أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض سعد - تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراطية في العراق















المزيد.....

تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراطية في العراق


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8525 - 2025 / 11 / 13 - 10:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بعد سقوط النظام الدكتاتوري الشمولي الطائفي الهجين عام 2003، ظنّ العراقيون أن فجر الحرية قد بزغ أخيرًا، وأن أبواب الديمقراطية انفتحت على مصاريعها بعد عقودٍ من القهر والتكميم والتسلّط ... ؛ عاش الشعب لحظاتٍ من التنفّس الصعب والمشوب بالأمل، وذاق طعم الحرية السياسية والفكرية لأول مرة في تاريخه المعاصر، فانتقل من مرحلة الحكم الفردي والعسكري إلى تجربةٍ جديدة عنوانها التداول السلمي للسلطة وممارسة الحقوق والحريات العامة والخاصة... ؛ كان ذلك التحول بمثابة ولادةٍ عسيرة لوطنٍ أُنهكته الحروب والعقوبات والحرمان، ففتح العراقيون عيونهم على عالمٍ جديد اسمه "الديمقراطية"، وعلى مفاهيم لم يعرفوها من قبل مثل التداول السلمي للسلطة وحرية الرأي والتعددية... الخ .
لكن، وكما هي سنّة التحوّلات الكبرى، لم يكن الطريق إلى الديمقراطية مفروشًا بالورد، بل أفرزت التجربة السياسية العراقية بعد 2003 ظواهر معقدة وسلوكيات متناقضة وحالات سلبية واخرى ايجابية ؛ منها ما يُبشّر بنضج الوعي السياسي والاجتماعي، ومنها ما يكشف عن رواسب الماضي الاسود وثقافة الوصاية والتبعية والانقياد الأعمى , اذ انزلق البعض في مهاوي الفوضى والتخلف والسلوكيات الهجينة التي مزّقت النسيج الاجتماعي وأضعفت روح المواطنة... ؛ فالديمقراطية العراقية وُلدت في بيئةٍ مأزومة لم تتهيأ نفسيًا ولا ثقافيًا ولا تربويًا لاستقبالها، فكانت النتيجة ديمقراطية مشوّهة الشكل، ناقصة الجوهر .
لقد منح الدستور العراقي المواطن حرية المشاركة أو المقاطعة، ولم يُجبر أحدًا على الترشح أو التصويت... ؛ فالانتخابات حق وليست واجبًا قسريًا، والمقاطعة خيار شخصي مشروع لا غبار عليه... ؛ اذ جعل الدستور الاقتراع خيارًا فرديًا نابعًا من قناعةٍ لا من إكراه ... ؛ غير أن ما لا يمكن القبول به هو تحويل هذا الحق إلى أداة فوضى أو وسيلة تنمّر سياسي واجتماعي عبر تهديد المشاركين، أو تشويه صور المرشحين، أو تمزيق ملصقاتهم، أو بثّ خطاب الكراهية ضد من اختار طريق المشاركة... الخ ... ؛ فهذا المبدأ الديمقراطي تحوّل بيد بعض القوى والأحزاب إلى سلاحٍ ضدّ الآخرين... ؛ نعم , غير أن هذا الحق الشخصي والدستوري لا يمنحه شرعية عرقلة سير العملية الانتخابية، أو التأثير سلبيًا على فعالياتها السلمية، أو تهديد الناخبين والمرشحين، أو تمزيق الصور والإعلانات الانتخابية، في سلوكيات لا تمتّ إلى الاخلاق والقيم الانسانية و الحضارة بصلة... ؛ فبدل أن تُحترم خيارات الناس، أصبح المخالف في الرأي متّهمًا في وطنيته ودينه وانتماءه ، والمقاطع خائنًا، والمشارك تابعًا فاسدا ، حتى تلاشت الحدود بين الرأي والموقف، وبين الحق والرأي الشخصي... .
