍ في لحظةٍ واحدة، كذلك تفقد الروح تمييزها حين تُغرقها الشاشات بموجات متلاحقة من الأخبار والصور والمشاهد... ؛ وما أشدّ بؤس إنسانٍ يرى كلّ شيء ولا يفهم شيئاً!
*الواقع الافتراضي والاعلامي وتشويه الصورة الذاتية والهوياتي
لم يعد الإعلام ناقلاً للواقع، بل صار صانعاً له... ؛ فقد تحوّل الإعلام من ناقلٍ للحقائق إلى صانعٍ للأحداث والوقائع ، ومن مرآةٍ للواقع إلى أداةٍ للتوجيه ... ؛ فالأخبار لا تُقدَّم لتُفهَم، بل لتُحدث أثراً، والمعلومة لا تُذاع لتنوّر، بل لتوجِّه وتربك و لتؤثر في العواطف ... ؛ نحن نعيش اليوم في منظومة تخلق الواقع في أذهاننا قبل أن نراه في الخارج... ؛ فالعقل لم يعد مرآةً تعكس الحقيقة، بل شاشةً تُبث عليها صور مختارة بعناية... ؛ وهكذا صار الإنسان يعيش داخل مسرحٍ من الصور المصطنعة، يصفّق دون أن يعرف لمن، ويغضب دون أن يدري لماذا... ؛ في هذا العالم الموجَّه، يختلط الصدق بالكذب كما يختلط الضوء بالظلّ في ساعة المغيب... ؛ فتنكسر بوصلة الوعي، ويتحوّل العقل إلى متلقٍ سلبي، تائهٍ بين الروايات المتضاربة والرؤى المتناقضة .
هذا التوجيه الخفي، الذي يتسلّل إلى وعينا كل لحظة، جعل الإنسان كائناً هشّاً، تائهاً بين نظريات واطروحات متضاربة عن نفسه والعالم... ؛ صار يشكّ في كل شيء، حتى في مشاعره الأصيلة واحاسيسه النفسية .
والنتيجة الحتمية لهذا التشظي البيئي والمعرفي والحسي والعاطفي هي أزمة هوية عميقة ... ؛ فالهوية ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي سردية ننسجها عن أنفسنا من خيوط التجارب والعلاقات والمعاني ... ؛ لكن عندما تتفكك هذه الخيوط، تتفكك السردية ... ؛ و يصبح الإنسان كمن يحاول أن يرى صورته في مرآة مكسورة، كل شظية تعكس جزءًا مشوهاً، ولا تعكس الصورة الكلية الحقيقية والواقعية ... ؛ وهذا ما يفسر ظواهر العصر: القلق الوجودي، البحث المحموم عن هويات بديلة، الانتماء إلى تيارات متطرفة، أو العزلة الاجتماعية... ؛ إنها محاولات يائسة لإعادة بناء ما دمرته عواصف الحداثة السائلة.
نعيش إذن في حالة من"اللا- طبيعية" المُعلَمة... ؛ إن الإعلام الموجه، والثقافة الموجهة، والمعرفة الموجهة، تمارس دورًا سلبيًا في تزعزع النفس الإنسانية... ؛ في اليوم الواحد، تغمرنا مئات الأخبار الكارثية، وكمّ هائل من الصور المتناقضة، وعشرات الروايات المتضاربة... ؛ هذا القصف المعلوماتي المتواصل لا يثري خبرتنا، بل يفتتها... ؛ إنه يولد صورة مشوهة عن أنفسنا : من نحن؟ في أي مجتمع نعيش؟ ما حقيقة تاريخنا؟ أين موقعنا من هذا العالم؟ بل إنه يطال تصورنا الأساسي عن إنسانيتنا... ؛ فنحن أمام مرآة مكسورة، تعكس لكل منا ألف صورة مشوهة، فلا يعود يعرف أيها وجهه الحقيقي...!!
