أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - العوامل الصانعة للوعي الجمعي والثقافة العامة : بين القيادة والمجتمع وديناميات التأثير المتبادل















المزيد.....

العوامل الصانعة للوعي الجمعي والثقافة العامة : بين القيادة والمجتمع وديناميات التأثير المتبادل


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 11:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


***تمهيد: في تعقيد ظاهرة التغيير الاجتماعي
تشكل عملية التغيير الاجتماعي إشكالية بالغة التعقيد، تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والدينية والنفسية في نسيج متشابك يصعب فكه ... ؛ فالتغيير ليس حدثاً منعزلاً، بل هو عملية مستمرة تخضع لأنماط وقوانين يمكن تحليلها عبر النظريات الاجتماعية المختلفة... ؛ إن فهم هذه النظريات لا يمنحنا القدرة على تفسير الماضي وفهم الحاضر فحسب، بل يمكننا أيضاً من استشراف المستقبل وتطوير استراتيجيات فعالة للتغيير الإيجابي... ؛ تقدم هذه المقالة الموجزة تحليلاً سريعا للنظريات العلمية التي تفسر التغيير الاجتماعي، وتستعرض قواعد النهوض المجتمعي وعوامل الانهيار، مع تقديم نموذج تحليلي متكامل لفهم هذه الظاهرة المعقدة.
مَن يمتلك مفاتيح تشكيل وعي الجماهير؟ ومَن يصوغ المنظومة الفكرية والثقافية للمجتمعات؟ ومَن يملك أدوات تحريك المواطنين وتغيير مساراتهم؟ هذه الأسئلة المصيرية تظل محلّ نقاش مستفيض، تتباين حولها الرؤى والتحليلات.
ففريق يرى أن المؤسسة الدينية ورجالها هم المحرك الأساسي وصناع البنى الثقافية... ؛ بينما يعزو فريق آخر دور التغيير إلى الساسة والقادة والزعماء والأحزاب السياسية... ؛ وثمة من يرى أن الشخصيات الاجتماعية المؤثرة - كشيوخ العشائر والأثرياء وأصحاب النفوذ - هي محور التأثير والتغيير... ؛ في حين يجزم آخرون بأن المفكرين والفلاسفة والمثقفين، إلى جانب وسائل الإعلام، هم القوة الدافعة الحقيقية خلف كل تحول ثقافي واجتماعي... ؛ ولا يستبعد فريق رابع تداخل كل هذه العوامل مجتمعة في عملية صنع التغيير، سواء أكان إيجابياً أم سلبياً.
ومن خلال هذا الجدل، تبرز قضية جوهرية: أيهما السبب وأيهما النتيجة؟ أهي النخب والمؤسسات هي التي تصنع وعي الجماهير، أم أن هذه النخب نفسها مجرد صدى لوعي المجتمع ونتاج لثقافته السائدة؟ فثمة من يرى أن العوامل المؤثرة المذكورة إنما تستجيب في حقيقة أمرها لذهنية المواطن وثقافته، وتتماهى مع عقليته، وبذلك تكون محصلة للبيئة المجتمعية وليس صانعة لها.
ولو جمعنا هذا الطرح مع الرأي الأول، لانتهينا إلى معضلة منطقية تشبه "الدور"؛ حيث يتوقف (أ) على (ب) ويتوقف (ب) على (أ)... ؛ أي أن تغيير الجماهير مرهون بتلك العوامل، والعوامل نفسها مستندة الى ثقافة الجماهير ووعيهم.
غير أني أعتقد أن هذه العملية ليست حلقة مفرغة مغلقة، بل هي أشبه بحلقة تواصلية ديناميكية مستمرة، تتطور ولا تتجمد، وقد تتبادل الأدوار أثناء التفاعل بين الطرفين... ؛ فمرة تكون الغلبة لتأثير النخب والعوامل المؤثرة، ومرة أخرى تكون الكلمة العليا للقواعد الشعبية والجماهير... ؛ ومن رحم هذا التفاعل الحيوي تولد ثقافة المجتمع، ويتشكل وعي النخب والشخصيات الوطنية على حد سواء.