ومن بين أخطر الظواهر التي انبثقت من هذا الانحراف في الفهم الديمقراطي، استغلال الطفولة العراقية وتسخيرها في صراعاتٍ سياسية وانتخابية ضيقة... ؛ لقد تحوّل الطفل، رمز البراءة والنقاء، إلى أداةٍ في يد الكبار، يُقاد إلى الشوارع ليهتف بما لا يعي، ويصرخ ضدّ ما لا يفهم، ويُزرع في وجدانه منذ الصغر أن السياسة صراعٌ بين “نحن” و”هم”، وأن الآخر عدوٌّ يجب كرهه أو إسكاته.
إن تحويل الأطفال الأبرياء إلى أدواتٍ في معارك الكبار هو جريمة أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية، إذ تُغتال البراءة على أعتاب صناديق الاقتراع ومقرات الاحزاب والتيارات السياسية والدينية ... ؛ حين نرى مجموعات من الصغار يُدفعون إلى الشوارع وهم يهتفون ضد العملية الانتخابية والتجربة الديمقراطية , أو يقذفون المشاركين بالحجارة , أو يرفعون صور رجال دين معارضين ومقاطعين بتوجيه من الكبار، فإننا أمام مشهدٍ يختزل الانحراف العميق في الوعي الجمعي، وانسداد الأفق الأخلاقي لدى بعض القوى والتيارات التي تدّعي الوطنية والإصلاح.
وفي مشاهدٍ بثّتها وسائل التواصل والاعلام ، نرى أطفالًا يحملون صور رجال دين، يلوّحون بالعصيّ، و يهتفون بشعاراتٍ معادية للعملية الانتخابية، وكأنهم في معركة وجود لا في منافسةٍ سياسية... ؛ هذه المشاهد لا تعبّر فقط عن انحدارٍ أخلاقي، بل عن إفلاسٍ تربويّ وفكريّ وسياسي ، إذ تُزرع الكراهية في العقول الغضّة بدلاً من الوعي، ويُغرس الخوف مكان المحبة ، والعنف مكان التساؤل... ؛ اذ يقود الكبار أطفالًا للتنديد بالانتخابات بطريقة غوغائية ؛ وما هذه التصرفات الا انعكاس صارخ لعقلٍ بدائي ما زال يعيش تحت ظلال الوهم العقائدي والولاء الأعمى ... ؛ فبدل أن تُستخدم الطفولة رمزًا للأمل والمستقبل والسلم والبراءة ، تُستغل كأداةٍ للتهديد والعنف والتمرد على قيم الديمقراطية والمدنية.
نعم , بعض الأطراف السياسية، تحت شعارات وطنية زائفة، تقوم بتجنيد الأطفال الأبرياء وحشرهم في المعترك السياسي، فيُجبرون على التشكل أمام مراكز الاقتراع و الصراخ بهتافات و شعارات سياسية وهوسات شعبية تتسم بالعنف والبدائية والشتائم ، موجهة ضد الساسة والمرشحين والمشاركين في الانتخابات... ؛ وبتوجيه من هذه الأطراف، يتجول الأطفال حاملين العصي والحجارة ولافتات لبعض رجال الدين المقاطعين ، محدقين بعيون الناس المشاركين وعناصر الشرطة و متحدين القوات الأمنية والمواطنين، في مشهد يُجسّد استغلالاً فجاً للبراءة والحريات العامة واستقواءً على القانون.
إن من يدعو إلى مثل هذه الممارسات لا يسعى إلى التعبير، بل إلى التحريض والانقسام... ؛ فهو لا يفهم أن الديمقراطية لا تُفرض بالقوة، ولا تُقاطع بالعنف، ولا تُقوَّض بشعارات الجهل والتهريج... ؛ ان المقاطع في الدول المتحضرة يعبّر عن موقفه في صمتٍ راقٍ ، لا بالشتائم ولا بالتنمر، ولا باستغلال الصغار في معارك الكبار... ؛ أما عندنا، فإن المقاطعة تتحول إلى سلاحٍ ضد المختلف، وإلى وسيلةٍ لفرض الرأي الواحد، وكأنّنا أمام نسخة جديدة من الدكتاتورية ولكن بثوبٍ حزبي أو ديني هذه المرة.
