أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي















المزيد.....

تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 16:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


صناعة الحقيقة عبر التكرار، هي استراتيجية لتشكيل الوعي العام وتحويل المعلومة الزائفة إلى حقيقة اجتماعية. فتوجيه الرأي العام في عصر الاتصال الرقمي أصبح من أهم أدوات الصراع السياسي.

تبدأ العملية بإنتاج معلومة زائفة لخدمة هدف محدّد، ثم يُعاد تدوير تلك المعلومة الكاذبة وتضخيمها وترويجها على أوسع نطاق بما يسمح بخلق نفسية جماهرية مُستعدة لتلقّيها ك"حقيقة"، وذلك اعتمادًا على منظومة اتصال معقدة تشمل الإعلام التقليدي، شبكات التواصل الاجتماعي، الفاعلين السياسيين، ومنظمات المجتمع المدني.

تقوم الاستراتيجية على عدة مرتكزات معرفية ونفسية منها:
أثر الحقيقة الوهمية، إذ يميل الفرد إلى تصديق المعلومة التي تتكرر وتقصف عقله لعدة أيام، حتى لو شكّ في صحّتها حين تقبّلها في البداية.

أثر الإجماع:
يبدو للرأي العام أن المعلومة صحيحة عندما تتبناها عدة أصوات إعلامية وسياسية معروفة.

ندرة التحقق:
لا يملك الفرد العادي الوقت ولا الأدوات التقنية للتحقق من صحة الأخبار، مما يُسهّل تحويل الإشاعة إلى واقعة.

لهذه الاستراتيجية بنية اتصالية تشتغل بإحكام ضمن شبكة معلومات تتفاعل فيها عدة دوائر مؤثّرة، كأن يُزرع الخبر أولاً في قناة أو جريدة ذات حضور قوي، عادة تُقدم في شكل "عن مصادر مطلعة" أو "تسريبات عن جهة رسمية"، أو "حسب الخبير الفلاني"، ثم يعاد تدويره في وسائل أخرى ليظهر وكأنه مُدعّم بمصادر متعددة. بعد انطلاق الرواية الإعلامية، تنتقل إلى الفضاء الرقمي حيث تعمل الجيوش الإلكترونية، والمجموعات المؤدلجة، والصفحات ذات المتابعين الكثر على نشرها بكثافة، ما يخلق انطباعاً بوجود رأي عام واسع حولها. وتستثمر الأطراف السياسية المستفيدة من الرّواية لإكسابها زَخَمًا أقصى في الخطابات والبيانات والحوارات التلفزية، فتتحول إلى "قضية" ذات طابع رسمي.

بنفس التوجيه تشارك بعض المنظمات أو شبكات النشطاء ببيانات وتقارير ومواقف تُعيد إنتاج المعلومة نفسها، فتزيدها شرعية رمزية مستمدة من ميزة حياد المجتمع المدني.

مثال أول:

التهيئة النفسية للحرب عبر خطاب "الدفاع الاستباقي" قبل غزو العراق، حيث شكّل الإعلام الأميركي حينها نموذجًا مدرسيًّا لهذه الاستراتيجية. عندما آتُّخذ القرار بإسقاط النظام العراقي، بدأ الترويج لوجود أسلحة دمار شامل رغم عدم وجود دليل، ثم رُبط الموضوع بـ"أمن العالم"، ثم صُوّر الغزو كخطوة “ضرورية” و“استباقية”. وبعد أشهر من التكرار، أصبحت الأكذوبة حقيقة سياسية، رغم اعتراف الجميع لاحقاً بعدم وجود أي أسلحة.

مثال ثاني:

التهويل الإعلامي الجاري اليوم حول حرب إسرائيلية على لبنان وربطها بقضية "نزع سلاح حزب المقاومة"، حيث زُرع في اتفاق وقف الأعمال العدائية السنة الماضية "استحقاق زمني"، يُمهل الدولة اللبنانية مُهلة لنزع السلاح. بالرغم من عدم التزام الصهاينة بالاتفاق واستمرار الاعتداءات على لبنان، قامت جهات إعلامية وسياسية إسرائيلية وغربية وعربية وحتى لبنانية، منذ ما لا يقل عن ثلاثة أشهر، بالترويج لاستعداد إسرائيل لحرب شاملة على لبنان بسبب عدم التزام لبنان بتنفيذ الاتفاق. ولو فتحتم أي قناة اليوم لشعرتم بحرب إسرائيلية وشيكة ومدمّرة. وكونها ستكون "حاسمة" لإنهاء ملف سلاح حزب الله، وأن إعادة الإعمار وعودة الاستقرار مسائل مرهونة حصرا بنزع السلاح.
هذه الرواية يتم تقديمها للرأي العام، على مدار الساعة، كتحليل "موضوعي"، في حين أنها إسقاط سياسيّ هدفه إعادة هندسة أولويات الجمهور اللبناني والعربي، خصوصا بآلية الربط المصطنع بين إعادة الإعمار ونزع السلاح، وتصوير السلاح بأنه "العائق الوحيد" أمام عودة الحياة الطبيعية. والغاية هي إخفاء حقيقة أن المشكلة الأصلية هي الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية الدورية.

المهم بتكرار هذه الرسائل، أصبح جزء من الرأي العام يتحدث عن "السلاح" باعتباره مشكلة وعبء داخلي وليس آداة للردّ على تهديد وجودي يعتبر لبنان جزء من إسرائيل الكبرى.

كذلك استُعملت فكرة "المهلة الزمنية" للضغط النفسي:
إسرائيل ستشنّ الحرب خلال أسابيع، أو قبل نهاية سبتمبر، أو مباشرة بعد الانتخابات الأميركية، أو بعد زيارة البابا. والهدف خلق حالة من الاستنفار النفسي تجعل النقاش محصوراً في "ماذا لو اندلعت الحرب قبل تسليم السلاح؟"، وليس في "لماذا يريد العالم تجريدنا من وسائل الدفاع عن النفس؟"

بطبيعة الحال حققت هذه الاستراتيجية قدرا كبيرا من النجاح. فالرأي العام ليس بوسعه الانتباه إلى أن قرار الحرب الإسرائيلي، يقوم دائما على المفاجأة والخداع الاستراتيجي. وتاريخياً، كل الحروب التي شنتها إسرائيل اتخذت طابع السرية الشديدة والمفاجأة وتضليل العدوّ. وبالتالي، فإن فكرة "إعلان الحرب مسبقًا" عبر التصريحات الإعلامية تتعارض أصلاً مع عقيدة الجيش الإسرائيلي. لكن كثافة الترويج جعلت الجمهور يتعامل مع سيناريو الحرب باعتباره "حقيقة قادمة".
هكذا نجح الإعلام بهذه الآلية في تحويل الاحتلال باعتباره العلّة الحقيقية والسبب الأصلي لانعدام الاستقرار في المنطقة إلى مسألة هامشية، وجعل النقاش يتركّز حول "سلاح حزب الله" بدلاً من الخطر الخارجي الذي بسببه وُجِدت المقاومة المُسلّحة. ونجح في دفع جزء من الشارع اللبناني والعربي والعالمي إلى تحميل المقاومة مسؤولية الأزمة. ونجح في خلق حالة من الضغط الداخلي تُناسب أجندات إقليمية ودولية كانت تسعى لإعادة تشكيل ميزان القوى في لبنان.

مثال ثالث وأختم

بنفس الاستراتيجية يروج الادعاء بأن إطلاق سراح الأستاذة سنية الدهماني جاء استجابة لضغوط أوروبية. وهذا أيضا مثال على كيفية صناعة "حقيقة سياسية" من معلومة غير مُثبتة:
زُرعت الرواية من خلال تقرير إعلامي يلمّح إلى "ضغوط دولية". ثم بدأ التضخيم الرقمي عبر صفحات مؤثرة تسخر من "دولة ضعيفة بلا إرادة" استجابت فورا لقرار البرلمان الأوروبي. وسيتصاعد تداول القصة لإقامة الدليل على "الخضوع للغرب". يليها التثبيت الرمزي عبر مواقف منظمات أو بيانات "حقوقية".

في نهاية المطاف، يتحول ادعاء غير مُوثّق إلى "حقيقة" في مخيال جزء من الجمهور، رغم أن حقيقة سبب الإفراج موجودة على صفحة الأستاذ سامي بن غازي.

الغاية من صناعة هذه "الحقيقة" مزدوجة:
أولا نزع المصداقية عن الخطاب السيادي الذي كرّره الرّئيس حتى بات بلا تأثير ولا طعم. وإذا سقطت عنه ميزة التمسّك بالسيادة، أصبح في نظر الجمهور مثله مثل غيره.