نعم , تظلّ مسألة تأثير القيادة في المجتمع أو تأثير المجتمع في قيادته واحدةً من أكثر الإشكاليات تعقيدًا في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا والسياسة... ؛ فمن يصنع وعي الناس؟ ومن يوجّه ثقافتهم؟ ومن يمتلك القدرة على إحداث التغيير، سلبًا كان أم إيجابًا؟ وهل الوعي يُصنع من الأعلى إلى الأسفل، أم من الأسفل إلى الأعلى، أم من خلال دائرة تفاعلية معقّدة تتبادل فيها الأطراف التأثير بصورة مستمرة كما اسلفنا ؟
هذه الأسئلة هي جوهر التفكير في التغيير الاجتماعي ودينامياته، وميدان بحثٍ لعلماء كبار مثل إميل دوركايم، وماكس فيبر، وبارسونز، وغرامشي، وابن خلدون، وصولًا إلى نظريات التحديث والتبعية والبنائية الوظيفية.
من يصنع وعي الأمم؟ جدلية القيادة والمجتمع ونظريات التغيير في تشكيل الوعي الجمعي ...
من يصنع فكر الناس؟
من يوجّه ثقافة الجماهير؟
من يمتلك القدرة على تغيير وعي المواطنين ورفع منسوب إدراكهم؟
أسئلة متداخلة لا يمكن الإجابة عنها بعاملٍ واحد، لأنها تتصل ببنية الوعي المجتمعي وتعقيداته وتشابك القوى المؤثّرة فيه.
نعم , تختلف الإجابات حول القوى التي تصنع ثقافة الناس كما اسلفنا ... ؛ فمنهم من يرى أن:
*المؤسسة الدينية ورجال الدين يشكلون القوة الأكثر نفوذًا عبر التاريخ، بما يملكونه من رمزية أخلاقية وروحية.
*القادة السياسيون والأحزاب يصنعون توجّه المجتمع عبر السلطة، والقوانين، وإدارة الدولة.
*الشخصيات الاجتماعية التقليدية كالعشائر والزعامات المحلية والأثرياء والنفوذ الاجتماعي.
*المفكرون والمثقفون والفلاسفة الذين يصنعون الأفكار الكبرى ويُعيدون تشكيل الوعي المعرفي.
*وسائل الإعلام الحديثة التي أصبحت—وفق نظرية “الغرس الثقافي”—تزرع أنماط السلوك والقيم في الأذهان عبر التكرار والتأثير غير المباشر.
*الاقتصاد الذي يُعدّ، وفق النظريات الماركسية، العامل المادي الأول الذي يحدد وعي الناس وأنماط تفكيرهم.
*المدرسة والتربية التي تملك قدرة طويلة الأمد في تشكيل العقل منذ الطفولة... الخ .
نعم , طالما تساءل الناس : من أين يبدأ الوعي؟
ومن يسكب في عقول الناس أفكارهم الأولى؟
أهو صوتُ الزعيم حين يخطب؟ أم ظلُّ رجل الدين على منبره؟ أم أنفاسُ المثقف وهو ينفخ في رماد الأسئلة؟
أم لعلّ الجماهير نفسها هي من توحي لكل هؤلاء بما ينبغي أن يقولوا وما يجب أن يفعلوا؟
تبدو هذه الأسئلة وكأنها صدى بعيد لجدلٍ لا ينتهي، جدلٍ شغل الحكماء والفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ نشأة الفكر الإنساني... ؛ فالعقل الجمعي ليس صفحة بيضاء يكتب عليها شخصٌ واحد، ولا هو صفحة مطلقة يكتب عليها الجميع، بل هو نهرٌ عميق تتغذّى مجاريه من قممٍ متعدّدة، بعضها ظاهرٌ كالشمس، وبعضها خفيٌّ كالجذور تحت التربة.