إن هذه الدوغمائية المتعصبة التي تسكن بعض الجماعات والأحزاب تجعلها ترى نفسها محور الكون، تدور الحقيقة حولها حيثما دارت، وتكفّر أو تخوّن من خالفها الرأي... ؛ هي دكتاتورية ناعمة بوجهٍ جديد، تسعى لإعادة إنتاج الاستبداد بآليات ديمقراطية زائفة وشعارات وادعاءات دينية وسياسية بائسة .
إن استمرار هذه السلوكيات المنحرفة سيؤدي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وإشاعة الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، بل بين الجيران وأبناء الحي الواحد.... ؛ فحين يُربّى الأطفال على رفض الآخر لاختلافه في الرأي أو الموقف السياسي، نكون قد زرعنا فيهم بذور العنف والانقسام مبكرًا.
إن ما يحدث اليوم لا يهدد الديمقراطية فحسب، بل يهدد هوية العراق الإنسانية والاجتماعية، لأن المجتمع الذي يُسخّر طفولته في الصراع، ويقود أبناءه نحو العصبية والوصاية، إنما يحكم على نفسه بالانقسام الأبدي.
ولذلك، فإن الواجب الوطني والأخلاقي يفرض على القوى السياسية والمجتمعية والإعلامية أن تتكاتف لوقف هذه الممارسات الجاهلية ، وأن تُعيد الاعتبار إلى معنى الديمقراطية بوصفها ثقافة سلوكٍ لا طقسًا انتخابيًا، ووسيلة للتعبير لا وسيلة للتناحر.
فالديمقراطية ليست صندوقًا فقط، بل هي وعيٌ ومسؤولية ونضجٌ في التعامل مع الاختلاف... ؛ ومتى ما أدرك العراقيون هذه الحقيقة، حينها فقط يمكن أن نقول إننا تجاوزنا إرث الطغيان، وبدأنا نكتب فصول الحرية بعقولٍ ناضجة لا بشعاراتٍ جوفاء.
*من الناحية السياسية
إن تسييس الطفولة يعكس أزمةً بنيوية في بنية النظام السياسي العراقي بعد 2003، حيث فشلت النخب في ترسيخ ثقافة المشاركة الحرة، ولجأت إلى أساليب تعبئةٍ بدائية تُذكّر بعصور الشعارات القسرية وسنوات حكم البعث الدموي ... ؛ فبدل أن تبني الأحزاب وعيًا مدنيًا قائمًا على البرامج والرؤى، لجأت إلى العاطفة الدينية والطائفية والرمزية والعشائرية والحزبية ، لتصنع حشودًا مؤقتة لا جمهورًا ناضجًا... ؛ هذه السلوكيات لم تضعف فقط شرعية العملية الديمقراطية، بل جعلت من الانتخابات طقسًا جماعيًا مضطربًا تحكمه الانفعالات لا العقول.
إنّ ظاهرة استخدام الأطفال في الحملات المضادة للانتخابات تكشف عن تدهور مفهوم الشرعية السياسية؛ فالسياسي الذي يملك حجته وبرنامجه لا يحتاج إلى أصوات الصغار أو صراخهم، ولا يطلب من البراءة أن تحمل عنه عبء الحقد... ؛ كما أن هذه الظاهرة تعبّر عن خوفٍ عميق لدى بعض القوى من فقدان السيطرة، إذ حين يضعف المنطق، تُستدعى الرموز والشعارات والعواطف لتعبئة الجماهير وتعويض الفراغ الفكري والسياسي.
إنّ تسييس الطفولة في المجتمع العراقي هو جرح اجتماعي مفتوح، لأنه لا يزرع بذور الانقسام فحسب، بل يحرم المجتمع من فرصة بناء جيلٍ يؤمن بالحوار والتسامح، ويعيد إنتاج عقلية الصراع المستمر... ؛ وما لم تُواجَه هذه الظواهر بوعيٍ تربويّ وإعلاميّ ومؤسساتيّ، فإنها ستعيد إنتاج العنف نفسه بأشكالٍ جديدة في المستقبل.
