رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 09:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
***تمهيد :
تبحث هذه المقالة الموجزة في الجذور التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية لمفهوم الأمة العراقية، وتناقش مسألة الهوية الوطنية في سياق الدولة الحديثة، مع التركيز على دحض الأطروحات التي تزعم أن العراق كيان مُستحدَث بعد اتفاقية سايكس–بيكو... ؛ ويستند البحث إلى شواهد تاريخية تمتد من العصور السومرية والآشورية والبابليّة وصولاً إلى العهد العباسي والمغولي والعثماني والدولة الحديثة، مع تحليل دور الهجرات، والديموغرافيا، وبنية الدولة في تشكيل الوعي الوطني العراقي.
يعيش العراق اليوم واحدة من أعمق لحظات التحوّل في تاريخه الحديث، حيث تتقاطع الأسئلة الكبرى حول الهوية والمواطنة والانتماء، وتتجدد الحاجة إلى فهم أكثر نضجاً لمفهوم الأمة العراقية... ؛ اذ يشهد مفهوم الأمة العراقية اليوم مخاضاً فكرياً وسياسياً عميقاً، يعكس تحوّلاً في بنية الوعي الجمعي للعراقيين ... ؛ وما هذا المفهوم إلا محصلة قرون طويلة من التجارب التاريخية، والصراعات الاجتماعية، والتحولات السياسية والحضارية التي رافقت بلاد الرافدين منذ فجر التاريخ... ؛ تماماً كما يحدث في مسيرة الأمم والشعوب التي تتطوّر مع الزمن وتتبدّل تصوّراتها عن ذاتها... ؛ فالشعوب لم تولد وهي تحمل مفاهيم الهوية القومية أو الوطنية ؛ بل صاغت هذه المفاهيم عبر تراكم التجارب والوعي ومرور الاعوام وانصرام العقود والحقب ، وعبر انخراطها في سياقات التاريخ والتبدّلات الحضارية والتحولات الهوهوية ... ؛ وهكذا، كما تبنّت شعوب كثيرة عبر القرون فكرة القومية والدولة الحديثة، يسعى العراقيون اليوم إلى إعادة اكتشاف ذواتهم الجمعية، والبحث عن صيغة جامعة تليق بتاريخهم وعمق حضارتهم ... ؛ وليس غريباً أن تنشأ فكرة الأمة ـ كهوية جامعة ـ في مراحل الأزمات والانعطافات الكبرى، كما حصل في أوروبا بعد حروب الثلاثين عاماً، وفي العالم العربي بعد سقوط الخلافة العثمانية، وفي آسيا بعد العهد الاستعماري... ؛ فالأمم لا تُخلق دفعة واحدة، بل تُصاغ عبر معاناة الزمن وتفاعل الإنسان مع الجغرافيا والثقافة والدولة... ؛ وهذا ما ينطبق بوضوح على العراق الذي ظل على امتداد آلاف السنين إطاراً جغرافياً وثقافياً وحضارياً ثابتاً رغم ما مرّ به من غزوات وممالك وهجرات.
نعم , لقد تصاعدت في السنوات الأخيرة ـ بعد انحسار حقبة الانظمة الهجينة الطائفية وسقوط آخرها في عام 2003 ـ دعوات واسعة لإحياء مشروع الأمة العراقية وتجديد الروح الرافدينية التي تمثل صلب الهوية التاريخية للعراق... ؛ ورغم أنّ هذا الشعار وُلد خجولاً في بدايات القرن العشرين، إلا أنّه لم يبلغ النضج المعرفي والسياسي الذي يشهده اليوم، بفعل تراكم الأخطاء التاريخية وتفاقم التحديات الوجودية التي دفعت العراقي إلى إعادة تعريف موقعه في العالم الحديث.
***الإطار المفاهيمي للهوية الوطنية والأمة
1- تعريف الأمة
تُعرّف الأمة بأنها جماعة بشرية مستقرة في رقعة جغرافية محددة، تتشارك لغة أو ثقافة أو تاريخاً أو وعياً سياسياً أو مصيرا مشتركاً... الخ ؛ ومع ظهور الدولة الحديثة بعد القرن السابع عشر، اكتسبت الأمة بُعداً سيادياً جديداً يقوم على رابطة المواطنة... ؛ وتشير دراسات بندكت أندرسون إلى أنّ الأمم “جماعات متخيّلة” بمعنى أنها تُبنى بالوعي والثقافة والسياسة، لا بالأصل العرقي الخالص ... ؛ فهو مفهوم يتجاوز الإطار القانوني للجنسية بل والعرق والقومية ليرتبط بأسئلة الهوية والانتماء والذاكرة الجمعية... ؛ وتكمن صعوبة تأصيل هذا المفهوم في تنوع الخلفيات الإثنية والدينية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي العراقي، والتداخل بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الجامعة كما ادعى البعض ... ؛ فبينما يرى البعض الاخر أن الأمة العراقية حقيقة تاريخية متجذرة في عمق الحضارة الرافدينية ... ؛ يرى آخرون خلاف ذلك .
2- الأمة العراقية كظاهرة تاريخية
بخلاف كثير من الأمم الناشئة في القرن التاسع عشر، تُعدّ الهوية العراقية حالة فريدة لأنها امتداد لكيان حضاري ضارب في القدم، تشكل عبر آلاف السنين داخل بيئة جغرافية ثابتة نسبيّاً هي بلاد الرافدين... ؛ وهذه الاستمرارية الحضارية تضع العراق في منزلة مميزة بين دول الشرق الأوسط بل والعالم ، حيث أن كثيراً من الدول وُلدت سياسياً قبل أن تتشكل هويتها، بينما العراق تشكل حضارياً قبل أن تتجسد صورته السياسية الحديثة.
*سومر وأكد: البذرة الأولى للهوية الرافدينية : ظهرت أولى المدن–الدول في التاريخ الإنساني في جنوب العراق بين 3500–3000 ق.م، مثل أور، لكش، أريدو، وأورك... ؛ وهذا يعني أن العراق — كوحدة جغرافية–ثقافية — وُجد قبل ظهور أي من الهويات القومية الحالية في المنطقة.
*الإمبراطوريات البابلية والآشورية : الحقب البابلية والآشورية (2000–612 ق.م) مثّلت توسعاً طبيعياً للدولة الرافدينية ضمن حدود تختلف كثيراً عن العراق الحالي الا انها ضمت كافة اراضي وحدود العراق الحالي ... ؛ وكانت آشور الممتدة من الموصل إلى زاغروس، وبابل الممتدة حتى دجلة والفرات، وحدتين سياسيتين ضمن جغرافيا الرافدين نفسها .
*العراق في الحقبة الإسلامية : بعد الفتح الإسلامي، احتفظت المنطقة باسم “العراق” في الدواوين، كما يُشير البلاذري والطبري، مما يدلّ على استمرار الاسم ككيان جغرافي–سياسي معروف لدى القاصي والداني .
وتحولت الكوفة الى عاصمة اسلامية في عهد خلافة الامام علي ثم تحولت بغداد الى مركز عالمي لا مثيل لها على وجه المعمورة آنذاك , ففي العصر العباسي (750–1258م)، أصبحت بغداد العاصمة الفكرية والسياسية للعالم، مما منح العراقيين هوية فوق–محلية قائمة على الوعي الحضاري واللغوي والاقتصادي ؛ وزعامة عالمية استمرت لأكثر من خمسة قرون .
ولم تُمحَ هوية العراق رغم الغزو المغولي، بل بقي الاسم مستخدماً في المصادر العربية والفارسية والعثمانية... .
*من العهد العثماني إلى تأسيس الدولة الحديثة : رغم التقسيم الإداري العثماني (ولايات بغداد والبصرة والموصل)، ظلّت هذه الولايات تُعرف بأنها “بلاد العراق”، وهو ما سجّله الرحالة الأوروبيون مثل كارستن نيبور وغيره .