ويرى آخرون أن التغيير لا يحدث بفعل عامل واحد، بل هو نتاج تفاعلٍ معقّد لمجموعة واسعة من العوامل—دينية وسياسية وثقافية وإعلامية واجتماعية—قد تتآزر لإنتاج أثر إيجابي، أو تتشابك لإحداث أثر سلبي، فيصعد الوعي أو يهبط وفق طبيعة هذا التفاعل... ؛ أي ان هذه العوامل لا تعمل منفردة، بل تتشابك ضمن بنية اجتماعية متداخلة تنتج الوعي وتعيد إنتاجه باستمرار.
نعم , هناك اتجاهًا معارضًا لهذه الرؤية، إذ يعتقد أن الجماهير نفسها هي من تصنع تأثير تلك العوامل، وأن المؤسسات والشخصيات ليست سوى صدى لثقافة المجتمع ووعيه العام... ؛ فالقادة—وفق هذا التصوّر— ينشأون على صورة المجتمع، ويتبنّون خطابه، ويستجيبون لتوقعاته ومطالبه ورغباته.
ولو جمعنا هذا الرأي مع سابقه لوجدنا أنفسنا أمام علاقة دائرية معقّدة؛ فالعوامل المذكورة تؤثر في الجماهير، والجماهير بدورها تُعيد تشكيل تلك العوامل المؤثرة ... ؛ لكن هذه العلاقة ليست علاقة توقف منطقي صارم – اشبه بالدور وهي توقف ج على ب وتوقف ب على ج - كما اسلفنا ، بل هي سيرورة تواصلية تتبدّل فيها الأدوار باستمرار، فتارة يكون التأثير صاعدًا من القاعدة نحو القمة، وتارة يكون نازلًا من القمة نحو القاعدة، وبين الاتجاهين تتشكّل الثقافة العامة ومستوى الوعي الجمعي.
***وبتعبير أدق : هل القيادة تصنع المجتمع أم المجتمع يصنع قيادته؟
تتعارض هنا ثلاث مدارس فكرية:
1. النظرية النخبوية (Elite Theory)
وترى أن التغيير يبدأ من القيادة: فالأفكار العظمى، والمذاهب السياسية، والتنظيم المؤسسي كلها تبدأ من قمّة الهرم... ؛ وتقول هذه المدرسة إن الجماهير عادةً تنقاد ولا تقود... .
القيادة ورؤوس الجبال : اذ يرى قومٌ أنّ مفتاح الوعي بيد القيادة؛ فالأمة—على حدّ قول النخبوية— تنهض حين ينهض قادتها، وتخبو حين يتعثّرون... ؛ هكذا يُظنّ أنّ الكلمات العليا هي التي تصنع صمت القاع وضجيجه، وأن قرارات القمة هي التي ترسم طريق الناس إلى الماء أو إلى التيه... ؛ وهؤلاء لا يبتعدون كثيرًا عن الحقيقة؛ فكم من أمةٍ لم تُولد نهضتها إلا حين وُلد قائد يوقظها من غفلتها، أو مفكّر يشعل في العقول شرر السؤال.
2. نظرية الجماهير (Mass Theory)
وهي معاكسة للأولى، وتعتبر أن المجتمع هو من يصنع قادته، وأن النخب ليست إلا انعكاسًا لثقافة الناس ومزاجهم ووعيهم العام.
الجماهير وعمق الوادي : لكن آخرين يرون أن الجماهير ليست كتلة صامتة كما يُظن، بل هي محيطٌ هادر يصنع أمواجه بيده... ؛ فالقادة—وفق هذا الرأي—ليسوا إلا أبناء بيئتهم ؛يتغذّون من ثقافة الناس، ويتنفسون من صدورهم، ويعتلون على أكتافهم... ؛ وإذا صلح المجتمع صلحت قيادته، وإن فسد المجتمع خرجت من بين صفوفه قيادات تشبهه؛ فلا يُتوقّع أن تنبت شجرة السَّدَر في أرضٍ مالحة، ولا أن يتولّد نورٌ نقيّ من زيتٍ عفن.