*التحليل النفسي والاجتماعي لظاهرة تسييس الطفولة والجهل الجمعي
*تمهيد تحليلي فلسفي
إن ظاهرة تسييس الطفولة ليست مجرد سلوكٍ شاذ، بل هي مرآةٌ تكشف هشاشة الوعي العراقي بعد 2003، حيث لم يتحرر المجتمع بعد من "الذهنية الدكتاتورية والدوغمائية " وإن تبدّلت الوجوه والشعارات... ؛ إن الحرية السياسية حين لا تُرافقها حرية فكرية وأخلاقية، تتحول إلى فوضى، ويصبح الطفل فيها أول ضحايا الجهل الجمعي... ؛ وحين يتحول الصغير إلى أداة، يفقد الكبير إنسانيته، وتفقد الديمقراطية معناها .
إن استغلال الطفولة في الصراعات السياسية ليس سلوكًا عابرًا، بل هو مؤشر عميق على اضطراب الوعي الجمعي، ونتيجة مباشرة لثقافة الخضوع والتقديس التي ورثها المجتمع من عصور الاستبداد... ؛ فالطفل الذي يُلقَّن الكراهية بدل المحبة، والشعار بدل السؤال، والعصا بدل الرأي , والحجارة بدل الكلمة ، هو مشروع مستبدٍّ صغير في طور التكوين... ؛ وهكذا تتحول الأجيال إلى نسخ مكررة من جيلٍ مأزوم، يُعيد إنتاج ذاته دون وعيٍ أو مراجعة.
*التحليل النفسي
من الناحية النفسية، يكشف هذا السلوك عن حاجة مرضية لدى بعض الأفراد والجماعات للهيمنة والتأثير، حتى وإن كان الثمن هو تشويه البراءة... ؛ فالسلطة – سواء كانت دينية أو سياسية أو حزبية – حين تفقد قدرتها على الإقناع، تلجأ إلى استعراض القوة عبر أضعف الحلقات: الأطفال... ؛ إنهم يُستَخدمون كرمزٍ للعدد والضجيج، لا كرمزٍ للمستقبل، وكأنّ الجماعة تقول من خلالهم: “ها نحن نملك الجيل القادم أيضًا او نملك القدرة على العرقلة ولو بالأطفال ...!! .”
نعم ، تكشف هذه الممارسات عن عقدٍ جماعية متوارثة من حقبة الاستبداد... ؛ فالمجتمع الذي عانى طويلًا من القمع يجد صعوبة في ممارسة الحرية دون خوف أو عدوانية... ؛ لذلك تُترجم الحرية عند بعضهم إلى فوضى، والمشاركة إلى استعراضٍ للقوة، والمعارضة إلى صراعٍ وجودي , والمقاطعة الى نقمة وكراهية .
إنّ استغلال الأطفال سياسيًا يعبّر عن عجزٍ نفسي لدى الكبار عن الاعتراف بالهزيمة أو الخطأ؛ فحين يعجز الراشد عن الإقناع، يبحث عن من يمثل "نقاءه المفقود"، فيستعير وجوه الأطفال ليخوض من خلالها معاركه القديمة... ؛ إنها حالة إسقاطٍ نفسيّ كلاسيكية، حيث يُحمّل البراءة أوزار الأوهام السياسية.
ومن زاوية التحليل العميق، يمكن القول إن هذه الظاهرة تعكس خوفًا دفينًا من المستقبل... ؛ فالأحزاب التي تستغل الطفولة لا تثق بوعي الجيل القادم، فتسعى إلى برمجته مبكرًا على الولاء والخضوع... ؛ هي لا تربي الأطفال على التفكير، بل على الطاعة؛ لا على السؤال، بل على الترديد.
*التحليل الاجتماعي
أما من الزاوية الاجتماعية، فالمجتمع الذي يسمح بمثل هذا الانحدار إنما يعاني من انكسار في مفهوم القدوة، إذ غابت صورة المربي والمعلم والمفكر، وحلّ محلهم الزعيم أو الشيخ أو السياسي الذي يتحدث باسم المطلق والحقيقة الواحدة... ؛ ومن هنا تتولّد "عبودية فكرية" جديدة، تبرر كل فعلٍ باسم العقيدة أو الوطن، وتحوّل الجهل إلى فضيلة، والطاعة إلى إيمان.
وفي عمق المشهد، نجد أن تسييس الطفولة هو تعبير لا شعوري عن الخوف من المستقبل؛ فحين يعجز الكبار عن صياغة رؤية وطنية ناضجة، يسعون لتجنيد الصغار كي يضمنوا استمرار نفوذهم... ؛ إنها محاولة لتجميد الزمن في لحظة الولاء، وكأنهم يريدون أن يورّثوا أبناءهم لا الوعي، بل الانقياد.
وهكذا، تتحول الديمقراطية إلى مسرحٍ نفسي كبير تُعرض فيه عقد الماضي ومخاوف الحاضر، بينما تبقى الحرية فكرة بعيدة المدى، لا تتحقق إلا حين يتحرر الإنسان من عبوديته الداخلية قبل عبوديته السياسية.
فلا ديمقراطية حقيقية ما لم نتعلم أولًا أن نحترم براءة الطفل، ونتركه ينمو في فضاءٍ من التساؤل لا في سجن الشعارات... ؛ فالأمم لا تنهض حين ترفع أطفالها اللافتات، بل حين ترفع عقولهم إلى مرتبة الفهم والنور والوعي .
نعم ، تمثّل هذه الممارسات انحدارًا خطيرًا في منظومة القيم العراقية... ؛ فحين يُقحم الأطفال في الصراع، تُكسر الحواجز الأخلاقية بين الأجيال، ويُنتزع من الطفولة حقّها في البراءة، ومن المجتمع توازنه القيمي... ؛ إنّ الطفل الذي يُربّى على الولاء الأعمى لحزبٍ أو زعيمٍ أو مرجعية، سيفقد لاحقًا القدرة على التفكير النقدي، ويصبح أسير الانقياد الجمعي.
هذه الظاهرة تُعمّق الانقسام الاجتماعي أيضًا، لأنها تخلق أجيالًا مشحونة بالعصبية والانغلاق، تنظر إلى الآخر بعين العداء لا بعين المواطنة... ؛ وهكذا تتحول المناطق والمدن والأحياء إلى كانتونات سياسية مغلقة، يكره فيها الجار جاره لاختلافه في الانتماء أو التوجه.
*فما الهدف من وراء هذه الفعاليات الساذجة؟ وما الرسالة التي يُراد إيصالها؟!
إن استغلال الأطفال وإقحامهم في الشؤون السياسية يمثل، أولاً، انتهاكاً صريحاً لكافة الأعراف والقيم الإنسانية والمواثيق الدولية... ؛ وثانياً، يخلق هذه الممارسات فجوة عميقة بين أبناء المجتمع الواحد، بل وحتى بين أبناء المكون والمنطقة الواحدة، فتقسمهم إلى معسكرين متعاديين بدءاً من مرحلة الطفولة، مما يزرع بذور الكراهية والتمزق الاجتماعي.
هذه الحالة الشاذة تتناقض جذرياً مع ما يجري في المجتمعات الديمقراطية المتحضرة، حيث يحترم الممتنع عن المشاركة خيارات الآخرين ويذعن لنتائج صناديق الاقتراع... ؛ أما في سياقنا العراقي، فإن بعض الجماعات تتعامل مع السياسة بمنطق "الكُلّ أو لا شيء"... ؛ فهي إما أن تشارك وتفرض المشاركة على الجميع بلا استثناء، أو تعزف وتعمل على ثني الجميع عن الانتخاب باستخدام كافة وسائل الضغط، بما في ذلك استغلال الأطفال والصبيان.
هذا النمط من التفكير والإكراه ليس سوى صورة مصغرة عن الدكتاتورية والدوغمائية، فهو يجسد اعتقاداً راسخاً بامتلاك الحقيقة المطلقة، وسعياً هوسياً للهيمنة على مقدرات البلاد والعباد، مع تجاهل تام لشركاء الوطن وإرادة الآخرين...!!
*النتائج والآثار
إن استمرار هذه الممارسات ستكون له آثار مدمّرة على المدى البعيد... ؛ فهي تقتل روح الديمقراطية في مهدها، وتحوّل الحرية إلى أداة تدمير ذاتي... ؛ إذ لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يستقيم في مجتمعٍ تجهل أجياله معنى الاختلاف، وتُربّى على الإقصاء والكراهية.
نعم , إن الاستمرار في هذه الممارسات لا يفضي إلا إلى تأجيج نيران البغضاء والكراهية والتعصب بين أبناء الوطن، وهو ما يخدم، في جوهره، أجندات الأعداء الرامية إلى تفريق المفرّق، وتجزئة المجزّأ، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتشظية الأغلبية العراقية الأصيلة، ليغدو الوطن ساحة لصراعات لا تُبقي ولا تذر.
كما أنها تسهم في تفكيك الهوية الوطنية الجامعة، لأن الولاء للأحزاب والطوائف يتقدّم على الولاء للعراق... ؛ وفي ظل هذا الانقسام، تضيع المفاهيم الكبرى: الوطن، المواطنة، المشاركة، والحق في الاختلاف.
إن الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد صناديق الاقتراع، بل بمدى احترام الإنسان لإنسانية الآخر... ؛ ولا يمكن لمجتمعٍ يزرع في طفولته بذور العنف أن يحصد سلامًا أو استقرارًا... ؛ فالديمقراطية ليست صوتًا في الصندوق، بل ثقافةُ عقلٍ وسلوكٍ يوميٍّ في التعامل مع الاختلاف والحرية.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق وسوريا بعد سقوط دمشق: تشريح التوترات الأمنية والطائفي ...
- المسافة الآمنة: فنّ وضع الحدود في العلاقات الإنسانية
- مقولة وتعليق/ 62/ الحرية ثمرة العقل المستنير
- مقولة وتعليق / 61 / التعليم والذكاء: ثنائية الزيف والحقيقة ف ...
- دور الصداقة ومنازل القلوب
- بين المعرفة والوعي: اغتراب الذات في عصر المعلومات
- ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه ...
- هواجس الإيمان: سيرة ذاتية في عشق المجهول
- بغداد تُستباح بهدوء... العمالة الأجنبية كحصان طروادة جديد
- أطفال داعش المنسيون: تداعيات جهاد النكاح والمستقبل المجهول
- الصديق الذي يشبه الدواء... حين يصبح الإنسان علاجًا للإنسان
- الإنسان المرهق... حين يمشي العالم محمولًا على أكتاف الأرواح ...
- تشريح البيئة الملوثة بالسموم الاجتماعية والامراض والعقد النف ...
- تجنيس الغرباء في العراق: أزمة هوية وطنية أم فوضى إنسانية مقن ...
- فلسفة اللحظة الضائعة: حين يبتلع الزمن ملامحنا
- الجنوب العراقي بين مطرقة السادية وسندان المازوخية : قراءة سو ...
- الخيانة كمرضٍ نفسيّ وعقدةٍ اجتماعية
- عندما يتحول الفضاء الرقمي والاعلام إلى ميدان صراع و حين يتكل ...
- المسرحية السياسية في العراق: وجوه تتبدل... والمأساة واحدة
- حين يتكرر المشهد: تكالب الأقليات السياسية على الأغلبية العرا ...


المزيد.....




- مستوطنون يشعلون النار بمسجد في الضفة الغربية ويكتبون عبارات ...
- الخارجية الأمريكية تدعو إلى قطع إمدادات الأسلحة عن قوات الدع ...
- بعد عشر سنوات على هجمات باريس الإرهابية.. حزن وجراح لم تلتئم ...
- بعد عقد على اعتداءات 13 نوفمبر.. فرنسا تكرم ذكرى 132 ضحية
- تبون يعفو عن صنصال... انتكاسة لسياسة -لي الذراع- ونجاعة نهج ...
- هجمات باريس 2015: معركة فرنسا ضد التطرف
- فرنسا تحيي الذكرى السنوية العاشرة لهجمات باريس في ظل خطر إره ...
- 6 نباتات تعيد الحياة إلى حمّامك.. خيارات مثالية للمساحات الر ...
- استقالة وزيري العدل والطاقة في أوكرانيا على خلفية فضيحة فساد ...
- ما وظيفة حساس عادم السيارة ومتى يجب استبداله؟


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض سعد - تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراطية في العراق