رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 09:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
* الولاء الأعمى: تشريح ظاهرة تمجيد المجرم والفاسد في مجتمعاتنا
في كثير من بيئاتنا العربية ومجتمعاتنا المحلية ، يتكرّس سلوك اجتماعي غريب وخطير في آن واحد: مجاملة المجرمين والفاسدين بحجة القرابة والجيرة والعِشرة والزمالة وغيرها ... ؛ إنها ظاهرة لا تعكس فقط خللًا في النظام الأخلاقي، بل تكشف عن انهيار في البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع الذي يرفع القاتل إلى مقام الاحترام، بينما يطوي ذكر الضحية سريعًا في غياهب النسيان.
نعم ؛ في هذه المجتمعات المريضة والمأزومة ، لا تقتصر الإشكالية على وجود مجرمين وفاسدين وجلادين ومنحرفين ، بل تتجاوز ذلك إلى ظاهرة خطيرة تتمثل في تمجيد هؤلاء المجرمين والفاسدين , ومنحهم شرعية اجتماعية غير مبررة... ؛ و هذه الظاهرة التي يغذيها صمت المجتمع، بل وتأييد أفراده في بعض الأحيان، تحتاج إلى تحليل عميق للأسباب النفسية والاجتماعية التي تقف خلفها، وفهم الآليات التي تحول فيها المجرم من منبوذ إلى بطل، ومن خارج عن القانون إلى مواطن طبيعي بل شريف ...!!
ففي نسيجنا الاجتماعي المترابط شكليا والمتماسك ظاهريًا ، تبرز هذه الظاهرةٌ المقلقةٌ والتي تختزل أزمةً أخلاقيةً عميقة: إنها الانزياح الأخلاقي الذي يحوِّل المجرم من منبوذٍ يُحتقر إلى شخصيةٍ يحتَفل بها، ومن خارقٍ للقانون إلى "بطلٍ" شعبي او قومي او مذهبي ... ؛ اذ تتحول بموجبها منظومة القيم رأسًا على عقب... ؛ فبدلًا من أن يكون المجتمع حصنًا منيعًا للفضيلة والعدالة، يصبح حاضنة للرذيلة والجريمة، لا عن ضعفٍ فحسب، بل عن قناعة مشوهة تتشكل في العقل الجمعي.
فهذه الآلية الاجتماعية المعقدة لا تقتصر على الصمت تجاه الجريمة، بل تتجاوزها إلى تمجيد المجرم ونسيان جريمته الأصلية كما اسلفنا ... ؛ وهذه الآلية الاجتماعية النفسية تنتجها أواصر القربى والجيرة والطائفة والمنطقة والعرق والقومية وغيرها من الروابط ... ؛ ليست مجرد شذوذٍ عابر، بل هي نظامٌ معقدٌ يستحق التحليل السوسيولوجي والنفسي المتعمق لفهم آلياته وتداعياته ... .
* الازدواجية القاتلة: نبكي الضحية ونمجّد القاتل .. تحليل نفسي واجتماعي للظاهرة :
حين تقع جريمة قتل أو اعتداء أو سرقة كبرى او حالة فساد مالي او اخلاقي ، يتأثر الناس بالحدث لحظة وقوعه، فيبكون الضحية بحرقة ويطلقون كلمات المواساة، ويشجبون الجريمة والمثلبة ... ؛ لكن سرعان ما يتحوّل المشهد: يزورون بيت القاتل او الفاسد او المنحرف ، ويواسون أهله، وكأنّ المصيبة حلت بهم لا بالضحية ... ؛ ثم يبررون فعلته بعبارات مثل: "دُفِع إلى ذلك دفعا ... ؛ الصوج مو صوج القاتل الصوج صوج المقتول ... الخ "، "امر الله , قضاء وقدر , وهاي صايرة هواي "، "ابن عشيرتنا ما ننطي بيه , انصر اخاك ظالما ومظلوما "... ؛ بل يصل الأمر إلى أن يُحاط القاتل والفاسد القوي بالهيبة والتكريم ، فيصبح "أبو فلان" الذي لا تُرد له كلمة، وكأنما القوة تغسل الدم وتحوّل العار إلى جاه...!!
نعم , في كثير من مجتمعاتنا، وعندما تقع جريمة قتل، نجد أنفسنا نعرف الضحية ونندبه بحرقة، لكننا - في الوقت ذاته - نعرف القاتل أيضاً... ؛ ومع ذلك، لا نتوقف عند حدود إدانته، بل نغضُّ الطرف عن جريمته، وكأن الدم المسفوك لم يكن سوى ثمنٍ لارتقاء اجتماعي. فيرتفع شأن القاتل من مجرد "زعران او خوشي او شقاوة او مجرم " مغمور إلى "أبو فلان"، محطَّ إعجاب المتربصين وموضع تهافت الطامعين.
ويمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال عدة عوامل متشابكة ؛ فمن اسباب هذه الظاهرة : الشخصية الجاذبة والمؤثرة ؛ اذ يتمتع العديد من المجرمين والفاسدين بشخصيات كارزمية وقدرات خطابية عالية على الإقناع والتأثير، مما يوقع الناس في شباك الانجذاب النفسي نحوهم... ؛ وقد حذر كتاب القرآن الكريم من هذا النوع من الأشخاص في قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ" ... ؛ وطالما لجأ الطغاة والمجرمون والفاسدون والمنحرفون الى ادعاء الصلاح والاستقامة واظهار الفضيلة ومكارم الاخلاق ؛ ولعل التجارب التاريخية تؤكد ذلك حتى شاع مفهوم النفاق والرياء بين هذه النماذج , فهم يستخدمون التدين وفعل الخير والتكلم بالفضيلة كسلم للتسلق إلى المواقع المؤثرة وتحقيق الاهداف المشبوهة ... ؛ يظهرون الصلاح حينًا من الدهر، حتى إذا حانت الفرصة تقدموا لتحقيق مآربهم ... ؛ وصدق الشاعر عندما انشد :
صلى و صام لأمر كان يطلبه ... فلما قضى الأمرَ لا صلّى ولا صامَا
ومما سبق تعرف ان الغفلة عن السجل التاريخي لهذه الشخصية او تلك , والجهل بالسيرة السابقة لهذا الشخص او ذاك ؛ تعد من الاخطاء الشائعة في مجتمعنا ؛ فغض الطرف عن سابق اقوال الشخص وافعاله , والاستغراق في واقعه الحالي فقط , والتركيز على سلوكه الظاهري فحسب ؛ يخالف الصواب والوعي والحكمة ... ؛ لان تاريخ الشخص وخلفيته الفكرية وسيرة حياته هي مفاتيح أساسية لفهم شخصيته والتنبؤ بمسلكه وسلوكه ... .
*ومن اسباب تلك الظاهرة ايضا : أواصر القربى والقرابة العرقية والمذهبية والمناطقية وغيرها ؛ اذ تلعب الروابط العائلية والعشائرية وغيرهما دورًا محوريًا في تغذية هذه الظاهرة، حيث يتغاضى الأفراد عن جرائم أبنائهم أو أفراد عشيرتهم، بل وقد يتحول هذا التغاضي إلى تمجيد وولاء للظالمين تحت دعاوى "الوقوف مع الأخ ظالمًا أو مظلومًا" بشكل مغلوط ... ؛ نعم , الانحياز للقرابة من اهم الاسباب لانتشار هذه الظاهرة حيث تطغى أواصر القربى والجيرة وغيرهما على الوازع الأخلاقي والانساني والوطني ، فيتحول الدفاع عن المجرم إلى "واجبٍ عشائري او طائفي او عنصري او مناطقي ".
*الخوف الجماعي :فالمجتمع يخشى المجرم أكثر مما يخشى العدالة، فيلجأ إلى التودد له اتقاءً لشره، وكأن الخضوع يضمن السلامة... .
*التبرير النفسي: والناس، بدافع الانتماء للعشيرة أو الحيّ أو القرابة، يقنعون أنفسهم أن الجريمة كانت "ضرورة" أو "دفاعًا عن النفس"، وهكذا يخففون عن أنفسهم وخز الضمير كما اسلفنا ... .
*اقتصاد الخوف والمصلحة: فالمجرم الخطير والفاسد الكبير يستثمر سمعته ليبني شبكة نفوذ، فيصبح صاحب الحلّ والربط في النزاعات والخصومات الاجتماعية , والدوائر الحكومية احيانا ... ؛ يتقاضى الأموال مقابل "الفزعة او الوساطة "، ويتحوّل إلى مرجع غير رسمي يضاهي الدولة نفسها والوجهاء والاشراف ... , فقد تبدأ السلسلة الإجرامية بجريمةٍ واحدة، ثم تتطور إلى شبكةٍ من "الخدمات" التي تدرُّ الأموال وتوسع النفوذ...؛ وهذا ما يسمى الانزياح التدريجي... ؛ نعم قد يتحول الشخص من مجرم إلى "مصلح اجتماعي" ... ؛ اذ لا يكتفي المجرم بالنجاة والفاسد من العقاب، بل يُلبِس نفسه ثوب "المخلّص والشخصية الاجتماعية المرموقة " , ويتدخل في الخلافات فيُعتبر حكيمًا و يفرض الغرامات فيُسمى "صاحب كلمة او فراضة "... ؛ ويهدد المتحرشين فيُعدّ "حامي النساء"... ؛ ويفرض النظام بالسلاح فيُلقّب بـ"مصلح اجتماعي"... ؛ فعندما ارتكب الجريمة او نسبت اليه ؛ دب الرعب بين الناس ؛ فكسب تعاطف الضعفاء الذين وجدوا فيه حامياً مفترضاً ... ؛ وهكذا، نصنع من القاتل "بطلًا وهميًا"، ومن الضحية ذكرى عابرة، ومن الفساد شرعيةً جديدة...!!
