رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 08:04
المحور:
الصحافة والاعلام
ليست السرقة مجرد فعلٍ مادّي يُرتكب خفيةً تحت جنح الظلام، ولا تقتصر على من يمدّ يده إلى جيب غيره ليسلبه مالًا أو متاعًا.
إنّ للسرقة وجوهًا متعدّدة تتخفّى خلف الأقنعة الاجتماعية والمناصب والمظاهر الزائفة، حتى لتبدو أحيانًا وكأنها جزء من النظام الطبيعي للحياة، فيما هي في جوهرها جريمة أخلاقية تتسلّل إلى الضمير الإنساني لتنهشه ببطء.
فالطبيب الذي يتقاضى أجرًا على مرض لم يشخّصه، يسرق لا من الجسد فحسب، بل من الثقة التي هي أعظم ما يملكه المريض في لحظة ضعفه... ؛ والمحامي الذي يدافع عن قضية خاسرة وهو يعلم بطلانها، لا يسرق من موكّله المال فقط ، بل يسرق الأمل والعدالة والكرامة... ؛ أمّا التاجر الذي يبيع بضاعة مغشوشة، فيمارس سرقة مزدوجة: يسرق لقمة العيش من أفواه الناس، ويشوّه روح السوق التي تقوم على النزاهة... ؛ وهناك الكاتب الذي يبيع الأكاذيب على أنها حقائق، فيُضلّ العقول ويشوّه الوعي ويغتال الحقيقة باسم الكلمة، وهو أخطر اللصوص على الإطلاق؛ لأنه يسرق ضمير الأمة ويُعيد تشكيل وعيها الزائف كما يشاء... ؛ وكذلك السمسار الذي ينهب نصف ثمن البضاعة عمولة، يمارس سرقةً مغطاة بالعرف والعادة، لكنه في العمق يستولي على تعب الآخرين بدمٍ بارد... ؛ وكذلك السياسي والمسؤول الفاسد الذي يستخدم سلطته السياسية ومنصبه الحكومي لسرقة ثروات وأموال الشعب عبر اختلاس أو فساد... ؛ او رجل الدين الذي يأكل المال بالباطل وبالادعاءات الطوباوية ... الخ .
هذه السرقات "المشروعة" قانونًا، تُمارس يوميًّا في حياة المجتمعات وتتحوّل إلى سلوك اجتماعي مألوف، حتى يفقد الناس إحساسهم بخطورتها...!!
إنّها السرقة المقنّعة التي لا يُعاقب عليها القضاء، لكنها تترك ندوبًا في ضمير الإنسان الجمعي، وتُضعف روابط الثقة بين الأفراد.
من الناحية النفسية، تنشأ هذه الظواهر من اضطرابٍ في القيم، ومن حاجة دفينة لتبرير الذات وتزيين الأفعال تحت شعار "الكل يفعل ذلك"، فتُصاب النفس بضمور الضمير وتآكل الإحساس بالمسؤولية... ؛ وحين تُصبح السرقة سلوكًا "عاديا" في المجتمع، يتحوّل الفساد إلى ثقافة، ويُستبدل القانون الأخلاقي بقانون المصلحة.
السرقة ليست دائمًا فعلاً مادّيًا، بل قد تكون فكرة تُسرق، أو جهدًا يُنهب، أو ثقةً تُغتال، أو حبًّا يُستغل، أو وطنًا يُباع على دفعات... ؛ واللصّ الحقيقي ليس من يسرق الأشياء، بل من يسرق المعاني والقيم، ومن يُجرّد الإنسان من كرامته دون أن يمدّ يده إلى جيبه.
وهكذا، فإن أخطر السرقات هي تلك التي لا تُرى، لأنها تُرتكب في وضح الضمير، تحت حماية القانون أو بحصانة العُرف، ولأنّ ضحاياها لا يدركون أنهم قد سُرقوا إلا بعد أن يفقدوا القدرة على الثقة بالحياة والإنسان.
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