محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 02:04
المحور:
قضايا ثقافية
أنه في المفهوم المصري القديم يعرف بإسم "AM-TUAT" (أمدوات أو إيمي دوات) هو نص جنائزي مصري قديم يعود تاريخه إلى المملكة الحديثة، ويعني اسمه حرفيًا "ما هو موجود في العالم الآخر" أو "الحجرة الخفية". كان هذا الكتاب بمثابة دليل للفراعنة لمساعدتهم في رحلتهم الليلية عبر العالم السفلي (الآخرة).
يصف "أمدوات" بالتفصيل الرحلة الليلية لإله الشمس "رع" عبر اثنتي عشرة ساعة في العالم السفلي.
ويروي التحديات والمخاطر والآلهة والكائنات التي يواجهها "رع" خلال هذه الساعات.
كما أن الهدف الرئيسي من هذه الرحلة هو اتحاد روح "رع" مع جسد "أوزوريس" في منتصف الليل (الساعة السادسة) لتحقيق التجديد والبعث في الحياة الآخرة.
وقد كانت نصوص "أمدوات" تُرسم وتُنقش على جدران المقابر الملكية، وخاصة في وادي الملوك، لتوفير المعرفة اللازمة للمتوفى ليتبع خطى "رع" ويحقق الخلاص والحياة الأبدية.
باختصار، هو خريطة تفصيلية للعالم الآخر وطريقة العبور الناجح فيه.
وتنقسم الرحلة في كتاب "أم دوات" إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الغروب والعبور (الساعات 1-4)، منتصف الليل والاتحاد (الساعات 5-8)، والشروق والبعث (الساعات 9-12).
إذن، فإن "الأمدوات"، أو “كتاب الآخرة”، ليس مجرد نص جنائزي منقوش على جدران مقابر الفراعنة، بل هو خريطة الحلم الأولى، ذلك المخطوط الذي حاولت فيه مصر أن تفهم معنى النهاية، ثم تكتشف أن النهاية ليست سوى باب آخر للبداية. لم يكن الأمدوات كتابًا يُقرأ، بل طقسًا يُعاش. على جدران وادي الملوك، وسط الصمت الحجري والهواء المشبع برائحة الرمل والدهر، كانت النقوش تتنفس، كأنها تنتظر من يوقظها من سباتها الطويل. يُقال إن رع نفسه، إله الشمس، أملى هذا الكتاب على الكتبة الذين لم يكونوا بشرًا تمامًا، ثم أمر بأن يُنقش في ظلمة القبور حتى لا يراه إلا من ذاق الموت. ومنذ ذلك الحين، صار الأمدوات طريقًا لا يُسلك بالقدم، بل بالروح. في كل ليلة، عندما تنام المدن وتغلق المقابر أبوابها، تبدأ الرحلة: رع يهبط من الأفق الغربي، من “أخت”، حاملًا قرصه المنطفئ كجمرٍ في يد خفية، ليعبر اثنتي عشرة ساعة من ليلٍ ليس كسائر الليالي، كل ساعةٍ فيها بوابةٌ، وكل بوابةٍ فيها امتحان، وكل امتحانٍ هو مرآة للوجود نفسه.
الساعة الأولى – بوابة الغروب
في لحظةٍ تشبه الزفير الأخير، ينفصل الضوء عن العالم كما تنفصل الروح عن الجسد. يدخل رع البوابة الأولى على مركبه الشمسي، والسماء فوقه تتحوّل إلى مرآة مقلوبة، فيها نهر يسير من الغرب إلى الشرق، وفيه وجوه الراحلين. ماعت، إلهة النظام، تظهر عند مقدمة المركب، ريشتها ترتجف، تحاول أن تحفظ التوازن في فوضى الغياب. هنا يفهم رع أن الليل ليس ظلامًا بل ترتيبٌ آخر للنور، وأن الموت ليس انطفاءً، بل شكلٌ آخر للوجود.
الساعة الثانية – مياه نون
ينفتح النفق على بحرٍ بلا شاطئ. تتلاطم أمواجٌ من زمنٍ سائل، كأنها ذاكرة الخليقة. هنا يُسمّى الماء “فيرنس”، وهو ماءٌ يلد ولا يروي، يحمل رع وقاربه كطفلٍ في رحمٍ أبدي. في عمق هذا البحر، يهمس صوتٌ بلا جسد: “ما عاد في الموت موتٌ يا رع، بل عودةٌ إلى أوّل الصدى.” الآلهة غير المسمّاة تسبح حوله، عيونهم تومض كالنجوم تحت الماء، وكل ومضةٍ منهم تذكّر أن الخلق لا ينتهي، بل يتكرّر.
الساعة الثالثة – نهر أوزوريس
يتحوّل الماء إلى خضرةٍ رطبة، وفي السكون يظهر جسد أوزوريس النائم، إله البعث والخصب. هنا يدرك رع أن الحياة نفسها خرجت من العالم السفلي، كما يخرج النيل من الظلال نحو الحقول. يُقسم الإله أن من يفهم هذا النهر لن يموت، بل سيُعاد إلى ضوءٍ لم يره من قبل. رع لا يتكلم، فالكلمات في هذه الساعة تتحول إلى بذورٍ تنبت صمتًا.
الساعة الرابعة – إمحت، صحراء سوكر
لا ماء هنا. الصوت وحده هو الدليل. يمشي رع داخل رملٍ أسود لا يعرف الاتجاه، يبحث عن ذاته في العدم. يُحوّل مركبه إلى أفعى برأسين، تتلوّى وسط الممرات كأنها حروف النار في تعويذةٍ نُسيت. تتحدث الظلال: “لن ترى النور إلا إذا أنكرته.” في هذا المكان، تُختبر الإرادة، فالعمى هو عين البصيرة في صحراء سوكر.
الساعة الخامسة – أرض الأضداد
ها هنا تتلاقى مياه نون مع رمال سوكر. النار تمسّ الماء ولا تطفئه، والجليد يشتعل دون أن يذوب. الكون كله يتشابك كأنّه حلم إلهٍ في لحظة حيرة. تظهر تلة أوزوريس، ومنها يزحف خبري، الجعران الذهبي، رمز الميلاد. يتقدّم رع وسط العاصفة، يمدّ يده إلى جسد أوزوريس ليعيد له النبض، وكأنّ الإلهين يتبادلان الحياة. من هذا التماسّ بين النار والماء، يولد النهار القادم في رحم الليل.
الساعة السادسة – قلب العالم السفلي
ها هي الساعة التي يخشاها الجميع. النوم الكامل، الصمت المطلق، الساعة التي لا يُسمع فيها إلا نبض الخلود. يرقد جسد رع، أو جسد أوزوريس، لا أحد يعرف من منهما في الآخر. الثعبان ميهن يلتفّ حول المركب كإحاطةٍ أمومية، يحميه من الفناء. تبدأ عملية التجديد: الضوء يتكوّن داخل الظلمة، والشمس تُخلق من رمادها. في هذه اللحظة، يصبح الإله والفرعون شيئًا واحدًا. العالم كلّه يتنفس عبر جسدٍ نائمٍ تحت الأرض.
الساعة السابعة – صرخة أبيب
الشرّ يستيقظ. أبيب، ثعبان الفوضى، يبتلع مياه نون، يحاول إيقاف المركب وإعادة الليل إلى أبديةٍ لا فجر بعدها. تتعالى الصرخات في السجلات السفلية. لكن إيزيس تقف، ترفع ذراعيها وتهمس بتعويذةٍ لا تُفهم إلا في الصمت. ينفتح طريقٌ في العدم، وتتراجع الظلال كأنها موجهةٌ بصوتٍ من قلب رع. هنا يُثبت الإله أن النظام لا يولد من السلام، بل من الصراع.
الساعة الثامنة – الأبواب الخمسة
خمس بوابات من نورٍ مكسور. كل بوابةٍ تفتح بصوتٍ، لا بمفتاح. رع ينطق أسماء لم تُكتب في أي بردية، فتنشق الجدران كأنها تتنفس. الآلهة المجهولون يحيطون بالمركب، ينسجون ملابس جديدة من ضوءٍ ورماد. تُسحب المركب عبر العدم، ثمانية آلهةٍ مجهولين يجرّونها نحو فجرٍ لم يولد بعد. الساعة الثامنة هي لحظة التجديد الكامل، حين يبدأ الضوء في تذكّر نفسه.
الساعة التاسعة – مأدبة الأرواح
الريح تهدأ. يظهر اثنا عشر مجدّفًا، وجوههم كالأقنعة، عيونهم تلمع كحجارة كريمة. أمامهم ثلاثة أصنام تحمل سنابل القمح وأباريق الجعة، يطعمون الموتى، كأن العالم السفلي نفسه يحتاج إلى طعام. الخبز هنا ليس قوتًا بل ذكرى، والبيرة ليست شرابًا بل نسيان. في هذه الساعة، يدرك رع أن الأبدية أيضًا تحتاج إلى طقوسٍ صغيرةٍ كي تستمر.
الساعة العاشرة – الذين غرقوا
يواصل المركب طريقه بين أرواحٍ غارقة، وجوههم تصعد من الماء كأنها تبحث عن قبلة الحياة. يظهر حورس، يمدّ يده إليهم، يسحبهم واحدًا تلو الآخر. يُقال إن هذه الساعة وُجدت لتطمئن من لم يُدفنوا، أن لهم مكانًا في العالم الآخر. رحمةٌ من نوعٍ لا يفهمه الأحياء، فحتى الموتى المنسيون يُمنحون فرصة للحياة من جديد.
الساعة الحادية عشرة – مطوّق العالم
تتوهج العيون من جديد. قرص الشمس يظهر على مقدمة المركب، يلتف حوله ثعبان هائل، ليس عدوًا هذه المرة، بل حارسًا. اثنا عشر إلهًا يسحبون ثعبانًا آخر من عمق الظلام، ليكون سورًا يحمي الضوء من الفوضى. النار تشتعل في الطرقات، تحرق أعداء أوزوريس، وتطهّر الطريق للعبور الأخير. هنا تعود عين رع إلى البصر، وتغمر السفينة هالةٌ من سلامٍ لا يمكن وصفه.
الساعة الثانية عشرة – فجر الخلود
السماء تنشق عن أفقٍ جديد. المركب يصعد من العالم السفلي كما يخرج الحلم من فم النائم. رع صار خبري، الجعران الذهبي الذي يدحرج الشمس إلى يومٍ جديد. الآلهة تحيّيه، والثعبان العملاق مطوّق العالم يفتح له الطريق. في اللحظة الأخيرة، يسمع الفرعون صوته من بعيد: “لقد سافرت في الجنة والنار، ولم تكن أيٌّ منهما سوى مرآتك.” يصل إلى قاعة ماعت، حيث القلب يُوزن بريشة، وحيث لا يُسأل المرء عمّا فعل، بل عمّا تعلّم من الموت.
ومن ثم، وفي ذلك المكان، لا جنة ولا جحيم، بل توازنٌ مطلق بين النور والظل، الخير والشر، الخلق والهدم. يكتشف الراحل أن الأمدوات ليست خريطة للعالم السفلي فقط، بل خريطة للإنسان ذاته — كل ساعةٍ فيها بابٌ داخل الروح، وكل بابٍ يقود إلى ساعةٍ أعمق من الوعي. عندما يُغلق الكتبة الكتاب ويُطفأ المشعل الأخير، يبقى الصدى وحده. صدى الرحلة التي لا تنتهي. فكل فجرٍ جديد هو عودة من العالم السفلي، وكل غروبٍ هو بداية الرحلة من جديد. في النهاية، لا يعرف أحد إن كان رع ما زال يعبر ساعات الليل، أم أننا نحن الذين نعبر فيه كل يوم، نولد من ظلمةٍ إلى ظلمةٍ أخرى، باحثين عن شمسٍ لا تغيب فينا أبدًا. بعد أن يُنهي المتوفى رحلته عبر العالم السفلي، يصل إلى قاعة ماعت. هناك، يخضع لطقوس وزن القلب، حيث تُحدد نقاؤه ما إذا كان سيُسمح له بدخول مملكة أوزوريس.
إن فهم مقابر أمدوات لا يقل أهمية عن فهم ساعات أمدوات، إذ توجد تعليمات في نهاية نص أمدوات حول كيفية تقديمها داخل القبر. وهذا يعني أن التمثيل المادي لها لا يقل أهمية عن التمثيل التصويري في إرشاد المتوفى إلى الحياة الآخرة مع رع.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