أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - هل المشكل في الفساد أم في مكافحة الفساد؟ قراءة نقدية في الخطاب السياسي التبريري















المزيد.....


هل المشكل في الفساد أم في مكافحة الفساد؟ قراءة نقدية في الخطاب السياسي التبريري


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 23:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عندما ينحرف شعار "مكافحة الفساد" عن مقصده، خاصة في البلدان التي تعاني من ضعف ثقافة القانون، فيتحوّل حينئذٍ إلى عملةٍ مستهلكة تُرفع في وجه الخصوم، وقد تُستخدم لتبرير الفشل في إدارة الدولة والمجتمع. ففي كثير من الحالات، تُطلق السلطات هذا الشعار لإخفاء عجزها عن إيجاد حلولٍ اقتصادية واجتماعية حقيقية، أو لتحويل الأنظار عن أزماتها البنيوية، فتُختزل مشكلات التنمية في شخصيات أو مجموعات تُقدَّم ككبش فداء، بينما تبقى الأسباب العميقة للفساد قائمة ومحصّنة داخل البنية ذاتها.

بهذا المعنى، يتحوّل الخطاب حول الفساد من مسار إصلاحي عقلاني إلى أداةٍ للاستهلاك الإعلامي والابتزاز السياسي، وتصفية الحسابات وتوجيه الاتهامات العشوائية. ويُصبح الخطر مضاعفًا حين يتكرّس هذا المنحى في مؤسسات الدولة والإعلام والرأي العام، بحيث يُستبدل القضاء بموجات اتهام هستيرية جارفة للعوام، فيُختزل الإصلاح في محاكمات استعراضية لا تمسّ الفساد بقدر ما تهتم أعراض أُناس أبرياء.

ومع ذلك، فإن التحذير من هذا الاستخدام السياسي للشعار لا يعني إنكار وجود ظاهرة الفساد ذاتها أو التقليل من خطورتها، ولا يُبرّر السكوت عنها أو تبرئة الفاسدين، وإلا انتقلنا من مكافحة الفساد إلى مكافحة الحرب على الفساد.

بهذا السياق، أمس لفتني نصّ قصير نشره السيد خالد شوكات، وهو غنيّ عن التعريف كسياسي وكمثقف تونسي، مهتم بالفكر، وبالقضايا الوطنية والقومية، ومعروف بنزاهته وتعفُّفِهِ. ورُبّما بسبب هذه الصّفات أجدُ الأهمية في مجادلته من حين إلى آخر.

جاء نصّ سي خالد كما يلي:

"أفكار حول الطهر والفساد!!؟
- ليس الطاهر هو من لم يفسد بل من كان بمقدوره أن يفسد ولم يفعل، فمثلا عندما تكون مدرّسا (والتدريس أعظم مهنة) وليس لديك مسؤولية إدارية سوى على اللوح والطباشير ربّما، فهل بمقدورك أن تكون فاسدا في هذه الحالة حتّى وإن أردت الفساد، ثم إن من يزعمون الطهر لعجز عن ممارسة الفساد كثيرون، وزعم الطهر المطلق في حدّ ذاته فساد عظيم يستنكف عن فعله الطاهرون حقّاً.
- تسعة وتسعون بالمائة من التونسيين - وغير التونسيين أيضا- يحكمون على "الفساد" من باب "الانطباع" و"المزاجية" وربما "الحقد والحسد" وربما الاختلاف الايديولوجي أو السياسي أو حتى الرياضي، وليس على الوقائع المثبتة والأدلة القاطعة المعلنة التي لا يرقى إليها شك وقام قضاء نزيه بفحصها والحكم بناء عليها، ولا حتى الاحصائيات الوطنية والدولية بخصوص هذه الظاهرة العامة التي لا يخلو منها بلد حتى الأرقى والأكثر تقدما.
- الفساد هو "المادّة الشعبوية" الأولى، الأكثر إغراء للجماهير، بل حتّى إنّه أكثر إغراء من المقوّمات المشتركة كالدين والوطن والقومية وغيرها التي لطالما طالب العقلاء بجعلها مشتركات لا يجوز المزايدة عليها في المواسم الانتخابية وغيرها، ومن هذه الغفلة عن ادراج الفساد يمكن أن ينفذ كل الشرور، خصوصا وأن كثيرا من الجماعات السياسية استسهلت اللعبة في سياق نظام سياسي تعددي قائم على العملية الانتخابية الحرة والمفتوحة.
- مفهوم "الفساد" مرن ومطّاط ومتعدد وقابل للخلط، فالفساد عند ماركس مثلا هو رأس المال وكل ما ينتج عن العملية الرأسمالية من فائض هو فساد بنظره، وهكذا فإن كل من اشتغل برأسمال وأنتج ربحا، لا يعدو بحسب التفكير الماركسي سوى سارق، وأن رأس المال في حد ذاته ليس إلّا سرقة لجهد العمّال ومراكمة له، ولكن هذا المفهوم القائم على الحقد الطبقي لم يتوقف عند الماركسيين بل تسرّب لغيرهم، وخصوصا الساسة "الشعبويين" الذي وجدوه طريقا سريعا إلى قلوب الجماهير، خصوصا الحاقدة منها على بؤس أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.
- الفساد ليس نوعا واحد، وقد تحدث "مكافحة الفساد" بحسب التجارب المقارنة، إذا ما اتّبعت سياقات خاطئة واعتمدت آليات مشبوهة، "فساداً أكبر"، فأن تكون مكافحة الفساد مثلا مدخلا إلى تعطيل الاقتصاد والعجز عن خلق الثروة وتغذية الاحقاد والانقسامات داخل المجتمع وتوسيع دائرة الطاقة السلبية والتشاؤم واليأس والإحباط، فإن خطاب الفساد يصبح حينها أكبر فساد وجريمة حقيقية تدمّر الأوطان وتخرّب المجتمعات وتقود إلى أسوأ العواقب.
- عندما تتحوّل مكافحة الفساد إلى مجرّد شعارات شعبوية، ولا تحدث ضمن منظومة قانونية وقضائية محايدة وشفافة ونزيهة، فإنها غالبا ما تصبح آلية لتصفية الحسابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بيد الحاكم، والأخطر أنها قد تحدث المناخ الأفضل لتنامي ظواهر أخرى لهذا الفساد من قبيل التحيّل والابتزاز، مناخ يطغى عليه الشكّ ويهيمن فيه "الأراذل" على "الأفاضل"، وتنقلب معه المعايير والمقاييس وينحطّ معه الذوق العام.
- إن لكل شخصية جماعية أيضا خصائصها، ومن خصائص الشخصية التونسية كما كتب عنها علماء الاجتماع، أنها شخصية متوجّسة بطبعها، "مستنفرة" كما قال الدكتور محمود الذوادي، الشك عندها أصل والثقة استثناء، فإن تحوّل الخطاب الرسمي إلى تبني "مكافحة الفساد" باعتباره أولوية وطنية، كأنما صبّ الزيت على النّار مع هذه الشخصية، وبما يحيل المجتمع إلى حالة من "المرض النفسي العام" أو "الهوس الجماعي المرضي" أو ما يمكن لنا تسميته ب"هستيريا الفساد"، التي غالبا ما تدفع بمؤسسات الدولة وإدارتها إلى حالة شيطانية من الارتباك والعجز والحيرة، وبما يعطل المصالح العامة والخاصة، ويعمّق مشاعر الضياع والتيه لدى النّاس.
وأخيرا، فإن الطريق إلى جهنّم غالبا ما يكون محفوفا بالنوايا الطيّبة، وكم من جرائم ارتكبت باسم أقدس الشعارات وأنبلها."
~ انتهى~

أولًا: ملاحظة جانبية حول "النقد الماركسي للرأسمالية"، وللأمانة استحسن السيد خالد الإضاءة التي وضعتها بخصوص هذه النقطة في تعليقي التالي:

صحيح أن اتهام الناس بالفساد بشكل عشوائي أمر مرفوض ومستهجن. لكنّي أختلف مع جعل الماركسية سببا من أسباب هذه الظاهرة. فكارل ماركس لم يُقدّم نقده للرأسمالية بوصفها "نظامًا فاسدًا" أو "أصحابه أشرار"، بل بوصفها منظومة اقتصادية سياسية لها قوانينها الداخلية التي تخلق بالضرورة التفاوت الاجتماعي، حتى لو كان الرأسمالي فردًا نزيهًا أو "طيبًا" من الناحية الأخلاقية.
ففي نظر ماركس، الاستغلال ليس فعلًا إراديًا يقوم به الرأسمالي عن قصد، بل هو نتيجة المنطق الداخلي للنظام الرأسمالي، القائم على التناقض بين الإنتاج الاجتماعي والتملك الخاص، أو بين العمل الجماعي والربح الفردي.
وهذا النظام يعرّض البشرية اليوم إلى كل المصائب التي يراها الناس رأي العين: الحروب والفوضى الجيوسياسية أصبحت سوق تستثمر فيها الرأسمالية. نهب الموارد، تفكيك الدول والسعي لمحو ثقافات الأمم، التفاوت الاجتماعي والفقر، حتى أن 1% من سكان العالم يملكون أكثر من نصف ثرواته، بينما الملايين يعيشون في الفقر المدقع والمجاعات. إغراق البلدان الفقيرة في الديون وتعميق التبعية للمؤسسات المالية. الأمراض والمجاعات، وتسليع الغذاء والدواء، بحيث لم يعد الغذاء والدواء حقًا بل سلعة ووسيلة للربح بدل الشفاء. تدمير الزراعة وفرض بذور معدلة وراثيًا تقتل التنوع البيولوجي. منع الفقراء من الوصول إلى الغذاء، نتيجة المضاربات والأسواق الحرة غير المنضبطة. التلوث البيئي، وتدمير الطبيعة بإزالة الغابات، والصيد الجائر، وانبعاثات الكربون... هذه كلها كوارث ناتجة عن منطق "النمو اللامحدود" الذي تمجده الرأسمالية.
الاحتباس الحراري الذي أصبح التهديد الوجودي الأول نتيجة الجشع الرأسمالي العالمي الرافض لأي قيود بيئية بذريعة "النمو" و"التنمية" الزائفة. الانهيارات الدورية والأزمات المالية الكبرى بسبب التحرير الأعمى للأسواق. الانحطاط القيمي والروحي وتسليع الإنسان. تفكك الروابط الإنسانية والفراغ الروحي وفقدان المعنى تحت مطرقة المنافسة والأنانية والعنصرية، التي صارت قيمًا بديلة على التضامن والتعاون بين البشر.
هذا هو مجال اهتمام الماركسية، وليست أبدا مجرّد "حقد" و"استسهال اتهام الناس" كما اختزلتها على نحو بالغ السّوء.

أما في ما يتعلق بجوهر الفكرة التي طرحها السيد خالد في نصّه المشار إليه أعلاه، فأتفق معه في كون انخراط عامة الناس في مهاجمة الفساد بناء على الإشاعات دون ضوابط ولا أدلّة، كثيرا ما يؤدّي لتشويه سمعة أُناس أبرياء لا علاقة لهم بالفساد. ولكن لا ينبغي بأيّة حال من الأحوال أن نجعل هذه الظاهرة المُستهجنة مُبرّرا لِنزع حقّ المجتمع في استنكار الفساد والتنديد به، وجعل كل نقد له "شعبوية" و"انطباعية" و"حسدًا"، وكل حملة ضد الفساد "خطرًا على الاقتصاد والدولة"، لأنه بهذا المعنى، يصبح الفساد "ظاهرة طبيعية" لا يجوز الحديث عنها.

ثانيًا:
الطُّهر مقابل الفساد: من القانون إلى الأخلاق المطلقة

في الأصل، نقيض الفساد في الدولة الحديثة هو احترام القانون. فالقانون هو الإطار الذي يُحدّد ما هو مشروع وما هو مخالف، ويضمن المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن سرائرهم ونواياهم أو طهارة قلوبهم. وعندما نتعمّد استبدال القانون -كمعيار لتكييف الأفعال- بمفردات أخلاقية أو دينية مثل "الطُّهر"، "النزاهة الروحية"، "الإخلاص"، وغيرها. فإنّنا نحوّل الجدل من المجال المدني إلى المجال الرمزي-الديني. ونُعرّف الفساد على أنّه نقيض الطُّهر، لن يعود بوسعنا ضبط "الطّهر" ولا قياس "الفساد، لأن الطهر مفهوم متعالٍ، لا يخضع لمعايير موضوعية بل لتأويلات قيمية ودينية. وهو مصطلح يُحيل على مراتب ملائكية مُبجّلة بعيدة المنال عن طبائع البشر.

بكل الأحوال، رأيي من الأصوب أن نربط الفساد بعدم احترام القانون حتى لا ندخل في متاهة تعريف الفاسد على أنه من خالف "الفضيلة" وليس من خرق القانون، و"الطاهر" هو من نوى الخير لا من التزم بالقواعد.

كذلك يبدو لي أن الزّعم بأن "الطاهر الحقيقي هو من يستطيع الفساد ولا يفعل"، فيه فكرة خطيرة، مفادها أن أغلب الناس فاسدون، لكنهم أصبحوا "أنقياء بالقوة"، أي لعجزهم لا لاختياراتهم.
بهذه الصياغة، نُحوَّل الفساد من عدو للاستقرار مطلوب محاصرته إلى قدر مُسلّط لصيق بالبشر لا يمكن التغلب عليه، وبالتالي لا تنفع مقاومته.

ثالثا: في تعميم الانطباع

يقول سي خالد "إن 99٪ من الناس يحكمون على الفساد بالانطباع أو الحقد".
وهنا بقطع النظر على ثقتي في حسن نيته، الجملة فيها مغالطة منطقية (معكوسة) تجعل الفساد أكذوبة، والاحتجاج عليه باطلًا، فقط لأنه شعبي، وتتجاهل تمامًا حقيقة أن الفساد تحوّل في بعض الأحيان إلى نظام اجتماعي يُعلن عن نفسه بكل وقاحة، ويراه الناس في حياتهم اليومية.

رابعا: في تسييس الفساد بوصفه خطابًا شعبويًا

يُقدَّم السيد خالد شوكات الحديث عن الفساد كأداة انتخابية أو عاطفية، وكأن فضح الفساد لا يمكن أن يكون عملًا وطنيًا عقلانيًا. بهذه المنهجية، نحن نُجرّم النقد ونُبرّأ المنظومة الفاسدة، وكل من يُدين هذه الظاهرة يصبح "شعبويًا" أو "حاقدًا".

خامسا: في قلب مفهوم مكافحة الفساد

يقول "إن مكافحة الفساد قد تؤدي إلى "فساد أكبر" وتعطيل الاقتصاد:، ويُقدَّم "التحقيق فيه" كسبب للأزمة! وهذا قلب للمنطق، لأن الفساد هو سبب تعطيل الاقتصاد، وليس من يُطالب بالإصلاح هو المسؤول عن الفوضى.

ويختتم بفكرة "الشخصية التونسية المتوجسة"، ما يفرض اتجاه الفهم بأن الفساد نتيجة "طبع اجتماعي" لا نتيجة بنية سياسية واقتصادية.
وهذا يُعفي الدولة من المحاسبة، ويحمّل المجتمع هذا "الطبع المرضي".

سادسا: لأساس المنطقي المضاد

لا يمكن إنكار الفساد بذريعة أن البعض يبالغ في الحديث عنه؛ فالمبالغة لا تنفي الظاهرة. ومكافحة الفساد لا تعني تدمير الاقتصاد، بل تحريره من شبكات الريع والمحسوبية. والتشكيك في النوايا لا يُغني عن كشف الوقائع، وغياب القضاء النزيه لا يُبرّر الصمت، بل يستدعي المزيد من الرقابة المجتمعية. ولا يستقيم اتهام شعب كامل بـالهوس الجماعي بالفساد لإنكار آفة اجتماعية مُهلكة عانت منها البلاد لعقود طويلة

الحقيقة خطاب السيد خالد شوكات يبدو "متوازن" و"عقلاني" وفيه دعوة لاكفّ عن توتير الاوضاع بحملات التجريم والتشويه على غير وجه حقّ. ولكن للأسف تناول قضية خطيرة عطّلت البلاد وأغرقتها في محنة مستدامة تناوُلًا لا يتعدّى المشهد السطحي، قد ينزلق إلى نوع من الايديولوجيا التبريرية الناعمة التي تُنكر وُجود الفساد وتُقلّل من مخاطره، وتُحوّله من مشكلة كبيرة إلى مجرّد "جدل نفسي"، بحيث يُعاد تعريف الفساد بطريقة تجعله غير قابل للمساءلة.


سابعا: في حقيقة أن الفساد كارثة حقيقية لا يمكن إنكارها.

الفساد هو غياب الفصل بين الحيز العام والحيز الخاص، وبين المال العام والمال الخاص، واستغلال المنصب أو الموقع الإداري أو استعمال النفوذ الاقتصادي أو الاعتباري لتحقيق منافع شخصية على حساب المصلحة العامة. ويتجلّى في صور متعددة: كالإثراء غير المشروع عبر تمرير صفقات، أو منح تراخيص مقابل رشاوي، أو تسهيل معاملات مقابل منافع مالية أو سياسية. أو اتخاذ قرارات مبنية على المصالح العائلية أو الحزبية بدل المصلحة العامة. أو تحويل نفوذ المسؤولين إلى وسيلة لإثراء الأبناء والأقارب تحت غطاء "البزنس" والشركات الخاصة.

أما الفساد البنيوي في أنظمة الحكم فكثيرا ما يتحول إلى نمط إنتاج وإعادة توزيع للدخل بطرق غير قانونية. كشراء الذمم السياسية عبر تمويل الأحزاب والحملات الانتخابية، أو عقد التسويات الاقتصادية على حساب المصلحة العامة. او تحويل الحقوق إلى امتيازات، بحيث تصبح الخدمات العامة رهينة للرشاوى.
كل هذه الأمور وُجدت في بلادنا، وعلى نطاق واسع، وليس من الحكمة إنكارها.

ثامنا: عوامل الفساد

من أبرز العوامل التي تؤدي إلى تفشّي الفساد غياب الفصل بين السلطات، وضعف سيادة القانون واستقلال القضاء، مما يمنع محاسبة الفاسدين.

احتكار بيروقراطية الدولة التسلطية للنشاط الاقتصادي، وكذلك انفتاح السوق بلا رقابة قانونية.

غياب القيم الديمقراطية والرقابة الشعبية والإعلام الحر.
ثقافة الولاء للأشخاص بدل الولاء للمؤسسات.

غياب مفهوم المواطنة، وتحول المواطنين إلى "رعايا" بلا حقوق متساوية.

النظام الريعي الذي يقوم على توزيع الثروة على أساس القرب من السلطة لا على أساس العمل والإنتاج.