ثانيا، خصومه صاروا يعرفونه رجل طبعُه حادّ، لا يستشير أحدا، ويقود الدولة بعقلية صاحب البيت الذي لا يخشى أحدًا. سهل الاستفزاز، وسرعان ما يجرّونه إلى فخّ التحدّي. فلكي يُثبت أنه لم يخضع لأيّ ضغط، قد يُقدم على التّصعيد مع الاتحاد الأوروبي. وعندئذ كلّ خسارة دبلوماسية، ستنجرّ عنها خسارة تجنيها الدولة، وتعتقد "المعارضة" أنّها تتفوّق عليه بنقاط تُحسبُ في عدّادها، خصوصًا تلك المعارضة الحريصة على الظهور بمظهر الاعتدال والتناغم مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

بكلّ الأحوال، تُبيّن الأمثلة الثلاثة أن صناعة الحقيقة عبر التكرار أصبحت أداة فعّالة تُستخدم لتوجيه الوعي الجماعي وتحديد أولويات الشعوب. فبواسطة التكرار الكثيف، وانتقاء المصطلحات، وربط الملفات ببعضها، وإنتاج حالة من الاستعجال النفسي، يمكن تحويل اهتمام الرأي العام عن القضايا الجوهرية نحو قضايا ثانوية.
ويبقى فهم هذه الآليات ضروري، ليس فقط لقراءة الأحداث الجارية، بل أيضًا لبناء خطاب موضوعي قادر على مقاومة التّلاعب بوعي الناس، وحماية المجال العام من الأخبار الموجّهة التي تُفبرك من الأكاذيب، ثم تُقدَّم للجمهور كـ"حقائق" لا يطالها الشكّ.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام
- سوريا ليست تونس: نقد القياس السياسي وبيان شروط سقوط الأنظمة.
- المسافة بين التجربتين: في بطلان قياس تونس على سوريا.
- التونسيون ليسوا ضد الديمقراطية، بل ضد من يختزلها في تجربة ال ...
- بين خطاب -التاسعة- وواقع العولمة: هل كلّ ناشط في المجتمع الم ...
- براغماتية الدولة: قراءة في التصويت الجزائري على القرار الأمر ...
- القرار 2803 أخطر ما صدر عن مجلس الأمن بشأن فلسطين منذ تأسيس ...
- منطق السلطة بين تطبيق القانون وحماية أمن الدول
- هل المشكل في الفساد أم في مكافحة الفساد؟ قراءة نقدية في الخط ...
- المشهد الرّمزي حول زيارة أحمد الشرع لواشنطن
- فوز زهران ممداني: بداية التحول البنيوي في المشهد الأمريكي
- مشروع قرار أمريكي لمجلس الأمن بصدد -إنشاء قوة استقرار دولية ...
- خصوصية الانتقال الديمقراطي في تونس وعوامل فشل التجربة
- لماذا لم يدافع الشعب التونسي عن -الديمقراطية-؟
- المقاومة والحواف الأخلاقية لضبط العنف الضروري
- الجدل المغلوط حولاتّفاقية التعاون الدفاعي بين توس والجزائر.
- الحرب على إيران والبيئة الاستراتيجية لإسرائيل الكبرى
- في الذكرى الثانية للطّوفان، دفاعًا عن المقاومة


المزيد.....




- أكثر من 40 قتيلا جراء أمطار غزيرة تسببت في انهيارات أرضية وف ...
- ترامب: العمليات البرية ضد شبكات تهريب المخدرات في فنزويلا ست ...
- مقتل عشرة أشخاص بنيران اسرائيلية في سوريا واصابة جنود بجراح ...
- في يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني
- ترامب يتوعد باستهداف مهربي المخدرات الفنزويليين في عمليات -ب ...
- إيكونوميست: هل ينقذ ستارمر وماكرون وميرتس أوروبا من -ترامبوت ...
- توقيف مسؤول معارض في كوت ديفوار بتهم خطيرة
- تفاصيل العملية العسكرية الإسرائيلية في بيت جن بريف دمشق
- قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل حملتها العسكرية بطوباس
- شاهد.. استهداف طاقم الجزيرة أثناء تغطية الأحداث غربي الخليل ...


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي