محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ضمير العالم في غرفة الإنعاش: غزة تحت القصف وذاكرة النازية تصبح واقعا يمارسه ( بإتقان ) من كان ضحيتها:
تُعلّمنا الفلسفة أن الإنسان، في لحظة انكشاف الحقيقة، يقف بين خيارين: إمّا أن يُنكرها ليحفظ راحته، أو يُواجهها ليصون كرامته. وكلما اقترب الإنسان من هذه اللحظة الفاصلة، ازداد ثقله الأخلاقي، وصار مسؤولًا لا عن نفسه فحسب، بل عن الإنسانية بأسرها. لقد كتب جان بول سارتر في معرض تأمله في فظائع الحرب العالمية الثانية: "نحن مسؤولون لا فقط عما نفعل، بل عمّا نترك أن يُفعل باسمنا." لكن، ماذا لو صمتت البشرية؟ ماذا لو شارك العالم في الجريمة بصمته؟ أليس هذا إعلانًا رمزيًا لموت الضمير الإنساني؟ اليوم، ومن على أنقاض غزة، يُمكننا القول بثقة مؤلمة: لقد مات ضمير العالم.
غزة النازفة: أرقام تسحق الروح:
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى منتصف يوليو/تموز 2025، قُتل أكثر من 57,680 إنسانًا في قطاع غزة، أكثر من 70% منهم من النساء والأطفال. وإذا أضفنا ما يُقارب 12,000 مفقود يُفترض أنهم دُفنوا تحت الأنقاض، ندرك أننا أمام مجزرة تفوق حدود اللغة وتُبطل وظيفة الأرقام نفسها. لقد جُرحت غزة في لحمها وذاكرتها، وتشوه وجه الطفولة إلى الأبد. ووسط هذا الرعب، وقف العالم – أو سقط العالم بالأحرى – صامتًا، متفرجًا، محايدًا، وكأن الضحية هي الجلاد.
إسرائيل، باسم "الدفاع عن النفس"، قامت بتدمير منهجي للبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات، والمدارس، والطرق، ومخازن الغذاء، ووسائل الاتصالات، وحتى "المناطق الآمنة" التي وجهت إليها نداءات الإخلاء. وهذا ما يجعل الحديث عن "ضرورات عسكرية" مجرد تمويه لنية مبيتة: الإبادة الجماعية.
من النازية إلى الصهيونية المتطرفة: ذاكرة تتكرر:
لقد وقفت البشرية في منتصف القرن العشرين أمام جحيم النازية، وشهدت كيف يمكن لفكرة التفوق العرقي أن تتحول إلى ماكينة قتل لا تعرف الرحمة. اليوم، وبينما تستهدف إسرائيل سكان غزة العُزل باسم "أمنها"، يعود طيف النازية ليتجول، ليس في برلين بل في تل أبيب. أليس من المفارقة أن تتحوّل ضحية المحرقة إلى جلاد؟
لقد وصف البروفيسور الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية بحكم الأمر الواقع"، فيما صرّح رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت قائلاً: "ما نفعله في غزة الآن هو حرب دمار: قتل عشوائي وغير محدود وقاسٍ وإجرامي للمدنيين." هذه ليست كلمات معادين للسامية، بل أصوات من داخل إسرائيل نفسها، ترفض تواطؤ الدولة مع خطط التطهير العرقي.
صمت العالم: تواطؤ تحت شعار الحياد:
لم يكن موقف العالم "محايدًا"، بل متواطئًا. فالولايات المتحدة استخدمت الفيتو مرارًا لحماية إسرائيل من أي مساءلة أممية. أما باقي الحكومات الغربية، فظلّت تتلمس الكلمات، تنتظر أن تُوجّه لها انتقادات داخلية قبل أن تعبّر بخجل عن "قلقها العميق". أليست هذه ذاتها تلك الدول التي ملأت الدنيا ضجيجًا حينما اجتاح صدام الكويت؟ أو حينما قصفت روسيا أوكرانيا؟ لماذا إذًا تسكت عن غزة؟ أهو وزن التاريخ الثقيل؟ أم ازدواجية المعايير؟ أم تواطؤ اقتصادي وعقائدي يتخفى خلف الشعارات الإنسانية؟
الحق أن العالم الغربي لم يتخلص بعد من عقدة الذنب تجاه المحرقة، لكنه لم يتعلم منها شيئًا أيضًا. فأن تبرر العنف بعنف سابق، وأن تحمي الظالم باسم ماضٍ مظلم، فتلك مأساة أخلاقية كبرى.