*القدوة المقلوبة: حين يرى الشاب أن القاتل يحظى بالاحترام أكثر من المعلّم، وأن الفاسد يُقدَّر أكثر من الشريف، يتولّد لديه إعجاب خفي سرعان ما يصبح علنيًا، فتتكرس دورة جديدة من إنتاج المجرمين والفاسدين والمنحرفين والتافهين والمخربين .
نعم , عندما يتحول المجرم او الفاسد او الخائن العميل إلى " قصة نجاح او شخصية سياسية او مصلح اجتماعي " محترم، فإن ذلك يشكل تشجيعًا ضمنيًا للآخرين على سلوك نفس الدرب، مما يؤدي إلى تفشي الفساد واعتباره وسيلة ناجحة للترقي الاجتماعي والاقتصادي ... ؛ وهكذا، نصنع نحن – بصمتنا المخجل، وبمجاملتنا القاتلة، وبعقلية " اني شعليه اني معليه " – وحوشًا مهابة ... ؛ و نخلق نسخة مشوهة من "روبين هود"، نقدمها لأبنائنا على أنها "قدوة" في "الرجولة" ، بينما نطمس من ذاكرتنا الجماعية تلك اللحظة التي ضغط فيها على الزناد ليقتل إنسانًا بريئًا مثلك ومثلي... ؛ فكم من قاتل تحول إلى "أبو فلان" في مجتمعنا؟! وكم من ضحية جديدة ستسقط غدًا لأننا اليوم اخترنا أن نكون شركاء في الجريمة بصمتنا وإعجابنا الزائف؟!
*الخاتمة
إن جرائم القتل والفساد وغيرهما لا ترتكبها الأيدي وحدها، بل ترتكبها القلوب التي تبرر، والعقول التي تتجاهل، والألسنة التي تمجد القاتل والفاسد والمنحرف والجلاد ... ؛ وان إنكار معاناة الضحايا، والاستخفاف بآلامهم، والسخرية من مآسيهم تحت أي ذريعة – كانت سياسية أو قبلية أو طائفية أو غيرها – هو شراكة حقيقية في الجريمة... ؛ فكن إنسانًا بحق، وقف بشجاعة أمام نزعة التبرير هذه.
إن مجاملة المجرم ليست حيادًا؛ بل هي مشاركة صريحة ... ؛ فحين تسكت عن القاتل، فأنت تغطي جريمته ... ؛ وحين تبرر له، فأنت تشرعن فعله... ؛ وحين تجلس في مجلسه، فأنت تمنحه شرعية اجتماعية ... .
الصمت ليس فضيلة هنا، بل خيانة للقيم، واشتراك في جريمة لم ترتكبها يدك، لكنك ساهمت في استمرارها.
فلا تضحك مع قاتل وتبكي على ضحية ... ؛ اذ المطلوب أن تعيد تصحيح البوصلة الأخلاقية ... ؛ ولا تجعل روابط القرابة والجيرة أقوى من روابط الإنسانية والعدالة والمواطنة , ولا تسمح للسياسة أو العادات أن تحوّلك إلى شاهد زور أو شريك في الفساد والجريمة ... ؛ ولا تبرر دمًا أُريق، ولا تلمّع وجهًا ملطخًا بالقاذورات والجنايات ... .
ان إنكار عذابات الناس هو مشاركة في الجريمة… ؛ والسكوت عن الفاسدين والمجرمين يخلق مجتمعًا مريضًا يقدّس القوة ويدفن العدالة... ؛ فاختر أن تكون إنسانًا، لا مجرد تابع لسطوة "أبو فلان".
ولا تسمح لأي انتماء أو مصلحة أن تسلبك إنسانيتك، فأنت إما أن تكون مع العدل والضحية، أو تكون شريكا في صناعة الطغيان والجريمة والفساد .
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