أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الثاني )














المزيد.....

نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الثاني )


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8378 - 2025 / 6 / 19 - 14:51
المحور: الادب والفن
    


3. الكتابة بوصفها خلاصًا: من الحارة إلى الميتافيزيقا
لم تكن الكتابة عند نجيب محفوظ مجرّد مهنة أو حرفة سردية، بل كانت طقسًا وجوديًا، ووسيلة للخلاص من اختناق الواقع. لقد وُلد في حي الجمالية، وسط الزحام البشري، والروائح الثقيلة، والصراعات الصغيرة اليومية التي تشتبك فيها السلطة بالفقر، والقدر بالرغبة، والحرام بالمقدس. كان بوسعه أن يظل قاصًّا للحكايات الشعبية، لكن روحه لم تقنع بالسطح، بل حفرت إلى عمق الإنسان، وجعلت من الكتابة أداة لتحرير النفس، ومرآة لفهم العالم. كل عمل كتبه كان محاولة لفهم السؤال الكوني الكبير: لماذا نعيش؟ ما معنى الألم؟ من نحن في مواجهة المطلق؟
ولذلك، لم تكن الحارة في رواياته مكانًا فقط، بل كانت تجلّيًا كونيًّا. في "زقاق المدق" و"بين القصرين" و"السكرية"، تتحوّل الأزقة إلى رموز، إلى بنى تحتية للروح، حيث تصطدم الرغبة بالحرمان، والتقاليد بالحداثة، والسلطة بالمقاومة. ثم شيئًا فشيئًا، تتحول هذه المساحات الواقعية إلى مرآة للماوراء، حيث تبدأ الميتافيزيقا في التسلل عبر الشقوق: في الأحلام، في الهلاوس، في انكسارات الأبطال. هكذا نرى ذلك التحوّل المدهش في مسيرته، من الواقعية الاجتماعية إلى الرمزية الفلسفية، ومن الحارة الواقعية إلى الحارة المجازية في "أولاد حارتنا"، ومن التاريخ إلى الأسطورة في "الحرافيش"، ومن السياسة إلى الروح في "حديث الصباح والمساء" و"الطريق".
ولعل هذا التحوّل ليس انسحابًا من الواقع كما توهّم البعض، بل هو ارتقاء بالكتابة إلى مستوى الرؤيا. فحين عجزت السياسة عن تغيير الواقع، وحين أُغلقت النوافذ، لجأ محفوظ إلى الداخل: داخل الإنسان، داخل الحلم، داخل الأسطورة. لقد فهم أن التحرّر الحقيقي يبدأ من الوعي، وأن الكتابة ليست وسيلة لتصوير القبح فقط، بل لتفكيكه، ولتجاوزه، وربما لإعادة خلق واقع جديد.
وفي ذلك، يشبه محفوظ كبار فلاسفة الشرق والغرب: كتولستوي حين جعل من الرواية تأمّلاً في الخير والشر، وكألبير كامو حين جعل من الأدب مقاومة عبث الوجود، وكابن عربي حين جعل من الكلمة سبيلًا لفهم الله والكون. لكن ما يميز محفوظ أنه فعل ذلك بلغة الحارة، بلغة الناس، بلغة البسطاء الذين يحملون في عيونهم أسئلة كبرى، دون أن يملكوا الأجوبة. لقد أدرك أن الوعي لا يُصنع بالنظريات وحدها، بل بالحكايات، بالتجربة المعاشة، بالزمن اليومي الذي يبدو عاديًا لكنه يخفي تحولات المصير.
ومن هنا، يمكن القول إن محفوظ لم يكن روائيًا وحسب، بل كان كاتب خلاص. خلاص من الجهل، من العبودية، من العجز، من الإحساس بأننا لا نستحق الأفضل. كان يقول لنا: أن تحكي حكايتك، يعني أنك بدأت تشفى. وأن تقرأ حكاية الآخر، يعني أنك بدأت تدرك أن العالم لا ينتهي عند حدود جلدك.

4. الفيلسوف المتخفي في جلد الراوي: نجيب محفوظ وسؤال الوجود
منذ بداياته الأولى، لم يكن نجيب محفوظ يكتب لمجرّد الحكي، بل كان يقيم حوارًا داخليًا متوترًا مع الوجود. ورغم أن أعماله الأولى بدت للوهلة الأولى تاريخية أو اجتماعية، إلا أن الذي يتأملها بوعي فلسفي سيدرك أنها كانت دومًا مسكونة بالسؤال. سؤال الإنسان في مواجهة القدر، الفرد في مواجهة المجتمع، الذات في مواجهة الإله، والزمان في مواجهة الحلم. كان محفوظ، كما وصفه البعض، «فيلسوفًا يكتب رواية» لا «روائيًا يمر بالفلسفة».
ولأن مصر، والعالم العربي، لم يعرف تقليدًا فلسفيًا عميق التجذر بعد ابن رشد، فإن محفوظ شكّل منعطفًا استثنائيًا حين اختار أن يُمرّر الفكر الفلسفي عبر السرد. في رواية "الطريق"، لا يبحث البطل فقط عن أبيه البيولوجي، بل عن صورة الله، عن المعنى، عن اليقين وسط العتمة. وفي "اللص والكلاب"، يتحول الفشل الفردي إلى تأمل في جدوى الثورة، وفي خيانة الوعي والعدالة. أما في "الشحاذ"، فنقترب من مستويات صوفية غائمة، حيث يغدو كل شيء عبثًا ما لم يُصبغ بالمعرفة الداخلية، معرفة الذات.
وفي أعماله المتأخرة، لم يخف محفوظ انجذابه للفكر الصوفي، ولا محاوراته الصامتة مع التراث الفلسفي. لكنه لم يكن واعظًا ولا مُنظرًا، بل كان راويًا يحتال على القارئ ليجرّه إلى الهاوية اللذيذة: هاوية التساؤل. لم يكن يُعطي أجوبة، بل يُربك الإجابات الجاهزة. لم يضع الحقيقة في متناول اليد، بل جعل من كل رواية تجربة اقتراب منها، وكل بطل مرآة مشروخة لانعكاس الذات في المجهول.
لقد كان واعيًا بأن السلطة، أيّ سلطة، تخشى السؤال. ولذلك، لم يكن غريبًا أن يُمنع "أولاد حارتنا" من التداول في مصر لعقود، لأنها لم تكن فقط قصة رمزية عن الأنبياء، بل كانت مساءلة مباشرة لصورة الله في الذهنية الشعبية، ولسيادة الظلم باسم المقدس، ولتحول السلطة إلى امتداد للشرّ الكوني. ولم يكن غريبًا أيضًا أن يتعرض لمحاولة اغتيال، لأنه وضع إصبعه في عين الخوف، ورفض أن يتكلم بلسان المؤسسة، الدينية أو السياسية.
وفي هذا كلّه، لم يكن محفوظ يبحث عن بطولة، بل عن صدق. صدق أن تكون روائيًا لا موظفًا، مفكرًا لا مقلّدًا، إنسانًا يكتب لأنه لا يحتمل ألا يكتب. ومن هنا، نستطيع أن نقول إن محفوظ منح الرواية العربية عمقها الفلسفي الذي كانت تفتقده، وفتح الباب أمام سؤال: هل يمكن للأدب أن يكون بديلًا للفلسفة في مجتمعات تخشى التفلسف؟ وهل يُمكن أن يكون الحكاء هو الفيلسوف الجديد في زمن يهرب فيه الفلاسفة من الكلام؟
ربما كان محفوظ هو الجواب.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الأول )
- التغيير التربوي وتوسيع آفاق التفكير النقدي
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء العاشر - الحلقة الأخيرة ...
- السينوغرافيا في مسرح الغرفة: إعادة إنتاج الفضاء وإعادة تعريف ...
- مسرح العبث: الوعي في حضرة اللاجدوى
- مسرحية حكايات الشتا رائعة المخرج محمد العشري على مسرح الغد
- السعادة بين الفلسفة والعرفان: دراسة مقارنة في تصور ابن سينا ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء التاسع - الحلقة السابعة ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الثامن - الحلقة السادسة ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء السابع - الحلقة الخامسة ...
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء السادس - الحلقة الرابعة ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء السادس )
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الخامس )
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الخامس - الحلقة الثالثة ...
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثالث والأخير )
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثاني )


المزيد.....




- يجمع بين الأصالة والحداثة.. متحف الإرميتاج و-VK- يطلقان مشرو ...
- الدويري: هذه أدلة صدق الرواية الإيرانية بشأن قصف مستشفى سورو ...
- برقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لجميع التخصصات عبر ...
- دورة استثنائية لمشروع سينما الشارع لأطفال غزة
- تصاعد الإسلاموفوبيا في أوروبا: معركة ضد مشروع استعماري متجدد ...
- انطلاق أولى جلسات صالون الجامعة العربية الثقافي حول دور السي ...
- محمد حليقاوي: الاستشراق الغربي والصهيوني اندمجا لإلغاء الهوي ...
- بعد 35 عاما من أول ترشّح.. توم كروز يُمنح جائزة الأوسكار أخي ...
- موقع إيطالي: هذه المؤسسة الفكرية الأميركية تضغط على إدارة تر ...
- وفاة الفنانة الروسية ناتاليا تينياكوفا نجمة فيلم -الحب والحم ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - نجيب محفوظ .. عين الفلسفة على الحارة المصرية ( الجزء الثاني )