أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض سعد - العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل التركي والمأزق والانبطاح العراقي















المزيد.....

العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل التركي والمأزق والانبطاح العراقي


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 10:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


*مقدمة: في ضفاف التاريخ وهوية بلاد النهرين
منذ فجر الحضارات الأولى، حين كانت سهول بلاد الرافدين تُنبت الحياة قبل أن تُخلق الجغرافيا السياسية الحديثة، كان العراق هو مهد النهرين، وصوت التاريخ المجبول بالماء والطين والنار... , وأرض الاساطير البشرية والديانات السماوية ؛ فدجلة والفرات لم يكونا مجرد مجريين مائيين، بل هما شريانان للهوية والوجود، تمامًا كما النيل بالنسبة لمصر والمصريين ... ؛ حين كان الإنسان يخطّ أولى أبجدياته على الطين الرافديني ، كان العراق أكثر من مجرد أرض... ؛ كان فكرةً سماوية نزلت إلى الأرض لتصبح مهد التاريخ وبوابة الوعي البشري... ؛ فدجلة والفرات لم يكونا نهرين فحسب، بل كائنين حيّين يسريان في الجسد العراقي كما يسري الدم في الشريان، يصنعان الحياة ويحددان مصيرها... ؛ هذا العمق التاريخي يجعل من أي مساس بحقوق العراق المائية مساسًا بالجوهر الوجودي لهذه الأمة العراقية العريقة ... ؛ غير أن هذين النهرين اللذين شكّلا هوية العراق وملامح وجوده، تحوّلا في الزمن الحديث إلى ورقتين في لعبة جيوسياسية قذرة، تتلاعب بها أنقرة كيفما تشاء، تحت صمت داخلي مريب، وخضوعٍ يمتدّ من الذاكرة العثمانية إلى الراهن الطائفي الممزّق...!!
*العبء التاريخي: من العثمانية إلى الدولة القومية
قبل أن يُخلق الأتراك، وقبل أن تطأ أقدامهم الأناضول، كان العراق قائماً ككلمة أزلية في قاموس الحضارة والتاريخ ... ؛ غير أن عجرفة التاريخ التي تمثلها الإمبراطوريات العابرة جعلت من هذا البلد ساحةً مفتوحةً لكل طامعٍ وحاقدٍ وجائعٍ إلى السلطة والموارد، حتى جاء الدور العثماني الذي أورث العراق جرحاً لم يندمل إلى اليوم... ؛ نعم , ومنذ ذلك الزمن، والعراق هدف دائم لأطماع الطامعين، إذ لم يعرف السكون منذ أن بدأ التاريخ يسجل أنين الأرض... ؛ ومن بين هؤلاء الطامعين، تبرز تركيا كأكثر القوى التي مارست نَهَمَها وجشعها على الجغرافيا العراقية باسم السياسة أو الدين أو الجوار... ؛ فالأتراك، منذ أن وطأت أقدامهم أرض الرافدين، لم يأتوا بحضارة بل جاؤوا بثقافة النهب والتسلّط والعنجهية والغطرسة والهمجية والعنصرية ... ؛ نهبوا خيرات البلاد، شوّهوا هويتها، وأخذوا ما استطاعوا من موارده , وزيفوا تاريخها , واحدثوا التغييرات الديموغرافية والطائفية الخطيرة والمنكوسة , و منذ تلك الحقبة السوداء وحتى اليوم ؛ ظلّ الموقف التركي من العراق مزيجًا من التعالي التاريخي والاطماع والمكر الجيوسياسي ... ؛ وبعد زوال الاحتلال العثماني، لم يزُل نفوذهم، بل تبدّل شكله، وقد تركوا للعراق والعراقيين رماد الإمبراطوريات الميتة والخرائط المشوهة... ؛ وخلفوا وراءهم حكومات وعوائل وشخصيات وجماعات هجينة ملوّثة بالعقيدة العثمانية ومطعّمة بالانتهازية الفارسية والوصاية الإنكليزية ... ؛ اذ تشكلت الحكومة العراقية الحديثة عام 1920 من بقايا العثمنة ؛ مما أدى الى استمرار الارث العثماني والتركي في العقول والسلوك والسياسة والثقافة ، فبقي العراق ساحة نفوذٍ وممرّ مصالح لا وطنًا ذا سيادة مكتملة... ؛ واضحت تلك الحكومات الهجينة المتعاقبة - وخاصة ذات الجذور العثمانية والولاء للأتراك منها - ؛ أسيرة لهيمنة الخارج، تُقدّم الامتيازات للترك والغرباء على طبق من خضوع...!!
لقد تشكّلت هذه العلاقة في رحم التاريخ الدموي للإمبراطورية العثمانية التي حكمت العراق لقرونٍ بالقهر والنهب، تاركةً خلفها بنيةً اجتماعية هشّة ونخبًا محلية هجينة تدين بالولاء للباب العالي أكثر من ولائها لوطنها... ؛ ومع سقوط الدولة العثمانية وولادة العراق الحديث في عشرينيات القرن الماضي، لم تنتهِ تلك التبعية النفسية، بل أعادت تركيا توظيفها بأساليب ناعمة: عبر الخطاب الديني، والنعرات القومية , والمصالح الاقتصادية، والتأثير السياسي في المناطق ذات الأغلبية السنية شمالي وغربي البلاد.
نعم , لم تكتفِ تركيا بما اغتصبته من أراضٍ عراقية في الشمال، ولا بما نهبته من موارد خلال قرون الاحتلال، بل استمرّت في سلوكها العدواني بعد قيام الدولة العراقية الحديثة... ؛ اذ كانت تُمسك بخيوطٍ دقيقة من الاقتصاد والماء والسياسة لتُبقي العراق تحت هيمنتها الناعمة... ؛ ومع كل تغيير في السلطة، كانت أنقرة تجد طريقها إلى الداخل العراقي عبر رعاياها وبقايا العثمنة ووكلاء وأذرع وملفات اقتصادية وأمنية واجتماعية وطائفية معقّدة... .
نعم ؛ عندما وُلدت الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، ظنّ العراقيون أن صفحة العثمانية قد طُويت، غير أن أنقرة الحديثة بقيادة أتاتورك أعادت صياغة أطماعها بثوبٍ قوميّ علماني، لا يقلّ أنانيةً عن سابقه الديني... ؛ ومنذ قضية ولاية الموصل العراقية عام 1926، ظلّ الحلم التركي بالتوسع قائمًا، مغطّىً بخطاب “الروابط التاريخية” و”حماية التركمان”، بينما الحقيقة أنه خطابٌ استعماريّ مموّه، يُخفي نزعة السيطرة والوصاية... ؛ اذ ما زالت انقرة تتعامل مع العراق كإرثٍ عثماني مفقود لا كدولة ذات سيادة كاملة وحضارة عريقة تمتد الى الاف السنين ... ؛ فالمسألة المائية بين البلدين لم تعد مجرد خلاف فني أو تقني، بل أصبحت جزءًا من الاستراتيجية الجيوسياسية التركية التي توظّف الماء كورقة ضغطٍ ضد العراق ، وتتعامل معه بمنطق الهيمنة لا بمنطق المشاركة ...!!
*العدوان التركي المستمر: التاريخ يتكرر بأسماء جديدة
وحين اقترب القرن العشرون من الافول ، ومنذ الثمانينيات، استخدمت أنقرة ملف "ملاحقة حزب العمال الكردستاني" ذريعةً لشنّ عمليات عسكرية متكررة داخل الأراضي العراقية، وقد توغلت خلالها عشرات الكيلومترات فيما بعد داخل العمق العراقي دون إذنٍ أو تنسيق رسمي، تحت صمتٍ رسمي وشعبي مستغرب من الأطراف السنية العراقية تحديدًا... ؛ ثم تواصلت الانتهاكات الجوية والبرية التركية بعد عام 2003 لتضرب القرى والبلدات الحدودية، متسببةً في مئات الضحايا من المدنيين، وتدمير بيئاتٍ زراعية وغابية كاملة، بينما ظلت بغداد تكتفي ببياناتٍ خجولة لا ترقى إلى مستوى الحدث، وكأنها تصدر عن طرفٍ ضعيفٍ في معادلة مختلّة سلفًا. وقد عقد المجرم الخائن صدام اتفاقاً مع الأتراك في عقد التسعينات لتقليل حصة العراق المائية، تحت ذريعة محاربة المعارضة أو تجفيف الأهوار ؛ نعم , سعى المجرم صدام إلى تجفيف الأهوار لإخضاع الجنوب، في صفقةٍ غير معلنةٍ مع الأتراك، كان المستفيد الأول منها هو أنقرة ... ؛ و بذلك تحوّل ملف المياه إلى أداة خنقٍ متعمّدةٍ للجنوب والفرات الاوسط ، وتدميرٍ ممنهجٍ للبيئة والزراعة العراقية ، وإعدامٍ متعمّدٍ لروح العراق الزراعية... ؛ وكان الأتراك مبتهجين بهذا الاتفاق الشيطاني المنكوس لأنهم أدركوا أن صدام يشاركهم العداء ذاته للأغلبية العربية الشيعية الأصيلة، تلك الأغلبية التي طالما رآها الأتراك تهديداً لهويتهم العثمانية الجديدة... .
ولطالما نظر العراقيون إلى السياسة التركية، خاصة في القرون الأخيرة، بنظرة ارتياب وعداء وكراهية ، معتبرًا إياها امتدادًا للنزعة التوسعية الطامعة ... ؛ فبعد انهيار الدولة العثمانية وتشكيل الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، ظلت رواسب الماضي تؤثر على العلاقة بين البلدين... ؛ وقد عزز هذا التصور قضايا عالقة مثل ترسيم الحدود والخلاف حول بعض المناطق، إضافة إلى إدارة الموارد المائية، والتي تُعد الشريان الحيوي للعراق.
لكن المشكلة لم تكن في تركيا وحدها، بل في الانبطاح التاريخي العراقي أمامها... ؛ فحين كانت الحكومات الهجينة قبل عام 2003 تُسبّح بحمد الأتراك خوفاً أو طمعاً أو نسباً أو ولاء عثمانياً، كان الصمت هو السائد في المناطق التي ارتبطت تاريخياً بالخلافة أو حلم السلطان التركي ... ؛ لم يكن هناك صوت نقديٌّ واحد في المناطق السنية أو الكردية يُدين الاحتلال الاقتصادي أو العدوان المائي التركي أو الاعتداءات العسكرية السافرة ضد الاراضي العراقية ... ؛ والعتب كل العتب على ساسة الأغلبية العراقية الأصيلة، الذين كان يُفترض بعد سقوط النظام البائد أن يتجهوا نحو تحالفاتٍ توازن الطموح التركي وتحدّ من تغوّله... ؛ لكنهم، للأسف، ارتموا في أحضان السياسة الإيرانية البراغماتية، تلك التي تهادن الأتراك في العلن وتنسّق معهم في الخفاء حتى في أدق تفاصيل السوق العراقية، من الجبن إلى الحليب ... ؛ نعم، وصل الأمر إلى درجة تقسيم الجبن ومنتجات الحليب ... ؛ فتركيا تصدّر نوعاً معيناً، وإيران نوعاً آخر، والبلد بينهما سوقٌ مشتركة تُدار بصفقاتٍ دقيقةٍ وتفاهماتٍ براغماتية، بينما الماء ـ عصب الحياة ـ يُخنق على مهل، والناس تصحو على جفاف دجلة كما لو أنه أمر طبيعي... !
*الارتباط النفسي والسياسي: أهل الموصل وكركوك والمناطق الغربية
إن أحد المفاتيح الجوهرية لفهم الصمت السني العراقي إزاء التدخلات التركية يكمن في العلاقة التاريخية والثقافية والنفسية التي تربط بعض المناطق السنية – خصوصًا الموصل وكركوك والأنبار وصلاح الدين – بالهوية التركية. فالموصل، التي كانت آخر ولاية عثمانية تُضم إلى العراق بعد مفاوضات مريرة بين بريطانيا وتركيا عام 1926، لا تزال تحتفظ بوشائج ثقافية وعائلية عميقة مع تركيا. كثيرٌ من عائلاتها تنحدر من أصول تركمانية أو عثمانية، ولا تزال الذاكرة الجمعية فيها تميل إلى الحنين للماضي العثماني باعتباره "عصر استقرارٍ نسبي"، في مقابل العقود المضطربة التي عاشها العراق الحديث.
هذا الإرث النفسي غذّته أنقرة بخطابٍ سياسي وديني ذكي، يقدّم تركيا على أنها "الأم الكبرى للسنة" و"الحامية للتركمان" و"المدافع عن الموصل وكركوك"، في مقابل النفوذ الإيراني الشيعي في الجنوب والوسط. وبهذا، استطاعت تركيا اختراق النسيج الاجتماعي السني العراقي، وتحويله – عن وعي أو عن جهل – إلى منطقة عازلة أو بيئة متعاطفة مع سياساتها التوسعية.
إن صمت كثير من القوى السنية على الاعتداءات التركية لا ينبع فقط من الخوف أو التبعية السياسية، بل من خللٍ نفسي في تعريف الهوية الوطنية؛ فالبعض يرى في تركيا ملاذًا سنيًا في وجه الهيمنة الإيرانية، متغافلاً أن أنقرة تمارس بدورها شكلًا آخر من الاحتلال المقنّع، عبر الاقتصاد والمال والخطاب الديني الناعم... .
نعم , ها هي تركيا، بثوبها "الديمقراطي العلماني "، تعود لتخنق العراق عبر أخطر ملفٍّ وجوديٍّ: الماء. لم يكن السدّ التركي مشروعًا تنمويًا بريئًا، بل أداةً سياسية لتجفيف روح العراق، إذ تحوّلت أنهاره إلى رهائن في لعبة المصالح... ؛ وليس بعيدًا عن الذاكرة اتفاق التسعينات المشؤوم بين أنقرة وبغداد البعثية، الذي باركه الطاغية صدام، لتجفيف الأهوار وضرب الجنوب والفرات الأوسط، وكأنّ العراق ليس وطنًا واحدًا بل غنيمة تُدار بالكراهية كما اسلفنا .
الأتراك لم يخفوا يوماً نظرتهم العدائية للعراق العربي الشيعي؛ يرونه خصمًا تاريخيًا وثقافيًا، وجدارًا يعترض مشروعهم العثماني الجديد... ؛ ولهذا رفعوا شعارهم المريب: الماء مقابل النفط، في إشارة إلى أنهم لا يعرفون لغة سوى لغة المقايضة والابتزاز.
أما المأساة الكبرى، فتكمن في الفكر السياسي الغيبي الذي يتعامل مع الكوارث الوطنية كأنها أمور غيبية تُحلّ بالدعاء... ؛ فقد رأينا مسؤولاً عراقياً يبتسم ابتسامة بلهاء في برنامج تلفزيوني وهو يقول بكل سذاجة: «لا يوجد جفاف، لدينا صلاة الاستسقاء والدعاء !»، وكأن الدولة مشروع مسجد لا مشروع وطن... , وكأنّ الأوطان تُدار بالأمنيات، لا بالسدود والمشاريع والخطط الاستراتيجية... !
هذه الذهنية اللاعلمية التي تستبدل الحلول العقلية بالدعاء، والبحث العلمي بالتوسّل، هي التي قادت العراق إلى جفافٍ مضاعف: جفاف الأرض وجفاف الوعي... ؛ وهكذا ضاعت قضية السيادة بين أطماع الجيران وتخاذل القادة وتغييب الوعي ... .
هذه الذهنية الخرافية التي تستبدل العلم بالتمائم والدعاء بالعمل، هي ذاتها التي جعلت العراق بلدًا غارقًا في جفاف الوعي قبل جفاف الأرض... ؛ فصلاة الاستسقاء، مهما كانت رمزًا للإيمان الشعبي، لا تُغني عن فهم قوانين الطبيعة والكون... ؛ فالنبي يوسف لم يواجه القحط بالصلاة فقط، بل بالتخطيط والتخزين والعقل... ؛ الدعاء بلا وعي هو هروب من المسؤولية، تمامًا كما فعل الطغاة حين حمّلوا السماء ذنوب الأرض.
نعم , صلاة الاستسقاء، مهما كانت رمزاً للإيمان الشعبي، لا تعالج أزمة وطنٍ تُدار بملفاتٍ معقدة من الماء والسياسة والاقتصاد... ؛ فالقوانين الكونية لا تُلغى بالدعاء، والأنظمة الفيزيائية التي تحكم المطر والرياح لا تتأثر بالكلمات وترديد الادعية والتوسلات ... ؛ ومن يهرب من مسؤوليته السياسية ببعض الأدعية إنما يغطّي فشله بعباءة القداسة والدين والغيبيات .
إن أزمة العراق مع تركيا ليست في الماء وحده، بل في الوعي السياسي المائي ذاته... ؛ فالماء في حقيقته ليس مجرد موردٍ طبيعي، بل مرآة لكرامة الدول... ؛ وكلما تراجع وعي الأمة، ازداد جفافها السياسي، حتى وإن هطل المطر.
العراق اليوم لا يحتاج إلى صلاة استسقاء، بل إلى استسقاء للوعي والسيادة، إلى قادةٍ يدركون أن الماء والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن من يملك النهر يملك القرار... ؛ فإما أن ينهض العراقي بعقله فيعيد للنهرين جريانهما، أو يظلّ واقفًا على ضفاف التاريخ، يراقب جفاف دجلة والفرات... كما يجفّ الوعي في عقول من خانوا النهر والأرض والإنسان.
نعم , العراق اليوم أمام مفترقٍ خطير: إما أن يستفيق من سباته الطويل فيواجه جيرانه بلغة الدولة القوية القادرة، أو أن يبقى سجين الجفاف، ينتظر السماء أن تمطر وعيًا بدل أن تمطر ماءً... ؛ فالنهران لا يجريان في مجراهما الطبيعي إلا حين تجري الإرادة العراقية في مجراها الصحيح... ؛ ولذلك فإن العراق لا يحتاج إلى صلاة استسقاء بقدر ما يحتاج إلى استسقاء وطني للكرامة والسيادة، إلى صحوةٍ فكرية تُعيد تعريف الدولة كمفهومٍ عقلاني لا كدعاءٍ مقدّس... ؛ فالماء لا يُستعاد بالدعاء، بل بالقرار، والسيادة لا تُحفظ بالهتاف، بل بالوعي والعمل والموقف كما اسلفنا .
إن جفاف دجلة والفرات هو مرآةٌ لجفافٍ أعمق في الضمير السياسي العراقي... ؛ ومن لا يدرك هذه الحقيقة سيستيقظ يوماً ليجد أن النهرين اللذين أنجبا الحضارة قد تحوّلا إلى مجرد ذكرياتٍ في كتب التاريخ... ؛ كما تحوّل العراق نفسه من مهد الوعي إلى صحراءٍ من الخرافة والجهل والتخبط والسطحية .
* نحو استراتيجية وطنية شاملة
إن معالجة الأزمة المائية العراقية تتطلب تحولاً جذريًا في النهج، من خلال:

1. بناء استراتيجية مائية وطنية تعتمد على الخبرات العلمية والتقنية.
2. تفعيل الدبلوماسية المائية عبر التحالفات الإقليمية والدولية للضغط على تركيا.
3. استثمار في تقنيات ترشيد المياه وتحلية المياه وإدارة الموارد.
4. توحيد الخطاب السياسي العراقي وجعل الملف المائي قضية وطنية فوق الخلافات.
*خاتمة: الماء مرآة الوعي والسيادة
الماء في العراق لم يعد موردًا طبيعيًا فحسب، بل أصبح مرآةً لوعينا الجمعي، واختبارًا لسيادتنا وكرامتنا... ؛ إنّ الأنهار التي كانت مهدَ الحضارات تحوّلت إلى أسرى في يد أنقرة، لأن بغداد فقدت قدرتها على الحسم، ولأن بعض أبنائها ما زالوا يرون في الجلاد التركي “وليّ نعمةٍ روحيًّا”.

إنّ استعادة مياه العراق تبدأ باستعادة الوعي، لا بالمفاوضات فحسب، بل بتفكيك عقدة التبعية التاريخية التي ما زالت تحكم ذهنية النخب والشارع على حدٍّ سواء... ؛ فالذي يملك قراره يملك ماءه، والذي يُفرّط في سيادته سيجد نفسه يستجدي قطرةً من يدِ من سرق نهره.
العراق لا يحتاج إلى صلاة استسقاء، بل إلى ثورة وعي تعيد تعريف معنى الوطن، ومعنى الكرامة، ومعنى أن يكون للنهر ضميرٌ يليق بحضارة وُلدت من مائه.