*خاتمة: مقاومة الانهيار و الهروب كخيار وجودي - نحو سياسات ونظريات وجودية جديدة
في مواجهة هذا الانهيار الشامل، لم تعد استراتيجيات التأقلم الفردي كافية... ؛ ما نحتاجه هو وعي جديد، و"سياسات وجودية" تعيد الاعتبار للإنسان في مواجهة الآلة القاهرة والاليات الموجهة للإنسان والمسيطرة عليه ... ؛ رفع الكثيرون شعار ( العودة الى الطبيعة ) ... ؛ لذلك نرى في السنوات الأخيرة نزوعاً متزايداً نحو الانعزال والهروب من المدينة الحديثة، بكل ما تمثله من صخب وإفراط وتشويش وازدحام واستهلاك ... ؛ فحين يختنق الإنسان بضجيج المدن، يعود إلى الريف لا ليتنفس الهواء النقي فقط، بل ليستعيد صفاء نفسه... ؛ العودة إلى الطبيعة لم تعد نزوة رومانسية، بل صرخة وعيٍ ضدّ اختناق الروح... ؛ هناك، في صمت الجبال أو في همس الريح، يعثر الإنسان على ذاته الأولى، تلك التي لم تلوّثها الشاشات ولا مزّقتها الشائعات... ؛ فالسكينة لم تعد ترفاً، بل ضرورة للبقاء النفسي و حاجة وجودية لإنقاذ الذات من التفكك ... ؛ والانسحاب من ضجيج العالم ليس جبناً، بل فعل شجاعةٍ لمن أدرك أن الهدوء في زمن الفوضى هو أعلى أشكال المقاومة.
كثيرون هجروا الضجيج ليعودوا إلى بساطة الريف، أو صمت الجبل، أو رتابة الحياة البدائية... ؛ إنهم لا يهربون من العالم، بل يهربون من صورته المزيفة... ؛ هذه العودة ليست نكوصاً، بل استعادة لتوازن النفس المرهقة، وإعادة ترميم للوعي الذي تمزق بين آلاف الشاشات.
إن هجرة البعض إلى الارياف والبراري والجبال والبحار ، وانقطاعهم عن الشبكات الرقمية، ليست هروبًا رومانسيًا، بل هي محاولة لاستعادة المساحة الشخصية، وإعادة بناء الذات من بين الأنقاض... ؛ لكن الحل الجذري يتطلب أكثر من ذلك : يتطلب إعادة تصميم بيئتنا الاجتماعية والمعلوماتية لتكون أكثر إنسانية... ؛ فالاتزان ليس ترفًا، بل هو شرط أساسي لبقائنا ككائنات عاقلة واعية في عالم يدفعنا نحو اللاوعي والتفكك.
نعم , في مواجهة هذه العاصفة الشاملة ،لم يعد "الاتزان" مجرد حالة نفسية مرغوبة، بل تحول إلى "خيار وجودي" يتطلب شجاعة فائقة... ؛ وقد دفع هذا الإحساس بالاغتراب والاختناق كثيرين من الباحثين عن الوعي والحكمة والسكينة إلى اتخاذ قرار الهجرة والهروب من صخب وتلوث المدن إلى صمت الأرياف والبوادي والجبال... ؛ إنه انقطاع طوعي عن معظم وسائل التكنولوجيا والاتصال الحديث، وعودة متعمدة إلى نمط حياة أقرب إلى البدائية... ؛ هذا الهروب ليس انهزامًا، بل هو محاولة يائسة وجريئة لاستعادة زمام النفس، وتنقية الروح من سموم الحضارة، والحفاظ على الجمرة الأخيرة من التوازن والإنسانية من أن تطفئها أمطار الفوضى المتواصلة... ؛ إنه محاولة لإنقاذ الذات من الغرق في محيط صناعي وتكنولوجي لا يرحم.
*ومضة ختامية:
إنّ الاتزان ليس سكوناً جامداً، بل موسيقى خفيّة يعزفها القلب حين يضطرب العالم من حوله... ؛ هو لحظة وعيٍ يتوقف فيها الزمن، فيتذكّر الإنسان أنه لم يُخلق ليكون صدى، بل نغمة أصلية وسط ضوضاء الوجود.
فابحث عن اتزانك كما يبحث العطشان عن نبعٍ في صحراء الأفكار، لا في صمتٍ مطبقٍ ولا في صخبٍ مدوٍ، بل في تلك المساحة الهادئة بين الاثنين، حيث يسكن الله والضمير والطمأنينة... ؛ نعم , ان الاتزان... تلك الومضة التي لا تُرى بالعين، بل تُحسّ في الصمت بين نبضتين... ؛ هو خيطٌ رفيع يمتدّ بين الفوضى والعدم، يعبره الوعي حافياً كمن يمشي على الضوء... ؛ وكلّما دوّى الصخب في الخارج، أُطفئت شمعةٌ في الداخل، حتى لا يحترق القلب ببريق الزيف ... ؛ ومن أدرك أن العالم كله ضجيجٌ مؤقت، علم أن النجاة ليست في الصمت فحسب، بل في الإصغاء لما وراء الصمت ؛ هناك، حيث يلتقي العقل بالحلم، والروح بالمعرفة، والإنسان بذاته الأولى... ؛ هناك فقط يبدأ الاتزان، لا كهدوءٍ في الخارج، بل كوميضٍ أبديّ في أعماق الكينونة.
