|
النجم يحي الفخراني وعرض الملك لير على المسرح القومي نسخة عام 2025
محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8423 - 2025 / 8 / 3 - 08:59
المحور:
الادب والفن
الملك لير" على المسرح القومي: بورصة النجوم تنفتح على اتساعها في حضرة الحكمة والتراجيديا الفن حين يُبنى بالإيمان: النجم يحيى الفخراني والدكتور أيمن الشيوي، والمخرج شادي سرور، في حضرة "الملك" والسؤال: من يملك المسرح؟ .. لا أحد. وحده الفن يملكه، حين يتحول المكان إلى كيانٍ حي، ينبض بالمعنى، ويتنفس الجمال، وإذا كان المسرح، في جوهره، هو ذلك الكائن الروحي الذي لا يُرى إلا حين يؤمن به من يديره، فإن ما يحدث في المسرح القومي المصري اليوم لا يمكن فصله عن رؤية واعية وعقل محب يقف خلف الستار، يمنح الضوء لمن يستحقه، ويفتح الباب للمستقبل من قلب التاريخ، ذلك العقل هو الدكتور أيمن الشيوي. كما أن تسليم هذه النسخة الجديدة من "الملك لير" للمخرج المسرحي شادي سرور، كانت مغامرة محسوبة النتائج، إذ جمعت بين التجديد والتوقير، بين الحداثة والعمق، بين الفكرة والبصيرة. فشادي سرور، بعين المخرج المتجدد، لم يتعامل مع النص كمادة كلاسيكية جامدة، بل قرأه كفلسفة، وأخرجه كإيمان. ولعل أعظم شهادة نالها، لم تكن من النقاد، بل من الفنان العظيم يحيى الفخراني نفسه، الذي اختاره بنفسه، وسلّمه تاريخه المسرحي، في لحظة فنية تشبه تسليم العصا بين الأجيال، وأن يُسلم يحيى الفخراني "الملك لير" لشادي سرور، يعني أنه رأى فيه شيئًا من روحه، وشيئًا من جرأته، وشيئًا من توجسه الوجودي أمام النص العظيم. وهذا ليس بالأمر الهين. فالفنان الذي قضى أكثر من ستين عامًا فوق خشبات المسرح، وشاشات السينما والتلفزيون، لا يغامر إلا إذا كان الإيمان في عينيه أكبر من الخوف في صدره. ولإن الفخراني له خصوصية فنية يصعب تقليدها. نجده ليس مجرد ممثل محترف، بل رجل يحمل مكتبة من المشاعر والتقنيات. جسده، صوته، ذاكرته الوجدانية، كلها تشارك في أداء الشخصية. لكنه في "الملك لير" – وفي عيد ميلاده الثمانين – لم يمثل الدور، بل تماهى معه، وصار مرآته. وحين تجلس في مقعدي كمشاهد وترى الفخراني وهو يتقدم على المسرح، لا ترى جسدًا واهنًا، بل طاقة متجددة، صوتًا ممتلئًا بالحياة، وملامح تشبه النبوة في لحظة التجلي، ولما كان ليس سهلًا أن تخرج عملاً شكسبيريًا دون أن تقع في فخ الجمود أو الاستعراض المجاني. نجد أن شادي سرور أدار المعادلة بحكمة، فقدّم نصًا خالدًا بلغة العصر، دون أن يفرّط في هيبته الكلاسيكية. كانت الرؤية الإخراجية نظيفة، متقشفة حيث يجب، ومبهرة حيث يجب، فمنذ المشهد الأول، يدرك المتفرج أن هناك عينًا مخرجة تدير المشهد بإحساس فلسفي. التوزيع الدقيق للمشاهد، حركة الممثلين المدروسة، وتكامل عناصر العرض جعلت كل لحظة تحمل معنى. العرض لا يقول فقط: "شاهدوني"، بل: "فكروا معي"، ومن ثم، هكذا وُلد "الملك لير" من جديد: برؤية إدارية مستنيرة، وبيدٍ إخراجية مخلصة، وبقلب ممثل يؤمن أن المسرح هو اللحظة التي ينكسر فيها الجسد، وتشتعل فيها