3. المنظور التفاعلي (Interactionism)
وهو الأكثر قبولًا اليوم في علم الاجتماع، ويقول إن العلاقة جدلية تبادلية؛ فالقادة يصنعون الوعي، والجماهير بدورها تعيد تشكيل القادة... ؛ أي إنها عملية أشبه بالدورة المستمرة، تتغير فيها موازين القوة من حين لآخر... ؛ وبهذا تصبح علاقة القيادة بالمجتمع ليست علاقة سببية خطية، بل علاقة تواصلية ديناميكية تتأثر بالثقافة، والتعليم، والاقتصاد، والتاريخ، والظروف السياسية.
جدلية الجبل والوادي : غير أنّ الحقيقة ليست في هذا ولا ذاك وحده، بل في المسافة بينهما كما اسلفنا ... ؛ فالمجتمع والقيادة يسيران في رقصةٍ أبدية ،مرةً يتقدّم الجبل بخطوته الأولى فيتبعه الوادي، ومرةً يهدر الوادي فيرتجف الجبل ويتّجه معه... ؛ وهذه هي روح النظريات الاجتماعية الحديثة التي ترى التغيير تفاعلًا مستمرًّا، لا انطلاقًا من الأعلى وحده ولا من الأسفل وحده، بل من حركةٍ دائرية تتبدّل فيها الأدوار وتتعانق فيها القوى.
***اختلاف العوامل المؤثرة من مجتمع لآخر : اذ تؤكد الأنثروبولوجيا أن العوامل المؤثرة ليست ثابتة، بل تتغير باختلاف : البنية الثقافية , التاريخ , الاقتصاد , نمط العيش , مستوى التعليم , طبيعة السلطة ... الخ .
فالعشيرة، مثلًا، تمثل قوة مؤثرة في العراق واليمن، بينما لا وجود لها في ألمانيا أو السويد.
والمؤسسة الدينية قد تكون قوة هائلة في مجتمع متدين، لكنها عديمة الأثر في مجتمع ملحد أو علماني أو لاديني.
إذن فالتغيير ليس “وصفة موحّدة”، بل يتطلب فهم خصائص كل مجتمع وقواه الفاعلة.
فليس ما يؤثر في مجتمع بالضرورة مؤثرًا في مجتمع آخر؛ فالعشيرة- مثلًا- قد تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي في مجتمعات كالعراق واليمن كما اسلفنا ، لكنها تكاد تختفي من الوعي الاجتماعي في مجتمعات أوروبية مثل ألمانيا، حيث لا تشكّل العشيرة جزءًا من البنية الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية... ؛ وكذلك المؤسسة الدينية لا يمكن أن تكون مؤثرة في مجتمع يغلب عليه الإلحاد أو اللادينية ... ؛ وهكذا تتفاوت العوامل المؤثرة باختلاف الثقافة والتاريخ والبنية الاقتصادية والتعليمية للمجتمع.
أما المجتمع العراقي، فهو مثالٌ على مجتمعٍ تتداخل فيه جميع العوامل السابقة: الدين، العشيرة، السياسة، الاقتصاد، الإعلام، التراث، الفلكلور، العادات والتقاليد، والذاكرة التاريخية العميقة... ؛ و هذه التداخلات غالبًا ما تخلق حالةً من التعقيد تجعل فهم مسار الوعي الجمعي مهمة صعبة، ناهيك عن تغييره بصورة إيجابية.