مشروع "إسرائيل الكبرى": تطهير ممنهج باسم وعد قديم:
إن الأيديولوجية التي تحكم إسرائيل اليوم – تلك التي يتزعمها نتنياهو والمسيطرون المتطرفون على حكومته – لا تكتفي بـ"القضاء على حماس"، بل تتطلع إلى ما هو أبعد: إفراغ فلسطين من أهلها، وضم الضفة وغزة بالكامل، بل وحتى التمدد إلى ما وراء الأردن ولبنان وسوريا. المادة 7 من قانون الدولة القومية الإسرائيلي لعام 2018 تشجع على مصادرة الأراضي وطرد السكان الفلسطينيين، في تكرار صريح لسياسات الاحتلالات الاستعمارية الكلاسيكية.
وعندما يُعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أنه لا يستبعد إعادة "الاستيطان اليهودي في غزة"، أو عندما يقترح وزير التراث استخدام السلاح النووي ضد السكان، فنحن لا نواجه فقط تطرفًا سياسيًا، بل انحطاطًا إنسانيًا شاملًا، تتحمّل مسؤوليته أيضًا المؤسسات الدولية بصمتها المخزي.
الصحافة الغربية: بين التضليل والصحوة:
لم تكن الصحافة الغربية بمعزل عن هذا الانهيار الأخلاقي. كثير من وسائل الإعلام الكبرى كررت حرفيًا بيانات جيش الدفاع الإسرائيلي، بينما تمّ تهميش أصوات الشهود والأطباء والصحفيين المحليين الذين وثّقوا المجازر. ومع ذلك، بدأت بعض الشقوق في جدار التواطؤ بالظهور.
في مايو 2025، كتب ماثيو باريس في صحيفة "التايمز": "لقد زودنا إسرائيل بأقوى سلاح لديها – الصمت." أما اللورد دانيال فينكلشتاين، وهو يهودي بريطاني تأثرت عائلته بالمحرقة، فصرخ قائلاً: "أشعر بالهزيمة... إن تجويع المدنيين ليس استراتيجية، بل جريمة."
هذه الأصوات القليلة، لكنها شريفة، تكشف أن ليس كل الغرب ميت الضمير. لكنها أيضًا تُثبت أن من يملك المنصة ليس دائمًا من يملك الحقيقة.
الأصوات الشجاعة في الداخل الإسرائيلي:
في وجه هذا الجنون، ظهرت أصوات داخل إسرائيل ترفض القتل والخراب. البروفيسور حاييم جانز حذر من أن "سعي دولة متطرفة لتقرير المصير قد يطمس سعي دولة أخرى المشروع". الكاتب عوديد نعمان رأى في الإنكار الإسرائيلي "رفضا لمعرفة دمار غزة لأنها تُعرّي دمار إسرائيل من الداخل." هذا الصدع الأخلاقي داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه يفتح الباب لفهم أعمق: ليست المعركة فقط على الأرض، بل على الضمير ذاته.
سؤال الضمير: ما الذي تبقى من الإنسانية؟
عندما يُقتل الطفل مرتين، مرة بالقصف ومرة بالتجاهل، فإن القيم تنهار. وعندما تُستباح حياة أمّ تبحث عن غذاء لطفلها على مرأى العالم، دون أي تدخل حقيقي، فذلك ليس فقط جريمة حرب، بل خيانة لمفهوم الإنسان. لقد تحوّل الضمير العالمي إلى قطعة ديكور في المؤتمرات الصحفية، وأصبح "القلق" بديلًا عن الفعل، و"البيان" غطاءً للدم.
السؤال الذي يطرق الأبواب الآن هو: ماذا سيقول العالم بعد عشر سنوات؟ هل سيقف نفس القادة الذين يصمتون اليوم ليعترفوا كما اعترف العالم بعد الهولوكوست؟ وهل سينصبون نصبًا تذكارية للضحايا بعد أن تكون الأرض قد ابتلعتهم؟ أم سيظلون يدافعون عن الجريمة باسم الدفاع عن النفس؟
لقد كتب هانّا آرندت يومًا أن "الشر لا يحتاج إلى شيطان، يكفي له أن يجد بيروقراطية تُسهله وصمتًا يُبرره." هذا هو ما يحدث في غزة. فالشر الآن ليس في عدد القتلى، بل في الطريقة التي تُبرَّر بها جريمة قتلهم. وفي الوقت الذي تذرف فيه الإنسانية دموعها على ضحايا الأمس، ها هي تغلق عينيها عن ضحايا اليوم.