الروح، وبالحديث عن جماليات العرض نجد أن: أولاً الديكور: المصمم د. حمدي عطية استثمر المساحة بحكمة، وخلق مشاهد بصرية أقرب إلى التأمل الوجودي. الديكور لم يكن زينة، بل شريك في النص. استخدم الشاشات والجرافيك لتجسيد العواصف الداخلية والخارجية، حتى ظننا في بعض اللحظات أننا داخل دماغ "لير"، لا في قاعة عرض، وفي مشهد العاصفة تحديدًا، ارتفع الجرافيك ليصبح "البطل" إلى جوار الفخراني، كأن الشاشة تصرخ معه، وتنهار معه، وتصفع وجهه بالضوء. ثانياً: الإضاءة والموسيقى: الإضاءة التي صممها محمود الحسيني جاءت بارعة في خلق الإحساس. لم تكن مكمّلة للمشهد، بل كانت تتحكم في توتره وإيقاعه. كأن الضوء أحيانًا هو ضمير الشخصية، يكشف، يفضح، ويحتوي. أما الموسيقى التي ألفها أحمد الناصر فقد كانت كائناً مسرحيًا مستقلاً. الموسيقى هنا لا تعلّق على المشهد، بل تسبقه أحيانًا، وتلونه، أو تردّ عليه. موسيقى العرض كانت وجدانًا خفيًا يمشي إلى جوار الشخصيات، ويُذكّرنا أن المأساة ليست في الأحداث بل في المشاعر. ثالثاً الملابس: "علا علي" في تصميم الملابس صنعت هوية بصرية متكاملة تروي القصة بغير كلمات وبُعدًا شعوريًا بصريًا للشخصيات. كل زي كان كناية عن داخل الشخصية: السلطة، التمرد، الانكسار، حتى الجنون، كلها تجسدت في خامة أو لون أو طيّة، إذ أن في عرضٍ تغلب فيه الحركة على السكون، وتغمر فيه الرمزية كل زاوية، لم تكن الأزياء مجرد كسوة للأجساد، بل كانت امتدادًا للشخصيات، وتعبيرًا عن دواخلها. لقد أدّت مصممة الأزياء دورًا فنيًّا بالغ الدقة، مزجت فيه بين الدراما والرمز، وبين التاريخ والحداثة، فصارت الأزياء لغة قائمة بذاتها. وقد راعى تصميم الأزياء الفروق الطبقية والسياسية، بل تجاوز ذلك ليُعبّر عن الفروقات الدولية بين إنجلترا وفرنسا، فجاءت أزياء الجنود في المعركة دقيقة إلى حد أن المشاهد استطاع التمييز البصري بين الجندي الإنجليزي ونظيره الفرنسي دون حاجة إلى شرح أو تعليق، وهو ما يُحسب كمستوى عالٍ من التوثيق البصري والوعي التاريخي. أما على مستوى الشخصيات، فقد كانت الأزياء تُنحت وفقًا لجوهر كل شخصية. ريجان وجونريال، الأختان الشريرتان، ارتدتا أزياء تميل إلى الأحمر القاني، لون الدم والخديعة، في حين بدت كورديليا بزيها الأبيض الملائكي كتجسيد للبراءة المفقودة في عالمٍ ينهار. وحتى التوأم إدموند وإدجار، عكست أزياؤهما التناقض بين الشر والبراءة، وبين الخيانة والوفاء. لقد أنجزت مصممة الأزياء معادلة معقدة: أن تمنح كل شخصية طيفها الخاص، وتميّزها التعبيري، وفي الوقت ذاته تذيب الجميع داخل عالم بصري واحد لا تتناقض عناصره بل تتآلف. كل قطعة قماش كانت تعبيرًا عن نبضة، وكل لون كان بمثابة خط سردي يمر موازيًا للنص. لقد أصبحت الأزياء بطلاً فاعلاً في هذا العرض، شريكًا صامتًا، لكنه بالغ التأثير رابعاً الاستعراضات: أما "ضياء شفيق" فقدّم استعراضات وكأنها بورترية عالمي بالحركة والإيقاع والدلالة، إذ لم تكن مجرد فواصل أو زخارف حركية، بل جاءت كأنها نبضٌ داخلي للشخصيات، وتحوُّل بصري للديناميات