أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض سعد - ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله















المزيد.....

ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8532 - 2025 / 11 / 20 - 10:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


*مقدّمة: نبوءة تمشي على قدمين
ليست الحرب العالمية الثالثة احتمالًا سياسيًّا عابرًا، بل هي جرح مفتوح في ذاكرة المستقبل، وهاجسٌ يبيت في قلب كل حضارة كلما اشتدّ فيها الضوء وازداد فيها العمى.
منذ أن شطر الإنسان الذرّة، تحوّل العلم من فعل معرفة إلى فعل سلطة، ومن بحثٍ في أسرار الكون إلى بحثٍ في كيفية إنهائه.
لقد أخرج الإنسان من رحم العقل ناراً ظنّها خلاصه، فإذا بها لعنةُ الخلق الثانية؛ نارٌ لا تأتي من السماء بل من المختبر، لا يُوقدها القدر بل الإرادة.
في كل حربٍ عالمية سابقة كان الموت يُقدَّم بصفته وسيلةً لسلامٍ جديد، أما الحرب النووية فهي السلام وقد انتحر بنفسه... ؛ إنها لحظةٌ لا تُعيد التوازن بين الأمم بل تمحو فكرة "الأمة" ذاتها، لتُعلن بدء عصر ما بعد الإنسان، عصر الرماد الذي بلا ذاكرة ولا ملامح.
*الإنسان ضد الإنسان... ثم ضد الوجود
إن الحروب السابقة كانت خلافات على الأرض، أما الحرب النووية فهي خلاف على الحق في الوجود ذاته... ؛ فحين تضغط دولة الزرّ الأحمر لا تكون في الواقع تحارب غيرها، بل تحارب المعنى الذي من أجله وُجد الإنسان.
إنها الحرب التي لا تعرّف العدو، لأن الكل عدوٌّ والكل ضحية، والسماء هي القبر الجماعي للحضارة... ؛ اذ يتحوّل العقل – في لحظةٍ واحدة – من أداةٍ للفهم إلى أداةٍ للفناء.
فالعالم الذي بناه الإنسان بالحساب والمنطق والفيزياء، سينهار بالمعادلات نفسها التي شيّدته... ؛ وحينها يُصبح العلم مرآةً قاتلة: يرى فيها الإنسان صورته الأخيرة وهو يحترق بنوره.
*المدن حين تصمت
لن تُعلن الحرب النووية ببدايةٍ درامية، بل بصمتٍ تقنيٍّ بارد: إشارةٌ رقمية، أمرٌ إلكتروني، ثم انفجارٌ أبيضُ اللون كأنّه فجرٌ كاذب.
في ثوانٍ معدودات، تختفي مدنٌ كانت تضجّ بالحياة: نيويورك، موسكو، بكين، طوكيو، لندن، وباريس...؛ كلها تتحوّل إلى رمادٍ مُشعٍّ في فضاءٍ بلا صوت... ؛ وتختفي الأبراج كأنها شمعٌ ذاب في يد اللهب، وتتحوّل الجسور إلى عظامٍ معدنية عالقة فوق أنهارٍ جافة... ؛ نعم , يختفي الضوء، وتتحوّل الأنهار إلى مرايا رمادية لا تعكس سوى الفراغ.
المدن التي كانت رموزاً للحضارة ستغدو شواهد قبورٍ عملاقة، والخرائط لن تعود خطوطاً سياسية بل بقعاً محترقة، تتساوى فيها القارات كأنها صفحةٌ واحدة من كتابٍ قُدِّم قربانًا للعدم...!!
*الشتاء النووي... حين تنطفئ الشمس من الداخل
حين يتصاعد الغبار المشعّ إلى الغلاف الجوي، سيبدأ الليل الذي لا ينتهي... ؛ وستُحجب الشمس خلف ستارٍ كثيف من الرماد، فتنخفض حرارة الأرض، وتذبل النباتات، وتموت الحقول... ؛ ففي غضون أسابيع، سيختفي الصيف، ويحلّ "الشتاء النووي" الذي يحوّل الكوكب إلى ثلاجةٍ كونية... ؛ وستتساقط الثلوج فوق أراضٍ مشعة، وستُدفن الحياة تحت طبقةٍ من البرد والإشعاع... ؛ كذلك لن تنجو المحيطات من السمّ، فالماء الذي كان مهد الحياة سيصير مقبرةً لها... ؛ فالأسماك تموت، الطيور تسقط من السماء، والغابات تتحوّل إلى أشباحٍ سوداء من الفحم المحترق... ؛ إنها نهاية الطبيعة حين تنتقم من الإنسان بأسلحته، نهاية الدورة التي بدأت بخلق الحياة وانتهت بصناعتها المسمومة.