الاتزان اليوم لم يعد حالة نفسية فحسب، بل موقفاً فلسفياً وموقفاً أخلاقياً وانسانيا أيضاً... ؛ أن تكون متزناً في عالم مضطرب هو أن تمتلك شجاعة الهدوء في زمن العصف، وأن تحافظ على نقائك الداخلي وسط عواصف التلوث الرمزي والمعرفي.
ربما لا نستطيع تغيير البيئة كلها، لكننا نستطيع خلق بيئة صغيرة داخلنا، نزرع فيها وعياً صافياً يحمينا من التشويش الكبير... ؛ فكما أنّ الوردة يمكن أن تزهر في شقّ صخرٍ قاسٍ، كذلك يمكن للإنسان أن يحافظ على اتزانه وسط الفوضى ان اختار اهون الشرين ، وإن امتلك الوعي والإرادة والإيمان بجمال السكون في عالمٍ لا يعرف إلا الضجيج.
أن تبقى متوازناً يعني أن تقول "لا" للانجراف، وأن تختار وعيك وسط طوفان الموجَّهات... ؛ وفي النهاية، الاتزان ليس غياب الفوضى من حولنا، بل قدرتنا على بناء سكونٍ صغيرٍ داخل العاصفة، نلجأ إليه كلما حاول العالم أن يبتلعنا بصخبه.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زعامة الفقاعات وساسة الاعلانات واللقاءات : حين يتحوّل الترشّ ...
- تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراط ...
- العراق وسوريا بعد سقوط دمشق: تشريح التوترات الأمنية والطائفي ...
- المسافة الآمنة: فنّ وضع الحدود في العلاقات الإنسانية
- مقولة وتعليق/ 62/ الحرية ثمرة العقل المستنير
- مقولة وتعليق / 61 / التعليم والذكاء: ثنائية الزيف والحقيقة ف ...
- دور الصداقة ومنازل القلوب
- بين المعرفة والوعي: اغتراب الذات في عصر المعلومات
- ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه ...
- هواجس الإيمان: سيرة ذاتية في عشق المجهول
- بغداد تُستباح بهدوء... العمالة الأجنبية كحصان طروادة جديد
- أطفال داعش المنسيون: تداعيات جهاد النكاح والمستقبل المجهول
- الصديق الذي يشبه الدواء... حين يصبح الإنسان علاجًا للإنسان
- الإنسان المرهق... حين يمشي العالم محمولًا على أكتاف الأرواح ...
- تشريح البيئة الملوثة بالسموم الاجتماعية والامراض والعقد النف ...
- تجنيس الغرباء في العراق: أزمة هوية وطنية أم فوضى إنسانية مقن ...
- فلسفة اللحظة الضائعة: حين يبتلع الزمن ملامحنا
- الجنوب العراقي بين مطرقة السادية وسندان المازوخية : قراءة سو ...
- الخيانة كمرضٍ نفسيّ وعقدةٍ اجتماعية
- عندما يتحول الفضاء الرقمي والاعلام إلى ميدان صراع و حين يتكل ...


المزيد.....




- لحظة درامية لفقمة تنجو من حيتان قاتلة بعد قفزها على متن قارب ...
- سرقة بطاقات نادرة بقيمة 10 آلاف دولار من متجر شهير بنيويورك ...
- مقتل شقيق الناشط البيئي أمين كساسي في مرسيليا رميا بالرصاص
- خمس دول أوروبية منضوية في حلف الأطلسي تتعهّد التصدي لتهديدات ...
- مجلس الأمن يصوت الإثنين على خطة ترامب حول غزة والمبعوث الأمر ...
- هل اقتربت الروبوتات من إدارة منازلنا؟
- رئيس فنزويلا للأميركيين: هل تريدون -غزة جديدة- في أميركا الج ...
- الحرس الثوري الإيراني يؤكد احتجاز ناقلة تحمل مواد بتروكيميائ ...
- -هند رجب- تلاحق جنديا إسرائيليا في التشيك
- غارديان: الخطة الأميركية تقسم غزة وتبقي الفلسطينيين بمنطقة ط ...


المزيد.....

- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان في زمن التشظي والجنون