النفسية والسياسية التي تمور تحت سطح القصة. لقد اتخذت تلك اللوحات التعبيرية طابعًا مميزًا، جمع بين التعدد الفني، والبناء الرمزي، والإبهار الإيقاعي. فمن الرقصات التعبيرية التي حملت تأويلات رمزية لانكسارات الشخصيات، إلى المبارزات بالسيوف التي صُممت بإتقان وحس درامي لافت، اتّخذت المشاهد الاستعراضية طابعًا أقرب إلى "البورترية المتحرك"؛ كل لحظة تحمل معنى، وكل خطوة تخبرنا بشيء عن الصراع الأكبر الذي يحتدم في عقل الملك، أو في قلب ابنٍ خائن، أو بين جنود يمزقهم الولاء والانقسام. وقد بلغ الأداء ذروته في مشهد المعركة، حيث اندمجت المبارزات بالسيوف، وحركات الجنود، والضوء، والجرافيك، والموسيقى، في تتابع بصري حابس للأنفاس، أقرب ما يكون إلى لوحات مسرحية عالمية تشبه ما يُقدَّم في مسرح "رويال شاكسبير" أو "ذا ناشيونال ثياتر" في لندن. بدا المشهد كأنه انفجار منظّم للحركة، تعبير عن الانهيار المحتوم لكل ما هو عقلاني، وعن انفتاح العالم على الفوضى. إن تلك الاستعراضات، بإيجازها وكثافتها، لم تكن مجرد إبهارٍ شكلي، بل كانت أدوات للمعنى، وكأن كل جسدٍ يتحرك على الخشبة، يكتب جزءًا من مأساة لير، لا بالحوار، بل بالإيقاع، والمجابهة، والانهيار.بورصة النجوم: أداء تمثيلي يُعيد الثقة في الممثل المصري. خامساً الجرافيك: من بين جميع عناصر العرض المسرحي "الملك لير"، وقف الجرافيك الحركي (Motion Graphic) كبطل مدهش، لم ينطق بكلمة، لكنه قال كل شيء. لم يكن هذا الجرافيك مجرد خلفية أو إطار مرئي تقني، بل كان كيانًا دراميًا مستقلًا، له إحساسه، ووعيه، وتكوينه البصري المتغير، وهو ما جعله طرفًا أصيلًا في المعادلة المسرحية، لا مجرّد إضافة تجميلية. لقد قدّم الجرافيك بديلًا ذكيًا عن الديكور التقليدي، بل تفوّق عليه أحيانًا، لأنه لم يكتفِ بوصف المكان، بل ابتكر الشعور به. حين وقف لير وسط قصره في بداية العرض، لم نرَ خشبة المسرح بقدر ما رأينا صالة عرش إنجليزية ضخمة، تتلألأ فيها الألوان، وتنفذ الإضاءة من زجاج النوافذ القوطية كما لو كنا في قلب قصر بلينهايم أو وندسور. وفي لحظة أخرى، عندما تفجّرت مشاهد المعارك والخيانة، كان الجرافيك يتبدل كالكابوس، يطارد المتفرج، لا لير وحده. في مشهد العاصفة الشهير، بلغ الجرافيك ذروة تأثيره؛ لم تكن هناك ريح حقيقية، ولا أمطار، ولا برق، لكن الصورة المتحركة التي امتزجت بالصوت والضوء خلقت حالة حسية كاملة، جعلت كل متفرج يشعر وكأنّه واقفٌ وسط ساحة من الغضب الطبيعي والوجودي، في مسرح مفتوح على السماء، تتنازع فيه القوى الخفية عقل لير وروحه. أما في مشاهد المعارك، فقد تحوّل المسرح إلى ساحة طاحنة، تطايرت فيها الحراب والرماح، واشتعلت الألوان الداكنة والأحمر القاني، كأنّنا داخل ملحمة حربية في مسرح غلوب بلندن أو الكوميدي فرانسيز بباريس. كان المتفرج لا يُشاهد من بعيد، بل يُقذف نفسيًا في قلب المشهد؛ كأن سيفًا يمر بالقرب منه، أو سهمًا يخترق الجدار الرمزي بين الواقع والخشبة. باختصار، كان الجرافيك في هذا العرض ليس مجرد عنصرًا تقنيًا، بل شريكًا