*وبعد 1920 جرى توحيد الولايات الثلاث في كيان سياسي واحد، ليس اختراعاً جديداً، بل إعادة توحيد لأجزاء كانت تُعد تاريخياً وحدة حضارية واحدة.
***العراق… هوية أقدم من حدود السياسة الحديثة
يحاول بعض المتشككين اليوم الطعن في شرعية مفهوم “الأمة العراقية” عبر التشكيك بجغرافيا العراق الحديثة، مدّعين أنّ حدود البلاد رسمها الاستعمار البريطاني باتفاقية سايكس–بيكو، وأنّ العراق لم يكن موجوداً قبل ذلك... ؛ لكن هذا الطرح لا يصمد أمام أبسط الشواهد التاريخية : فالعراق كمفهوم جغرافي- حضاري -تاريخي مذكور منذ آلاف السنين: فقد وردت تسمية بلاد سومر وأكد في الألف الثالث قبل الميلاد، وهي تشكل الجزء الجنوبي والوسطي من العراق الحالي وبعض المناطق المنسلخة ... ؛ وفي العهد البابلي والآشوري ظهرت مصطلحات مثل بلاد بابل وبلاد آشور، وكلها تقع داخل الجغرافيا العراقية المعروفة اليوم وبعض الاراضي تقع خارج العراق الحالي ... ؛ أما الإغريق والرومان فكانوا يطلقون على المنطقة اسم ميزوبوتاميا (بين النهرين)، وهو الاسم نفسه الذي تبناه المؤرخون المسلمون لاحقاً بلفظ “ما بين النهرين”... ؛ كما اسلفنا .
فالحدود العراقية ليست من اختراع البريطانيين، بل تعود جذورها إلى العصور السومرية والآشورية والعباسية، حيث كان المجال الرافديني ـ الممتد من جبال زاغروس إلى بادية الشام ومن بوادي الحجاز إلى الخليج ـ وحدةً حضارية واقتصادية متماسكة.
حين دخل المسلمون العراق عام 633م أطلقوا عليه اسم العراق ؛ وان كانت البلاد تعرف بهذا الاسم حتى قبل مجيئهم ، واستخدموا هذا الاسم في الدواوين والكتابات الرسمية، مما يؤكد أنّ الهوية العراقية لم تكن اختراعاً عثمانياً أو بريطانياً ... ؛ كما أكدنا ذلك مرارا .
في العصور العباسية كان العراق قلب العالم الإسلامي، وكانت بغداد مركزاً علمياً وسياسياً تجاوز تأثيره نطاق الدولة آنذاك، ما يدل على استمرارية الكيان الجامع رغم تغير السلطات... ؛ أما القول بأنّ “سايكس–بيكو” هي التي أنشأت العراق، فهو خطاب انتقائي يُستخدم ضد العراق حصراً، بينما يعترف أصحابه بوجود كيانات أخرى ـ مثل سوريا ومصر وإيران وتركيا ـ رغم أنها خضعت هي الأخرى لترسيمات استعمارية... ؛ فالازدواجية هنا واضحة؛ إذ يعترف المنتقد بالماضي العريق لتلك الدول لكنه ينكر على العراق تاريخه، رغم أن العراق أقدم منها جميعاً.
نعم , من المثير للسخرية أن البعض يحاول تسفيه فكرة الأمة العراقية عبر التمسك بحجة جغرافية واهية، مفادها أنّ حدود العراق الحالية صاغها الاستعمار البريطاني في اتفاقية سايكس – بيكو، وبالتالي فالعراق ـ وفق هذا المنطق الأعوج ـ لم يكن موجوداً قبل تلك الحدود!
والغريب أنّ هذا الطرح لا يُستخدم إلا عند الحديث عن العراق والعراق فحسب كما اسلفنا ، بينما تتعامل الفئات نفسها مع دول أخرى ـ كالشام ومصر وإيران وتركيا ـ بوصفها كيانات ضاربة في القدم رغم خضوعها للتقسيمات الاستعمارية نفسها...!!