إن مستقبل العلاقة بين العراق وتركيا، خاصة في ملف المياه، لا يرتهن فقط لنيات الجانب التركي أو تاريخه، بل هو رهن بشكل أساسي بقدرة العراق على بناء دولة مؤسسات قوية، تتمتع بسيادة قرار وبرنامج تنموي واضح... ؛ فالدول تحترم من يقف على قدميه، ولا تعترف إلا بلغة المصالح والقوة الناعمة... ؛ إن معالجة الأزمة المائية تتطلب تحولاً جذريًا في العقلية السياسية الحاكمة، من عقلية التبعية والخطاب الانفعالي إلى عقلية التخطيط الاستراتيجي والدبلوماسية الفاعلة، لأن مياه العراق ليست مجرد نقص عابر، بل هي قضية حياة ووجود.
نعم , إن مستقبل العراق مرتبط بقدرته على حماية موارده المائية، فهي ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل هي قضية وجود تتعلق ببقاء أمة وحضارة.
إن شعبًا صنع أولى الحضارات الإنسانية على ضفاف هذه الأنهار، قادر على إعادة اكتشاف قدرته على مواجهة التحديات، لكن ذلك يتطلب قيادةً واعية، وإرادةً سياسية، وخطابًا عقلانيًا يضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سقوط القيم في الصراع السياسي والانتخابي : قراءة في التحلل ال ...
- جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان ...
- زعامة الفقاعات وساسة الاعلانات واللقاءات : حين يتحوّل الترشّ ...
- تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراط ...
- العراق وسوريا بعد سقوط دمشق: تشريح التوترات الأمنية والطائفي ...
- المسافة الآمنة: فنّ وضع الحدود في العلاقات الإنسانية
- مقولة وتعليق/ 62/ الحرية ثمرة العقل المستنير
- مقولة وتعليق / 61 / التعليم والذكاء: ثنائية الزيف والحقيقة ف ...
- دور الصداقة ومنازل القلوب
- بين المعرفة والوعي: اغتراب الذات في عصر المعلومات
- ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه ...
- هواجس الإيمان: سيرة ذاتية في عشق المجهول
- بغداد تُستباح بهدوء... العمالة الأجنبية كحصان طروادة جديد
- أطفال داعش المنسيون: تداعيات جهاد النكاح والمستقبل المجهول
- الصديق الذي يشبه الدواء... حين يصبح الإنسان علاجًا للإنسان
- الإنسان المرهق... حين يمشي العالم محمولًا على أكتاف الأرواح ...
- تشريح البيئة الملوثة بالسموم الاجتماعية والامراض والعقد النف ...
- تجنيس الغرباء في العراق: أزمة هوية وطنية أم فوضى إنسانية مقن ...
- فلسفة اللحظة الضائعة: حين يبتلع الزمن ملامحنا
- الجنوب العراقي بين مطرقة السادية وسندان المازوخية : قراءة سو ...


المزيد.....




- أشبه بمركبة فضائية..تونسية تخوض تجربة فريدة داخل فندق كبسولة ...
- تحليل: ترامب يواجه تصدعات في قاعدته المؤيدة MAGA مع عودته إل ...
- ارتكبت -جرائم ضد الإنسانية-.. الحكم على رئيسة وزراء بنغلاديش ...
- مراسلة CNN تتعقّب الفتى الفرنسي -الأنيق- الذي ظهر في صورة بع ...
- للتوقيع بيان مشترك: محاكمة هدى عبد المنعم للمرة الثالثة
- من هي الشيخة حسينة التي حكم عليها قضاء بنغلاديش بالإعدام؟
- -المجد أوروبا-.. تحقيق يكشف عن شبكة مشبوهة تهجر الفلسطينيين ...
- تطور مفاجئ .. ترامب يدعو إلى التصويت لصالح نشر وثائق إبستين ...
- زيلينسكي أمام تحدي الصمود أمام روسيا وقضايا الفساد في الداخل ...
- مسلسل El cuco de cristal: زراعة قلب واختفاء طفل وأسرار دفينة ...


المزيد.....

- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض سعد - العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل التركي والمأزق والانبطاح العراقي