تاسعا: محاربة الفساد

الأهم والأصعب من كل ما سبق هو موضوع مكافحة الفساد، نظرا لارتهان النجاح جذريا لمسألة ترسيخ مبدأ سيادة القانون، بحيث لا يُستثنى أحد من المساءلة. وضمان الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لضمان الرقابة المتبادلة. واستقلال القضاء وحرية الإعلام كشرطين أساسيين لكشف الفساد وردعه.
وقبل هذا وبعده، إيمان النخب بالقيم الديمقراطية والمؤسساتية التي تجعل القرار العام عقلانيا مبنيّا على المصلحة العامة. وفصل المجال العام عن الخاص في جميع مستويات الإدارة والسياسة. وإنبات ثقافة الواجب والمسؤولية الأخلاقية في الوظيفة العامة. والشفافية والرقابة على إدارة المال العام

عاشرا: آثار الفساد

لهذه الآفة أثر مباشر على الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية والثقافة والسيادة والصحة والنقل والسكن، وبالتالي على الاستقرار والازدهار
والازدهار. ويُعَدّ الفساد من أخطر الظواهر التي تُضعف الدولة وتُنهك المجتمع، إذ تمتدّ آثاره إلى الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة وسائر القطاعات الحيوية، فينعكس على الاستقرار العام ويقوّض إمكانات الازدهار والتنمية.

1. الآثار الاقتصادية

إضعاف الإنتاج الوطني: إذ تُوجَّه الموارد إلى شبكات المصالح بدلاً من الاستثمار والإنتاج.

هروب الاستثمارات: لأن غياب الشفافية يخلق مناخًا غير آمن لرأس المال المحلي والأجنبي.

تشويه المنافسة: عندما تتحوّل السوق إلى مجال للمحسوبية لا للكفاءة، يُستبعد المنتجون الحقيقيون لصالح المقربين.

استنزاف المال العام: عبر الرشاوى والعمولات والصفقات الوهمية، مما يزيد من عجز الميزانية وارتفاع المديونية.

إضعاف الثقة في المؤسسات المالية: فتتراجع الجباية ويزداد الاقتصاد الموازي، ما يؤدي إلى تآكل قاعدة الدولة الضريبية.

2. الآثار الاجتماعية

تعميم الإحباط وانهيار الثقة: حين يدرك المواطن أن الحقوق تُشترى وأن العدالة انتقائية.

اتساع الفوارق الاجتماعية وتفكك النسيج الاجتماعي إذ تنتشر قيم الوصولية والأنانية ويضعف التضامن بين الأفراد.

3. الآثار السياسية

إفراغ المؤسسات من مضمونها، فالولاء يصبح أهم من الكفاءة في التعيينات والانتخابات. والكناطري أولى من العالم.

تآكل شرعية الدولة لأن السلطة تُرى كأداة للإثراء لا كجهاز خدمات للصالح العام.

إضعاف الرقابة والمحاسبة بفعل التواطؤ المتبادل بين مراكز النفوذ.

تحويل السياسة إلى تجارة، حيث تُشترى الذمم ويُباع القرار السياسي في سوق المصالح.

4. الآثار الثقافية والتربوية

تخريب منظومة القيم، إذ يُصبح الذكاء مرادفًا للتحايل، والفساد مرادفا للنجاح.

تدنّي الإحساس بالمسؤولية العامة، فينشأ جيل لا يرى في الدولة سوى غنيمة محتملة.

انهيار الثقة في المدرسة والجامعة، حين تُخرّج المؤسسات التعليمية كفاءات لا تجد مكانًا إلا بالواسطة.

إضعاف الإبداع والبحث العلمي لأن بيئة الفساد لا تكافئ التفكير المستقل بل الخضوع والطاعة.

5. الآثار على السيادة

ارتهان القرار الوطني، لأن الفساد يفتح الباب أمام الابتزاز الخارجي عبر ملفات مالية وشخصية.

التبعية الاقتصادية والسياسية، فحين تضعف المؤسسات الوطنية، يتدخّل الخارج في رسم السياسات.

تفريط في الثروات الوطنية، عبر عقود واتفاقيات مشبوهة تضرّ بالمصلحة العامة.

6. الآثار على القطاعات الحيوية

الصحة: سوء إدارة الموارد، نقص الأدوية، تدهور المستشفيات بسبب صفقات فاسدة.

النقل: مشاريع وهمية، طرقات رديئة، وإهدار للمال العام في عقود الصيانة والمعدات.

السكن: تفاقم المضاربة العقارية وحرمان الفئات الضعيفة من السكن اللائق.

البيئة: التهاون في الرقابة البيئية مقابل رشاوى، ما يؤدي إلى تلوث الهواء والمياه.

7. الأثر الشامل على الاستقرار والازدهار

الفساد، في جوهره، عدوّ التنمية والاستقرار؛ فهو يضعف ثقة المواطن بدولته، ويهدم مفهوم العدالة، ويحوّل المؤسسات إلى أدوات لخدمة الأفراد بدل خدمة المجتمع.
ولا يمكن تحقيق ازدهار اقتصادي أو نهضة ثقافية أو استقرار سياسي في ظل منظومة يُكافأ فيها الفاسد ويُعاقَب فيها النزيه، لأن الثقة العامة هي الشرط الأول لبناء أي مجتمع حديث.
لكلّ هذه الأمور لا يحُقّ لأحد التقليل من مصيبة الفساد أو إنكار وجوده.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشهد الرّمزي حول زيارة أحمد الشرع لواشنطن
- فوز زهران ممداني: بداية التحول البنيوي في المشهد الأمريكي
- مشروع قرار أمريكي لمجلس الأمن بصدد -إنشاء قوة استقرار دولية ...
- خصوصية الانتقال الديمقراطي في تونس وعوامل فشل التجربة
- لماذا لم يدافع الشعب التونسي عن -الديمقراطية-؟
- المقاومة والحواف الأخلاقية لضبط العنف الضروري
- الجدل المغلوط حولاتّفاقية التعاون الدفاعي بين توس والجزائر.
- الحرب على إيران والبيئة الاستراتيجية لإسرائيل الكبرى
- في الذكرى الثانية للطّوفان، دفاعًا عن المقاومة
- مقترح ترامب، مناورة جديدة، ومواجهة جديدة بين المقاومة وأعدائ ...
- كيف سقط النظام السوري؟
- حول مسألة -المساجد في المعاهد التونسية-
- حنظلة تونس في شوارع الليل ، حتى لا ننسى !
- تمييز السياقات هو الحدّ الفاصل بين القراءة الموضوعية وسردية ...
- -المؤامرة الغربية لإسقاط نظام قيس سعيّد- بين الوقائع والدّعا ...
- بخصوص مشروع قانون -استعادة الديمقراطية في تونس-.
- مرّة أخرى دفاعا عن التاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب ...
- الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحاكم: فروق جوهرية لا يج ...
- الأزمة النقابية في تونس: بين فساد البيروقراطية وتواطؤ الفاعل ...
- مقاومة الاستعمار خيار شعبي، وكل الحكومات معادية لبنادق الثوّ ...


المزيد.....




- افتتاح منتزه -بيست لاند- الترفيهي في السعودية
- ميشيل يوه تلفت الأنظار بإطلالة -مستقبلية- في سنغافورة
- رغم تدمير معظم مستشفيات غزة.. إسرائيل تخطط لترحيل مرضى فلسطي ...
- الإمارات تعلن نتائج تحقيقات بقضية محاولة -تمرير عتاد عسكري- ...
- نائب رئيس -المؤتمر-: التاريخ يبرر -مخاوف التطرف- في السودان ...
- إحباط محاولة اغتيال مسؤول روسي رفيع في مقبرة.. أجهزة الأمن ا ...
- اقتحم السجادة الحمراء.. معجب يندفع فجأة نحو أريانا غراندي وس ...
- كيت بلانشيت تدعم الموضة المستدامة بإطلالة -ريش نباتي- في ميو ...
- سامي حمدي الصحفي البريطاني الذي احتجزته دائرة الهجرة بأمريكا ...
- ليس عملاً سهلاً… لماذا قد يرغب أي شخص في أن يصبح المدير العا ...


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - هل المشكل في الفساد أم في مكافحة الفساد؟ قراءة نقدية في الخطاب السياسي التبريري