كيف يُعقل أن تُنسَب هذه الدول إلى ماضيها التاريخي، بينما يُسلب العراق ـ وهو أقدم حضارات الأرض ـ حقه البديهي في الوجود التاريخي؟!
أليس هو موطن أول مدينة في التاريخ، ومسرح أول قانون، ومهد أول كتابة؟!
أليس سكانه الأصليون أقدم من الفرس والترك والإنكليز الذين يُستشهد بحدودهم السياسية اللاحقة؟!
بل إنّ كثيراً من أراضي بلاد الرافدين التاريخية اقتُطعت وضُمّت لدول الجوار، ولا يزال عراقيو اليوم يستعيدون صوت أسلافهم الذين طالبوا بإرجاع تلك الأراضي إلى كيانها الأم.
***الهويات القومية والدينية… بين الأصالة والطارئية في الجغرافيا العراقية
إنّ بلاد الرافدين كانت عبر التاريخ مركزاً حضارياً صناعياً وزراعياً وتجاريا مزدهراً، ما جعلها مقصداً دائماً للهجرات من كل اتجاه... ؛ فقد شهد العراق: هجرات آرامية في الألف الأول قبل الميلاد... ؛ وتحركات كردية من جبال زاغروس وغيرها نحو السهول العراقية في العصور السلجوقية والصفوية والعثمانية... ؛ واستيطان تركماني ومملوكي واجنبي في العهدين السلجوقي والعثماني لمواقع عسكرية وحضرية... ؛ ثم هجرة أرمنية وآثورية كبيرة بعد المذابح العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين... ؛ وتوافد عربي واسع بعد الإسلام وخلال العصور العباسية وما بعدها ... ؛ ثم هجرة بعض القبائل العربية والاعرابية والنجدية وبعض الجماعات الفيلية والايرانية في العصر الحديث ... ؛ ورغم هذا التعدد، بقي العراقيون الأصليون هم الأغلبية التاريخية والجذر الراسخ للهوية الوطنية، بينما انصهرت الجماعات الوافدة تدريجياً في البنية الاجتماعية والثقافية... ؛ وهذا ما يفسر أن الانتماء القومي ـ مهما كان راسخاً ـ لا يعطي حقاً تاريخياً في اقتطاع الأرض أو المطالبة بتغيير الجغرافيا.
ولو طبق العالم منطق البعض القائل: “وجود قومية معينة في أرض ما يمنحها حق الانفصال”، لانهارت دول كبرى مثل الهند والصين وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة، وكلها دول متعددة القوميات واللغات والأديان... ؛ إنّ هذا المنطق مرفوض دولياً، إذ تقوم الدول على مفهوم المواطنة لا العرق، وعلى الأرض لا الهجرة.
ويتمادى البعض أبعد من ذلك، إذ يتذرع بوجود جماعات مهاجرة ـ مثل بعض الأكراد القادمين من دول الجوار، أو بقايا التركمان العثمانيين، أو الأرمن والآثوريين الوافدين حديثاً ـ ليُطالب بتنازل العراقيين الاصلاء عن مناطقهم التاريخية لصالح مشاريع انفصالية قومية وعرقية ؟! وكأن هجرة جماعة ما إلى أرض معينة تمنحها الحق بنزع تلك الأرض من أصحابها الأوائل...!!
وهذا منطق لو طُبّق على دول العالم لانتهت الجغرافيا السياسية برمّتها، ولما بقيت دولة قائمة على وجه المعمورة .
إنّ القانون الدولي ينص على أن الهجرة لا تنتج حقوقاً سيادية، بل حقوقاً إنسانية ومدنية فقط.
***الوطن قيمة فوق القومية والدين
يظن البعض أنّ الهوية الوطنية تتقاطع مع الانتماء القومي أو الديني، لكن التجارب الإنسانية تثبت العكس: ففي فرنسا صهر الفرنسيون عشرات الأعراق في بوتقة وطنية واحدة دون أن يتخلى أحد عن جذوره... ؛ وفي الهند تعيش أكثر من ألف جماعة عرقية تحت راية وطنية واحدة... ؛ وفي الولايات المتحدة تشكلت الأمة الأمريكية من خليط هائل من المهاجرين دون أن يفقدوا خصوصياتهم... ؛ فالوطن ليس مفهوماً عابراً ولا يمكن استبداله بمجرد انتماء قومي أو عقائدي... ؛ والإنسان يستطيع تغيير مذهبه أو آرائه السياسية، لكنه لا يستطيع تغيير علاقة الجذور بالأرض إلا إذا اختار الانفصال عن ذاته وتاريخه.
وهذا ينطبق على العراق بوضوح: فمن يريد أن يكون عراقياً لا يُطلب منه التخلي عن قوميته، بل يُطلب منه فقط ألّا يجعل قوميته سلاحاً ضد وطنه، وألّا يقدم انتماءه الخارجي على انتمائه لهذه الأرض التي احتضنت أسلافه وأبناءه.
نعم , إنّ الوطنية لا تتناقض مع القومية أو الدين، لكنها تتفوق عليهما عندما يتعارضان مع مصلحة الوطن العليا... ؛ فالأوطان تسبق الأعراق واللغات والمذاهب والديانات في وجودها التاريخي... ؛ ويمكن للإنسان أن يغيّر مذهبه عندما تتبدل قناعاته، لكن محو القومية ليس بالأمر الهيّن لأنها امتداد للذاكرة الوراثية والكيانية العميقة... ؛ ومع ذلك، لا يجوز أن تتحول القومية إلى أداة لابتلاع الوطن، ولا أن تصبح وسيلة لابتزاز الدولة وإضعافها.
ولهذا فإنّ الانتماء إلى القومية الكردية أو التركمانية أو الآثورية أو الأرمنية لا ينبغي أن يكون نقيضاً للهوية العراقية، بل جزءاً من فسيفساء الأمة العراقية... ؛ فهذه الجماعات وإن حملت خصوصياتها الثقافية واللغوية والدينية، إلا أنّ انصهارها في الهوية الوطنية هو ما يصنع دولة قوية، لا الانغلاق القومي أو الدعوات الانفصالية... ؛ وكما لا يتنكر الهندوس لهندهم، ولا يتخلى الإنكليز عن إنكلترا، لا يحق لأحد أن يطلب من العراقي الأصيل التخلي عن إرثه الوطني أو ارض اسلافه أو الارتماء في أحضان كيانات خارجية بذريعة العرق أو القومية أو حقوق المكونات .
إنّ العراق ليس كياناً سياسياً طارئاً أو اصطناعياً، بل هو من أقدم الكيانات التاريخية التي رسمت حدودها عوامل الجغرافيا والطبيعة والتاريخ قبل أن تتدخل بها يد الاستعمار الحديث ... ؛ ومنذ فجر التاريخ، كانت بلاد الرافدين موطناً لشعوب متعددة، لكن تعدد هذه الشعوب لم يُلغِ هوية الأرض ولم ينسف وحدة الجغرافيا... ؛ فوجود القوميات المتنوعة لا يُجيز لأيّ منها المطالبة بقضم أجزاء من الدولة بدعوى الخصوصية، تماماً كما لا تبرر الهجرة المؤقتة أو الحديثة حقاً تاريخياً على أرضٍ ضاربة في القدم.
إنّ المطلوب من العراقي اليوم ليس التخلي عن قوميته أو دينه، بل ترتيب أولوياته: أن يجعل الوطن في المقدمة، وأن يرى في الهوية الوطنية الحاضنَ الأوسع الذي يضمن كرامته وكرامة أبنائه... ؛ فمن أبى ذلك، وفضّل الانتماء الخارجي على انتمائه لهذه الأرض، فهو الذي يختار الابتعاد، لا العراق هو الذي يلفظه.
لقد كان العراقي عبر التاريخ يقول: "أنا عراقي"، وكانت الشعوب المجاورة تعرفه كهوية مميزة، لا تختلط بغيرها... ؛ والتعدد القومي والديني لم يكن يوماً ضعفاً، بل مصدر قوة حين ينسجم داخل إطار وطني موحد... ؛ فالهوية العراقية ليست نقيضاً للتنوع، بل إطاراً جامعاً له... ؛ وفي اللحظة التي يعي فيها الجميع أن الأمة العراقية أكبر من الانتماءات الجزئية، ستكون الطريق قد مهدت لبناء دولة قوية، عادلة، تتسع للجميع دون أن يتنازل أحد عن جذوره أو خصوصيته.
وهكذا، فإنّ القومية الكردية أو التركمانية أو غيرها لا يجب أن تكون خصماً للهوية الوطنية، بل جزءاً من بنائها... ؛ فالعراق ليس مرحلة عابرة، بل وطنٌ تاريخيٌ عريق، يستحق أن يُصان ويُبنى على يد جميع مكوّناته دون استثناء، ما داموا يؤمنون بقدسية الأرض وشرعية الانتماء إليها.
نعم , لا تتناقض القومية الكردية أو التركمانية أو الآثورية أو العربية مع الهوية العراقية، لكنها تتحول إلى خطر حين تُستخدم لإضعاف الدولة أو التغطية على مشاريع انفصالية... ؛ وتشير تجارب أوروبا (ألمانيا، إيطاليا) إلى أن توحيد الهويات المحلية في هوية وطنية واحدة كان شرطاً لصعود الدولة الحديثة... ؛ كما اسلفنا .
*مخاطر تقديم الولاء الخارجي على الولاء الوطني : أثبتت تجارب الحرب الأهلية اللبنانية، والتفكك اليوغسلافي، والحرب السورية، أن انحياز الجماعات لقوميات عابرة للحدود يؤدي إلى انهيار الدول وتدمير الاوطان .
***لماذا “الأمة العراقية” ضرورة تاريخية اليوم؟
تظهر الحاجة إلى مشروع الأمة العراقية لعدة أسباب تاريخية وسياسية: لأنّ العراق كان دائماً هدفاً لمشاريع خارجية سواء كانت فارسية أو عثمانية أو استعمارية أو إقليمية حديثة، وكلها حاولت تفتيت هويته لصالح كيانات أخرى... ؛ ولأنّ الخطاب الطائفي والقومي بعد عام 2003 بل وقبله بعقود هدد وحدة الدولة ... ؛ فكان لا بدّ من بديل وطني جامع يعيد ترتيب الأولويات على أساس المواطنة، لا على أساس الهويات الجزئية والانتماءات الفرعية ... ؛ لأنّ الأمم تُبنى بالوعي قبل الحدود والاعراق والمذاهب ... ؛ وقد أثبتت التجربة أن العراقيين حين يتفقون على هويتهم التاريخية يصبح من السهل صياغة مشروع سياسي واقتصادي وثقافي مستقر... ؛ ولأنّ الحضارات الكبرى لا تُبنى من أعراق نقية فحسب ... ؛ فالعراق ـ كما أثبتت السلالات الرافدينية من السومريين والبابليين والآشوريين والنبطيين والعرب وغيرهم ـ كان دائماً بوتقة صاهرة لأعراق متعددة، لكنه ظل عراقاً موحداً وشعبا واحدا أو أمة واحدة معروفة بالعراقيين أو أهل العراق .
وعليه : احياء مفهوم الامة العراقية وتطبيقه على ارض الواقع يؤدي الى : تفكيك المشروع الطائفي والقومي والعنصري والمناطقي والقبلي ... ؛ واستعادة السيادة العراقية من تأثير القوى الإقليمية والتداخلات الخارجية ... ؛ وحماية الجغرافيا العراقية من مشاريع الانفصال والارتباط بالأجنبي ... ؛ وبناء وعي مدني حديث يقوم على المواطنة... الخ .
***الهوية العراقية… الإطار الأكبر للجميع
إنّ الهوية الوطنية ليست نقيضاً للكردية أو التركمانية أو السريانية أو العربية أو الأرمنية، بل إطاراً جامعاً لها... ؛ فالدولة الحديثة لا تُبنى بتذويب الخصوصيات، بل باحتضانها ضمن مفهوم المواطنة والمساواة... ؛ وهذا ما يجب أن يكون أساس الدولة العراقية الحديثة.
فكما لا يطالب أحد الأكراد في تركيا بالتنازل عن تركيا لصالح “دولة كردستان”، ولا يُطلب من الأرمن في روسيا اقتطاع إقليم روسي، كذلك لا يُعقل أن يُطلب من العراقيين التنازل عن أرضهم لصالح جماعات مهاجرة أو مشاريع قومية عابرة للحدود.
نعم , أسس الأمة العراقية تقوم على : التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك ... ؛ والاعتراف بالتعدد العرقي والديني... ؛ وعدم تعارض الانتماءات الجزئية والولاءات الفرعية مع الانتماء الوطني... ؛ وتقديم مصلحة العراق على أي ولاء خارجي... ؛ ودمج القوميات والمكونات والجماعات في إطار وطني واحد دون صهر قسري... .
خاتمة: نحو وعي وطنيّ جديد
إنّ العراق ليس مجرد حدود سياسية رسمتها قوى أجنبية، بل هو كيان تاريخي راسخ وواقع حضاري عميق الجذور... ؛ وعلى العراقيين جميعاً ـ بمختلف قومياتهم وأديانهم ـ أن يدركوا أنّ قوتهم لا تأتي من انغلاقهم القومي، بل من انصهارهم في مشروع وطني شامل يضع العراق فوق كل ولاء آخر... ؛ فمن أراد العراق وطناً… ؛ فهو شريك كامل في الأمة العراقية... ؛ ومن قدّم قوميته أو ولاءه الخارجي على هذه الأرض… ؛ فقد اختار بملء إرادته الابتعاد عنها... .
إنّ الأمة العراقية ليست فكرة سياسية عابرة، بل هي امتداد لأكثر من سبعة آلاف عام من الحضارة، وواجب كل جيل أن يقدم لها من الولاء قدر ما منحته لهم من هوية وكرامة ووجود.
نعم , أنّ العراق ليس كياناً سياسياً طارئاً وُلِد من رحم سايكس–بيكو، بل هو من أقدم الكيانات الحضارية في التاريخ... ؛ وأنّ مفهوم الأمة العراقية ليس اختراعاً معاصراً، بل امتداداً لوعي تاريخي طويل... ؛ وتُظهر الأدلة التاريخية أنّ الهوية الوطنية العراقية قادرة على استيعاب التنوع القومي والديني، شرط أن يكون الولاء للوطن فوق كل ولاء آخر.
إنّ بناء الأمة العراقية ليس مشروعاً ثقافياً فحسب، بل ضرورة سياسية لحماية وحدة الدولة، وضرورة اجتماعية لحماية النسيج الوطني، وضرورة تاريخية للحفاظ على إرث سبعة آلاف عام من الحضارة الرافدينية.
.....................................................
المراجع
Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, Verso, 1983.
Samuel Noah Kramer, History Begins at Sumer, University of Pennsylvania Press, 1981.
Georges Roux, Ancient Iraq, Penguin Books, 1992.
البلاذري: فتوح البلدان، دار الفكر.
آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري.
ويل ديورانت : قصة الحضارة
Carsten Niebuhr, Travels Through Arabia, 1765.
David Gaunt, Massacres, Resistance, Protectors: Muslim-Christian Relations in Eastern Anatolia during World War I.
Hans Kohn, The Idea of Nationalism, Macmillan, 1944.
حنا بطاطو: الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق.
علي الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث.
#رياض_سعد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