نعم , للعراق، حديثٌ آخر... ؛ فهو بلدٌ تتقاطع فيه العصور كما تتقاطع الرياح عند مفترق الصحارى... ؛ تلتقي فيه العشيرة بالدين، ويتجاور فيه التراث بالحداثة ،ويتعارك فيه السياسي مع الإعلامي، ويتشابك فيه المثقف مع العادات والتقاليد... ؛ إنه مجتمعٌ متعدد القوى، لا يُمكن لعاملٍ واحد أن يقدّمه، ولا لعاملٍ واحد أن يجرّه إلى الخلف ؛ بل هي شبكةٌ من الخيوط، بعضها يرفع، وبعضها يخنق، وبعضها يُبقِيه معلّقًا بين السماء والأرض ... .
ومن خلال هذا يمكن فهم سرّ الارتفاع أو الانخفاض في المستوى الثقافي والفكري لأي شعب؛ فالشعوب الواعية المثقفة لا تنهض صدفة، بل تنهض لوجود منظومات إيجابية واعية خلفها... ؛ وفي المقابل، فإن الشعوب الواقعة في فخّ الجهل والسذاجة والتخلف والاتكالية والاستهلاك، إنما تقبع كذلك نتيجة منظومات سلبية مسيطرة تُنتج الانغلاق والفساد والركود.
ولذلك لا يُعقل أن يَدّعي أحدهم النزاهة وهو يعيش وسط بيئة غارقة في الفساد من أعلى الهرم إلى أدناه... ؛ كما يصعب تصديق دعوات التنمية والنهضة والازدهار إذا صدرت من جهات كانت وما تزال جزءًا من الأزمة وأحد أسبابها... ؛ فالحقيقة—كما يُقال—واضحة لمن أراد رؤيتها، والكذب والزيف لا يثبتان سوى لمن يريد أن يُخدع.
غير أن هناك من يعمل على خلط الأوراق، كما يفعل المنافقون الذين يُظهرون شيئًا ويُخفون نقيضه، كي يمرّروا مخططاتهم ورؤاهم السلبية عبر الدعاية والتضليل.
وعليه، يصبح من الصعب إحداث تغيير اجتماعي إيجابي أو رفع وعي المجتمع ما دامت القيادات— بمختلف مستوياتها — فاقدة للكفاءة أو النزاهة أو الرؤية الاستراتيجية ... ؛ وقد عبّر الشاعر عن هذا بقوله:
"إذا كان ربُّ البيتِ بالدفِّ ضاربًا … فشيمةُ أهلِ البيتِ كلُّهُمُ الرقصُ."
نعم، ثمة تأثير متبادل بين القيادة والمجتمع، تمامًا كما يلعب الأب دورًا في تشكيل شخصية ابنه ... ؛ لذا يقال: "الابن على سرّ أبيه" و "الإنسان ابن بيئته"... ؛ ومع ذلك، تبقى إمكانية كسر الدائرة وتغيير المسار ممكنة حين تتوفر قيادة واعية وشعب مستعدّ للتغيير، وحين تُفعَّل المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية بوعي ومسؤولية.
***قواعد نهوض المجتمعات في النظريات الاجتماعية
1. نظرية التحديث (Modernization Theory)
ترى أن التطور يحدث عبر: التعليم , العقلانية , التخصص , الدولة الحديثة , الاقتصاد المنتج , تقليص ولاءات ما قبل الدولة ... الخ .
2. نظرية رأس المال الاجتماعي (Social Capital) – روبرت بوتنام
المجتمعات تنهض عندما تنتشر فيها : الثقة , التعاون , المؤسسات الفعّالة , المشاركة المدنية ... الخ .
3. نظرية الثقافة السياسية (Political Culture)
كل مشروع تنمية يفشل إذا لم تتغير : قيم المجتمع , ذهنيته , علاقته بالسلطة , رؤيته للحرية والمسؤولية ... الخ .
4. ابن خلدون: العصبية والعمران
يرى أن الأمم ترتفع عندما تكون متماسكة قويّة العصبية، وتنهار عندما :تنتشر فيها مظاهر الترف , ويضعف الولاء العام , وتتفكك الروابط الاجتماعية , ويسوء الحكم ويتسيّب المسؤولون ... الخ .