*البقاء كعقوبة
في عالمٍ ما بعد الفناء، لن يكون الموت هو الرعب، بل الحياة... ؛ فالناجون القلائل سيحملون في أجسادهم سمّ الإشعاع وفي أرواحهم لعنة المعرفة... ؛ سيعيشون في أطلالٍ ملوثة، يبحثون عن الماء كما يبحث الشاعر عن معنى ضائع... ؛ سيولد أطفال بلا ملامح، بلا تاريخ، بلا ذاكرة، كأنهم نتاج حلمٍ سيئ تخلّى عنه الخالق في منتصف الطريق... ؛ سيتحوّل الإنسان من كائنٍ اجتماعي إلى كائنٍ غريزيٍّ يختبئ في الكهوف... ؛ وسيموت الفن والأدب والعلم، ولن يبقى سوى صدى اللغة القديمة، تُتمتم بها أفواهٌ ذابلة تبحث عن النجاة... ؛ وسيصير الضمير عبئًا، والعاطفة ضعفًا، والمعرفة جريمة، لأن كل شيءٍ سيذكّر الناجين بأنهم أبناء خطأ كوني لا يُغتفر...!!
*البنية النفسية للدمار
الحرب النووية ليست فعلاً مادياً فحسب، بل هي مرضٌ نفسي جماعي ينهش وعي الإنسانية منذ قرنٍ كامل... ؛ إنها التعبير الأقصى عن عقدة العظمة والخوف في آنٍ واحد؛ الإنسان الذي خاف ضعفه فأراد أن يصير إلهاً، ثم اكتشف أنه صار شيطانًا بعقلٍ رياضيٍّ بارد... ؛ اذ تتحوّل الرغبة في السيطرة إلى رغبةٍ في المحو، والرغبة في الأمان إلى جنونٍ من نوعٍ آخر: الخلاص عبر الإبادة.
من منظورٍ نفسي، يمكن القول إن السلاح النووي هو رمزٌ لفقدان الإيمان بالمعنى؛ فالمجتمع الذي يراكم القوة حدّ الإبادة هو مجتمعٌ فقد ثقته بالخلود، فراح يبحث عن طريقةٍ لتدمير نفسه كي يشعر أنه ما زال موجودًا... ؛ إنه اللاوعي الجمعي للحضارة حين يتحوّل من بناءٍ للحياة إلى طقسٍ من طقوس الفناء.
*العقل الذي احترق بنفسه
ليست الحرب النووية فعلاً من أفعال الحماقة، بل من أفعال العقل وقد تجاوز حدّه... ؛ فالعقل الذي اخترع النار ليُدفئ الكهوف، هو نفسه الذي اخترع القنبلة ليُحرق الكوكب... ؛ لقد سقط الإنسان في فخّ عبقريته، لأن الذكاء بلا وعيٍ أخلاقي يصبح نوعًا من الجنون المُقنّن... ؛ فحين انفجرت أول قنبلة ذرية، وقف العالِم الأمريكي أوبنهايمر يهمس: " الآن أصبحت أنا الموت، ومحطم العوالم " ... ؛ في تلك اللحظة، وُلدت حضارة جديدة: حضارة تعرف أنها قادرة على قتل نفسها متى شاءت... ؛ ومنذ ذلك الحين، صار كل تقدمٍ علميٍّ يحمل في داخله ظلّ سلاحٍ محتمل، وكل فكرةٍ عظيمةٍ تجرّ خلفها خوفًا أعظم...!!
*سقوط المعنى والضمير
الحرب النووية ليست فقط دماراً للجسد، بل انهيارٌ للرمز والمعنى... ؛ فحين تفقد الحياة استمراريتها، تفقد القيم معناها.
لن يكون هناك عدل أو ظلم، خير أو شر، لأن هذه المفاهيم تحتاج إلى "زمنٍ" لتتحقّق، والزمن نفسه سيتوقّف في لحظة الانفجار... ؛ سيصير الإنسان مجرّد ومضةٍ من طاقةٍ غامضة، تختفي كما ظهرت، بلا شاهدٍ ولا ذاكرة... ؛ وحتى الدين — بوصفه خطاب الخلاص — سيواجه امتحان الفناء النهائي:
هل يمكن أن تُقام قيامةٌ في عالمٍ بلا بشر؟
هل يبقى الإيمان حين تزول التجربة الإنسانية نفسها؟
ربما سيبقى فقط في ذراتٍ صغيرةٍ تسبّح بخوف، تبحث عن الله بين الغبار المشعّ.
*العالم بعد الصفر
حين تنتهي الحرب النووية، لن يبقى شيء من الجغرافيا سوى الرماد، ولا من التاريخ سوى الصمت... ؛ لن يكون هناك "نصر" ولا "هزيمة"، لأن المنتصر سيُدفن مع المهزوم في التراب نفسه... ؛ سيُمحى كل ما كتبته الإنسانية من ذاكرة الكوكب: الموسيقى، الفلسفة، الفنون، الكتب، الأديان، اللغات... كل شيء سيذوب في حفرةٍ من الضوء المسموم... ؛ وحين يعود الهدوء، لن يكون هدوء سلامٍ بل هدوء القبور... ؛ سيستيقظ الكوكب بعد قرونٍ على حياةٍ جديدةٍ بلا بشر، وستعود الطبيعة لتلملم أشلاءها وتعيد ترتيب نفسها... ؛ ربما ستنبت أشكالٌ جديدة من الوجود، لا تعرف شيئاً عن الإنسان سوى بقايا عظامٍ متفحمة تشهد على حضارةٍ كانت يوماً تعرف كيف تفكّر، لكنها نسيت كيف تحبّ.
