محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8477 - 2025 / 9 / 26 - 21:40
المحور:
الادب والفن
لطالما سعى الإنسان لتفسير ما يحيط به، خاصة الظواهر التي تتجاوز فهمه. هذه الحاجة للتفسير دفعت لتطوير المعتقدات الدينية، الفلسفية، والعلمية. عندما لا نجد تفسيرًا مباشرًا، غالبًا ما نفترض وجود كيانات غير مرئية. هذه العملية ليست حكرًا على الأساطير، بل هي جزء من التفكير البشري، وحتى المنهج العلمي.
في القرن التاسع عشر، قدم الفيلسوف تشارلز ساندرز بيرس مفهوم "الاستدلال الاستنباطي" (Abduction)، وهو تخمين لوجود شيء ما لتفسير ظاهرة جديدة. أكد بيرس أن هذا التخمين جزء أساسي من نسيج العلم، وهو موجود بلا شك في الدين أيضًا، حيث تُفترض كائنات غير مرئية لتفسير جوانب من الوجود.
قد يبدو هذا غريبًا عند الحديث عن الأرواح، لكنه ليس بعيدًا عن طريقة عمل العلم. لنأخذ مثال جسيم الباريون المسحور في الفيزياء. هذا الجسيم، رغم أنه غير مرئي، تم افتراض وجوده لتفسير مجموعة من الأحداث الملحوظة. هذا التشبيه يوضح كيف أن العلم، كالمعتقدات الروحية، يفترض وجود كيانات غير مرئية لتفسير الظواهر المرئية. الفرق يكمن في أن الافتراضات العلمية قابلة للاختبار، بينما تظل الافتراضات الروحية غالبًا خارج نطاق التجريب المباشر.
من المثير للاهتمام التباين في كيفية تعامل الثقافات المختلفة مع هذه التقارير. فبينما كان الغرب يرفض التقارير الأنثروبولوجية عن الأرواح، كانت أجزاء أخرى من العالم تأخذها على محمل الجد. ومع ذلك، بدأ هذا الرفض المطلق في الغرب يتلاشى، مع بدء بعض الأبحاث الحديثة في استكشاف هذه الظواهر بجدية أكبر، مما يفتح الباب أمام مغامرة فكرية جديدة.
قصص من عالم الطرد والأرواح: حكايات تتحدى الواقع:
في رحلتنا عبر عوالم الغموض، لا يمكننا تجاهل تلك الحكايات التي تتحدث عن تدخل قوى غير مرئية في حياة البشر. منذ العصور القديمة، كانت ممارسات طرد الأرواح الشريرة جزءًا من العديد من الثقافات، مدفوعة بالاعتقاد بأن كائنات خفية يمكن أن تتلبس البشر.
يذكر المؤرخ يوسيفوس، في القرن الأول، أن طرد الأرواح الشريرة كان ممارسة شائعة في التقاليد اليهودية، وكانت تتضمن اختبارات لإثبات مغادرة الشيطان، مثل اختبار "حوض الماء". هذا الادعاء، على بساطته، يحمل تشابهًا معرفيًا مع مثال جسيم الباريون المسحور؛ فكلاهما يفترض وجود كيان غير مرئي لتفسير ظاهرة مرئية.
ولكن ماذا عن العصر الحديث؟ في كتاب "مطرقة الساحرات" (1486)، ذكر المؤلفان حكايات عن النقل الآني. إحدى هذه الحوادث المزعومة وقعت لامرأة متدينة وجدت طفلها منقولًا من سريره بعد محادثة حادة مع امرأة يُشتبه في كونها ساحرة. الغموض هنا يكمن في كيفية انتقال الطفل؛ هل كان بفعل قوة خارقة، أم أن هناك تفسيرًا آخر؟
قصة أخرى أكثر إثارة للدهشة تأتي من راهب عاش في القرن السابع عشر، يُروى أنه شوهد وهو يطير، وشهد على ذلك مئات الأشخاص، من بينهم شخصيات محترمة ومؤثرة. هذه الحادثة، التي تتجاوز حدود المنطق، تثير تساؤلات عميقة حول قدرة البشر على إدراك الواق
هناك أيضًا قصة أخرى مثيرة للاهتمام، حدثت في أوبردورف، حيث اجتمع مجموعة من العلماء لشرب البيرة. ذهب أحدهم لإحضارها، لكنه عاد مدعيًا أنه رأى سحابة كثيفة أمام الحانة. أجاب أحد رفاقه: "سأحضر الشراب، حتى لو كان الشيطان هناك". وبمجرد أن قال ذلك، "طار في الهواء على مرأى من الجميع". هذه القصة، التي تتضمن شهودًا متعددين، تبدو أكثر إقناعًا. هل يمكن أن يكون هؤلاء العلماء قد شربوا الكثير من البيرة، أم أنهم شهدوا حقًا على تدخل قوة خارقة؟
هذه القصص، على الرغم من اختلاف تفاصيلها، تشترك في خيط واحد: تحديها لمفهومنا عن الواقع. إنها تدفعنا إلى حافة الإدراك، حيث يتلاشى اليقين ويحل محله الغموض والمغامرة. هل هي مجرد حكايات شعبية، أم أنها ومضات من حقيقة أعمق؟
الشياطين والسحرة: صراع الإدراك والواقع:
في العصور الوسطى، قدم سي. إس. لويس وصفًا للعالم المأهول بقوى وكائنات مختلفة، بما في ذلك الملائكة والبشر وكائنات أخرى مثل الجنيات والسحرة [15، 16، 17]. اعتقد البعض أن هذه المخلوقات تعيش على الأرض، بينما ظن آخرون أنها تسكن الهواء. يلاحظ لويس أن السكان المحليين في أيرلندا كانوا يتجنبون أماكن معينة لاعتقادهم بوجود الجنيات [18]. هذه الرؤى القديمة تضعنا أمام سؤال: هل هي أساطير أم تعكس محاولات مبكرة لفهم قوى خفية؟
تاريخيًا، ارتبطت مفاهيم الشياطين والسحرة بالشر، خاصة في الغرب. "مطرقة الساحرات" كانت دليلًا لمحاكمات السحرة، حيث كانت النساء يُتهمن بالسحر ويُعاقبن بقسوة. هذا التصور لم يكن مجرد معتقدات دينية، بل أثر على البنية الاجتماعية والسياسية، حيث تعاونت الكنيسة والمؤسسات التعليمية في كبح جماح "السحر". ومن المفارقات أن هذا الفكر، الذي كان جزءًا من تاريخ الغرب، يُمنع الآن جزء كبير منه من العودة إلى الفكر الغربي.
على النقيض، لا تزال معتقدات السحر والشياطين منتشرة في أجزاء أخرى من العالم، ويمكن أن تؤثر بشكل مبالغ فيه على حياة الناس، وتستخدم كمبررات لقمع النساء. هنا، تبرز المجتمعات التي يهيمن عليها الدين كنموذج محفز لإنشاء ديمقراطيات ليبرالية، حيث تحاول المحاكم حماية الناس من الادعاءات الخطيرة، وتوفر الهيئات الطبية تقييمًا وعلاجًا نفسيًا للمتهمين بالسحر، بدلاً من المخاطرة بالموت حرقًا.
السؤال الملح، الذي أشار إليه الفيلسوف ديفيد لويس، هو: هل نظريات الشياطين والأرواح قابلة للإدراك في عالمنا؟ [12] هذا السؤال لا يتعلق بوجودها، بل بقدرتنا على فهمها ضمن إطار إدراكنا. إن التردد في المذهب الطبيعي لقبول هذه النظريات مفهوم، لكنها قد تكون مفيدة في فهم اللاعقلانية البشرية والمشاعر الإنسانية. إنها دعوة للتفكير في أن الواقع قد يكون أوسع وأكثر تعقيدًا مما تسمح به حواسنا أو أدواتنا العلمية وحدها.
ما وراء الموت: تجارب الاقتراب من الموت والأرواح:
في سعينا لفهم العوالم الخفية، تبرز تجارب الاقتراب من الموت (NDEs) كظاهرة مثيرة للجدل والفضول. يصف الملايين حول العالم هذه التجارب، التي تتضمن غالبًا رؤى لعالم آخر أو شعورًا بالخروج من الجسد. بالنسبة للكثيرين، تمثل هذه التجارب دليلًا محتملًا على وجود شكل من أشكال الوعي أو الروح يستمر بعد توقف الجسد. أرى شخصيًا أن تجارب الاقتراب من الموت تساهم في إيقاظ العالم الحديث لاحتمالية وجود سمات لـ "الكون المسكون": وجود قد يتبع موت الجسد، وإمكانية مراجعة الحياة مع كائن عالم بكل شيء عنا.
من المفارقات أن التكنولوجيا الطبية الحديثة، التي طورت أساليب إنقاذ الحياة، ساهمت في إحياء هذه المفاهيم القديمة. فبفضل التقدم الطبي، أصبح بالإمكان إعادة إحياء الأشخاص الذين كانوا على وشك الموت، مما أتاح لهم فرصة العودة ليروا ما حدث لهم. هذه التجارب، التي وصفها ريموند مودي لأول مرة في عام 1975 [23]، تتضمن غالبًا رؤية نفق، أو ضوء ساطع، أو لقاء أحباء متوفين. إن تجاهل هذه الظاهرة، التي يمر بها ما يقرب من 4-5% من الناس في العالم، يعد بمثابة دفن الرأس في الرمال. إنها تفتح نافذة على إمكانية وجود واقع يتجاوز حدود فهمنا الحالي.
لا تقتصر هذه الظواهر على تجارب الاقتراب من الموت. فالدراسات الحديثة، مثل عمل إيما جيمس-هيثكوت حول الملائكة، والتي اعتمدت على دراسة لقاءات حديثة مع كائنات يُعتقد أنها ملائكة، تضيف بعدًا آخر لهذا الغموض. يضم مركز أبحاث التجارب الدينية والروحية في جامعة بانجور أكثر من 6000 رواية مباشرة عن تجارب روحية أو دينية، مما يثري قاعدة البيانات التي تستند إليها المعتقدات الدينية التقليدية. هذه البيانات تساهم في فهمنا للظواهر الخارقة للطبيعة، وتضعنا أمام اختبارين مهمين: مدى مصداقية الادعاءات الفردية، ومدى أهمية فئة الادعاءات الموثوقة حول حقيقة وجود نظام خارق للطبيعة. إن علم الدين ينتظر من يكتشفه ويقيمه بشكل نقدي.
إن الإيمان بالأرواح، وبالسحرة والعرافين، هو اعتقاد متماسك نظريًا، ويبدو أنه قابل للدعم من خلال الإشارة إلى التجارب الدينية التي يدعيها الناس في جميع أنحاء العالم. هذه التجارب تشير إلى أن هناك شيئًا ما يتجاوز حدود الواقع المادي. إنها دعوة لاستكشاف هذه العوالم بفضول مفتوح، مع الحفاظ على التفكير النقدي، والسماح للغموض بأن يثري فهمنا للكون.
ومن ثم، يتبين لنا أن البحث عن تفسير لما هو غير مرئي وغير مفسر هو جزء أصيل من التجربة الإنسانية. لقد رأينا كيف أن الفلسفة والعلم حاولا سبر أغوار هذه الظواهر، وكيف أن القصص المتناقلة عبر الأجيال تثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الواقع والوجود.
إن العالم الذي نعيش فيه، على الرغم من تقدمنا العلمي الهائل، لا يزال يحتفظ بالكثير من الأسرار. فهل يمكن أن تكون هذه القصص والتجارب مجرد انعكاسات لعقولنا، أم أنها تشير إلى وجود أبعاد أخرى للواقع لم نكتشفها بعد؟ الإجابة قد لا تكون سهلة، وربما لن نصل إلى يقين مطلق أبدًا. ولكن في هذا الغموض تكمن المغامرة الحقيقية.
دعونا نواصل البحث، لا بالخوف أو بالرفض، بل بالفضول الذي يدفعنا لاستكشاف المجهول. فربما، في زوايا هذا الكون الشاسع، أو في أعماق وعينا، تكمن حقائق تتجاوز أجرأ تخيلاتنا. وربما تكون هذه الرحلة إلى ما وراء الإدراك هي المغامرة الأعظم على الإطلاق، مغامرة تعدنا باكتشافات قد تغير فهمنا لأنفسنا وللعالم من حولنا إلى الأبد. فالعالم ليس مجرد ما نراه ونلمسه، بل هو أيضًا ما نشعر به ونفكر فيه ونحلم به، عالم مليء بالاحتمالات التي تنتظر من يجرؤ على استكشافها.
المراجع:
[15] لويس، سي. إس. (1964). الصورة المهملة: مقدمة في أدب العصور الوسطى وعصر النهضة. كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج. ص 70.
[16] المرجع نفسه. ص 155.
[17] المرجع نفسه. الفصل السادس. (انظر أيضًا: بورد، جانيت. الجنيات: لقاءات حقيقية مع أناس صغار، لمحاولة حديثة لتوثيق وجودهم).
[18] دراسة أجريت عام 2014 حول المعتقدات الشعبية الأيسلندية أظهرت أن أكثر من 60% من الأيسلنديين يعتقدون بوجود الجنيات.
[23] مودي، ريموند أ. (1975). الحياة بعد الحياة. كوفينغتون، جورجيا: دار نشر ماكينتوش بيرد.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