5. مدرسة فرانكفورت ونظرية الهيمنة الثقافية (غرامشي)
لا نهضة دون تغيير: الخطاب الثقافي , الوعي , البنية الذهنية , طرق التفكير ... ؛ وهذا لا يتم إلا عبر “مثقفين عضويين” يشتبكون مع قضايا المجتمع لا مع الأبراج العاجية.
*** القواعد التي تؤدي إلى انهيار المجتمع وتخلّفه
وفق النظريات الاجتماعية والسياسية، تسقط المجتمعات عندما تتوفر فيها واحدة أو أكثر من هذه الظواهر : الاستبداد ؛حيث تُلغى المشاركة ويُقمع الاختلاف ... , الفساد ؛ويعدّه ماكس فيبر “السمّ القاتل” لجسد الدولة... , انهيار التعليم ؛وهو أساس إنتاج الجهل وضعف التفكير النقدي... , اقتصاد ريعي غير منتج ؛ يولّد اتكالية ويقتل الإبداع والمبادرة ... , ولاءات ما قبل الدولة ؛ مثل العشيرة والطائفة والحزب الموالي للأجنبي... , تفكك القيم ؛ كغياب الصدق، وتفشي النفاق الاجتماعي، وازدواجية الشخصية ... , هيمنة الإعلام الموجّه ؛ الذي يصنع الوعي الزائف ويخدم السلطات أو المصالح الخاصة ... , ضعف القانون وانتشار الظلم ؛ وهو السبب الأكبر في إحباط الناس وانهيار ثقتهم بالدولة... الخ .
وعند اجتماع هذه العوامل، تنحدر الأمم نحو الجهل والتخلف والفساد والاتكالية، ويصحّ حينها القول: (( كيفما تكونوا يولى عليكم )) فالعلاقة تفاعلية مشتركة وليست احادية الجانب .
*** نحو فهم أعمق لعلاقة القيادة بالمجتمع
لا يمكن تغيير المجتمع إيجابيًا إذا كانت القيادة : فاسدة , غير كفوءة , لا تمتلك رؤية , أو محاطة بنخب انتهازية ... ؛ كما لا يمكن للمجتمع أن يتقدّم إذا كان هو ذاته : غير راغب في التغيير , يخاف الحرية , يقدّس الماضي , أو يُعيد إنتاج الفساد والسلوكيات السلبية ... الخ ؛ فالقيادة والمجتمع—معًا—يصنعان دائرة التغيير... ؛ فإذا صلح أحدهما ساند الآخر، وإذا فسد أحدهما أفسد الآخر... ؛ لذ قيل: الناس على دين ملوكها ، وقيل أيضًا: الأمم لا تنهض إلا بقياداتها الواعية وحكوماتها النزيهة الوطنية وشعوبها المستعدة للتغيير والتضحية .
*** خاتمة
إن التغيير الاجتماعي ليس معادلة بسيطة، بل هو عملية طويلة ومعقّدة تتداخل فيها: الثقافة , القيادة , الاقتصاد , التعليم , الإعلام , والقيم ... الخ ؛ ولا تنهض الأمم إلا إذا توفرت الإرادة لدى كل من النخبة و الجماهير معًا... ؛ وإذا فشلت هذه العلاقة، فسيبقى المجتمع يدور في حلقة التخلف، مهما بدّلت الوجوه والشعارات.
تقول نظريات التحديث إن المجتمعات لا تنهض إلا إذا أضاء العقلُ دهاليزها، وإذا تَرجَّل الجهلُ عن صدور أبنائها، وإذا نمت فيها روح المسؤولية والحرية، وإذا ضُبطت المؤسّسات بميزان العدل لا ميزان الغنيمة.
نعم , إن التغيير الاجتماعي عملية معقدة تخضع لأنماط مختلفة تتفاعل فيها القيادات والمؤسسات مع القواعد الشعبية في حوار ديناميكي مستمر... ؛ وتشير النظريات الاجتماعية أن المجتمعات تتغير وفق أنماط متعددة: تطورية خطية، دورية، وظيفية، أو صراعية... ؛ أما قواعد النهوض فتكمن في وجود مرجعية قيمية وأخلاقية، وسلطة عادلة، وتعاون وتعارف بين أفراد المجتمع، وأمن واقتصاد مزدهر وأمل في المستقبل... ؛ في المقابل، يؤدي الانحطاط الأخلاقي والظلم والاستبداد والكوارث الطبيعية والحروب إلى الانهيار المجتمعي.
إن فهم هذه الآليات والأنماط يمكن المجتمعات من تطوير استراتيجيات فعالة للتغيير الإيجابي، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية كل مجتمع ومرحلة تطوره... ؛ فكما قال الشاعر: "إذا كان رب البيت بالدف ضاربا.. فشيمة أهل البيت كلهم الرقص"... ؛ فالتغيير يبدأ من القيادة، لكنه لا يتحقق دون مشاركة فعالة من المجتمع، في تفاعل تواصلي مستمر ينتج التغيير المنشود.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يتحول المجرم إلى وجيه .. والمجتمع إلى شريك في الجريمة..! ...
- ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله
- سرقات في ظلال القانون — حين تتخفّى اللصوصية بثياب الفضيلة
- مقاربة سياسية لما بعد الانتخابات العراقية 2025: بين توازن ال ...
- العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل الت ...
- سقوط القيم في الصراع السياسي والانتخابي : قراءة في التحلل ال ...
- جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان ...
- زعامة الفقاعات وساسة الاعلانات واللقاءات : حين يتحوّل الترشّ ...
- تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراط ...
- العراق وسوريا بعد سقوط دمشق: تشريح التوترات الأمنية والطائفي ...
- المسافة الآمنة: فنّ وضع الحدود في العلاقات الإنسانية
- مقولة وتعليق/ 62/ الحرية ثمرة العقل المستنير
- مقولة وتعليق / 61 / التعليم والذكاء: ثنائية الزيف والحقيقة ف ...
- دور الصداقة ومنازل القلوب
- بين المعرفة والوعي: اغتراب الذات في عصر المعلومات
- ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه ...
- هواجس الإيمان: سيرة ذاتية في عشق المجهول
- بغداد تُستباح بهدوء... العمالة الأجنبية كحصان طروادة جديد
- أطفال داعش المنسيون: تداعيات جهاد النكاح والمستقبل المجهول
- الصديق الذي يشبه الدواء... حين يصبح الإنسان علاجًا للإنسان


المزيد.....




- تركيا.. زواج محارم سبب بناء مدينة بودروم.. هذه قصة أحد عجائب ...
- بلجيكا تقع في المحظور.. برطمانات الكاربونارا في متجر البرلما ...
- بعد مهلة ترامب.. زيلينسكي يعلق على خطة الـ28 نقطة لوقف حرب ر ...
- شاهد مزحة ترامب بلقاء ممداني بعد وصف الأخير له بـ-الفاشي-
- تحت وقع خلافات بالجملة ـ قمة مجموعة العشرين تنطلق في البرازي ...
- قمة العشرين: ألمانيا تسعى لتعزيز التقارب مع البرازيل والمكسي ...
- العالم يعيد رسم خرائطه: ماذا يعني غياب الثلاثة الكبار عن مجم ...
- كييف تبحث مع الأوروبيين مقترح السلام الأمريكي فيما أعلنت موس ...
- الاحتلال يداهم مناطق بالضفة والمستوطنون يحرقون منشأة زراعية ...
- أوكرانيا تبحث الخطة الأميركية مع الأوروبيين وترامب يمهلها حت ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض سعد - العوامل الصانعة للوعي الجمعي والثقافة العامة : بين القيادة والمجتمع وديناميات التأثير المتبادل