أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حسين غسان الشمخي - سارة خاتون: العفة والكرامة في أنقى صورِهما














المزيد.....

سارة خاتون: العفة والكرامة في أنقى صورِهما


حسين غسان الشمخي

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 21:01
المحور: قضايا ثقافية
    


كانت هناك شابة عراقية/أرمنية يافعة، بالغة الثراء والحُسن، تُدعى سارة خاتون. وكانت قد ورثت ثروة هائلة وممتلكات شاسعة، بما فيها بساتين فاكهة عامرة في بغداد وضواحيها. وكان منزل عائلتها الكبير يقع في شارع الرشيد ويطل مباشرة على نهر دجلة، وكانت شائعات — ينتشر كثير منها ويتضخم في الأسواق — تفيد بأن ممتلكاتها كانت كثيرة لدرجة أنها تحتاج نصف ساعة بالقطار لقطعها.

بقيت سارة خاتون تحت وصاية عمها الذي كان يتحكم بثروتها منذ وفاة والدها السخي، الذي أنشأ أول مدرسة للبنات في بغداد عام 1901م. وحدث أن أقام والي بغداد ذو الشارب الكثّ، ناظم باشا، حف خيرية على متن سفينة نهرية مزينة بالأضواء والأعلام في إحدى أمسيات أغسطس/أيلول من عام 1910م، حيث وقعت عيناه على سارة لأول مرة وسط القناصل الأجانب المتغطرسين وزوجاتهم المتأنقات. وقد أُغرِم الباشا تماماً بتلك الفتاة المحجبة.

كان ناظم باشا يبلغ من العمر اثنين وستين عاماً، وكانت هي في السابعة عشرة. وقد حاصرها في البداية متظاهراً بشخصية ودّية يمكن أن تساعدها في الخلاص من وصاية عمها الصارمة، ثم عرض عليها الزواج لاحقاً، وهو ما رفضته في الحال؛ لأنها كانت مخطوبة بالفعل.

وقد حاول ابن عمها دانيال اختطافها من منزلها ونقلها عبر القارب الذي وضعه مسبقاً أمام المنزل، إلا أنه تعرّض للضرب من قِبل خدم جيرانها الذين أحبطوا خطته. ثم ردّ الباشا باعتقال خدمها وإرسال خطيبها التعيس إلى الخدمة العسكرية في كركوك، وأمر الشرطة باقتحام منزلها واعتقالها. لكن سارة كانت متأهبة، فقفزت من فوق جدار حديقتها ولجأت إلى منزل جارها هير هِسَّه، القنصل الألماني في بغداد.

لم يأبه السفير الألماني بالحصانة الدبلوماسية التي منحه إياها الباشا الفاسق، وقام بتهريب سارة إلى منزل داود النقيب القريب منه، وهو منحدر من عائلة الإمام الصوفي الجليل الشيخ عبد القادر الكيلاني. ثم نُقِلت إلى منزل السيد عبد الرحمن الكيلاني، نقيب أشراف بغداد وأول رئيس وزراء للعراق لاحقاً، حيث منحها ملاذاً آمناً.

ظلّ ناظم باشا يتحيّن الفرص، فأمر بوضع المنزل والمحلة تحت المراقبة، وأصدر أمراً للشرطة باعتقالها فور رؤيتها. وقد حاولت سارة الهرب عبر عربة محجوبة يجرها حصان، لكن رجال الشرطة كشفوها وحاولوا اعتقالها، قبل أن تهجم عليهم حشود الناس من حي باب الشيخ — الذي سُمّي على اسم الشيخ عبد القادر الكيلاني الذي يقع مرقده المشهور هناك — وأبرحوهم ضرباً.

وصلت أخبار هذه الفضيحة المتفاقمة إلى إسطنبول، حيث كانت القصائد والأغاني الساخرة من ناظم باشا تنتشر في المدينة. وسرعان ما بُعِث مراسل تركي إلى بغداد، فكتب مقالة تضمنت مقابلة مع سارة التعيسة أثارت ضجة واسعة، وأدت إلى احتجاجات شديدة من أعضاء البرلمان العثماني من العراقيين في أوائل عام 1911م.

لكن ناظم باشا، من دون رادع، استحصل تقريراً طبياً يدّعي إصابة سارة بالجنون في محاولة لحبسها. ويئست سارة من الهروب، فتنكرت بزي راهبة فرنسية وشقّت طريقها نحو الجامعة المستنصرية القديمة، حيث كانت السفن المتجهة إلى البصرة ترسو آنذاك. وركبت إحدى سفن شركة لِنْج تحت حماية راهبة فرنسية وراهب إسباني. وقد وردت بلاغات إلى شرطة الباشا من الجواسيس المزروعين في كل زاوية — فلطالما كان كتم الأسرار في بغداد يمثل تحدياً هائلاً — فحاولوا اعتقالها، لكن القبطان البريطاني منعهم من الصعود إلى السفينة.

ظلّ ناظم باشا يرفض الاقتناع برفض سارة الزواج منه، وحاول المجادلة بأن الراهبات الفرنسيات أجبرنها على التحول إلى الكاثوليكية، وبذلك ينبغي جلبها من البصرة. وعندما رست سفينة لِنْج في البصرة كان جلاوزة الباشا ينتظرون الانقضاض عليها على الرصيف، لكن القبطان نقلها إلى باخرة بريطانية كانت بالانتظار، فنقلتها بعيداً إلى برّ الأمان في مومباي عبر بوشهر، حيث حصلت على رعاية السير بيرسي كوكس، الذي كان يشغل حينها منصب المقيم البريطاني في الخليج العربي، ثم أصبح لاحقاً أول مفوض سامٍ بريطاني في العراق.

ثم عُزِل ناظم باشا عن منصبه في بغداد، واستُقبِل خبر عزله بالتهاني والأفراح في كل أنحاء المدينة. وكتب الشاعر العراقي الشهير جميل صدقي الزهاوي قصيدة بعنوان طاغية بغداد قال فيها:

رامَ هتكاً لما تصونُ فتاةٌ
كسبت في أمرِ العفافِ اشتهاراً
بنتُ قومٍ لم يُدنَّس العرضُ منهم
بقبيحٍ من سراةِ النصارى
أيها المصلحُ الكبيرُ أهذا
ما يسمّيه بعضُهم إعماراً

وبعد أن تحررت سارة أخيراً من شبحه، انتقلت من مومباي إلى فرنسا، ثم عادت إلى بغداد بعد الحرب العالمية الأولى، حيث لعبت دوراً رائداً في وقف إجلاء الأرمن العراقيين قسراً إلى معسكرات الموت في تركيا. وقضت معظم ما تبقّى من حياتها في مساعدة اللاجئين الأرمن. وتوفيت سارة فقيرة عام 1960م، بعد أن استنفدت ثروتها على الأعمال الخيرية ومحاولات النصب والاحتيال التي تعرّضت لها على يد أحد المحامين الفاسدين. وتحتفي بها بغداد اليوم بإطلاق اسمها على منطقة كمب سارة تكريماً لبيعها الأراضي بآجالٍ سَحِيّة لإيواء حشود اللاجئين الأرمن.

المصادر:
(1)
A- Gertrude Bell, Letters, 18 March 1911.
B- The Gertrude Bell Archive, Newcastle University Library.

(2)
Sean McMeekin, The Berlin–Baghdad Express, p. 123.



#حسين_غسان_الشمخي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سليمان القانوني في بغداد
- الكاظمية: شعلة بغداد التي لا تنطفئ عبر القرون.
- «نفرتاري… التي تشرق لها الشمس»
- خيانة أم حذر وشك ؟ لماذا أباد هارون الرشيد البرامكة؟
- ممداني عمدةً لنيويورك: حين يهتزّ نفوذُ اللوبي الصهيوني في عا ...
- رواية «حب الضياع»
- سجن الرضوانية: صيدنايا العراق
- سجن الرضوانية: صيدنايا العراق في عهد النظام البائد
- صباح السابع من أكتوبر
- اليوم الوطني العراقي
- شعب الله المختار
- سقراط والموت
- البابليون : أوّلُ من رصد خسوف القمر
- محاورة كريتو لأفلاطون
- أسطورة الخليقة السومرية
- بين الطوفان البابلي والطوفان التوراتي
- تموز وعشتار
- العالم الآخر في الحضارة السومرية
- قضية الدكتورة بان والعقل الجمعي.
- أصل التطبير


المزيد.....




- -حنّط جثتها وارتدى ملابسها-.. كشف ما فعله رجل للحصول على معا ...
- شاهد كيف رد أنور قرقاش على مزاعم دعم الإمارات قوات الدعم الس ...
- تعليق عضوية نائبة أسترالية بعد ارتدائها البرقع داخل البرلمان ...
- ما مخاطر غبار بركان إثيوبيا وكيف تحمي نفسك؟
- دعوا إلى استبدالها بمذيع ..تضامن واسع في مصر مع مذيعة - دولة ...
- رمزي نويرة.. أول طبيب يجري جراحة روبوتية في تونس يتحدث لترند ...
- فيديو - رجلٌ إيطالي في خدعة لا تُصدَّق: تنكّر بزي والدته الم ...
- أمطار غزيرة تغرق مخيمات غزة وتفاقم الأزمة الإنسانية
- منخفض جوي يربك الأردن.. كيف تحولت الشوارع إلى مجاري سيول؟
- رئيس شبكة المنظمات الأهلية بالقطاع: الغزيون يواجهون أقسى شتا ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حسين غسان الشمخي - سارة خاتون: العفة والكرامة في أنقى صورِهما