في البناء الدرامي، ووسيلة من وسائل الإخراج التي حررت النص من خشبيّته، ونقلته إلى بُعدٍ حسيّ فلسفي فني يليق بجلال المأساة وبعبقرية شكسبير، وبقيمة المسرح القومي المصري حين يُعاد بعثه بروح العظمة. التمثيل وبورصة نجوم العمل ممن وقفوا أمام الفنان القدير يحيي الفخراني: المسرح، على خلاف السينما والتلفزيون، لا يمنح نجومية مجانية. إنه امتحان حي، وجمهوره هو أصعب لجنة تحكيم عرفها الفن. في عرض "الملك لير"، لم نكن أمام ممثلين يؤدون أدوارًا، بل أمام نخبة من الفنانين المصريين الحقيقيين الذين دخلوا بورصة المسرح القومي وخرجوا منها بنجومية تستحق أن تُحفر في الذاكرة. هذه المسرحية لم تكن بطولة مطلقة، بل عرضًا جماعيًا ينتمي إلى مدرسة التوهج بالتوازي. كل ممثل أتى بدوره كأنه يقف في منازلة فنية أمام قامة استثنائية بحجم يحيى الفخراني، لكنه لم يتراجع، بل تقدم، فتحولت الخشبة إلى ساحة نور، تتقاطع فيها الشخصيات، وتنصهر في روح واحدة، هي روح التراجيديا الشكسبيرية. الفنان طارق الدسوقي: الحديث عن الفنان طارق الدسوقي في هذا العرض هو حديث عن نضج مسرحي نادر، عن ممثل يحمل في صوته وقامته وملامحه خبرة السنين وصفاء القلب. في شخصية "جلوستر"، قدّم لنا وجهًا آخر من المأساة؛ رجل نبيل يقع في فخ الحب الأعمى لابنه غير الشرعي، ويُسلَب منه بصره ثم يُستعاد له البصيرة في مشهد يقطر وجعًا واعترافًا. إذ في كل عرض مسرحي، هناك لحظة لا تنتمي للمخرج، ولا للنص، بل للممثل وحده. لحظة يتقاطع فيها الذكاء التمثيلي مع العمق الإنساني، فينقلب الدور من كلمات مكتوبة إلى كيان نابض، حي، يشعر ويتألم ويتحول. هذه اللحظة تجلت بوضوح لافت في أداء النجم طارق الدسوقي لشخصية "جلوستر"، أحد أكثر أدوار "الملك لير" تركيبًا وتراجيدية على الإطلاق. جلوستر ليس مجرد رجل فقد بصره، بل هو ضمير المسرحية المُعذَّب، التوأم الدرامي للملك لير، يشاركه الجهل المؤلم والندم المفجع. ولأن الشخصية بهذه الدرجة من العمق الإنساني، فإنّ أداءها يتطلب نوعًا خاصًا من الممثلين؛ أولئك القادرين على تحويل الألم إلى شعر، والندم إلى حكمة، والسكوت إلى صراخ داخلي. وقد فعلها طارق الدسوقي. لم يكن أداؤه استعراضًا للانفعالات، بل أسلوب "السهل الممتنع" في أبهى صوره؛ وقف على المسرح بكل وقاره، لكنّ صوته كان يرتجف من الداخل، وعيناه – حتى قبل فقد البصر في النص– كانت تقول أكثر مما يُقال. الدسوقي، بفهمه العميق للشخصية، لم يكتفِ بإعادة إنتاج جلوستر، بل أضاف إليه من روحه وشفافيته وصدقه الشخصي. جسّد النُبل البسيط للرجل، والانكسار الفاجع للأب، والندم المطهِّر للإنسان الذي تأخر كثيرًا في رؤية الحقائق. ولأن المسرح لا يعرف جنسية، فإن طارق الدسوقي، بهذا الأداء، يقف اليوم في مصاف كبار ممثلي المسرح العالمي، الذين قدّموا "جلوستر" على أكبر مسارح أمريكا وإنجلترا وفرنسا. يمكنك أن تضعه جنبًا إلى جنب مع ديفيد ستراثيرن في مسرح "بروكلين"، ومع جيم برودبنت في النسخة اللندنية عام 2010، أو حتى مع النجم الفرنسي ميشيل أومون الذي قدّم "جلوستر" على مسرح "أوديون" الباريسي. بل إن أداءه يحمل من النضج والشحنة الشعورية ما يجعله أقرب إلى تقشف الأداء الذي انتهجه الراحل جون هيرت في أحد أشهر عروض "لير" الإنجليزية. ما يميز الدسوقي، ليس فقط القدرة التمثيلية العالية، بل أنه –كما يبدو دائمًا في أدواره الجيدة– يؤمن بالشخصية قبل أن يتقمصها، ويقرؤها قراءة داخلية، يُخضعها لوجدانه وخبرته الحياتية، ثم يبث فيها من ذاته ما يجعلها جديدة تمامًا، وكأن "جلوستر" يولد من جديد على خشبة المسرح القومي في القاهرة. إنه نجم يعرف أن التمثيل ليس أن تقول ما يُكتب، بل أن تُضيء ما لا يُكتب. لم يكن في حاجة إلى أن يصرخ حتى نسمعه، ولا إلى أن ينهار حتى نشعر بانكساره. كانت أنفاسه وحدها كافية لنفهم أن هذا الرجل قد رأى كل شيء بعد فوات الأوان، وأن البصيرة التي كسبها جاءت بثمن غالٍ: الأبوة، والبصر، والطمأنينة. في مشهده مع إدجار –الذي لم يعرفه إلا في لحظة احتضاره– بلغ الأداء ذروة التعبير الصامت، وانصهر الفارق بين الممثل والشخصية. لم نعد نرى طارق الدسوقي، بل رأينا الإنسان حين ينهار ويُغفر له في الوقت نفسه. بهذا الأداء، أثبت طارق الدسوقي أن النجومية لا تُقاس بكثافة الحضور الإعلامي، بل بكثافة الصدق على الخشبة. وأن المسرح –مهما ضاق جمهوره– لا يزال المكان الأصدق لاكتشاف الممثل الحقيقي، الذي لا يطلب التصفيق، بل يستحقه. لقاء علي (كورديليا): صوت الحب حين لا يحتاج إلى صراخ: في دور كورديليا، قدمت الفنانة لقاء علي أكثر الشخصيات صمتًا، لكنها أكثرها صدقًا وعمقًا. كانت تؤدي دورًا يبدو صغيرًا على الورق، لكنه كبير في التأثير. لم تحتج إلى بكاءٍ لتُبكينا، بل كانت نظراتها، إيماءاتها، صمتها المُعبّر، ووقفتها النبيلة، كل ذلك يبوح بما عجز الآخرون عن التعبير عنه. كانت كورديليا التي جسّدتها أشبه بتجسيد درامي لمعنى الطهارة والوفاء والندم الصامت. وحين تموت، لا يموت شخص فقط، بل يموت عالمٌ بأكمله، بكل نقائه الهارب. في أدائها، وقفت لقاء علي بثقة على نفس المسافة الإنسانية العاطفية التي بلغتها نجمات عالميات مثل إيما تومسون أو أوليفيا كولمان، اللاتي أدين نفس الدور، لكنها حملت خصوصيتها الشرقية وشفافيتها العربية فجعلتنا نراها كورديليا كما يجب أن تكون: الحب حين يصمت، لكنه لا يرحل. إيمان رجائي وأمل عبد الله: شر ناعم لا يُنسى: في دور الأختين الخادعتين، برعت الفنانتان إيمان رجائي (ريجان) وأمل عبد الله (جونريال) في تقديم أنماط الشر التي تقطر خبثًا ودهاءً دون ضجيج. شر الأقارب، وشر المنافقين، وشر الطامعين في القوة. جاء أداؤهما متزنًا، محسوبًا بدقة، دون مبالغة، لكنه مفعم بالقسوة المعنوية، والاحتقار الخفي. جعلونا نكره الشخصيتين، ونخاف منهما، دون أن نتوقف لحظة عن احترام الممثلتين لما قدّمتاه من سيطرة وذكاء. ما يثير الدهشة في أدائهما هو وعيهما الكامل بتفاصيل الشخصية؛ حتى الضحكة لم تكن واحدة. فهناك ضحكة استمالة تنضح بالتحايل والرغبة، وضحكة شر وشماتة تُسقط معها الأقنعة، وضحكة سخرية وتنمر تُربك الخصم وتُربكنا نحن كمشاهدين. كانت كل ضحكة مدروسة، محسوبة، ذات معنى درامي، لا تخرج عبثًا ولا لمجرد التلوين، بل كأنها أداة سيكولوجية تسهم في بناء الطبقات العميقة للشخصية. في هذا الأداء المركب، يمكن بسهولة مقارنتهن بأداء ممثلات عالميات مثل غلين كلوز في أدائها الماكر، أو روزاموند بايك في أدوارها الباردة الحادة، أو حتى فيولا ديفيس حين تمزج بين السكون والانفجار الداخلي. لقد وقفت إيمان وأمل في هذا العرض جنبًا إلى جنب مع هؤلاء، من حيث الوعي، والتكثيف، والإقناع، وصناعة التوتر الصامت الذي لا يقل رعبًا عن أعلى درجات الانفعال. لقد شكّلتا معًا "توأم الشر" بمفهومه الفلسفي؛ ذلك الشر الذي لا يصرخ، بل يهمس، ويُضحك، ويخدع، وينتصر مؤقتًا، لكنه لا يُنسى أحمد عثمان وتامر الكاشف: التوأم المأساوي: في تجسيد ابني جلوستر –"إدموند" و"إدجار"– أبدع كلّ من أحمد عثمان وتامر الكاشف في صناعة صراع درامي عميق بين النور والظلمة، بين الطموح الغاضب والوفاء المقموع. أحمد عثمان قدّم "إدموند" كتمرد مجسد، بنبرة ثأرية لا تخلو من سحر ولا من مكر. كل مشهد له كان تنويعًا على لحن القسوة المكبوتة. بينما جسّد تامر الكاشف "إدجار" كرمز للمستضعف النبيل، الذي يصبر حتى تفيض لحظة مواجهته الأخيرة. وعندما يلتقيان في ذروة المعركة، تتجلى اللحظة كشعر مسرحي: يواجه الظلام النور، وتصرخ العدالة أخيرًا. في أدائهما، وقف الاثنان إلى جوار ممثلين كبار مثل توم هيدليستون وجوزيف فاينز في نسخ بريطانية للعرض ذاته، دون أن يفقدا خصوصيتهما المصرية. عادل خلف: المهرج الحكيم: في شخصية "بهلول"، كسر عادل خلف الصورة النمطية للمهرج. لم يكن مجرد كاريكاتير فكاهي، بل كان صوت الضمير الشعبي داخل العرض. أداؤه امتلأ بالفلسفة الساخرة، بالكلمة التي تُضحك لتوقظ، وبالحركة التي تبدو عبثية لكنها تختزن حكمة دفينة. بهلول في هذه النسخة لم يكن تابعًا للملك، بل شريكًا في كشف الحقيقة، موازٍ في روحه لبهاليل "فاليري" و"كينيث براناه" في عروض عالمية. عادل خلف، ببساطته، جعل من كل جملة حكمة ضاحكة، ومن كل إيماءة سخرية لاذعة من السلطة والخذلان. محمد العزايزي، حسن يوسف، محمد حسن: أكاليل دعم متقنة: في الأدوار الداعمة، أبدع كل من محمد العزايزي، حسن يوسف، ومحمد حسن في رسم ملامح شخصيات ثابتة، متزنة، تحرس البناء العام للمسرحية دون ضجيج. العزايزي جسّد القسوة الجافة التي لا تحتاج إلى شرح، وكان حضوره حادًا دون تهويل. أما حسن يوسف، فمثّل الحكمة التي ترى ولا تتدخل، وترصد دون أن تُصدر الأحكام، وكأنه عين المسرحية البعيدة. ومحمد حسن، بحضوره المتزن، وتفاصيله الدقيقة، كان صمام توازن دائم. وجودهم الجماعي كان ضروريًّا، مثل الأوتاد التي تُثبّت خيمة العمل المسرحي وتمنحها الأمان من السقوط. ومن ثم، فعرض "الملك لير" هو أكثر من عرض مسرحي. إنه حفل تتويج حقيقي لمجموعة من الفنانين اجتمعوا في لحظة فنية نادرة، ليتباروا لا على البطولة، بل على من يضيف أكثر للنص، من يصدق أكثر، من يحترق أكثر. وما ميّز بورصة النجوم هذه، هو أنها لم تعتمد على أسماء جماهيرية جاهزة، بل أعادت التعريف بالنجومية: إنها ليست الظهور الدائم، بل الحضور العميق، ليست الوجوه المعروفة، بل الأرواح المتجسدة. في هذا العرض، رأينا فنانين يعرفون أن الوقوف أمام يحيى الفخراني ليس مكافأة، بل اختبارًا، وقد اجتازوه جميعًا، ليس فقط لأنهم أحسنوا الأداء، بل لأنهم جعلونا نصدق أن الفن لا يموت، وأن النجم الحقيقي لا يسطع وحده، بل يضيء من حوله. ونختتم بالفنان القدير المتألق يحيى الفخراني ذلك الملك الذي تماهى مع التاج حتى صار تاجًا للفن العربي كله، وحيث لا يمكن لعرض "الملك لير" أن يُختَتم إلا من حيث يبدأ وهجه الحقيقي عند الفنان الكبير يحيى الفخراني، الذي تجاوز فكرة "تمثيل الدور"، إلى ممارسة طقسٍ وجوديٍّ يُعيد فيه تعريف العلاقة بين الممثل والشخصية، بين الجسد والنص، بين الزمن والإبداع. لقد قدّم الفخراني شخصية الملك لير ثلاث مرات على مدار ربع قرن، لكن المرة الثالثة كانت الأكثر مطابقة للحقيقة المسرحية. فهو الآن، في عامه الثمانين، يعيش العمر الحقيقي للملك العجوز، بكل ما فيه من انحناء جسدي وعلو روحي. لم يكن بحاجة إلى تمثيل الانكسار، لأن الجسد بات ينطقه تلقائيًّا، كما لم يكن بحاجة إلى تصنع الهيبة، لأن التاريخ وحده أصبح عباءته. يحيى الفخراني، في هذه النسخة، لم يعد فقط "نجمًا مصريًّا"، بل أصبح مرجعًا عربيًّا معاصرًا في كيفية أداء الملك لير. ولعل المقارنة هنا ليست رفاهية، بل ضرورة تحليلية؛ لأن من يتحدث عن لير لا بد أن يذكر السير أنتوني هوبكنز، الذي قدّم لير في الفيلم التلفزيوني الشهير عام 2018، محاطًا بأجواء عسكرية صارمة، بوجهٍ صلب لا يكاد يلين. هوبكنز أبدع، لا شك، وأعطى الدور بعدًا سياسيًّا متجمدًا. لكن الفخراني أتى من الضفة الأخرى: ضفة القلب. جعل من لير أبًا عربيًّا محطَّمًا، تقلبه بناته في أرجوحة الطمع والجحود، في زمن يتشظى فيه مفهوم العائلة في مصر والعالم العربي. لم يكن ملكًا متعجرفًا فحسب، بل كان رجلاً مفعمًا بالحيرة والندم، يعاني من تحوُّل الحب إلى لعنة، ومن تضخّم الذات حتى التلاشي. هو لم يُجسّد شخصية الملك، بل سمح لها أن تسكنه وتتكلم عبره. في لحظة العاصفة، حين يتهاوى لير أمام رياح الخيانة والجنون، بدا الفخراني كمن يُعيد كتابة النص لا تمثيله. صوته في تلك اللحظة لم يكن صوت ممثل، بل صرخة كونية لرجلٍ فقد كل شيء إلا ذاكرته المؤلمة. وبالمقارنة مع إيان ماكيلين في لندن، الذي جسد لير بجسد منضبط وصوت صارم، أو مع ديريك جاكوبي في إنتاج شكسبيري كلاسيكي على مسرح "دونمار"، فإن الفخراني يختلف كليًّا. هو لا يمثل لير من الخارج، بل يحمل الشخصية في أعماقه، كمن يروي قصة يعرفها جيدًا، لأنها تشبهه، وتتشابه معنا. في فرنسا، أدّى ميشيل بيكولي الدور بأسلوب وجوديٍّ عبثي، وفي ألمانيا جاء برونو غانتز بنسخة فلسفية قاتمة. لكن لا أحد منهم، مهما بلغت حِرفيته، استطاع أن يمنح "لير" تلك اللمسة المصرية الأصيلة التي مزجت بين حنان الأب وجبروت الملك، بين كبرياء الذات وسقوطها، كما فعل الفخراني. هو بحق، في هذه المرحلة من عمره الفني، لا يقل قامةً أو توهجًا أو إبداعًا عن أي ممثل عالمي تقمّص هذه الشخصية. بل ربما فاقهم، لأنه يُعيد تأويل لير في سياق ثقافي عربي، ويمنحه شرعية شعورية من بيئتنا، دون أن يُسقط عنه عالميته. وإذا كانت كل شخصية عظيمة تختبر الممثل في أعماقه، فإن "الملك لير" كان اختبارًا للفخراني في صدقه، وصبره، ونضجه، ومحبته للفن. وقد اجتازه لا كطالب مجتهد، بل كأستاذ في الحكمة والتوهج والقدرة على أن يُعيد اكتشاف نفسه كل مرة وكأنها الأولى. إنه فنان إذا وقف على المسرح، وقف معه الزمن، وجثت أمامه الحكاية، وارتجف النص من فرط الحياة فيه. ولهذا، لا نقول فقط: الفخراني قدّم لير ببراعة، بل نقول: لير وُلد من جديد، بوجه مصري، وعباءة مصرية، وصوت لا يشيخ.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة تحت القصف وضمير العالم في غرفة الإنعاش
-
ثورة ٢٣ يوليو والتعليم .. حين تصبح الطباشير شعلة
...
-
النظرية الكمية تثبت أن هناك ملايين يشبهونك
-
العرض المسرحي يمين في أول شمال رائعة المخرج عبد الله صابر
-
البلبوص ! ( من القصص السياسي )
-
نجيب محفوظ .. عين الفلسفة في الحارة المصرية ( الجزء الثالث )
-
نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الثاني
...
-
نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الأول )
-
التغيير التربوي وتوسيع آفاق التفكير النقدي
-
مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء العاشر - الحلقة الأخيرة
...
-
السينوغرافيا في مسرح الغرفة: إعادة إنتاج الفضاء وإعادة تعريف
...
-
مسرح العبث: الوعي في حضرة اللاجدوى
-
مسرحية حكايات الشتا رائعة المخرج محمد العشري على مسرح الغد
-
السعادة بين الفلسفة والعرفان: دراسة مقارنة في تصور ابن سينا
...
-
مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء التاسع - الحلقة السابعة
...
-
مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الثامن - الحلقة السادسة
...
-
مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء السابع - الحلقة الخامسة
...
-
أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا
...
-
مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء السادس - الحلقة الرابعة
...
-
حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء السادس )
المزيد.....
-
سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين
-
سميح القاسم.. الشاعر المؤرخ و-متنبي- فلسطين
-
-أنخاب الأصائل-.. إطلالة على المبنى وإيماءة إلى المعنى
-
-الأشرار 2- مغامرات من الأرض إلى الفضاء تمنح عائلتك لحظات ما
...
-
محمد حلمي الريشة وتشكيل الجغرافيا الشعرية في عمل جديد متناغم
...
-
شاهد رد فعل هيلاري كلينتون على إقالة الكوميدي جيمي كيميل
-
موسم أصيلة الثقافي 46 . برنامج حافل بالسياسة والأدب والفنون
...
-
إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم
...
-
إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم
...
-
مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|