لقد مات ضمير العالم، نعم. لكن دفنه لم يتم بعد. لا تزال هناك فرصة، ولو أخيرة، لإيقاظه. ولعلّ الصحوة تبدأ بالسؤال: متى أصبح الوقوف مع الضحية جريمة؟ ومتى صار فضح الجلاد تطرفًا؟ إن من يراهن على النسيان، يجهل أن الذاكرة الإنسانية لا تُدفن مع أصحابها، بل تبقى شاهدة، تُسائل الجميع... وتدين.
مصر وحدها .. بين الشرف والخطر:
وإن كانت غزة اليوم تنزف، فإن مصر تقف في صمتٍ شامخ على حدود النار، تحمل جراحًا لا تقل عمقًا، دون أن تُعلن عن نزيفها. ففي حين أوصدت إسرائيل كل معابرها بإحكامٍ دموي، فتحت مصر معبر رفح كنافذةٍ وحيدة تتنفس منها الكرامة الإنسانية. ومع كل شاحنة دواء، وكل قافلة غذاء، وكل سيارة إسعاف تعبر من سيناء إلى غزة، كانت مصر تُقدم للعالم درسًا أخلاقيًا لا تُدرّسه الجامعات الغربية.
لكن الكارثة أعقد من مجرد أبواب مفتوحة. فالمعبر، وإن فُتح من الجانب المصري، يُغلقه الاحتلال من الجهة الأخرى، ويُطلق الرصاص على من ينتظر المساعدات. وهنا تجد مصر نفسها بين مطرقة التفاوض المرير مع عدو لا يعترف إلا بالقوة، وبين سندان الخيار الأصعب: إدخال المساعدات عنوة، وهو ما تعتبره العالم المتواطئ إعلان حرب.
فهل يُلام الصابر إذا لم يشعل فتيل النار؟ وهل تُعاتب مصر، وهي التي فتحت مستودعاتها ومستشفياتها وحدودها، واحتضنت آلاف الجرحى، وقدّمت دون منٍّ ولا أذى؟ لا، إن مصر لم تبخل، لكن العالم هو من تراجع وانكمش. لقد اختار التخاذل، فترك مصر وحدها تحمل العار الجماعي عن أمةٍ بأكملها.
لقد تعاملت القاهرة مع الموقف بحكمة تليق بدولة تعرف معنى الحرب، وتدرك ثمن السلام. لم تزايد، ولم تبتز، ولم تلوّح بشعارات جوفاء. اختارت أن تُبقي على حياة الغزيين دون أن تفتح جبهة تشعل المنطقة بأسرها، وأن يدخل الكل في حرب سيخرج الجميع منها خاسرا، بل وستصبح القضية مجرد ماضى أشبه بماضي شعب الإنكا والهنود الحمر، إن مصر اليوم تُخاطب العالم من فوق الجراح لا من تحتها: "ساعدونا لنساعد، لا تتركوا الحقيقة وحدها على أبواب رفح."
مصر هنا ليست مجرد جغرافيا، بل ضمير أخلاقي متبقٍ في عالم مات ضميره. ومن بين كل الصامتين، كانت مصر الوحيدة التي قالت "لا" بصوتٍ منخفض، لكنه واضح. صمتها كان فعلًا، وصبرها مازال بطولة. فإذا كان العالم قد انكفأ على نذالته، فلتكن مصر آخر الحصون التي تُذكّر البشرية بما تبقى من شرف الإنسان.
المراجع:
1. الأمم المتحدة – تقرير الوضع الإنساني في غزة، يوليو 2025.
2. تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت – صحيفة هآرتس، مايو ويوليو 2025.
3. تقرير ماثيو باريس – صحيفة التايمز البريطانية، 12 مايو 2025.
4. تقرير اللورد دانيال فينكلشتاين – صحيفة التايمز، يونيو 2025.
5. مقابلة مع عوديد نعمان – صحيفة هآرتس، يونيو 2025.
6. مقال حاييم جانز – مجلة الدراسات الإسرائيلية، ربيع 2025.
7. تقرير البرلمان البريطاني، مايو 2025.
8. تقرير وزارة الدفاع الإسبانية، مايو 2025.
9. تقارير مؤسسة الغذاء العالمية – مايو ويونيو 2025.
10. المحكمة الجنائية الدولية – ملخص الاتهامات ضد إسرائيل، أبريل 2025.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