*الخاتمة: الإنسان كمرثية
الحرب النووية ليست احتمالًا سياسيًا، بل قصيدة فناءٍ كتبها الإنسان بنفس الحبر الذي كتب به تاريخه... ؛ إنها الوجه الآخر للعبقرية: الجانب المظلم من النور، والصرخة الأخيرة للعقل الذي أحرق نفسه ليكتشف أنه لم يكن سوى نارٍ تبحث عن معنى.
في النهاية، سيعرف الإنسان – إن بقي من يعقل – أنه لم يكن يحارب عدواً خارجيًا، بل صورته التي في الماء، وأن الحضارة لم تكن سوى استراحة قصيرة بين حيوانين:
الأول بدائيٌّ حمل العصا،
والثاني ذريٌّ حمل زرّ الفناء.
وما بين العصا والزرّ، ضاعت القصة كلها... قصة الكائن الذي ظنّ أنه خُلِق ليحكم الكون، فاكتشف أنه لم يكن سوى تجربةٍ فاشلة في مختبر الوجود.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سرقات في ظلال القانون — حين تتخفّى اللصوصية بثياب الفضيلة
- مقاربة سياسية لما بعد الانتخابات العراقية 2025: بين توازن ال ...
- العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل الت ...
- سقوط القيم في الصراع السياسي والانتخابي : قراءة في التحلل ال ...
- جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان ...
- زعامة الفقاعات وساسة الاعلانات واللقاءات : حين يتحوّل الترشّ ...
- تداعيات المرحلة الانتقالية: استغلال الطفولة وتقويض الديمقراط ...
- العراق وسوريا بعد سقوط دمشق: تشريح التوترات الأمنية والطائفي ...
- المسافة الآمنة: فنّ وضع الحدود في العلاقات الإنسانية
- مقولة وتعليق/ 62/ الحرية ثمرة العقل المستنير
- مقولة وتعليق / 61 / التعليم والذكاء: ثنائية الزيف والحقيقة ف ...
- دور الصداقة ومنازل القلوب
- بين المعرفة والوعي: اغتراب الذات في عصر المعلومات
- ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه ...
- هواجس الإيمان: سيرة ذاتية في عشق المجهول
- بغداد تُستباح بهدوء... العمالة الأجنبية كحصان طروادة جديد
- أطفال داعش المنسيون: تداعيات جهاد النكاح والمستقبل المجهول
- الصديق الذي يشبه الدواء... حين يصبح الإنسان علاجًا للإنسان
- الإنسان المرهق... حين يمشي العالم محمولًا على أكتاف الأرواح ...
- تشريح البيئة الملوثة بالسموم الاجتماعية والامراض والعقد النف ...


المزيد.....




- طبق -جريش-.. كلمة قالها وزير الطاقة السعودي بصورة جماعية تثي ...
- هاربة منذ أغسطس.. أكباش تثير الدهشة والحيرة بأحياء أمريكا وس ...
- فيديو يظهر آثار الغارات الإسرائيلية القاتلة على غزة
- واشنطن: قصة العاصمة التي يدور في فُلكها العالم
- ما مميزات مقاتلات F-35 التي قرر ترامب بيعها للسعودية؟
- أوكسفام: أرباح عام لميليارديرات قمة العشرين كافية للقضاء على ...
- الجيش السوري يقصف مواقع قسد شرقي الرقة ردا على مهاجمة قواته ...
- اللحظة التي ستغيّر وجه التاريخ الأميركي
- مصر.. رد علاء مبارك بذكرى ميلاد عبدالفتاح السيسي على تدوينة ...
- رجل مسجون يطلب من صديقتيه اختطاف وطعن سيدة و-التأكد من موتها ...


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض سعد - ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله